موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يجاوز الجحفة إلّا محرماً» (١) فإنّما يدل على حكم من تجاوز الشجرة ويسأل الإمام (عليه السلام) في فرض عدم الإحرام من الشجرة ، ولا يدل على جواز تأخير الإحرام اختياراً وعمداً.

فالمتحصل من الرّوايات : أنّ التأخير اختياراً غير جائز وإنّما يجوز في فرض المرض والضعف.

وهل يعم جواز التأخير سائر الأعذار العرفيّة كشدّة البرد والحرّ أم يختص بالمرض والضعف كما في النصوص؟ فعن جماعة التعميم ومنهم السيِّد في العروة (٢). وعن آخرين اختصاص الجواز بالمريض والضعيف.

ويمكن أن يقال بالتفصيل بين العذر البالغ حدّ الضرر والحرج وبين غير ذلك فيجوز في الأوّل دون الثّاني ، لحكومة أدلّة الضرر والحرج على التكاليف الإلزاميّة الأوّليّة ، ولكن المرفوع في الفرض الأوّل وجوب الإحرام من مسجد الشجرة ، وأمّا جواز الإحرام من الجحفة فيحتاج إلى دليل آخر ، وذلك لأنّ دليل نفي الضرر والحرج بما أنّه امتناني شأنه رفع الحكم الثابت إذا كان ضرريّاً أو حرجيّا لا وضع الحكم بجواز الإحرام من الجحفة ، فلا بدّ من التماس دليل آخر يثبت لنا جواز ذلك ، فالمرجع حينئذ إطلاق ما دلّ على التخيير بين الإحرام من مسجد الشجرة والجحفة كصحيح علي بن جعفر المتقدّم (٣) ، وبما أنّه غير متمكّن من الإحرام من مسجد الشجرة على الفرض يثبت القول الآخر وهو الإحرام من الجحفة.

وبعبارة أوضح : قد عرفت أنّ صحيح علي بن جعفر الدال على التخيير وجواز الإحرام من الجحفة قد رفعنا اليد عن إطلاقه بالنسبة إلى المتمكّن وحملناه على المريض والضعيف ، وأمّا من لم يكن مكلّفاً بالإحرام من ذي الحليفة فيتعيّن عليه الفرد الآخر من الواجب التخييري ، لسقوط وجوب الإحرام من مسجد الشجرة عنه على الفرض.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٦ / أبواب المواقيت ب ٦ ح ٣.

(٢) العروة الوثقى ٢ : ٣٤٣ / ٣٢١٣.

(٣) في ص ٢٢٠.

٢٢١

الثّاني : وادي العقيق ، وهو ميقات أهل العراق ونجد (١) وكلّ من مرّ عليه من غيرهم ، وهذا الميقات له أجزاء ثلاثة : المسلخ وهو اسم لأوّله. والغمرة وهو اسم لوسطه. وذات عرق وهو اسم لآخره. والأحوط الأولى أن يحرم المكلّف قبل أن يصل ذات عرق فيما إذا لم تمنعه عن ذلك تقيّة أو مرض.

______________________________________________________

ولو لم يبلغ العذر حدّ الضرر والحرج الشديد كموارد الحاجة الشخصيّة أو الحرج العرفي كالبرد والحر ونحو ذلك ، فلا يمكن الحكم بجواز التأخير إلى الجحفة لعدم الدليل واختصاصه بالمريض والضعيف كما في معتبرة الحضرمي المتقدّمة (١) ، وحملها على مجرّد المثال لا شاهد عليه ، بل مقتضى صحيح إبراهيم بن عبد الحميد (٢) عدم جواز الإحرام من غير مسجد الشجرة في كثرة البرد ونحوها من الأعذار العرفيّة.

وبالجملة : التعدّي من هذين الموردين إلى سائر موارد العذر مشكل جدّاً ، بل اللّازم الاقتصار عليهما.

فالنتيجة عدم جواز تأخير الإحرام إلى الجحفة ما لم يبلغ حدّ الحرج أو الضرر.

(١) لا إشكال ولا خلاف في ذلك ، وقد دلّت على ذلك أخبار كثيرة.

منها : صحيحة أبي أيّوب الخزاز «ووقّت لأهل نجد العقيق» (٣).

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار «فإنّه وقّت لأهل العراق ولم يكن يومئذ عراق بطن العقيق من قبل أهل العراق» (٤).

ومنها : صحيح الحلبي «ووقّت لأهل النجد العقيق» (٥).

ومنها : صحيح علي بن جعفر «وقّت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأهل العراق من العقيق» (٦).

__________________

(١) في ص ٢٢٠.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ح ١.

(٤) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

(٥) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٦) الوسائل ١١ : ٣١٠ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٩.

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن في صحيح عمر بن يزيد أنّ قرن المنازل ميقات لأهل نجد (١) فيخالف هذا الخبر الأخبار المتقدّمة.

وأجاب صاحب الحدائق عن ذلك أوّلاً : بالحمل على التقيّة ، لما رووا أنّه لمّا فتح المصران أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حد لأهل نجد قرن المنازل ، وإنّا إذا أردنا قرن المنازل شقّ علينا ، قال : فانظروا حذوها ، فحدّ لهم ذات عرق» ولذا ذكر جملة منهم أنّ ميقات العراق إنّما ثبت قياساً لا نصّاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).

وثانياً : يمكن أن يكون لأهل نجد طريقان : أحدهما يمر بالعقيق والآخر يمر بقرن المنازل (٢).

وبالجملة : لا ريب ولا كلام في أنّ وادي العقيق ميقات أهل العراق ونجد وكلّ من يمرّ عليه.

