موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

(٥) إن من جامع في العمرة المفردة عالماً عامداً قبل الفراغ من السعي فسدت عمرته بلا إشكال ووجبت عليه الإعادة ، بأن يبقى في مكّة إلى الشهر القادم فيعيدها فيه (١) وأمّا من جامع في عمرة التمتّع ففي فساد عمرته إشكال ، والأظهر عدم الفساد كما يأتي.

مسألة ١٤٠ : يجوز الإحرام للعمرة المفردة من نفس المواقيت الّتي يحرم منها لعمرة التمتّع ويأتي بيانها (٢)

______________________________________________________

إلى ليلة عرفة ، أو إلى زوال يوم عرفة ، أو إلى زمان لم يدرك الحجّ ، فقد فاتته المتعة (١) ، فإنّ ذلك يدل على عدم مشروعيّة العمرة حينئذ ، ولو كانت مشروعة وكان الافتراق بين العمرة والحجّ جائزاً لما صحّ قوله «فاتته المتعة» فيكشف ذلك عن لزوم الإتيان بهما في سنة واحدة.

المقام الثّاني : في جواز التفريق بين العمرة المفردة وحجّ الإفراد أو القِران.

ويدلُّ على ذلك النصوص الكثيرة الدالّة على عدم ارتباط أحدهما بالآخر وعدم دخول العمرة المفردة في الحجّ وأنّ كلّا منهما عبادة مستقلّة في نفسه (٢) ، فيجوز الإتيان بأحدهما في سنة وبالآخر في سنة أُخرى ، وقد يجب أحدهما دون الآخر كما إذا تمكّن من أحدهما ولم يتمكّن من الآخر على ما سيأتي تفصيله عن قريب إن شاء الله تعالى.

وممّا يدل على عدم الارتباط بينهما ، أنّ حج الإفراد أو القِران لو كان مندوباً أو منذوراً وحده لم تلزمه العمرة ، وليس كذلك حجّ التمتّع فإنّه لا يشرع بدون العمرة.

(١) سنذكر ذلك في المسألة ٢٢٣. كما نذكر حكم الجماع في عمرة التمتّع في المسألة ٢٢٠.

(٢) لأنّ هذه المواقيت لا تختص ببعض أقسام الحجّ أو العمرة بل مقتضى إطلاق أدلّتها تساوي الحجّ والعمرة بأقسامهما من الميقات.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٦ / أبواب أقسام الحجّ ب ٢١.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٩٦ / أبواب العمرة ب ١ ، ٥ ، ١١ : ٢١٢ / أبواب أقسام الحجّ ب ٢.

١٦١

وإذا كان المكلّف في مكّة وأراد الإتيان بالعمرة المفردة جاز له أن يخرج من الحرم ويحرم ولا يجب عليه الرّجوع إلى المواقيت والإحرام منها ، والأولى أن يكون إحرامه من الحديبية أو الجعرانة أو التنعيم.

______________________________________________________

ففي صحيحة معاوية بن عمار «من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت الّتي وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا تجاوزها إلّا وأنت محرم» (١) وفي صحيحة الحلبي «الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا ينبغي لحاج ولا معتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها» (٢).

نعم ، إذا كان في مكّة وأراد الإتيان بالعمرة المفردة لا يجب عليه الرّجوع إلى المواقيت المعيّنة ، بل يجوز له أن يخرج من الحرم ويحرم من أدنى الحل ، كما سيأتي الكلام في ذلك (٣) ، في الميقات العاشر وهو أدنى الحل.

وأمّا أولويّة الإحرام من هذه المواضع الثلاثة فلذكرها بالخصوص في النصوص كصحيحة جميل قال «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحائض إذا قدّمت مكّة يوم التروية ، قال : تمضي كما هي إلى عرفات فتجعلها حجّة ثمّ تقيم حتّى تطهر فتخرج إلى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة» (٤).

ويمكن النقاش في ذلك بأنّها واردة في العمرة المفردة المسبوقة بالحج ، وكلامنا في مطلق العمرة المفردة. إلّا أن يقال بأنّه لا نحتمل الاختصاص فتأمّل.

وفي صحيحة عمر بن يزيد «من أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر أحرم من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبهها» (٥).

مضافاً إلى أنّه يمكن القول باستحباب الإحرام من الجعرانة تأسياً بالنبيّ (صلّى الله

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٣) في ص ٢٣٣.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٩٦ / أبواب أقسام الحجّ ب ٢١ ح ٢.

(٥) الوسائل ١١ : ٣٤١ / أبواب المواقيت ب ٢٢ ح ١.

١٦٢

مسألة ١٤١ : تجب العمرة المفردة لمن أراد أن يدخل مكّة فإنّه لا يجوز الدخول فيها إلّا محرماً (١).

______________________________________________________

عليه وآله وسلم) فإنّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) اعتمر عمرة من الجعرانة بعد ما رجع من الطائف من غزوة حنين (١).

