موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

ولا فرق في الحكم بالإجزاء بين أقسام الحجّ من الإفراد والقِران والتمتّع ، إذا كان المأتي به مطابقاً لوظيفته الواجبة (١).

مسألة ١٢ : إذا انعتق العبد قبل المشعر في حجّ التمتّع فهديه عليه ، وإن لم يتمكّن فعليه أن يصوم بدل الهدي على ما يأتي (٢) وإن لم ينعتق فمولاه بالخيار فإن شاء ذبح عنه وإن شاء أمره بالصوم (٣)

______________________________________________________

بل مقتضى إطلاق نصوص المقام أنّ حجّه إلى زمان العتق يحكم عليه بالصحّة ، وأمّا بعد العتق فلا بدّ من الرّجوع إلى الأدلّة العامّة الدالّة على اعتبار الاستطاعة ، فإلغاء شرطيّة الاستطاعة بالمرّة كما صرّح به السيِّد في العروة الوثقى (١) لا وجه له ، كما أنّ القول باعتبار الاستطاعة من أوّل الأمر لا دليل عليه ، فإنّ الرّوايات تدل على أنّ العبوديّة السابقة غير ضائرة ولو كانت مع عدم الاستطاعة.

(١) لإطلاق النصوص ولا موجب لتقييدها ببعض أقسام الحجّ.

(٢) إذ لا موجب لأن يكون على مولاه بعد ما صار معتقاً وحرّاً ، فحاله حال سائر الأحرار ، فتجري أحكام حجّة الإسلام على حجّه ، وحينئذ فيجب عليه الهدي ، وإن عجز فعليه الصّوم.

تنبيه : لقد قيّد جمع من الفقهاء في كلماتهم وجوب الهدي على العبد بما إذا انعتق قبل المشعر ، مع أنّ ذلك غير دخيل في كون الهدي على العبد أو على مولاه ، بل الانعتاق قبل المشعر أو بعده دخيل في إجزاء حجّه عن حجّة الإسلام وعدمه ، وأمّا كون الهدي عليه أو على مولاه فمن آثار الحرّيّة والعبوديّة ، فإنّه متى ما صار حرّا فهديه عليه ولو صار حرّا يوم العيد ، ولا مقتضي لكونه على المولى بعد ما كان حرّا عند الذبح.

(٣) للإجماع وللنصوص ، منها : صحيحة جميل «عن رجل أمر مملوكه أن يتمتع

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٢٢٦ / ٢٩٩٠.

٢١

الشرط الرّابع : الاستطاعة

ويعتبر فيها أُمور :

الأوّل : السعة في الوقت (١) ومعنى ذلك وجود القدر الكافي من الوقت للذهاب إلى مكّة والقيام بالأعمال الواجبة هناك ، وعليه فلا يجب الحجّ إذا كان حصول المال في وقت لا يسع للذهاب والقيام بالأعمال الواجبة فيها ، أو أنّه يسع ذلك ولكن بمشقّة شديدة لا تتحمّل عادة (٢) وفي مثل ذلك يجب عليه التحفّظ على المال إلى السنة القادمة فإن بقيت الاستطاعة إليها وجب الحجّ فيها وإلّا لم يجب (٣).

______________________________________________________

قال : فمره فليصم ، وإن شئت فاذبح عنه» (١).

ومنها : صحيحة سعد بن أبي خلف «إن شئت فاذبح عنه وإن شئت فمره فليصم» (٢).

ويعارضهما صحيح محمّد بن مسلم قال : «سألته عن المتمتع المملوك ، فقال : عليه مثل ما على الحر ، إمّا أُضحية وإمّا صوم» (٣) حيث يظهر منه أنّ التخيير بين الهدي والصوم على العبد نفسه ، وقد حمله الشيخ على المساواة في الكميّة لئلا يظن أنّ عليه نصف ما على الحر كالظهار ونحوه ، فالمنظور في الرّواية أنّ الأُضحيّة الثابتة في حجّ المملوك أو الصوم كالأُضحيّة الثابتة في حجّ الحر أو الصوم الثابت فيه ، وغير ناظرة إلى أنّ الهدي على المملوك أو على مولاه (٤).

(١) وإلّا لم يكن متمكّناً من أداء الحجّ فلا يعقل التكليف به حينئذ.

(٢) لنفي الحرج في الشريعة المقدّسة.

(٣) إذا كان عنده مال بمقدار يكفيه للحج ، ولكن لا يتمكّن من السير لضيق

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٨٣ / أبواب الذبح ب ٢ ح ١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٨٣ / أبواب الذبح ب ٢ ح ٢.

(٣) الوسائل ١٤ : ٨٥ / أبواب الذبح ب ٢ ح ٥.

(٤) الإستبصار ٢ : ٢٦٢.

٢٢

الثّاني : الأمن والسّلامة وذلك بأن لا يكون خطراً على النفس أو المال أو العرض ذهاباً وإياباً وعند القيام بالأعمال (١) ،

______________________________________________________

الوقت فلا يجوز له أن يتصرّف في المال بما يخرجه عن الاستطاعة ، بل يجب عليه التحفّظ على المال إلى السنة القادمة ، وذلك لتقبيح العقل تفويت الواجب عليه وتعجيز نفسه عن أدائه بعد تنجزه ووجوبه عليه بشرائطه وحدوده وإن كان الواجب متأخّراً ، فإنّ الميزان في عدم جواز تعجيز نفسه من إتيان الواجب هو تنجّز الوجوب وفعليته ، سواء كان الواجب فعليّاً أو استقباليّاً.

نعم ، وقع الكلام في مبدأ هذا الوجوب ، فقد ذكر بعضهم أنّ مبدأه خروج الرفقة فلا يجوز تعجيز نفسه عند خروج الرفقة ، وذكر السيِّد الطباطبائي (قدس سره) في العروة أنّ مبدأه هو التمكّن من المسير ولا عبرة بخروج الرفقة (١) ، وعن بعضهم أنّ مبدأه أشهر الحجّ ، فلا يجوز تفويت الاستطاعة فيها كما عن المحقق النائيني (قدس سره) (٢).