وإنّما الكلام في حد وادي العقيق من حيث المبدأ والمنتهى ، والأخبار في ذلك مختلفة فيقع الكلام في موضعين :

أحدهما : في المبدأ ، ففي بعض الأخبار أنّ أوّل العقيق ومبدأه هو المسلخ كمعتبرة أبي بصير الّتي ذكر فيها المبدأ والمنتهى معاً قال «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : حدّ العقيق أوّله المسلخ وآخره ذات عرق» (٣).

وقد يتوهّم أنّ الخبر ضعيف السند لوقوع عمار بن مروان وحسن بن محمّد في السند فإنّ الأوّل مردد بين عمار بن مروان اليشكري الموثق وبين عمار بن مروان الكلبي غير الموثق ، والثّاني مجهول الحال ، ولذا عبّر غير واحد عنه بالخبر المشعر بالضعف.

والجواب : أنّ عمار بن مروان وإن كان مشتركاً بين اليشكري والكلبي ، ولكن

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٦.

(٢) الحدائق ١٤ : ٤٣٩.

(٣) الوسائل ١١ : ٣١٣ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ٧.

٢٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المراد به هو اليشكري الثقة ، لأنّه المعروف ولديه كتاب ، وهذا الاسم عند الإطلاق ينصرف إليه ، وأمّا الكلبي فغير معروف في الرواة وليس له كتاب حتّى أنّ الشيخ لم يذكره.

وأمّا الحسن بن محمّد فالظاهر أنّه الحسن بن محمّد بن سماعة الموثق بقرينة روايته عن محمّد بن زياد وهو ابن أبي عمير ، لكثرة رواياته عنه.

وفي بعض الأخبار أنّ أوّل العقيق قبل المسلخ ، كمعتبرة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «أوّل العقيق بريد البعث وهو دون المسلخ بستّة أميال ممّا يلي العراق» (١) وكذا يستفاد من صحيح عمر بن يزيد «وقّت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأهل المشرق العقيق نحواً من بريدين ما بين بريد البعث إلى غمرة» (٢) وبريد البعث دون المسلخ أي قبله ، كما فسّره بذلك في رواية معاوية بن عمار المتقدّمة فيتحقق التنافي بين الأخبار.

ويجاب عن ذلك بأنّ هذه الرّوايات تدل على إطلاق اسم العقيق على قبل المسلخ وذلك أعم من جواز الإحرام منه ، إذ لا ملازمة بين إطلاق اسم العقيق على مكان خاص وجواز الإحرام منه ، لإمكان اختصاص جواز الإحرام بموضع خاص من وادي العقيق.

وتؤكّد ما ذكرنا صحيحة معاوية بن عمار «فإنّه وقّت لأهل العراق ولم يكن يومئذ عراق ، بطن العقيق من قبل أهل العراق» (٣) فيعلم أنّ تمام وادي العقيق ليس بميقات وإنّما الميقات بطنه ، فتكون هذه الصحيحة مقيّدة لإطلاق ما دلّ على أنّ وادي العقيق ميقات. وقد يؤيّد ما ذكرنا نفس التسمية بالمسلخ باعتبار تجرّد الحاج وتسلخه من الثياب في هذا المكان.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٢ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٦.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

٢٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لم يقل أحد من الأصحاب بتوسعة الميقات بهذا المقدار فلا تعارض ولا تنافي في البين ، فإنّ الأخبار الدالّة على التوسعة إنّما تدل على توسعة الوادي لا توسعة الميقات ، وإلّا فالميقات أضيق من ذلك ، وأوّله المسلخ وإن سمي قبله بالعقيق أيضاً.

ثانيهما : من حيث المنتهي ، ففي جملة من الأخبار أنّ منتهى العقيق غمرة :

منها : صحيحة عمر بن يزيد قال : «وقّت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأهل المشرق العقيق نحواً من بريد ، ما بين بريد البعث إلى غمرة» (١).

وفي التهذيب «نحواً من بريدين» (٢) وهو الصحيح.

ويستفاد منها ومن غيرها من الرّوايات أنّ مسافة العقيق بريدان ، وأنّه ما بين بريد البعث إلى غمرة ، فيتحد مضمونها مع ما تضمنته صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «آخر العقيق بريد أوطاس ، وقال بريد البعث دون غمرة ببريدين» (٣) ويظهر منها أنّ بريد أوطاس اسم آخر لغمرة.

ومنها : صحيحة أُخرى لمعاوية بن عمار قال : «أوّل العقيق بريد البعث وهو دون المسلخ بستّة أميال ممّا يلي العراق ، وبينه وبين غمرة أربعة وعشرون ميلاً بريدان» (٤).

ويعارضها ما دلّ على أنّ آخر العقيق ذات عرق كصحيحة أبي بصير المتقدّمة (٥) المصرحة بذلك.

وتدلّ على ذلك أيضاً معتبرة إسحاق بن عمار الدالّة على أنّ الصادق (عليه السلام) أحرم من ذات عرق بالحج (٦).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٦.

(٢) التهذيب ٥ : ٥٦ / ١٧٠.

(٣) الوسائل ١١ : ٣١٢ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ١.

(٤) الوسائل ١١ : ٣١٢ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ٢.

(٥) في ص ٢٢٣.

(٦) الوسائل ١١ : ٣٠٣ / أبواب أقسام الحجّ ب ٢٢ ح ٨.