(١) قد تقدّم (٢) أنّ العمرة المفردة كما تجب بالاستطاعة كذلك تجب بالنذر ونحوه وتجب أيضاً لدخول مكّة بمعنى حرمته بدونها ، فإنّه لا يجوز دخولها بلا إحرام فالوجوب شرطي لا تكليفي أيّ لا يجوز الدخول إلى مكّة إلّا محرماً ، فإذا وجب الدخول بسبب من الأسباب يجب الإحرام أيضاً وجوباً مقدمياً ، وأمّا إذا لم يكن الدخول واجباً فلا يجب الإحرام ، فاتصاف الإحرام بالوجوب نظير اتصاف الوضوء بالوجوب لصلاة النافلة.

وكيف كان ، كلّ من دخل مكّة وجب أن يكون محرماً بلا خلاف بين الأصحاب بل ادّعي عليه الإجماع ، وتدل عليه عدّة من النصوص.

منها : صحيح محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) هل يدخل الرّجل مكّة بغير إحرام؟ قال : لا ، إلّا مريضاً أو من به بطن» (٣) ونحوه صحيحة أُخرى له (٤). ولكن فيها الحرم بدل مكّة.

ومنها : صحيح عاصم «يدخل الحرم أحد إلّا محرماً؟ قال : لا ، إلّا مريض أو مبطون» (٥).

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٩٩ / أبواب العمرة ب ٢ ح ٢.

(٢) في ص ١٥٤ المسألة ١٣٨.

(٣) الوسائل ١٢ : ٤٠٣ / أبواب الإحرام ب ٥٠ ح ٤.

(٤) الوسائل ١٢ : ٤٠٢ / أبواب الإحرام ب ٥٠ ح ٢.

(٥) الوسائل ١٢ : ٤٠٢ / أبواب الإحرام ب ٥٠ ح ١.

١٦٣

ويستثنى مِن ذلك مَن يتكرّر منه الدخول والخروج كالحطّاب والحشّاش ونحوهما (١).

______________________________________________________

ثمّ إنّ ظاهر بعض الرّوايات المعتبرة عدم جواز دخول الحرم إلّا محرماً فضلاً عن دخول مكّة كما صرّح بذلك صاحب الوسائل في الباب الخمسين من الإحرام ، ولكن لا ريب في عدم وجوب الإحرام على من لم يرد النسك بل أراد حاجة في خارج مكّة ولم يرد الدخول إليها ، ولا نحتمل وجوب الإحرام بنفسه على من دخل الحرم ولم يرد دخول مكّة ولا النسك فيها ، بل المستفاد من الرّوايات أن من يريد الدخول إلى مكّة يجب عليه أن يحرم للحج أو العمرة ، فيمكن حمل تلك الرّوايات على داخل الحرم لإرادة دخول مكّة.

مضافاً إلى أنّ المستفاد من بعض النصوص أنّ مكّة بخصوصها لها مزية وقدسية وحرمة لا يجوز الدخول إليها إلّا ملبياً للحج أو العمرة ، كما في صحيحة معاوية بن عمار «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكّة : إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض ، وهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلّا ساعة من نهار» (١) بناءً على أنّ المراد من تحريمها عدم جواز الدخول إليها إلّا بإحرام.

(١) ممّن يجتلب حوائج الناس إلى البلد ، ويدلُّ عليه صحيحة رفاعة قال «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إنّ الحطّابة والمجتلبة (المختلية) أتوا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) فسألوه فأذن لهم أن يدخلوا حلالاً» (٢) ولا فرق فيما يحتاج إليه أهل مكّة بين الأرزاق والأطعمة وغيرها مثل الجص والحديد وغير ذلك من حوائج الناس ، فإنّ عنوان المجتلبة المذكور في النص عنوان عام يشمل كلّ من يجتلب حوائج الناس من كلّ شي‌ء.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٠٤ / أبواب الإحرام ب ٥٠ ح ٧.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٠٧ / أبواب الإحرام ب ٥١ ح ٢.

١٦٤

وكذلك من خرج من مكّة بعد إتمامه أعمال الحجّ أو بعد العمرة المفردة ، فإنّه يجوز له العود إليها من دون إحرام قبل مضي الشهر الّذي أدّى نسكه فيه (١). ويأتي حكم الخارج من مكّة بعد عمرة التمتّع وقبل الحجّ (٢).

______________________________________________________

وعن ظاهر المشهور التعدي إلى كلّ من يتكرّر منه الدخول إلى مكّة وإن كان لأغراض شخصيّة ، كمن يتكرّر منه الدخول لعيادة المريض أو كانت له ضيعة في مكّة ويأتي إليها متكرراً ، وحملوا ما في النص على المثال.

ولكن مقتضى الجمود على ظاهر النص اختصاص الجواز بمن يتكرّر منه الدخول لأجل حوائج الناس ونقل ما يحتاجون إلى البلد.

ثمّ إنّ الميزان في الحكم بجواز الدخول حلالاً صدق عنوان الحطّاب أو المجتلبة ولا يعتبر تكرّر دخوله ، فلو أتى مثل هذا الشخص بحوائج البلد ولو في كل شهرين يشمله النص الدال على جواز الدخول محلا لصدق عنوان المجتلبة عليه على الفرض.