ولكن الظاهر أنّه لا دليل على شي‌ء من ذلك ، فإنّ مقتضى الآية المباركة والنصوص المفسّرة للاستطاعة تنجز الوجوب عليه بمجرّد حصول الزاد والرّاحلة وتخلية السرب وصحّة البدن ، من دون فرق بين حصول ذلك في أشهر الحجّ أم لا ، أو خروج الرفقة والتمكّن من المسير أم لا ، بل مقتضاها أنّه متى حصلت الاستطاعة تنجز الوجوب عليه في أيّ وقت كان ، وعليه فلو حصلت له الاستطاعة في هذه السنة لا يجوز له تفويتها فيما لو علم بتمكّنه من الحجّ في السنين اللّاحقة ، ويجب عليه إبقاء المال إلى السنة المقبلة.

(١) أمّا اعتبار الأمن وعدم الخطر في الطريق على نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٢٣٩ / ٣٠٢٠.

(٢) دليل الناسك : ٣٦.

٢٣

كما أنّ الحجّ لا يجب مباشرة على مستطيع لا يتمكّن من قطع المسافة لهرم أو مرض أو لعذر آخر ، ولكن تجب عليه الاستنابة على ما سيجي‌ء تفصيله.

______________________________________________________

المعبّر عنه بالاستطاعة السربيّة ، فتدل عليه نفس الآية الشريفة (... مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ... (١) فإنّ الاستطاعة السبيليّة الواردة في الآية لا تصدق إلّا على ما إذا كان الطريق مأموناً ومخلى سربه ، لا يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله.

مضافاً إلى دلالة النصوص المعتبرة على ذلك ، منها : صحيحة هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحاً في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة» (٢).

ومنها : معتبرة محمّد بن يحيى الخثعمي قال : «سأل حفص الكناسي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن قول الله عزّ وجلّ (... وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ... ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحاً في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة فهو ممّن يستطيع الحجّ ، الحديث» (٣). بل مجرّد الخوف على نفسه أو عرضه أو ماله يكفي في سقوط الحجّ ، لأنّ الخوف بنفسه موضوع مستقل لجواز الترك وقد جرت سيرة العقلاء على الاجتناب عن محتمل الضّرر.

وأمّا اعتبار الاستطاعة البدنيّة فتدل عليه أيضاً الرّوايات المفسّرة للآية الكريمة كصحيحة هشام ومعتبرة الخثعمي المتقدّمتين ، وأمّا وجوب الاستنابة فيما إذا لم يتمكّن من المباشرة فسيأتي تفصيله في المسألة ٦٣.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٧.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٤ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٤.

٢٤

مسألة ١٣ : إذا كان للحج طريقان أحدهما مأمون والآخر غير مأمون ، لم يسقط وجوب الحجّ بل وجب الذهاب من الطريق المأمون وإن كان أبعد (١).

مسألة ١٤ : إذا كان له في بلده مال معتد به ، وكان ذهابه إلى الحجّ مستلزماً لتلفه لم يجب عليه الحجّ (٢). وكذلك إذا كان هناك ما يمنعه عن الذهاب شرعاً ، كما إذا استلزم حجّه ترك واجب أهم من الحجّ كإنقاذ غريق أو حريق أو توقف حجّه على ارتكاب محرم ، كان الاجتناب عنه أهم من الحجّ (٣).

______________________________________________________

(١) لعدم اختصاص الوجوب بأقرب الطرق بل العبرة بالاستطاعة والقدرة على الحجّ.

(٢) لحديث نفي الضرر الحاكم على جميع الأحكام الأوّليّة.

وربما يقال بعدم جريان قاعدة لا ضرر في المقام ، لأنّ دليل وجوب الحجّ مخصّص لدليل نفي الضرر ، نظير التكليف بالجهاد والزّكاة ووجوب الإنفاق على الرحم من الأحكام الضرريّة المبتنية على الضرر ، فلا مجال لإجراء قاعدة نفي الضرر في أمثال هذه الموارد.

والجواب عنه : أنّ الحجّ وإن كان حكماً ضرريّاً في نفسه ويستوجب صرف المال ولكن القاعدة تجري بالنسبة إلى الزائد عمّا يقتضيه طبع الحجّ.

(٣) جميع ذلك من موارد التزاحم فتلاحظ الأهميّة ، فإنّ دليل وجوب الحجّ ودليل الواجب أو الحرام مطلقان ولا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال فيقع التزاحم بينهما فاللازم تقديم الأهم وترجيحه على غيره والتخيير في المتساويين ، كما أنّ الأمر كذلك في سائر التكاليف الإلهيّة المتزاحمة. هذا بناءً على المختار من أنّ الاستطاعة المعتبرة ليست إلّا العقليّة ، غاية الأمر أنّها استطاعة خاصّة مفسّرة بأُمور معيّنة في الرّوايات ولم يؤخذ في موضوع الحجّ عدم المانع الشرعي ، وأمّا بناءً على مسلك المشهور من اعتبار القدرة الشرعيّة والتمكّن الشرعي في وجوب الحجّ ، بحيث أُخذ في موضوع الحجّ عدم المانع الشرعي ، فيمكن القول بعدم وجوب الحجّ إذا استلزم مانعاً شرعيّاً

٢٥

مسألة ١٥ : إذا حجّ مع استلزام حجّه ترك واجب أهم أو ارتكاب محرم كذلك ، فهو وإن كان عاصياً من جهة ترك الواجب أو فعل الحرام إلّا أنّ الظاهر أنّه يجزئ عن حجّة الإسلام إذا كان واجداً لسائر الشرائط (١) ولا فرق في ذلك بين من كان الحجّ مستقرّاً عليه ومن كان أوّل سنة استطاعته.

مسألة ١٦ : إذا كان في الطريق عدوّ لا يمكن دفعه إلّا ببذل مال معتد به ، لم يجب بذله ويسقط وجوب الحجّ (٢)

______________________________________________________

من ترك واجب أو ارتكاب محرم وإن لم يكن أهم ، لعدم تحقّق الاستطاعة الشرعيّة حينئذ ، ولكن قد حققنا في محلِّه أنّه لا وجه ولا أساس لما ذكره المشهور أصلاً (١).