٢٢٥

مسألة ١٦٣ : يجوز الإحرام في حال التقيّة قبل ذات عرق سرّاً من غير نزع الثياب إلى ذات عرق (١)

______________________________________________________

والجواب عن ذلك : أنّ الرّوايات الأُول المحدّدة بغمرة ظاهرة في عدم جواز تأخير الإحرام عن غمرة. وهذه الروايات صريحة في جواز التأخير إلى ذات عرق ، فنرفع اليد عن ظهور تلك الرّوايات في عدم الجواز بصراحة هذه الرّوايات في جواز التأخير إلى ذات عرق ، فالنتيجة حمل تلك الرّوايات على أفضلية الإحرام في غمرة وجواز الإحرام من ذات عرق مع المرجوحيّة.

وأفضل من ذلك الإحرام من المسلخ أي أوّل العقيق ، وقد عقد صاحب الوسائل باباً مستقلا لذلك (١).

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّه يجوز الإحرام من المسلخ ومن الغمرة ومن ذات عرق ، والأفضل من المسلخ ثمّ من الغمرة ثمّ من ذات عرق ، بل الأحوط الأولى الإحرام قبل أن يصل ذات عرق لاحتمال خروج ذات عرق من العقيق ، هذا فيما إذا لم تمنعه عن ذلك تقيّة أو مرض وإلّا فلا إشكال في جواز التأخير إلى ذات عرق (٢).

(١) لأنّ لبس ثوبي الإحرام غير دخيل في حقيقة الإحرام ، وإنّما هو واجب مستقل آخر ، فيمكن تحقق الإحرام منه وإن لم يلبس ثوبي الإحرام.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٤ / أبواب أقسام الحجّ ب ٣.

(٢) المسلح إمّا بالسّين والحاء المهملتين واحد المسالح : وهي المواضع العالية ، أو بالخاء المعجمة من السلخ وهو النزع ، لأنّه تنزع فيه الثياب للإحرام. [لسان العرب ٢ : ٤٨٧ ، ٣ : ٢٥].

وغمرة بالغين المعجمة والرّاء المهملة الساكنة : منهل من مناهل مكّة ، وهو فصل ما بين نجد وتهامة ، وإنّما سمّيت بها ، لزحمة الناس بها ، وذات عرق : جبل صغير أو قليل من الماء وقيل : إنّها كانت قرية فخربت. [لسان العرب ٥ : ٣٣. تهذيب اللّغة ٨ : ١٢٩].

بريد البعث قال في الوافي في شرحه على الحديث : البعث بالموحدة ثمّ المهملة ثمّ المثلثة أوّل العقيق وهو بمعنى الجيش ، كأنه بعث الجيش من هناك ولم نجده في اللّغة اسماً لموضع. الوافي ١٢ : ٤٨٣.

٢٢٦

فإذا وصل ذات عرق نزع ثيابه ولبس ثوبي الإحرام هناك (١).

الثّالث : الجحفة ، وهي ميقات أهل الشام ومصر والمغرب وكلّ من يمر عليها من غيرهم إذا لم يحرم من الميقات السابق عليها.

الرّابع : يلملم ، وهو ميقات أهل اليمن ، وكلّ من يمرّ من ذلك الطريق ، ويلملم اسم لجبل.

الخامس : قرن المنازل وهو ميقات أهل الطائف وكلّ من يمر من ذلك الطريق ولا يختص بالمسجد فأيّ مكان يصدق عليه أنّه من قرن المنازل جاز له الإحرام منه ، فإن لم يتمكّن من إحراز ذلك فله أن يتخلّص بالإحرام قبلاً بالنذر كما هو جائز اختيارا (٢).

______________________________________________________

(١) لعدم موجب للتقيّة حينئذ ، ويؤيّد ما ذكرنا رواية الإحتجاج (١) وهي ضعيفة سنداً.

(٢) ممّا لا ينبغي الرّيب أنّ هذه المواضع المذكورة قد وقّتها النّبيّ (صلّى الله عليه وآله) وتدل على ذلك نصوص كثيرة :

منها : صحيح الحلبي قال : «قال أبو عبد الله (عليه السلام) الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها ، وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، وهو مسجد الشجرة يصلِّي فيه ويفرض الحجّ ، ووقّت لأهل الشام الجحفة ، ووقّت لأهل النجد العقيق ، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقّت لأهل اليمن يلملم ، ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (٢).

وفي صحيح عمر بن يزيد «ولأهل نجد قرن المنازل» (٣) وفي صحيح ابن رئاب

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٣ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ١٠. الإحتجاج ٢ : ٥٧١.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٦.

٢٢٧

السّادس : مكّة القديمة في زمان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والتي حدّها من عقبة المدنيين إلى ذي طوى ، وهي ميقات حجّ التمتّع (١).

______________________________________________________

«ووقّت لأهل اليمن قرن المنازل» (١) فيخالفان بقيّة الرّوايات الدالّة على أنّ لأهل نجد العقيق ولأهل اليمن يلملم ، ويحتمل حملهما على التقيّة لوجود ذلك في روايات بقيّة المذاهب (٢) كما يحتمل أن يكون لأهل نجد أو لأهل اليمن طريقان يمر أحدهما بأحد الموضعين والآخر بالموضع الآخر ، فلا تنافي في البين.

ثمّ إنّه لا بدّ من معرفة هذه الأماكن بحجّة شرعيّة وإن لم يتمكّن من ذلك ، فله أن يتخلّص بالإحرام قبلاً بالنذر كما هو جائز اختياراً كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وليعلم أنّ مقتضى النصوص جواز الإحرام من المواضع الّتي تسمّى بهذه الأسماء ولا يجب الإحرام من المساجد الموجودة فيها ، بل كل مكان صدق عليه الجحفة أو قرن المنازل أو يلملم يصح الإحرام منه.