(١) لأنّه يكون ممّن دخلها بعد الإحرام قبل مضي شهر من إحرامه الأوّل ، فإنّه موجب للإحرام ثانياً حينئذ ، لأنّ لكلّ شهر عمرة ، فإنّ التعليل بقوله «لأنّ لكلّ شهر عمرة» في موثقة إسحاق بن عمار يدل على أنّ الّذي يوجب سقوط الإحرام عند الدخول إلى مكّة في شهر الاعتمار هو إتيان مطلق العمرة ، سواء أتى بعمرة التمتّع أو بالعمرة المفردة. أمّا الموثقة فهي قوله : «

سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتمتع يجي‌ء فيقضي متعة ثمّ تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة أو إلى ذات عرق أو إلى بعض المعادن ، قال : يرجع إلى مكّة بعمرة إن كان في غير الشهر الّذي تمتع فيه ، لأنّ لكلّ شهر عمرة» الحديث (١).

(٢) يأتي حكمه في المسألة ١٥١ إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٣ / أبواب أقسام الحجّ ب ٢٢ ح ٨.

١٦٥

مسألة ١٤٢ : من أتى بعمرة مفردة في أشهر الحجّ وبقي اتفاقاً في مكّة إلى أوان الحجّ جاز له أن يجعلها عمرة التمتّع فيأتي بالحج (١) ولا فرق في ذلك بين الحجّ الواجب والمندوب.

______________________________________________________

(١) بل عن المشهور استحباب ذلك إذا بقي في مكّة إلى هلال ذي الحجّة. وعن القاضي وجوب ذلك إذا بقي إلى يوم التروية (١) استناداً إلى بعض الرّوايات المعتبرة كصحيحة عمر بن يزيد «من اعتمر عمرة مفردة فله أن يخرج إلى أهله متى شاء إلّا أن يدركه خروج الناس يوم التروية» (٢).

ولكن الظاهر أنّه لا يمكن القول بالوجوب لتحقق الإجماع على خلافه كما قيل. على أنّ بعض النصوص المعتبرة صريح في جواز الخروج يوم التروية ، كصحيحة إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنّه سُئل عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً ثمّ خرج إلى بلاده قال : لا بأس ، وإن حجّ من عامه ذلك وأفرد الحجّ فليس عليه دم ، وأنّ الحسين بن علي (عليهما السلام) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمراً» (٣) فإنّ استشهاده بفعل الحسين (عليه السلام) يدل على جواز الخروج سواء كان الحسين (عليه السلام) مضطرّاً كما في كتب التواريخ والمقاتل أم لا.

ويدلُّ على الجواز أيضاً : معتبرة معاوية بن عمار قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) من أين افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال : إنّ المتمتع مرتبط بالحج ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء ، وقد اعتمر الحسين (عليه السلام) في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى ، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ» (٤) ولا يخفى أنّ قوله «ولا بأس بالعمرة» إلى آخره يدل بوضوح على

__________________

(١) المهذّب ١ : ٢٧٢.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣١٣ / أبواب العمرة ب ٧ ح ٩.

(٣) الوسائل ١٤ : ٣١٠ / أبواب العمرة ب ٧ ح ٢.

(٤) الوسائل ١٤ : ٣١١ / أبواب العمرة ب ٧ ح ٣.

١٦٦

أقسام الحجّ

مسألة ١٤٣ : أقسام الحجّ ثلاثة : تمتع وإفراد وقران (١).

______________________________________________________

جواز الخروج.

ومن ثمّ حمل المشهور الروايات الواردة في المقام على الاستحباب ومراتب الفضل بالنسبة إلى البقاء إلى هلال ذي الحجّة أو إلى يوم التروية ، وذكروا أن من أتى بعمرة مفردة في أشهر الحجّ يستحب له البقاء إلى الحجّ ، وإذا بقي إلى هلال ذي الحجّة يتأكّد له الإتيان بالحج بنفس العمرة الّتي أتى بها ، وإذا بقي إلى يوم التروية يكون الإتيان بالحج آكد.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين الحجّ الواجب والندب ، لأنّ الرّوايات مطلقة تشمل من وجب عليه الحجّ أيضاً.

(١) بلا خلاف أجده فيه بين علماء الإسلام ، بل إجماعهم بقسميه عليه كما في الجواهر (١) مضافاً إلى النصوص المتواترة أو القطعيّة ، بل قيل إنّه من الضروريات.

أمّا النصوص فمن جملتها صحيحة معاوية بن عمار قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : الحجّ ثلاثة أصناف : حج مفرد وقران وتمتع بالعمرة إلى الحجّ (٢) وبها أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والفضل فيها ولا نأمر الناس إلّا بها» (٣).

__________________

(١) الجواهر ١٨ : ٢.

(٢) وجه التسمية : أمّا التمتّع فهو لغة : التلذذ والانتفاع ، وإنّما سمي هذا النوع بهذا الاسم لما يتخلّل بين عمرته وحجّه من التحلّل المقتضي لجواز الانتفاع والالتذاذ بما كان محرماً عليه حال الإحرام. وأمّا الإفراد : فلانفصاله عن العمرة وعدم ارتباطه بها. وأمّا القِران : فلاقتران الإحرام بسياق الهدي.

(٣) الوسائل ١١ : ٢١١ / أبواب أقسام الحجّ ب ١.

١٦٧

والأوّل فرض من كان البعد بين أهله والمسجد الحرام أكثر من ستّة عشر فرسخاً (١)

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في موردين :

أحدهما : في بيان الحدّ الموجب للتمتع.