(١) لجريان الترتب حتّى في باب الحجّ ، وعليه فلا فرق بين الحجّ الفعلي والمستقر فإنّه بناءً على وجود الأمر بالحج ولو بالترتب فلا مانع من الإجزاء في القسمين.

(٢) اختلف الفقهاء في هذه المسألة إلى أقوال ثلاثة :

الأوّل : عدم وجوب بذل المال وسقوط وجوب الحجّ كما عن الشيخ (٢) وجماعة.

الثّاني : وجوب بذل المال كما عن المحقق (٣) والمدارك (٤).

الثّالث : التفصيل بين المضر بحاله والمجحف به وعدمه ، فيجب في الثّاني دون الأوّل.

والصحيح أن يقال : إن كان بذل المال حرجيّا عليه وهو المعبّر عنه بالمضر بحاله والمجحف به يرتفع وجوبه لنفي الحرج ، وإن لم يكن حرجياً ومشقّة عليه فلا بدّ من التفصيل بين ما إذا كان الضرر والنقص الحاصل في ماله معتدّاً به وإن لم يكن مضرّاً بحاله ومجحفاً به فلا يجب بذله لحديث نفي الضرر ، وقد عرفت قريباً أنّ قاعدة نفي الضرر تجري في الحجّ ونحوه من الأحكام الضرريّة إذا كان الضرر اللّازم أكثر ممّا

__________________

(١) راجع شرح العروة ٢٦ : ٥٦.

(٢) المبسوط ١ : ٣٠١.

(٣) الشرائع ١ : ٢٥٥.

(٤) المدارك ٧ : ٦٢.

٢٦

مسألة ١٧ : لو انحصر الطريق بالبحر لم يسقط وجوب الحجّ (١) إلّا مع خوف الغرق أو المرض (٢) ولو حجّ مع الخوف صحّ حجّه على الأظهر (٣).

الثّالث : الزاد والرّاحلة ومعنى الزاد هو وجود ما يتقوّت به في الطريق من المأكول والمشروب وسائر ما يحتاج إليه في سفره ، أو وجود مقدار من المال النقود وغيرها يصرفه في سبيل ذلك ذهاباً وإياباً (٤) ،

______________________________________________________

يقتضيه طبع الواجب ، وبين ما إذا كان الضرر يسيراً فلا يسقط وجوب الحجّ لصدق تخلية السرب على ذلك ، وعلى سبيل المثال فربّما لا يعد البذل في بعض الفروض من الضرر عرفاً كبذل عشرة دنانير بالنسبة إلى ألف دينار الّذي يصرفه في الحجّ وشؤونه ونظير ذلك بذل المال لأخذ جواز السفر ونحوه.

(١) لأنّ العبرة بالوصول إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحجّ والقدرة على السفر برّاً كان أو بحراً أو جوّاً ، ولا موجب لاختصاص الوجوب بأحدها.

(٢) لا يختص ذلك بالسفر بحراً ، بل لو خاف على نفسه من الهلاك والمرض إذا سافر بطريق البر يسقط وجوب الحجّ أيضاً للحرج ، فإنّ الملاك في سقوط وجوب الحجّ بلوغ الخوف إلى حد يكون السفر حرجيّا عليه ، وإن كان منشأ الخوف أمراً غير عقلائي ، من غير نظر إلى نوعيّة السفر.

(٣) لأنّ ذلك في المقدّمة وهي المشي إلى الميقات ، ولا يضر ذلك في صدق الاستطاعة.

(٤) وتدل على اعتبارهما مضافاً إلى عدم تحقق الاستطاعة عرفاً بدونهما غالباً عدّة من النصوص المعتبرة المفسّرة للاستطاعة المذكورة في الآية الشريفة ، منها : معتبرة محمّد بن يحيى الخثعمي ، قال : «سأل حفص الكناسي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن قول الله عزّ وجلّ (... وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ... ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحاً في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة فهو ممّن يستطيع الحجّ ، أو قال : ممّن كان له مال ، فقال له حفص الكناسي : فإذا كان صحيحاً في بدنه مخلى في سربه له زاد وراحلة فلم يحجّ فهو ممّن يستطيع الحجّ؟ قال :

٢٧

ومعنى الرّاحلة هو وجود وسيلة يتمكّن بها من قطع المسافة ذهاباً وإياباً (١) ويلزم في الزاد والرّاحلة أن يكونا ممّا يليق بحال المكلّف (٢).

______________________________________________________

نعم» (١) ونحوها صحيحة هشام (٢) ومعتبرة السكوني (٣).

فالمتحصل من الرّوايات أنّ المعتبر في الحجّ ليس مجرّد القدرة العقليّة ، بل يشترط فيه قدرة خاصّة ، ومنها أن يكون له زاد وراحلة.

(١) وإنّما يعتبر نفقة الإياب لمن يريد العود إلى وطنه ، وإلّا فلا يعتبر التمكّن من مصارف الإياب كما سيأتي في مسألة ٢٢.

(٢) وإلّا لكان حرجياً وهو منفي في الشريعة. نعم ، ربّما يظهر من بعض الرّوايات عدم العبرة بالراحلة ولزوم تحمّل المشقّة بالمشي أو بالرّكوب على حمار أجدع أبتر.

منها : صحيح ابن مسلم في حديث قال : «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ قال : هو ممّن يستطيع الحجّ ، ولِمَ يستحيي؟ ولو على حمار أجدع أبتر؟ قال : فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل» (٤) ومثله صحيح الحلبي (٥).

والجواب عن ذلك : مضافاً إلى أنّه لم يقل أحد بمضمونهما حتّى القائل بعدم اعتبار الرّاحلة ، أنّ هذه الرّوايات وردت في مورد البذل وعرض الحجّ ، وأنّه لو بذل له الحجّ واستقرّ عليه وصار مستطيعاً بذلك فليس له الامتناع والحياء بعد عرض الحجّ ، وإذا امتنع من القبول واستحيا يستقر عليه الحجّ ويجب عليه إتيانه ولو كان فيه مشقّة وحرج فالحكم المذكور فيهما أجنبي عن مورد كلامنا ، وهو حصول الاستطاعة الماليّة للمكلّف.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٤ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٤.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٧.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٤ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٥.