(١) لا خلاف بين الأصحاب في أنّ مكّة ميقات حجّ التمتّع وقد ادّعي عليه الإجماع وتدل عليه جملة من الرّوايات وهي مطبقة على كفاية الإحرام من بلدة مكّة المكرّمة من أيّ موضع شاء ، نعم يستحب له الإحرام من المسجد الحرام في مقام إبراهيم (عليه السلام) أو حجر إسماعيل كما في النصوص (٣).

منها (٤) : صحيح أبي أحمد عمرو بن حريث الصيرفي قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : من أين أُهلّ بالحج؟ فقال : إن شئت من رحلك وإن شئت من الكعبة وإن شئت من الطريق» (٥).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٧.

(٢) سنن البيهقي ٥ : ٢٦ ٢٩.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٣٩ / أبواب المواقيت ب ٢١.

(٤) أي من جملة الرّوايات الدالّة على كفاية الإحرام من مكّة.

(٥) الوسائل ١١ : ٣٣٩ / أبواب المواقيت ب ٢١ ح ٢.

٢٢٨

السّابع : المنزل الّذي يسكنه المكلّف ، وهو ميقات من كان منزله دون الميقات إلى مكّة ، فإنّه يجوز له الإحرام من منزله ولا يلزم عليه الرّجوع إلى المواقيت (١).

______________________________________________________

وفي رواية الشيخ قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) وهو بمكّة من أين أُهلّ بالحج؟ ثمّ قال : ومن المسجد بدل قوله من الكعبة» (١) ، وما في رواية الشيخ أصح لأنّ الإحرام من الكعبة نادر جدّاً بل لا يتّفق.

ولكن الأحوط وجوباً أن يحرم من مكّة القديمة ولا يكتفي بالإحرام من المحلّات المستحدثة المتّصلة بمكّة المكرّمة ، وذلك لما يستفاد من صحيحة معاوية بن عمار الواردة في قطع التلبية أنّ العبرة فيما يترتب على مكّة من الأحكام بمكّة القديمة ، ولا عبرة بما أحدث الناس بمكّة وبما ألحقوا بها ، ففي الصحيحة قال : «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إذا دخلت مكّة وأنت متمتع فنظرت إلى بيوت مكّة فاقطع التلبية وحد بيوت مكّة الّتي كانت قبل اليوم عقبة المدنيين ، فإنّ الناس قد أحدثوا بمكّة ما لم يكن ، فاقطع التلبية» (٢).

(١) قد صرّح أكثر الأصحاب بأنّ من كان منزله أقرب إلى مكّة من المواقيت فميقاته منزله ومسكنه ولا يجب عليه الرّجوع إلى المواقيت المعروفة ، وعن المنتهي أنّه قول أهل العلم كافة إلّا مجاهد (٣). وتدل على ذلك الأخبار المتكاثرة :

منها : صحيحة معاوية بن عمار الّتي ذكرت فيها جملة من المواقيت وجاء فيها «من كان منزله خلف هذه المواقيت ممّا يلي مكّة فوقته منزله» (٤).

ومنها : صحيحة أخرى لمعاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «من

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣٩ / أبواب المواقيت ب ٢١ ذيل الحديث ٢. التهذيب ٥ : ٤٧٧ / ١٦٨٤.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٨٨ / أبواب الإحرام ب ٤٣ ح ١.

(٣) المنتهي ٢ : ٦٦٧ ، السطر ١٢.

(٤) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

٢٢٩

الثّامن : الجعرانة ، وهي ميقات أهل مكّة لحج القِران والإفراد ، وفي حكمهم من جاور مكّة بعد السنتين فإنّه بمنزلة أهلها ، وأمّا قبل ذلك فحكمه كما تقدّم في المسألة ١٤٦ (١).

______________________________________________________

كان منزله دون الوقت إلى مكّة فليحرم من منزله» (١).

(١) اعلم أنّ المشهور بين الأصحاب أنّ مكّة ميقات لأهلها لحج القِران أو الإفراد ، فيكون إحرامهم بالحج من منازلهم ، وفي حكمهم من جاور مكّة بعد السنتين فإنّه بمنزلة أهلها وقد تقدّم وجه إلحاقه بهم في المسألة ١٤٥.

ومستندهم في أصل الحكم نفس الأخبار المتقدّمة الدالّة على أن من كان منزله دون الميقات أحرم من منزله ، أو أنّ ميقاته دويرة أهله ، بدعوى أنّ عنوان «من كان منزله دون الميقات» يشمل أهل مكّة ولا يختص بمن كان منزله وسطاً بين الميقات ومكّة.

ولكن الظاهر أنّ الأخبار المذكورة غير شاملة لهم كما صرّح بذلك صاحب الحدائق (٢) لأنّ عنوان «دون الميقات» لا يشمل أهالي مكّة بل يختص ذلك بمن كان منزله واقعاً بين مكّة والميقات ، وقد صرّح في الجواهر (٣) بعدم اندراج أهالي مكّة في العنوان المذكور في النصوص. فإذن لا دليل على أنّ مكّة المكرّمة ميقات لحج أهل مكّة. فلا بدّ من التماس دليل آخر لتعيين ميقاتهم.

وقد ورد في حديثين صحيحين أنّ ميقاتهم لحجّهم الجعرانة :

الأوّل : صحيح أبي الفضل وهو سالم الحنّاط قال : «كنت مجاوراً بمكّة فسألت أبا عبد الله (عليه السلام) من أين أُحرم بالحج؟ فقال : من حيث أحرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من الجعرانة أتاه في ذلك المكان فتوح : فتح الطائف وفتح

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣٣ / أبواب المواقيت ب ١٧ ح ١.

(٢) الحدائق ١٤ : ٤٤٩.

(٣) الجواهر ١٨ : ١١٤.