ثانيهما : في أنّ الحد المذكور هل يلاحظ بين أهله ومكّة أو بين أهله والمسجد الحرام علماً بأنّ هناك مسافة معتداً بها بين أوّل مكّة والمسجد الحرام ، خصوصاً وأنّ البلدان تأخذ بالتوسع بمرور الزمن.

أمّا الأوّل : فقد اختلف الأصحاب في حدّ البعد المقتضي لتعيين التمتّع على البعيد على قولين :

أحدهما وهو المشهور : أنّه عبارة عن ثمانية وأربعين ميلاً من كل ناحية أي ستّة عشر فرسخاً من كل جانب.

ثانيهما : أنّه عبارة عن اثني عشر ميلاً من كل جانب.

والمعتمد هو القول الأوّل ، ويدلُّ عليه صحيح زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : قول الله عزّ وجلّ في كتابه (... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ... قال : يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة ، كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ، ذات عرق وعسفان كما يدور حول مكّة فهو ممّن دخل في هذه الآية ، وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليهم المتعة» (١).

ويؤيّد بخبر آخر عن زرارة قال «سألته عن قول الله (... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ... قال : ذلك أهل مكّة ليس لهم متعة ولا عليهم عمرة قال قلت : فما حد ذلك؟ قال : ثمانية وأربعين ميلاً من جميع نواحي مكّة دون عسفان ودون ذات عرق» (٢) ولكن الخبر ضعيف لجهالة طريق الشيخ إلى علي بن السندي الّذي أسند الشيخ الخبر إليه ، وبعلي بن السندي فإنّه لم يوثق ، ولا عبرة بتوثيق نصر

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ / أبواب أقسام الحجّ ب ٦ ح ٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦٠ / أبواب أقسام الحجّ ب ٦ ح ٧ ، التهذيب ٥ : ٤٩٢ / ١٧٦٦.

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ابن الصباح له لأن نصر بنفسه لم يوثق. فالعمدة هي الصحيحة الأُولى.

وقد استدلّ للقول الثّاني ، وهو كون الحد الموجب للتمتع اثني عشر ميلاً من كل جانب بوجوه :

الأوّل : إطلاق ما دلّ على وجوب التمتّع على كل مكلّف ، كما جاء في صحيحة الحلبي «فليس لأحد إلّا أن يتمتع» (١) فإنّ القدر المتيقن الخارج من المطلقات من كان دون الحد المذكور ، فمن كان فوق الحد تشمله الإطلاقات.

والجواب : أنّ المطلقات ناظرة إلى حكم البعيد في قبال العامّة القائلين بجواز الإفراد أو القِران لكلّ أحد حتّى البعيد ، ولا نظر لها إلى وجوب المتعة على كل أحد.

مضافاً إلى أنّه يمكن تقييدها بما دلّ على التحديد بثمانية وأربعين ميلاً كصحيحة زرارة المتقدّمة ، فلا مجال للعمل بالمطلقات.

الثّاني : أنّ المستفاد من الآية الشريفة أنّ موضوع التمتّع غير الحاضر وموضوع الإفراد والقِران هو الحاضر ، وهو يقابل المسافر ، فالتمتع وظيفة من صدق عليه المسافر ، والإفراد وظيفة الحاضر ، فلا بدّ من ملاحظة حدّ السفر الموجب للقصر ، ومن المعلوم أنّ حدّ السفر أربعة فراسخ من كل جانب وهي اثنا عشر ميلاً.

وفيه : أنّ الحضور المذكور في الآية الشريفة لا يراد به الحضور المقابل للسفر ، بل المراد به بالنسبة إلى الحضور في مكّة والغياب عنها.

وبعبارة اخرى : المستفاد من الآية الشريفة وجوب التمتّع على من لم يكن ساكناً في مكّة ، ووجوب الإفراد والقِران على من كان ساكناً وكان أهله حاضري المسجد الحرام ، إلّا أنّ النصوص حددت البعد بثمانية وأربعين ميلاً وجعلت العبرة بذلك في وجوب التمتّع خاصّة ، وإذا كان البعد أقل ممّا ذكر فوظيفته الإفراد أو القِران.

الثّالث : أنّ عنوان الحضور المأخوذ في الآية الشريفة المعلّق عليه غير التمتّع

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٢٣ / أبواب أقسام الحجّ ب ٣ ح ٢.

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

عنوان عرفي ، وهو لا يصدق على من كان بعيداً عن مكّة باثني عشر ميلاً ، بل يصدق عليه أنّه ممّن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فيجب عليه التمتّع.

والجواب عنه : أنّ العرف وإن كان لا يرى صدق الحاضر على من بعد من مكّة باثني عشر ميلاً ، ولكن لا يرى أيضاً صدق الحاضر على من كان مسكنه دون اثني عشر ميلاً ، ولذا قلنا لو كنّا نحن والآية الشريفة لالتزمنا بوجوب التمتّع على كلّ من لم يكن من سكنة مكّة ، سواء كان قريباً منها أو بعيداً ، وإنّما قلنا باختصاص التمتّع لمن كان بعيداً عن مكّة بمقدار ثمانية وأربعين ميلاً لصحيحة زرارة المتقدّمة (١).