(٤) الوسائل ١١ : ٣٩ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ١.

(٥) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٥.

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : صحيح معاوية بن عمّار قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل عليه دين أعليه أن يحجّ؟ قال : نعم ، إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين ، ولقد كان (أكثر) من حجّ مع النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) مشاة ولقد مرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكراع الغميم فشكوا إليه الجهد والعناء فقال : شدّوا أزركم واستبطنوا ، ففعلوا ذلك فذهب عنهم» (١) فإنّه قد حكم فيه بوجوب الحجّ على من أطاق المشي ، والمراد من «أطاق» إعمال غاية الجهد والمشقّة ومنه قوله تعالى (... وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ... (٢).

ويجاب عن ذلك أوّلاً بأنّه لم يعمل أحد من الفقهاء بمضمونه.

وثانياً : أنّ المراد بمن أطاق المشي ، القدرة على المشي في قبال المريض والمسجى الّذي لا يتمكّن من المشي أصلاً حتّى في داره وبلده ، فمن تمكّن من المشي وأطاقه بمعنى أنّه لم يكن مريضاً ولم يكن مسجى ، يجب عليه الحجّ بالطرق المتعارفة لا مشياً على الأقدام.

ولو سلمنا ظهور هذه الرّوايات في عدم اعتبار الرّاحلة ، فلا ريب أنّ ظهور تلك الرّوايات الدالّة على الاعتبار أقوى من ظهور هذه ، فترفع اليد عن ظهور هذه لأظهريّة تلك الرّوايات.

ويؤكّد ما قلناه : أنّ الحجّ لو كان واجباً على كلّ من تمكّن من المشي وإن لم يكن له راحلة لكان وجوبه حينئذ من الواضحات الّتي لا يمكن خفاؤها لكثرة الابتلاء بذلك.

وأمّا استشهاد الإمام (عليه السلام) بأصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم يعلم أنّ حجّهم كان حجّة الإسلام ويحتمل كونه حجّا ندبيّاً وإن فرض أوّل سنتهم لاستحباب الحجّ للمتسكع ، فلا ريب في اعتبار الزاد والرّاحلة حتّى لمن يتمكّن من المشي.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ١١ ح ١.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٤.

٢٩

مسألة ١٨ : لا يختص اشتراط وجود الرّاحلة بصورة الحاجة إليها ، بل يشترط مطلقاً ولو مع عدم الحاجة إليها كما إذا كان قادراً على المشي من دون مشقّة ولم يكن منافياً لشرفه (١).

مسألة ١٩ : العبرة في الزاد والرّاحلة بوجودهما فعلاً ، فلا يجب على من كان قادراً على تحصيلهما بالاكتساب ونحوه (٢) ولا فرق في اشتراط وجود الرّاحلة بين القريب والبعيد (٣).

______________________________________________________

(١) قد عرفت أنّ الاستطاعة المعتبرة في الحجّ فسّرت في الرّوايات بأُمور خاصّة منها الزاد والرّاحلة ، ولكن وقع الخلاف في اشتراط الزاد والرّاحلة ، وأنّهما شرط على الإطلاق أو أنّهما شرط عند الحاجة إليهما ، فلو كان قادراً على المشي من دون مشقّة لا يعتبر وجود الرّاحلة ، فعن المشهور أنّهما شرط مطلقاً حتّى في حق من كان متمكّناً من المشي ، فلو حجّ ماشياً من دون وجود الرّاحلة لا يجزي حجّه عن حجّة الإسلام ويظهر من صاحب الوسائل اعتبارهما عند الحاجة ، لأخذ الحاجة في عنوان أخبار المقام (١).

وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ المستفاد من الأخبار اعتبار الزاد والرّاحلة مطلقاً حتّى في حق القادر على المشي.

(٢) لعدم وجوب تحصيل الشرط.

(٣) لإطلاق ما دلّ على اعتبار وجود الرّاحلة حتّى بالنسبة إلى أهل مكّة المكرّمة لقطع المسافة بينها وبين عرفات الّتي تبلغ أربعة فراسخ تقريباً.

وعن المحقق (٢) وغيره عدم اعتبار وجود الرّاحلة للمكّي ، وأجابوا عن إطلاق الرّوايات الدالّة على اشتراط الرّاحلة بأنّها وردت في تفسير الآية الشريفة الّتي

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨.

(٢) الشرائع ١ : ٢٥٢.

٣٠

مسألة ٢٠ : الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحجّ إنّما هي الاستطاعة من مكانه لا من بلده (١) فإذا ذهب المكلّف إلى المدينة مثلاً للتجارة أو لغيرها وكان له هناك ما يمكن أن يحجّ به من الزاد والرّاحلة أو ثمنهما وجب عليه الحجّ ، وإن لم يكن مستطيعاً من بلده.

مسألة ٢١ : إذا كان للمكلّف ملك ولم يوجد من يشتريه بثمن المثل ، وتوقف الحجّ على بيعه بأقل منه بمقدار معتد به لم يجب البيع (٢) ،

______________________________________________________

موضوعها السفر إلى البيت والقصد إليه ، فلا تشمل من كان في مكّة ويريد السفر إلى عرفات ، ومن المعلوم أنّ أهل مكّة يحجّون حجّ الإفراد أو القِران ، فيسافرون إلى عرفات لا إلى البيت.

والجواب عنه : أنّه لا ريب في أنّ البيت الشريف مقصود في جميع الأقسام الثلاثة للحج ، غاية الأمر قد يقصده قبل إتيان بقيّة المناسك كحج التمتّع ، وقد يقصده بعد أداء المناسك كحج القِران أو الإفراد الّذي يكون وظيفة لأهل مكّة ، فلا فرق في اشتراط الرّاحلة بين السفر إلى بيت الله الحرام أوّلاً وبين السفر إلى عرفات أوّلاً ، لأنّ البيت مقصود لا محالة في جميع أنواع الحجّ.

(١) لإطلاق أدلّة اشتراط الاستطاعة ، ولا خصوصيّة لحصولها في بلد دون بلد آخر. وبعبارة اخرى : متى كان واجداً للشرائط تنطبق عليه الأدلّة ، ولا دليل على لزوم حصول الاستطاعة من بلده.