٢٣٠

التّاسع : محاذاة مسجد الشجرة ، فإن من أقام بالمدينة شهراً أو نحوه وهو يريد الحجّ ، ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق المدينة ، فإذا سار ستّة أميال كان محاذياً للمسجد ، ويحرم من محل المحاذاة ، وفي التعدّي عن محاذاة مسجد الشجرة إلى محاذاة غيره من المواقيت ، بل عن خصوص المورد المذكور إشكال ، بل الظاهر عدم التعدّي إذا كان الفصل كثيراً (١).

______________________________________________________

حنين والفتح» (١).

وربما يورد على الاستدلال به بأنّ مورده المجاور بمكّة ، وكلامنا في المتوطن ومن كان من أهلها ، والمجاور غير صادق على أهالي مكّة.

والجواب : أنّ المجاورة عنوان يشمل المتوطن والمقيم مدّة كثيرة وإن لم يقصد التوطن ، ولا يختص بالإقامة الموقتة ، وقد استعمل في الذِّكر الحكيم في غير الموقت كقوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ... (٢).

نعم ، لا يصدق المجاور على من ولد في بلد واستمرّ في سكونته وإقامته فيه.

ولكن الظاهر أنّ حكمه لا يختلف عن المجاور بقصد الاستيطان.

الثّاني : صحيح عبد الرّحمن بن الحجاج قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنّي أُريد الجوار بمكّة فكيف أصنع؟ فقال : إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجّة فاخرج إلى الجعرانة فأحرم منها بالحج» ثمّ ساق الخبر (٣) والخبر طويل ، بل يظهر من الرّوايتين أنّ حكم أهالي مكّة كذلك وإنّما المجاور يلحق بهم.

(١) المشهور بين الأصحاب أنّ من سلك طريقاً لا يمرّ بشي‌ء من المواقيت يحرم من محاذاة أحد المواقيت المتقدّمة الخمسة ، واستدلّوا بصحيح ابن سنان بكلا طريقيه.

الأوّل : ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٨ / أبواب أقسام الحجّ ب ٩ ح ٦.

(٢) الرّعد ١٣ : ٤.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٦٧ / أبواب أقسام الحجّ ب ٩ ح ٥.

٢٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

(عليه السلام) قال : «من أقام بالمدينة شهراً وهو يريد الحجّ ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الّذي يأخذونه فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال ، فيكون حذاء الشجرة من البيداء» (١).

الثّاني : ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «من أقام بالمدينة وهو يريد الحجّ شهراً أو نحوه ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق المدينة فإذا كان حذاء الشجرة والبيداء مسيرة ستّة أميال فليحرم منها» (٢).

ولا يعارضهما معتبرة إبراهيم بن عبد الحميد المتقدّمة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال : «سألته عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد وكثرة الأيّام يعني الإحرام من الشجرة ، وأرادوا أن يأخذوا منها إلى ذات عرق فيحرموا منها ، فقال : لا ، وهو مغضب ، من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلّا من المدينة» (٣) لأنّ مفاد خبر إبراهيم هو المنع عن العدول من الشجرة إلى ميقات آخر بعد ما دخل المدينة ، ولا يدل على المنع من الإحرام حذاء أحد المواقيت رأساً.

ومورد الصحيحتين وإن كان حذاء مسجد الشجرة ولكن ذكروا أنّ ذلك من باب المثال ، ولذا تعدّوا من مسجد الشجرة إلى سائر المواقيت والتزموا بعدم الفصل.

ولكن الظاهر هو الاقتصار على مورد الصحيحين ، وذلك لأنّه لا ريب في أنّ الحكم المذكور فيهما على خلاف القاعدة ، وقد اشتملت الصحيحتان على قيود متعدّدة مذكورة في كلام الإمام (عليه السلام) فاللّازم الاقتصار على موردهما ، ولا نتمكّن من إلغاء هذه القيود المأخوذة في كلام الإمام (عليه السلام) والّتي أُخذت على نحو القضيّة الحقيقيّة الشرطيّة وحملهما على مجرّد المثال كما ذكروه بعيد جدّاً.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢١ / ٩ ، التهذيب ٥ : ٥٧ / ١٧٨ (رواها إلى قوله : ستّة أميال) ، الوسائل ١١ : ٣١٧ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ١.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٠٠ / ٩١٣ ، الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ٣.

(٣) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١.

٢٣٢

العاشر : أدنى الحل ، وهو ميقات العمرة المفردة بعد حجّ القِران أو الإفراد ، بل لكلّ عمرة مفردة لمن كان بمكّة وأراد الإتيان بها ، والأفضل أن يكون من الحديبية أو الجعرانة ، أو التنعيم (١).

______________________________________________________

نعم ، لو كانت القيود مذكورة في كلام السائل أمكن دعوى فهم المثاليّة من الرّواية.

بل يمكن أن يقال بأنّ حذاء مسجد الشجرة له خصوصيّة وهي : أنّ السنّة في الإحرام منه أن يفرض الحجّ في المسجد ويؤخّر التلبية إلى البيداء ، وهذه الخصوصيّة غير ثابتة لسائر المواقيت ، فلا يبعد أن يكون الاكتفاء بالمحاذاة إنّما هو لخصوصيّة لمسجد الشجرة ، فلا يمكن التعدّي إلى غيره ، بل ولا إلى غير الخصوصيّات المذكورة في النص حتّى في مورد مسجد الشجرة ، بل اللّازم الاقتصار على مسجد الشجرة وعلى الخصوصيّات المذكورة في النص.

نعم ، لا يلزم الاقتصار بستّة أميال ، ويمكن التعدّي إلى سبعة أميال أو ثمانية ونحو ذلك ممّا يمكن للشخص رؤية المحاذي له ، وأمّا إذا كانت المسافة بعيدة كعشرين فرسخاً أو أكثر فلا عبرة بالمحاذاة.