والرّابع : أنّ الآية الشريفة دلّت على وجوب التمتّع على من لم يكن من سكنة مكّة المكرّمة لقوله تعالى (... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ... (٢) و «ذلك» إشارة إلى التمتّع ، ولكن الحق بسكنة مكّة جماعة أُخرى ممّن ليسوا من سكنتها بالإجماع القطعي إلحاقاً حكمياً كأهالي مر وأهالي سرف كما في صحيحة الفضلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «ليس لأهل مكّة ولا لأهل مر ولا لأهل سرف متعة» (٣) فإنّ المستفاد من الآية المباركة وجوب المتعة على جميع المكلّفين عدا أهالي مكّة وأهالي مر وسرف ، ومقتضى القاعدة هو الاقتصار على القدر المتيقن في الخروج من وجوب المتعة ، ولازم ذلك عدم وجوب التمتّع على أهالي مكّة وأهالي مر وسرف خاصّة ، وأمّا غيرهم فالواجب عليهم التمتّع وإن بعدوا عن مكّة باثني عشر ميلاً.

ويرد عليه : أنّه لا يتم ما ذكر بالنظر إلى صحيحة زرارة المتقدّمة (٤) الّتي حدّدت البعد بثمانية وأربعين ميلاً ، ولا مجوّز لرفع اليد عنها بعد صحّة سندها وظهور دلالتها. وحملها على الجوانب الأربعة من تقسيط ثمانية وأربعين ميلاً على الجوانب الأربعة كما

__________________

(١) في ص ١٦٨.

(٢) البقرة ٢ : ١٩٦.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٥٨ / أبواب أقسام الحجّ ب ٦ ح ١.

(٤) في ص ١٦٨.

١٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

عن ابن إدريس (١) بعيد جدّاً.

ثمّ إنّ هنا رواية معتبرة دلّت على أنّه لا متعة على من كان بعيداً عن مكّة بثمانية عشر ميلاً ، وهي صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في قول الله عزّ وجلّ (... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ... قال : من كان منزله ثمانية عشر ميلاً من بين يديها ، وثمانية عشر ميلاً من خلفها ، وثمانية عشر ميلاً عن يمينها وثمانية عشر ميلاً عن يسارها ، فلا متعة له مثل مر وأشباهه» (٢) ويظهر منها وجوب المتعة على من بعد من مكّة بأزيد من ثمانية عشر ميلاً ، فتكون منافية لصحيحة زرارة المتقدِّمة (٣) الدالّة على وجوب المتعة على من بعد عن مكّة بثمانية وأربعين ميلاً.

وصاحب الوسائل دفع التنافي بينهما حيث قال : هذا أي صحيح حريز غير صريح في حكم ما زاد عن ثمانية عشر ميلاً فهو موافق لغيره فيها وفيما دونها ، فيبقى تصريح حديث زرارة وغيره بالتفصيل سالماً عن المعارض (٤). ولكن الظاهر أنّ الصحيحة في مقام التحديد ، ويظهر منها قصر الحكم بخصوص هذا الحد فتكون منافية لخبر زرارة.

والصحيح أن يقال : إنّ خبر حريز مضافاً إلى معارضته بصحيحة زرارة المشهورة لا قائل ولا عامل بمضمونه أبداً فلا بدّ من طرحه ورد علمه إلى أهله.

وقد ورد في خبرين آخرين أنّ العبرة في الحضور بما دون الميقات لا بما دون ثمانية وأربعين ميلاً.

أحدهما : خبر الحلبي «في (حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، قال : ما دون المواقيت إلى مكّة فهو حاضري المسجد الحرام وليس لهم متعة» (٥).

__________________

(١) السرائر ١ : ٥١٩.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦١ / أبواب أقسام الحجّ ب ٦ ح ١٠.

(٣) في ص ١٦٨.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٦٢.

(٥) الوسائل ١١ : ٢٦٠ / أبواب أقسام الحجّ ب ٦ ح ٤.

١٧١

والآخران فرض من كان أهله حاضري المسجد الحرام ، بأن يكون البعد بين أهله والمسجد الحرام أقل من ستّة عشر فرسخاً (١).

______________________________________________________

ثانيهما : صحيح حماد «في (حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال : ما دون الأوقات إلى مكّة» (١).

ولكن حال هذين الخبرين حال خبر حريز من الطرح والسقوط ، لعدم العامل بهما ومخالفتهما للمتسالم عليه بين الأصحاب.

وأمّا المورد الثّاني : وهو أنّ الحد المذكور هل يلاحظ بين أهله ومكّة ، أو بين أهله والمسجد الحرام ، وجهان والصحيح هو الثّاني ، بيان ذلك : أنّ الظاهر من صحيحة زرارة المتقدِّمة (٢) المفسّرة للآية الشريفة المشتملة على ذكر المسجد الحرام كون العبرة في التحديد بالمسجد الحرام وأنّه هو المبدأ والمنتهى لا بلدة مكّة ، وكم فرق بينهما فإنّ بلدة مكّة واسعة جدّاً فتختلف المسافة قلّة وكثرة بلحاظ نفس المسجد أو بلدة مكّة كما أشرنا إليه في أوّل المسألة.