(٢) قد عرفت حكم هذه المسألة من مطاوي الأبحاث السابقة ، فقد ذكرنا (١) أنّ قاعدة لا ضرر لا مانع من جريانها في الحجّ ونحوه من الأحكام الضرريّة إذا كان الضرر اللّازم أكثر ممّا يقتضيه طبع الحجّ ، كما إذا كان الضرر والنقص الحاصل مجحفاً به فحينئذ لا يجب البيع بالقيمة النازلة المجحفة به.

__________________

(١) في ص ٢٥.

٣١

وأمّا إذا ارتفعت الأسعار فكانت اجرة المركوب مثلاً في سنة الاستطاعة أكثر منها في السنة الآتية لم يجز التأخير (١).

مسألة ٢٢ : إنّما يعتبر وجود نفقة الإياب في وجوب الحجّ فيما إذا أراد المكلّف العود إلى وطنه ، وأمّا إذا لم يرد العود وأراد السكنى في بلد آخر غير وطنه فلا بدّ من وجود النفقة إلى ذلك البلد ولا يعتبر وجود مقدار العود إلى وطنه. نعم إذا كان البلد الّذي يريد السكنى فيه أبعد من وطنه لم يعتبر وجود النفقة إلى ذلك المكان ، بل يكفي في الوجوب وجود مقدار العود إلى وطنه (٢).

______________________________________________________

(١) إذا كان الارتفاع متعارفاً كما في هذه الأزمنة فلا موجب للسقوط وتأخير الحجّ. نعم ، إذا كان الغلاء غير متعارف وكان مجحفاً به فلا يجب الحجّ في هذه السنة لجريان قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى الضرر غير المتعارف الّذي لا يقتضيه طبع الحجّ.

(٢) لا إشكال ولا ريب في اعتبار نفقة الإياب في وجوب الحجّ لمن يريد العود إلى وطنه ، بحيث كان البقاء في مكّة المكرّمة أمراً حرجياً عليه ، ومجرّد تمكّنه من نفقة الذهاب من دون تمكّنه من نفقة العود لا يحقق الاستطاعة لنفي الحرج. نعم ، إذا لم يكن بقاؤه في مكّة المكرّمة حرجياً عليه ويتمكّن من العيش هناك لعدم علاقة له بوطنه كما إذا كان وحيداً لا أهل له فلا يعتبر تمكّنه من نفقة العود إلى وطنه وتكفي نفقة الذهاب ، إذ لا موجب لاعتبار ذلك فتشمله أدلّة وجوب الحجّ.

وأمّا إذا لم يرد العود إلى وطنه وأراد السكنى في بلد آخر غير وطنه ، ففصّل في المتن بين ما إذا كان ذلك البلد الّذي يريد السكنى فيه أبعد من وطنه ، كمن ذهب من العراق إلى مكّة ويريد الذهاب من مكّة إلى خراسان ، فلا يعتبر وجود النفقة إلى ذلك المكان كخراسان ، بل يكفي في الوجوب وجود مقدار العود إلى وطنه ، وبين ما إذا لم يكن البلد الّذي يريد السكنى فيه أبعد كالشام فيعتبر وجود النفقة إلى ذلك البلد الذي يريد البقاء فيه ، ولا يعتبر وجود نفقة العود إلى وطنه.

ولا يخفى أنّ العبرة بكثرة النفقة وقلّتها لا بقرب المسافة وبعدها ، ولعل أخذ البعد

٣٢

الرّابع : الرّجوع إلى الكفاية ، وهو التمكّن بالفعل أو بالقوّة من إعاشة نفسه وعائلته بعد الرّجوع ، وبعبارة واضحة : يلزم أن يكون المكلّف على حالة لا يخشى معها على نفسه وعائلته من العوز والفقر بسبب صرف ما عنده من المال في سبيل الحجّ ، وعليه فلا يجب على من يملك مقداراً من المال يفي بمصارف الحجّ وكان ذلك وسيلة لإعاشته وإعاشة عائلته ، مع العلم بأنّه لا يتمكّن من الإعاشة عن طريق آخر يناسب شأنه (١).

______________________________________________________

والقرب من جهة الغلبة ، فإنّ الأكثر مسافة يستدعي أكثر اجرة وقيمة ، كما أنّ الأقل مسافة يستدعي أقل نفقة وأُجرة غالباً ، وربّما يعكس الأمر فقد يكون أقرب مسافة يحتاج إلى الأكثر اجرة وقيمة ، والأكثر مسافة يستدعي أقل نفقة كالعود إلى العراق بطريق البر ، والعود إلى الشام من طريق الجو الّذي هو أقل مسافة ولكنّه أكثر اجرة فالعبرة في الحقيقة بالأقل والأكثر نفقة ، فالأحسن أن يفصّل بنحو آخر ذكره سيِّدنا الأُستاذ (ذمّ ظله) في الشرح على العروة (١).

وحاصله : أنّه قد يفرض عدم تمكّنه من العود إلى بلده ولكن لا بدّ له من أن يذهب إلى بلد آخر ، فحينئذ يعتبر وجود نفقة الذهاب إلى ذلك البلد وإن كان أبعد لأنّ الرّجوع إلى وطنه كالعراق غير ممكن له ، وبقاؤه في مكّة حرجي عليه ، والمفروض لزوم الذهاب إلى بلد آخر ، فيعتبر وجود نفقة الذهاب إلى ذلك البلد.

وقد يفرض أنّه يريد الذهاب إلى بلد آخر لرغبته الشخصيّة ، فلا عبرة في نفقة الذهاب إلى ذلك البلد بالقرب والبعد ، بل العبرة حينئذ بكثرة القيمة وقلّتها ، فإن كان الذهاب إلى ذلك البلد الّذي يريد البقاء فيه اختياراً يستدعي الصرف أكثر من العود إلى وطنه وإن كان أقل مسافة ، فالعبرة بمقدار نفقة العود إلى وطنه ، وإن كان الذهاب إليه يحتاج إلى الأقل أُجرة فالعبرة بذلك وإن كان أبعد مسافة كالمثال المتقدّم.