(١) يدلّ على كونه ميقاتاً للعمرة المفردة بعد حجّ الإفراد أو القِران صحيح جميل قال «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية قال : تمضي كما هي إلى عرفات فتجعلها حجّة ثمّ تقيم حتّى تطهر ، فتخرج إلى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة ، قال ابن أبي عمير : كما صنعت عائشة» (١).

والتنعيم من مصاديق أدنى الحل ، وذكره بالخصوص لكونه أقرب الأماكن من حدود الحرم.

ويدلُّ على كونه ميقاتاً لكلّ عمرة مفردة لمن كان بمكّة وأراد الإتيان بها إطلاق صحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «من أراد أن يخرج من مكّة

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٦ / أبواب أقسام الحجّ ب ٢١ ح ٢.

٢٣٣

أحكام المواقيت

مسألة ١٦٤ : لا يجوز الإحرام قبل الميقات ولا يكفي المرور عليه محرماً ، بل لا بدّ من الإحرام من نفس الميقات (١).

______________________________________________________

ليعتمر أحرم من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبهها» (١) فإنّه يشمل جميع أماكن حدود الحرم لقوله : «أو ما أشبهها» وأمّا أفضليّة هذه الأماكن الثلاثة فلورودها في النص وللتأسي بفعل النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) حيث أحرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) من هذه المواضع كما في الأخبار (٢).

هذا حكم العمرة المفردة الّتي يؤتى بها بعد حجّ الإفراد أو القِران والعمرة لمن كان بمكّة وأراد الاعتمار.

وأمّا الّذي يريد الاعتمار من البعيد ، فلا ريب أنّ ميقات عمرته سائر المواقيت المعروفة الّتي يمر عليها ، لما في الصحيح «من تمام الحجّ والعمرة ، أن تحرم من المواقيت الّتي وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا تجاوزها إلّا وأنت محرم» (٣) وفي حديث آخر «ولا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها» (٤).

(١) تدل عليه عدّة من الرّوايات :

منها : صحيح الحلبي ، قال : «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها» (٥).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٤١ / أبواب المواقيت ب ٢٢ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٤١ / أبواب المواقيت ب ٢٢ ح ٢.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

(٤) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٥) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

٢٣٤

ويستثني من ذلك موردان :

أحدهما : أن ينذر الإحرام قبل الميقات ، فإنّه يصحّ ولا يلزمه التجديد في الميقات ، ولا المرور عليه ، بل يجوز له الذهاب إلى مكّة من طريق لا يمرّ بشي‌ء من المواقيت (١).

______________________________________________________

ومنها : صحيحة ابن اذينة «ومن أحرم دون الوقت فلا إحرام له» (١).

ومنها : معتبرة ميسر قال : «دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا متغيّر اللّون ، فقال لي : من أين أحرمت؟ قلت : من موضع كذا وكذا ، فقال : ربّ طالب خير تزل قدمه ، ثمّ قال : يسرّك إن صلّيت الظهر أربعاً في السفر؟ قلت : لا ، قال : فهو والله ذاك» (٢) وغير ذلك من الرّوايات.

(١) المشهور بين الفقهاء انعقاد نذر الإحرام قبل الميقات فيجب عليه الإحرام من ذلك الموضع المنذور ، ومنع ذلك ابن إدريس في السرائر حيث قال : والأظهر الّذي تقتضيه الأدلّة وأُصول المذهب أنّ الإحرام لا ينعقد إلّا من المواقيت ، سواء كان منذوراً أو غيره ، ولا يصح النذر بذلك ، لأنّه خلاف المشروع. ولو انعقد بالنذر كان ضرب المواقيت لغواً ، ونسب القول بالمنع إلى السيِّد المرتضى وابن أبي عقيل والشيخ في الخلاف (٣).

ولكن العلّامة خطّأه في نقله ذلك عنهم (٤) ، والصحيح ما ذهب إليه المشهور للنصوص التالية.

منها : صحيح الحلبي ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل جعل لله عليه شكراً أن يحرم من الكوفة ، فقال : فليحرم من الكوفة وليف لله بما قال» (٥).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٠ / أبواب المواقيت ب ٩ ح ٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٢٤ / أبواب المواقيت ب ١١ ح ٥.

(٣) السرائر ١ : ٥٢٧.

(٤) المختلف ٤ : ٦٨.

(٥) الوسائل ١١ : ٣٢٦ / أبواب المواقيت ب ١٣ ح ١. ولصاحب المنتقى هنا كلام في صحّة

٢٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سمعته يقول : لو أنّ عبداً أنعم الله عليه نعمة أو ابتلاه ببليّة فعافاه من تلك البليّة فجعل على نفسه أن يحرم بخراسان كان عليه أن يتم» (١).

وهنا إشكال معروف ، هو أنّ المعتبر في متعلق النذر أن يكون راجحاً في نفسه والمفروض أنّ الإحرام قبل الميقات غير مشروع وغير جائز فكيف ينعقد بالنذر ولذا ذكروا أنّ الرّوايات لا تنطبق على القاعدة المعروفة وهي اعتبار الرّجحان في متعلّق النذر.

والجواب عنه : أنّ اللّازم رجحان متعلّق النذر حين العمل وفي ظرفه ولو كان الرّجحان ناشئاً من قبل النذر ، ويستكشف ذلك من الأخبار الدالّة على صحّة النذر في مورد الإحرام قبل الميقات ، فلا يرد أنّ لازم ذلك صحّة نذر كل مكروه أو محرم لعدم الدليل على صحّة النذر في موردهما ، بل إطلاق دليل المكروه أو الحرام يكفي في عدم الرّجحان ولو بتعلّق النذر به.