ولو شكّ في ذلك واحتمل أنّ التحديد باعتبار نفس البلدة باعتبار وجود المسجد الحرام فيها فتكون الرّواية مجملة ، لعدم ظهورها في كون التحديد بلحاظ المسجد أو البلد ، فاللّازم الاقتصار على المتيقن في الخروج عن العمومات المقتضية للتمتع على جميع المكلّفين ، وذلك يقتضي كون العبرة بنفس المسجد الحرام.

(١) يدل على ذلك نفس الآية الشريفة (... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ... لعود الضمير إلى التمتّع المذكور في صدر الآية ، فإذا لم يكن التمتّع وظيفة للقريب فطبعاً تكون وظيفته الإفراد أو القِران.

ويدلُّ عليه أيضاً النصوص المستفيضة النافية للمتعة عن أهل مكّة وعمّن بعد عن مكّة دون ثمانية وأربعين ميلاً كصحيحة زرارة المتقدّمة (٣) المفسّرة للآية الشريفة

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٠ / أبواب أقسام الحجّ ب ٦ ح ٥.

(٢) في ص ١٦٨.

(٣) في ص ١٦٨.

١٧٢

مسألة ١٤٤ : لا بأس للبعيد أن يحجّ حجّ الإفراد أو القِران ندباً ، كما لا بأس للحاضر أن يحجّ حجّ التمتّع ندباً ولا يجوز ذلك في الفريضة فلا يجزئ حجّ التمتّع عمّن وظيفته الإفراد أو القِران ، وكذلك العكس (١).

______________________________________________________

وصحيحة الفضلاء الدالّة على أنّه ليس لأهل مكّة ولا لأهل مر ولا لأهل سرف متعة؟ وغير ذلك من الرّوايات الدالّة على تعين التمتّع على النائي ، وتعين الإفراد والقِران على الحاضر والقريب (١).

(١) قد عرفت أنّ مقتضى الكتاب العزيز والرّوايات الكثيرة تعين حجّ التمتّع على من كان بعيداً عن مكّة بمقدار خاص ، وتعين الإفراد أو القِران على من كان حاضراً أي غير بعيد عنها ، ولكن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى حجّة الإسلام وما هو الفرض للمكلّف فلا يجزئ للبعيد إلّا التمتّع ، ولا للحاضر إلّا الإفراد أو القِران.

وأمّا بالنسبة إلى الحجّ الندبي فيجوز لكلّ من البعيد والحاضر كل من الأنواع الثلاثة بلا إشكال ، كمن حجّ ندباً قبل استطاعته لحجّ الإسلام أو لحصول حجّ الإسلام منه.

وتدل على ذلك روايات كثيرة قد عقد في الوسائل باباً خاصّاً مستقلا لذلك (٢) فراجع.

نعم ، لا ريب في أنّ التمتّع أفضل مطلقاً كما ورد ذلك في عدّة من النصوص المعتبرة (٣).

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ نفس إطلاق ما دلّ على فضائل الحجّ وترتب الثواب عليه يقتضي جواز الإتيان بكل من الأقسام الثّلاثة وإنّما يتعيّن على المكلّف نوع خاص في الحجّ الّذي يكون فرضاً له.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٥٨ / أبواب أقسام الحجّ ب ٦.

(٢) لاحظ الوسائل ١١ : ٢٤٦ / أبواب أقسام الحجّ ب ٦.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٤٦ / أبواب أقسام الحجّ ب ٤.

١٧٣

نعم ، قد تنقلب وظيفة المتمتع إلى الإفراد كما يأتي (١).

مسألة ١٤٥ : إذا أقام البعيد في مكّة فإن كانت إقامته بعد استطاعته ووجوب الحجّ عليه وجب عليه حجّ التمتّع ، وأمّا إذا كانت استطاعته بعد إقامته في مكّة وجب عليه حجّ الإفراد أو القِران بعد الدخول في السنة الثّالثة وأمّا إذا استطاع قبل ذلك وجب عليه حج التمتّع (٢)

______________________________________________________

(١) في المسألة ١٥٥ إن شاء الله فانتظر.

(٢) البعيد قد يسكن مكّة المكرّمة بقصد المجاورة وقد يسكنها بقصد التوطّن وعلى كل تقدير قد يكون مستطيعاً في بلده قبل أن يسكن مكّة وقد يستطيع في مكّة فهذه صور أربع :

الاولى : أن يقيم البعيد في مكّة بقصد المجاورة وكانت استطاعته حاصلة في بلده قبل أن يسكن مكّة ووجب عليه الحجّ في بلده ، ففي هذه الصورة يجب عليه التمتّع ولا ينقلب فرضه من التمتّع إلى الإفراد. ونحوها ما لو استطاع في مكّة مدّة مجاورته ولكن استطاع قبل مضي سنتين من مجاورته ، فإنّ هذا الفرض ملحق بمن استطاع في بلده قبل مجاورته.

ويدلُّ على ما ذكرنا : أنّ بعض الآيات الشريفة تدل على تشريع الحكم بالحج على جميع المكلّفين من دون النظر إلى تعيين نوع منه على صنف من أصناف المكلّفين كقوله تعالى (... وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ... (١) ولكن الآية الأُخرى كقوله سبحانه (... ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ... (٢) والرّوايات المفسّرة المبيّنة للآية المحدّدة بالثمانية والأربعين ميلاً دلّت على أنّ الحجّ يختلف باختلاف الأماكن والأصناف ، وأنّ البعيد بحد خاص حكمه التمتّع ، والقريب والحاضر فرضه الإفراد ، فالمستفاد من الآية والرّوايات أنّ المكلّف على قسمين :

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٩٦.