(١) وعمدة ما يدل على اعتبار ذلك إنّما هي قاعدة نفي العسر والحرج ، وأمّا الأخبار الّتي استدلّ بها على ذلك فكلّها ضعيفة إلّا خبر أبي الربيع الشامي ، قال :

__________________

(١) شرح العروة ٢٦ : ٧٥.

٣٣

فبذلك يظهر أنّه لا يجب بيع ما يحتاج إليه في ضروريّات معاشه من أمواله ، فلا يجب بيع دار سكناه اللّائقة بحاله وثياب تجمّله وأثاث بيته ، ولا آلات الصنائع الّتي يحتاج إليها في معاشه ونحو ذلك ، مثل الكتب بالنسبة إلى أهل العلم ممّا لا بدّ منه في سبيل تحصيله.

______________________________________________________

«سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ (... وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ... فقال : ما يقول النّاس؟ قال فقلت له : الزاد والرّاحلة ، قال فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : قد سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن هذا فقال : هلك الناس إذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن الناس ينطلق إليهم فيسلبهم إيّاه لقد هلكوا إذن ، فقيل له : فما السبيل؟ قال فقال : السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض ويبقى بعضاً لقوت عياله أليس قد فرض الله الزّكاة فلم يجعلها إلّا على من يملك مائتي درهم» (١) والخبر وإن كان موثقاً لأن أبا الربيع الشامي من رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي وهم ثقات إلّا أنّه على ما رواه الشيخ في التهذيب ليس فيه ما يدل على المدّعى إلّا جملة «السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض ويبقى بعضاً لقوت عياله» (٢) وهذه تدل على شرط آخر وهو اعتبار وجود ما يمون به عياله حتّى يرجع في الاستطاعة وذلك أجنبي عن اعتبار الرّجوع إلى الكفاية ، ولذا قال الشهيد الثّاني : إنّ الرّواية لا تدل على مطلوبهم ، وإنّما تدل على اعتبار المئونة ذاهباً وعائداً ومئونة عياله كذلك (٣).

نعم ، المفيد رواه في المقنعة عن أبي الربيع الشامي وزاد فيه بعد قوله : «ويستغني به عن النّاس يجب عليه أن يحجّ بذلك ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذن ، فقيل له : فما السبيل؟ قال : السعة في المال» (٤) ثمّ ذكر تمام الحديث ، وفيما رواه المفيد

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٩ ح ١.

(٢) التهذيب ٥ : ٢ / ١.

(٣) الروضة البهيّة ٢ : ١٦٨.

(٤) المقنعة : ٣٨٥.

٣٤

وعلى الجملة : كلّ ما يحتاج إليه الإنسان في حياته وكان صرفه في سبيل الحجّ موجباً للعسر والحرج لم يجب بيعه ، نعم ، لو زادت الأموال المذكورة عن مقدار الحاجة وجب بيع الزائد في نفقة الحجّ ، بل من كان عنده دار قيمتها ألف دينار مثلاً ويمكنه بيعها وشراء دار أُخرى بأقل منها من دون عسر وحرج لزمه ذلك إذا كان الزائد وافياً بمصارف الحجّ ذهاباً وإياباً وبنفقة عياله (١).

مسألة ٢٣ : إذا كان عنده مال لا يجب بيعه في سبيل الحجّ لحاجته إليه ، ثمّ استغنى عنه وجب عليه بيعه لأداء فريضة الحجّ ، مثلاً إذا كان للمرأة حلي تحتاج إليه ولا بدّ لها منه ثمّ استغنت عنه لكبرها أو لأمر آخر وجب عليها بيعه لأداء فريضة الحجّ (٢).

______________________________________________________

دلالة على المدّعى ولكن طريق المفيد إلى أبي الربيع الشامي مجهول.

والحاصل : الرّواية الموثقة خالية عمّا يكون شاهداً على المدّعى ، وما يكون شاهداً عليه غير موثق ، فالعمدة كما ذكرنا أدلّة نفي الحرج.

ومن ذلك يظهر اعتبار أمر آخر في الاستطاعة وهو وجود ما يمون به عياله حتّى يرجع ، بل لو لم يكن له ذلك لا يتحقق عنوان الاستطاعة فإنّ قوله (عليه السلام) : «يجب الحجّ إذا كان عنده ما يحجّ به» (١) لا يصدق إلّا إذا كان مالكاً لقوت عياله ممّن يجب عليه نفقته شرعاً. فإنّه حق مالي يجب عليه أداؤه وليس له تفويته. ثمّ لا يخفى إن مفاد خبر أبي الربيع الشامي لا يزيد عمّا يقتضيه أدلّة نفي الحرج.

(١) والوجه في ذلك كلّه أدلّة نفي العسر والحرج الّتي أشار إليها في المتن ، ولذا يجب بيع الزائد عن مقدار الحاجة وصرفه في الحجّ ، وكذا يجب الانتقال إلى دار أُخرى أرخص من داره ، لعدم وقوعه في العسر والحرج على الفرض.

(٢) فإنّ المرأة إذا كانت محتاجة إلى لبس الحلي كما إذا كانت شابة ومن شأنها أن تلبس الحلي فحينئذ لا يجب عليها بيعه وتبديله وصرفه في الحجّ ، لأن صرفه في الحجّ

__________________

(١) ورد مضمونه في الوسائل ١١ : ٣٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ١ ، ٣.

٣٥

مسألة ٢٤ : إذا كانت له دار مملوكة وكانت هناك دار اخرى يمكنه السكنى فيها من دون حرج عليه كما إذا كانت موقوفة تنطبق عليه ، وجب عليه بيع الدار المملوكة إذا كانت وافية بمصارف الحجّ ولو بضميمة ما عنده من المال ، ويجري ذلك في الكتب العلميّة وغيرها ممّا يحتاج إليه في حياته (١).

مسألة ٢٥ : إذا كان عنده مقدار من المال يفي بمصارف الحجّ ، وكان بحاجة إلى الزواج أو شراء دار لسكناه أو غير ذلك ممّا يحتاج إليه ، فإن كان صرف ذلك المال في الحجّ موجباً لوقوعه في الحرج لم يجب عليه الحجّ ، وإلّا وجب عليه (٢).