ونظير المقام مسألة الصّوم في السفر المرجوح أو المحرم من حيث هو مع صحّته بالنذر ، وذلك لدلالة النص على صحّة النذر في هذه المسألة ، ولا داعي للالتزام بالرّجحان الذاتي الثابت للعمل مع قطع النظر عن تعلّق النذر به ، وذلك لأنّ القدر المتيقن ثبوت الرّجحان في الفعل بمقدار يصح إضافته إلى الله تعالى ، فيكفي في ذلك كون الفعل راجحاً في ظرفه ولو بسبب الأخبار.

على أنّ لزوم الرّجحان في متعلّق النذر حكم شرعي تعبّدي قابل للتخصيص وليس بحكم عقلي غير قابل للتخصيص ، فيقال إنّه يعتبر الرّجحان في متعلّق النذر إلّا في مورد نذر الإحرام قبل الميقات ، أو نذر الصّوم في السفر ، فيكتفى في موردهما بالرّجحان الناشئ من قبل النذر بسبب الأخبار الدالّة على الصحّة.

__________________

الخبر المذكور تعرضنا له ولجوابه في شرح العروة ٢٧ : ٣١٨. فليرجع إليه من أحبّ الوقوف عليه.

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٧ / أبواب المواقيت ب ١٣ ح ٣.

٢٣٦

ولا فرق في ذلك بين الحجّ الواجب والمندوب والعمرة المفردة (١).

______________________________________________________

والحاصل : ما دامت الرّوايات تدل على صحّة النذر ونفوذه كما هو المفروض وجب الوفاء به ، ولا موجب لتطبيق الحكم الشرعي على القاعدة من دون تخصيص.

وربما يشكل على الاكتفاء بالرّجحان الناشئ من قبل النذر باستلزام ذلك الدور لأنّ صحّة النذر متوقفة على مشروعيّة المنذور ورجحانه ، فلو كانت مشروعيّته متوقّفة على صحّة النذر لدار ، ولا يمكن العمل بالأخبار إذا استلزم أمراً غير معقول.

والجواب : أنّ صحّة النذر متوقفة على مشروعيّة المنذور ورجحانه ولكن مشروعيّة المنذور غير متوقّفة على صحّة النذر ، بل تتوقف على نفس النذر وعلى التزام المكلّف شيئاً على نفسه لله تعالى ، فإنّ هذا الالتزام بنفسه في مورد تجويز الأخبار يوجب رجحان العمل ، فاختلف الموقوف والموقوف عليه.

وأمّا قول ابن إدريس : ولو انعقد بالنذر كان ضرب المواقيت لغواً (١) ، فقد أجاب عنه في المنتهي بأنّ الفائدة غير منحصرة في ذلك بل هاهنا فوائد أُخرى :

منها : منع تجاوزها من غير إحرام. ومنها : وجوب الإحرام منها لأهلها لغير الناذر (٢).

ثمّ إنّه بعد الفراغ عن صحّة نذر الإحرام وانعقاده قبل الميقات فلا يجب عليه تجديد الإحرام في الميقات إن مرّ عليه ، كما يجوز له أن يسلك طريقاً لا يفضي إلى أحد المواقيت ، لأنّ الممنوع هو المرور بالميقات بلا إحرام وأمّا إذا كان محرماً بإحرام صحيح فلا موجب للإحرام ثانياً ، كما لا يجب عليه أن يذهب إلى الميقات ، لأنّ الذهاب إلى الميقات إنّما يجب لكي يحرم منه فإن كان محرماً فلا موجب للذهاب.

(١) لإطلاق الرّوايات الدالّة على انعقاد نذر الإحرام قيل الميقات.

__________________

(١) السرائر ١ : ٥٢٧.

(٢) المنتهي ٢ : ٦٦٩ السطر ٢٠.

٢٣٧

نعم ، إذا كان إحرامه للحج فلا بدّ من أن يكون إحرامه في أشهر الحجّ كما تقدّم (١).

الثّاني : إذا قصد العمرة المفردة في رجب وخشي عدم إدراكها إذا أخّر الإحرام إلى الميقات ، جاز له الإحرام قبل الميقات ، وتحسب له عمرة رجب وإن أتى ببقيّة الأعمال في شعبان (٢) ولا فرق في ذلك بين العمرة الواجبة والمندوبة.

______________________________________________________

(١) وإلّا فلا يصح الإحرام ، لا من جهة وقوعه قبل الميقات ، بل من جهة وقوعه في غير أشهر الحجّ ، والمعتبر في إحرام الحجّ وقوعه في أشهر الحجّ ، والنصوص الدالّة على انعقاد نذر الإحرام ناظرة إلى التقديم بحسب المكان ولا نظر لها إلى التقديم الزماني.

ثمّ إنّ الظاهر اعتبار تعيين المكان ، بأن ينذر الإحرام قبل الميقات المعيّن كمسجد الشجرة أو الجحفة ، فلا يصح نذر الإحرام قبل الميقات مطلقاً ، ليكون مخيّراً بين الأمكنة ، وذلك لأنّه القدر المتيقن من الأخبار المجوزة ، لأنّها جوّزت نذر الإحرام قبل الميقات فيما إذا عيّن مكاناً خاصّاً كالكوفة وخراسان ونحوهما ، ولا إطلاق في الأخبار يشمل نذر الإحرام قبل الميقات بلا تعيين ، وحيث إنّ الحكم على خلاف القاعدة فلا بدّ من الاقتصار على مورد الأخبار.