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

قسم فرضه التمتّع وقسم فرضه الإفراد ، وما دلّ من الرّوايات على انقلاب الفرض من التمتّع إلى الإفراد كصحيحة زرارة «من أقام بمكّة سنتين فهو من أهل مكّة لا متعة له» (١) وكصحيحة عمر بن يزيد «المجاور بمكّة يتمتع بالعمرة إلى الحجّ إلى سنتين ، فإذا جاوز سنتين كان قاطناً وليس له أن يتمتع» (٢) ناظر إلى توسعة موضوع الجعل ، وأن من أقام في مكّة مقدار سنتين كان قاطناً وكان من أهل مكّة تنزيلاً وحكمه حكم أهل مكّة ، ولا نظر لهذه الرّوايات إلى من استطاع في بلده أو استطاع في مكّة قبل السنتين ، فمن كانت وظيفته التمتّع ولكن ترك الحجّ حتّى جاور مكّة فلا يكون مشمولاً لهذين الخبرين الصحيحين.

وبعبارة اخرى : الخبران منصرفان عمّن كان مستطيعاً سابقاً ، سواء كان مستطيعاً في بلده وترك الحجّ أو استطاع في مكّة قبل السنتين ، وإنّما الخبران في مقام بيان أنّ الحجّ الواجب على من سكن مكّة وتعيين بعض الأنواع عليه ، ولا نظر لهما إلى من وجب عليه الحجّ سابقاً وكانت وظيفته التمتّع في السابق ، فهو باق على حكمه السابق.

ولو أغمضنا عمّا ذكرنا واحتملنا شمول الخبرين لهذا الفرض أيضاً فيصبح الخبران مجملين ، فيدور الأمر بين تخصيص الأقل والأكثر ، فلا بدّ من الاقتصار على الأقل وهو خصوص حصول الاستطاعة بعد السنتين أخذاً بالمتيقن ، فتكون النتيجة أن من لم يكن مستطيعاً في بلده واستطاع في مكّة بعد مجاورته سنتين ينقلب فرضه إلى الإفراد فإنّ التنزيل ثابت بهذا المقدار ، وأمّا غيره وهو من استطاع في بلده وكان مكلّفاً بحج التمتّع ولم يأت به أو حصلت الاستطاعة في مكّة قبل السنتين فمحكوم بالحكم الأوّل ولم يثبت في حقّه التنزيل.

هذا كلّه مضافاً إلى دعوى قيام الإجماع على أنّ تكليف مثل هذا الشخص لا يتبدل من التمتّع إلى الإفراد.

الصورة الثّانية : أن يجاور البعيد في مكّة ويستطيع بعد إقامته فيها بعد الدخول في

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحجّ ب ٩ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦٦ / أبواب أقسام الحجّ ب ٩ ح ٢.

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

السنة الثّالثة ، فالمشهور أنّه يتبدل فرضه من التمتّع إلى الإفراد وهو الصحيح.

بيان ذلك : أنّه لو كنّا نحن والآية الشريفة والرّوايات العامّة ولم تكن روايات خاصّة في المقام لكان الواجب عليه حج التمتّع ، لأنّ موضوع التمتّع من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ومن لم يكن من أهل مكّة ، وذلك صادق على البعيد المجاور.

ولكن مقتضى الأخبار الخاصّة الآتية إجراء حكم أهل مكّة عليه ، وأنّه مكّي تنزيلاً ، فيجب عليه الإفراد ، وهذا ممّا لا خلاف فيه في الجملة.

وإنّما وقع الخلاف في الحد الّذي يوجب انقلاب فرضه من التمتّع إلى الإفراد فالمشهور بين الأصحاب أنّه يتحقق بالإقامة في مكّة مدّة سنتين والدخول في الثّالثة.

ونسب إلى الشيخ وابن إدريس أنّ الحد الموجب للانقلاب إكمال ثلاث سنين والدخول في الرّابعة (١).

ونسب إلى الشهيد في الدورس أنّه يتحقق بإكمال سنة واحدة والدخول في الثّانية (٢) ، واختاره صاحب الجواهر (٣).

وسبب الاختلاف النصوص. ولكن ما نسب إلى الشيخ بالتحديد إلى ثلاث سنين والدخول في الرّابعة فلا شاهد عليه من الأخبار إلّا الأصل المقطوع بالرّوايات ، فهذا القول ساقط فيبقى القولان الآخران.

أحدهما : ما نسب إلى المشهور من التحديد بسنتين والدخول في الثّالثة ، ويدلُّ عليه صحيح زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «من أقام بمكّة سنتين فهو من أهل مكّة لا متعة له» وصحيح عمر بن يزيد قال «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : المجاور بمكّة يتمتع بالعمرة إلى الحجّ إلى سنتين ، فإذا جاوز سنتين كان قاطناً ، وليس له أن يتمتع» (٤).