مسألة ٢٦ : إذا كان ما يملكه ديناً على ذمّة شخص وكان الدّين حالاً وجبت عليه المطالبة ، فإن كان المدين مماطلاً وجب إجباره على الأداء ، وإن توقّف تحصيله على الرّجوع إلى المحاكم العرفية لزم ذلك ، كما تجب المطالبة فيما إذا كان الدّين مؤجّلاً ولكن المدين يؤدّيه لو طالبه ، وأمّا إذا كان المدين معسراً أو مماطلاً ولا يمكن إجباره ، أو كان الإجبار مستلزماً للحرج ، أو كان الدّين مؤجّلاً والمدين لا يسمح بأداء ذلك قبل الأجل ، ففي جميع ذلك إن أمكنه بيع الدّين بما يفي بمصارف الحجّ ولو بضميمة ما عنده من المال ولم يكن في ذلك ضرر ولا حرج وجب البيع وإلّا لم يجب (٣).

______________________________________________________

أمر حرجي عليها ، بخلاف ما لو استغنت عنه لكبرها مثلاً ، وجب عليها بيعه وصرفه في الحجّ لعدم استلزام ذلك الحرج.

(١) لصدق الاستطاعة حينئذ إذا لم تكن السكنى في الدار الموقوفة حرجياً عليه ولم تكن منافية لشأنه ، فإذن لا حاجة له إلى الدار المملوكة لسدّ حاجته بالوقف ونحوه ، وكذا الحال بالنسبة إلى الكتب العلميّة ونحوها من الأثاث.

(٢) لأنّ الميزان في سقوط الحجّ وعدمه أن يكون الإلزام بالحج حرجياً عليه فيرتفع وجوبه ، حتّى ولو قلنا بعدم حرمة إيقاع النفس في الحرج والمشقّة ، وذلك لحكومة دليل الحرج على الأحكام الأوّليّة.

(٣) هذه المسألة تنحل إلى أربع صور :

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولى : ما إذا كان الدّين حالاً وكان المديون باذلا ، فاللّازم مطالبته لصدق الاستطاعة بذلك وكونه واجداً لما يحجّ به ، إذ لا فرق في ملكه للزاد والرّاحلة بين ما يملكهما عيناً أو قيمة وبدلاً.

الثّانية : أن يكون الدّين حالاً والمدين مماطلاً غير باذل ، فإن أمكن إجباره ولو بالرّجوع إلى المحاكم العرفيّة وجب لصدق الاستطاعة بذلك ، ومجرّد الاستعانة بالغير لا يوجب خروج ذلك عن الاستطاعة فيما لو لم يكن في الاستعانة حرج عليه ، فإنّ ذلك نظير ما إذا توقّف الحصول على ماله على علاج ، كما إذا كان له مال مدفون في الأرض أو كان في صندوق وتوقف التصرّف فيه على حفر الأرض أو فتح الصندوق ولو بأن يستأجر أحداً لذلك ، فإنّ القدرة التكوينيّة إذا كانت متوقّفة على مقدّمات يجب عقلاً تحصيل تلك المقدّمات ولا يوجب ذلك سقوط الواجب. وأمّا المنع عن الرّجوع إلى حاكم الجور للنهي عن الركون إليه والاستعانة به ، فقد ذكرنا في محلِّه (١) أنّ الأقوى جواز الرّجوع إليه إذا توقف استيفاء الحق وإنقاذه عليه.

الثّالثة : ما إذا كان الدّين مؤجلاً ولكن المدين يبذله قبل الأجل لو طالبه الدائن فالظاهر أيضاً وجوب المطالبة لصدق الاستطاعة ، ومجرّد توقف التصرّف على المطالبة لا يوجب عدم صدق الاستطاعة ، فإنّ ذلك كالمال الموجود في الصندوق الّذي يحتاج فتحه إلى العلاج.

الرّابعة : ما إذا كان المدين معسراً أو مماطلاً ولا يمكن إجباره ، أو كان الإجبار مستلزماً للحرج ، أو كان الدّين مؤجّلاً والمدين لا يدفعه قبل الأجل ، ففي جميع ذلك لو تمكّن من بيعه نقداً بأقل منه كما هو المتعارف يجب عليه بيعه ، لصدق الاستطاعة بذلك وأنّه واجد لما يحجّ به ، وقد عرفت أنّه لا يعتبر في صدق الاستطاعة وجود ما يحجّ به عيناً ، بل تصدق الاستطاعة على من يملك ما يحجّ به ولو بدلاً أو قيمة.

__________________

(١) شرح العروة ١ : ٣٠٧.

٣٧

مسألة ٢٧ : كلّ ذي حرفة كالحدّاد والبنّاء والنّجار وغيرهم ممّن يفي كسبهم بنفقتهم ونفقة عوائلهم يجب عليهم الحجّ ، إذا حصل لهم مقدار من المال بإرث أو غيره ، وكان وافياً بالزاد والرّاحلة ونفقة العيال مدّة الذهاب والإياب (١).

مسألة ٢٨ : من كان يرتزق من الوجوه الشرعيّة كالخمس والزّكاة وغيرهما وكانت نفقاته بحسب العادة مضمونة من دون مشقّة ، لا يبعد وجوب الحجّ عليه فيما إذا ملك مقداراً من المال يفي بذهابه وإيابه ونفقة عائلته ، وكذلك من قام أحد بالإنفاق عليه طيلة حياته ، وكذلك كلّ من لا يتفاوت حاله قبل الحجّ وبعده من جهة المعيشة إن صرف ما عنده في سبيل الحجّ (٢).

مسألة ٢٩ : لا يعتبر في الاستطاعة الملكيّة اللازمة بل تكفي الملكيّة المتزلزلة أيضاً (٣) فلو صالحه شخص ما يفي بمصارف الحجّ وجعل لنفسه الخيار إلى مدّة معيّنة وجب عليه الحجّ ، وكذلك الحال في موارد الهبة الجائزة.