(٢) لمعتبرة إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرّجل يجي‌ء معتمراً ينوي عمرة رجب فيدخل عليه الهلال هلال شعبان قبل أن يبلغ العقيق ، فيحرم قبل الوقت ويجعلها لرجب أم يؤخّر الإحرام إلى العقيق ويجعلها لشعبان؟ قال : يحرم قبل الوقت لرجب ، فإنّ لرجب فضلاً وهو الّذي نوى» (١) ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين العمرة الواجبة والمندوبة.

والظاهر عدم اختصاص الحكم بعمرة رجب ، بل يتعدّى إلى عمرة كل شهر حيث إنّ لكلّ شهر عمرة ، والمفروض أنّه لو أخّر الإحرام إلى الميقات لا يدرك عمرة هذا الشهر.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٦ / أبواب المواقيت ب ١٢ ح ٢.

٢٣٨

مسألة ١٦٥ : يجب على المكلّف اليقين بوصوله إلى الميقات والإحرام منه ، أو يكون ذلك عن اطمئنان أو حجّة شرعيّة ، ولا يجوز له الإحرام عند الشك في الوصول إلى الميقات (١).

مسألة ١٦٦ : لو نذر الإحرام قبل الميقات وخالف وأحرم من الميقات لم يبطل إحرامه ، ووجبت عليه كفّارة مخالفة النذر إذا كان متعمّداً (٢).

______________________________________________________

ويدل على التعميم صحيحة معاوية بن عمار قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ليس ينبغي أن يحرم دون الوقت الّتي وقّته رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلّا أن يخاف فوت الشهر في العمرة» (١).

(١) لأصالة العدم ، فيجب عليه إحراز الوصول إلى الميقات.

(٢) ربما يقال بأنّه لا يصح إحرامه لأنّ النذر يقتضي ملك الله سبحانه للمنذور والإحرام من الميقات عمداً مفوت للواجب المملوك لله ، فيكون حراماً ومبغوضاً فيبطل ولا يقع عبادة.

والجواب : أنّ النذر إنّما يوجب خصوصيّة زائدة في المأمور به ، كما إذا نذر أن يصلّي جماعة أو يصلّي في مسجد خاص ، فإنّه يجب عليه الإتيان بتلك الخصوصيّة وفاءً للنذر ، ولكن هذا الوجوب إنّما نشأ من التزام المكلّف على نفسه بسبب النذر فهو تكليف آخر يغاير الوجوب الثابت لذات العمل ، والمأمور به إنّما هو الطبيعي الجامع بين الأفراد ، والنذر لا يوجب تقييداً ولا تغييراً في المأمور به الأوّل ، فلو أتى بالمنذور كان آتياً بالمأمور به ، وكذا لو أتى بغير المنذور وصلّى فرادى مثلاً كان آتياً بالمأمور به وإن كان تاركاً للنذر وآثماً بذلك ، وعليه فلو خالف النذر وأحرم من الميقات فقد أتى بالمأمور به وإن كان عاصياً بترك النذر ، نظير ما لو صلّى فرادى أو صلّى في غير المسجد المنذور.

وأمّا التفويت فلا يترتب عليه شي‌ء ، لأنّ أحد الضدّين لا يكون علّة لعدم ضدّ

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٥ / أبواب المواقيت ب ١٢ ح ١.

٢٣٩

مسألة ١٦٧ : كما لا يجوز تقديم الإحرام على الميقات لا يجوز تأخيره عنه ، فلا يجوز لمن أراد الحجّ أو العمرة أو دخول مكّة أن يتجاوز الميقات اختياراً إلّا محرماً حتّى إذا كان أمامه ميقات آخر ، فلو تجاوزه وجب العود إليه مع الإمكان (١).

______________________________________________________

الآخر ولا العكس ، وإنّما هما أمران متلازمان في الخارج ، فإذا وجد أحدهما في الخارج لا يوجد الآخر طبعاً. والإحرام من الميقات ومن المكان المنذور ليس بينهما أيّ علّيّة ومعلوليّة ، وإتيان أحدهما لا يكون مفوتاً للآخر ، بل تفويت الآخر عند وجود أحدهما ملازم ومقارن له.

بل يمكن أن يقال باستحالة الحكم بالفساد ، وذلك لأنّ حرمة الإحرام من الميقات متوقفة على كونه صحيحاً ، لأنّه لو لم يكن صحيحاً لا يكون مفوتاً ، وما فرض صحّته كيف يكون فاسداً وحراماً؟.

(١) لا إشكال في أنّه لا يجوز تأخير الإحرام اختياراً عن الميقات إجماعاً بقسميه كما في الجواهر (١) ، والنصوص الكثيرة المتقدّمة المصرّحة بذلك :

منها : صحيحة الحلبي «لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها» (٢) وفي صحيحة علي بن جعفر «فليس لأحد أن يعدو من هذه المواقيت إلى غيرها» (٣) وغير ذلك من الرّوايات (٤) ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين أن يكون أمامه ميقات آخر أم لا.

ويؤكّد ذلك : أنّ مقتضى هذه النصوص عدم التجاوز لأهل المدينة عن مسجد الشجرة ، مع أنّ أمامهم ميقات آخر وهو الجحفة.

ثمّ إنّه لو لم يحرم من الميقات وجب العود إليه مع الإمكان ، لأنّ روايات التوقيت ظاهرة في الوجوب التعييني وبيان وظيفته ، فيجب عليه الرّجوع لأداء الوظيفة

__________________

(١) الجواهر ١٨ : ١٣٥.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٣) الوسائل ١١ : ٣١٠ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٩.

(٤) الوسائل ١١ : ٣٣٢ / أبواب المواقيت ب ١٦.

٢٤٠