______________________________________________________

(١) لحصول الاستطاعة والتمكّن من السفر إلى الحجّ ، ولا يعتبر في الرّجوع إلى الكفاية وجود ما تعيش به نفسه وعائلته بالفعل ، بل يكفي التمكّن من ذلك ولو لأجل صنعته وحرفته ، فإنّ المعتبر فيه أن لا يحتاج إلى التكفّف وأن لا يقع في الشدّة والحرج بعد الرّجوع.

(٢) لوجود ما يحجّ به من مئونة الذهاب والإياب ونفقة العيال ، وعدم وقوعه في الحرج بعد الرّجوع.

(٣) خلافاً لصاحب العروة (قدس سره) معلّلاً بأن الملكيّة المتزلزلة في معرض الزوال ولا تثبت بها الاستطاعة (١) ، ولكن الظاهر هو الاكتفاء بها ، لصدق كونه واجداً للزاد والرّاحلة وأن عنده ما يحجّ به ، وأدلّة وجوب الحجّ على من كان واجداً لهما لم تقيّد بعدم كون المال في معرض الزوال ، فمتى ما كان المكلّف واجداً للزاد

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٢٤١ / ٣٠٢٤.

٣٨

مسألة ٣٠ : لا يجب على المستطيع أن يحجّ من ماله فلو حجّ متسكعاً أو من مال شخص آخر أجزأه (١) نعم إذا كان ثوب طوافه أو ثمن هديه مغصوباً لم يجزئه ذلك (٢).

مسألة ٣١ : لا يجب على المكلّف تحصيل الاستطاعة بالاكتساب أو غيره (٣)

______________________________________________________

والرّاحلة وجب عليه الحجّ حتّى مع علمه بفسخ المشتري فيما بعد ، فإن أقصاه أنّه يفي دينه للمشتري بلا حرج على الفرض ، ولو شكّ في الرّجوع يستصحب عدمه. وبذلك يظهر الحال في موارد الهبة الجائزة.

(١) لأنّ الواجب عليه إنّما هو الحجّ ، ولا يعتبر فيه أن يكون صرف المال من كيسه الخاص أو صرفه حسب شؤونه ، وإنّما ذلك مقدّمة ووسيلة للوصول إلى الحجّ. والحاصل لو توقّف إتيان الحجّ على الصرف من ماله الخاص وجب ، وإلّا فلا دليل على وجوب الصرف من ماله.

(٢) قد عرفت أنّ صرف المال من كيسه الخاص غير واجب ، وإنّما الواجب عليه الحجّ وصرف المال وسيلة للوصول إليه ، بل لو غصب مالاً وحجّ به صحّ حجّه وأجزأه ، وإنّما يكون ضامناً للمال المغصوب.

نعم ، يعتبر إباحة ثوب الطّواف لأنّ الستر معتبر في الطّواف ولا يصح عارياً ، فإذا كان الساتر محرماً لا يصح طوافه لأنّ الفرد الحرام لا يكون مصداقاً للواجب ، فحاله حال الصلاة في اعتباره بالثوب الساتر ، وأمّا ثمن الهدي فإن كان من عين المال المغصوب فلا ريب في عدم دخول الهدي في ملكه ، فلو ذبحه فهو في الحقيقة تارك للهدي متعمداً فيفسد حجّه وطوافه لما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى (١) أن من ترك الهدي عالماً عامداً فطاف بطل طوافه ولزمه التدارك بعد تدارك الذبح. وأمّا إذا اشتراه بالذمّة كما هو الغالب في المعاملات وادّى الثمن من المغصوب وفاءً للمعاملة ، ففي مثله تصحّ المعاملة ويكون الهدي داخلاً في ملكه غاية الأمر يضمن المال لصاحبه.

(٣) لأنّ ذلك من تحصيل الشرط ولا يجب على المكلّف تحصيله ، فإنّ الاستطاعة

__________________

(١) في المسألة ٣٨٢.

٣٩

فلو وهبه أحد مالاً يستطيع به لو قبله لم يلزمه القبول ، وكذلك لو طلب منه أن يؤجر نفسه للخدمة بما يصير به مستطيعاً ، ولو كانت الخدمة لائقة بشأنه.

______________________________________________________

أُخذت مفروضة الوجود ، ولذا لو وهبه أحد مالاً يستطيع به لو قبله أو طلب منه إجارة نفسه للخدمة بما يصير به مستطيعاً لم يجب عليه القبول.

وقد يقال كما عن النراقي (قدس سره) بالوجوب لوجهين :

الأوّل : صدق الاستطاعة العرفيّة على ذلك.

الثّاني : أنّ الإنسان يملك منافع نفسه كما يملك منافع ما يملكه من الأعيان كالعقار والدواب فيكون واجداً للمال ومستطيعاً قبل الإجارة ومن المعلوم أنّه لا يعتبر في الاستطاعة وجود الأثمان والنقود أو وجود عين مال مخصوص ، بل المعتبر وجود ما يمكن صرفه في سبيل الحجّ (١).

والجواب عن الأوّل : أنّ الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحجّ ليست الاستطاعة العرفيّة ولا العقليّة ، وإنّما هي استطاعة خاصّة مفسّرة في الرّوايات بملكيّة الزاد والرّاحلة وتخلية السرب ، وهي تحصل بأحد أمرين إمّا واجديته لما يحجّ به أو بالبذل ، وكلاهما غير حاصل في المقام.

وعن الثّاني بأنّ الإنسان وإن كان يملك منافع نفسه لكن لا بالملكيّة الاعتباريّة نظير ملكيّته للعقار والدواب ، ولا يصدق عليه أنّه ذو مال باعتبار قدرته على منافع نفسه وقدرته على أعماله ، ولذا تسالم الفقهاء على أنّه لو حبس أحد حرّا لا يضمن منافعه باعتبار تفويته هذه المنافع.

والّذي يدل على ما ذكرناه أنّ الإنسان لو كان مالكاً لمنافع نفسه بالملكيّة الاعتباريّة لكان واجداً لما يحجّ به ، فلا حاجة إلى طلب الاستئجار منه ، بل يجب عليه أوّلاً تعريض نفسه للإيجار ، كما إذا كان مالكاً للدار والدواب ، ولا أظن أنّ أحداً يلتزم بذلك.

__________________

(١) مستند الشيعة ١١ : ٥١.

٤٠