__________________

(١) المبسوط ١ : ٣٠٨ ، السرائر ١ : ٥٢٢.

(٢) الدروس ١ : ٣٣١.

(٣) الجواهر ١٨ : ٨٩.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحجّ ب ٩ ح ١ ، ٢.

١٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : ما نسب إلى الشهيد وقوّاه صاحب الجواهر من الاكتفاء بإكمال سنة واحدة والدخول في الثّانية اعتماداً إلى جملة من الأخبار.

منها : صحيحة الحلبي قال «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) لأهل مكّة أن يتمتعوا؟ قال : لا ... قلت : فالقاطنين بها ، قال : إذا أقاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكّة» (١) وهي صحيحة السند وواضحة الدلالة.

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان «المجاور بمكّة سنة يعمل عمل أهل مكّة ، يعني يفرد الحجّ مع أهل مكّة ، وما كان دون السنة فله أن يتمتع» (٢) وهي أيضاً واضحة الدلالة والسند معتبر ، فإنّ إسماعيل بن مرار الواقع في السند وإن لم يوثق في كتب الرّجال ولكنّه من رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي وهم ثقات ، وفي بعض نسخ التفسير إسماعيل بن ضرار وهو محرف جزماً كما هو الموجود في الطبعة القديمة وتفسير البرهان ، وهنا روايات آخر تدل على ذلك أيضاً ولكنّها ضعيفة السند والعمدة ما ذكرناه.

وقد أجاب السيِّد في العروة (٣) عن هذه الرّوايات بإعراض المشهور عنها ، فيتعيّن العمل بالصحيحتين المتقدّمتين صحيحة زرارة وعمر بن يزيد ، ولكن قد ذكرنا غير مرّة أنّ إعراض المشهور لا يوجب سقوط الرّواية المعتبرة سنداً عن الحجيّة. على أنّ الشهيد وصاحب الجواهر قد عملا بها.

وقد جمع صاحب الجواهر بين الطائفتين بحمل الصحيحتين على الدخول في السنة الثّانية فتلتئم مع الطائفة الثّانية الدالّة على اعتبار مضي سنة واحدة والدخول في الثّانية.

ويرد عليه : أنّ هذا المعنى وإن احتمل في خبر زرارة المتقدِّم وأمكن حمل قوله : «من أقام بمكّة سنتين» على الدخول في الثّانية بعد إكمال السنة الأُولى وإن كان ذلك

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٦ / أبواب أقسام الحجّ ب ٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦٩ / أبواب أقسام الحجّ ب ٩ ح ٨.

(٣) العروة الوثقى ٢ : ٣٢٥ / ٣٢٠٦.

١٧٧

هذا إذا كانت إقامته بقصد المجاورة. وأمّا إذا كانت بقصد التوطن فوظيفته حجّ الإفراد أو القِران من أوّل الأمر إذا كانت استطاعته بعد ذلك ، وأمّا إذا كانت قبل قصد التوطن في مكّة فوظيفته حجّ التمتّع (١).

______________________________________________________

بعيداً ، إلّا أنّه لا يحتمل ذلك في خبر عمر بن يزيد ، للتصريح فيه بالتجاوز عن سنتين.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ التعارض بين الطائفتين متحقق ، فالمرجع بعد التعارض والتساقط عموم ما دلّ على أنّ البعيد فرضه التمتّع وإن جاور مكّة ، والقدر المتيقن من التخصيص حسب الخبرين المتقدّمين من سكن مكّة مدّة سنتين ودخل في الثّالثة ، وأمّا غير ذلك فلم يثبت تخصيص في حقّه ، فالواجب عليه ما يقتضيه العموم وهو وجوب التمتّع عليه إلّا بعد مضي سنتين ، وقد عرفت أنّه هو القول المشهور.

ثمّ إنّ هنا أخباراً تدل على أنّ العبرة في انقلاب الفرض بالمجاورة خمسة أشهر أو ستّة أشهر (١).

والجواب عنها : أنّه لا عامل بها أصلاً. على أنّها معارضة بالصحيحين المتقدّمين صحيحة زرارة وصحيحة عمر بن يزيد. مضافاً إلى أنّ ما دلّ على خمسة أشهر ضعيف بالإرسال.

(١) الصورة الثّالثة : وهي ما إذا أقام البعيد في مكّة بقصد التوطّن وكانت استطاعته بعد ذلك فوظيفته حجّ الإفراد أو القِران من أوّل الأمر أي بلا حاجة إلى مضي سنتين وذلك لأنّه يصدق عليه أنّه من أهالي مكّة بعد مرور شهر ونحوه ، ممّا يصدق معه عرفاً أنّ البلد وطنه ، فما دلّ على أنّه لا متعة لأهل مكّة يشمل المقيم بقصد التوطن ، لعدم احتمال اختصاص هذه الأدلّة بسكنة مكّة الأصليين.

وأمّا الصحيحتان المتقدّمتان الدالّتان على انقلاب الفرض إلى الإفراد أو القِران فيما إذا تجاوزت مدّة الإقامة سنتين فلا تشملان المتوطن لاختصاصهما بالمجاور.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحجّ ب ٨ ح ٣ ، ٤ ، ٥.

١٧٨

وكذلك الحال في من قصد التوطن في غير مكّة من الأماكن الّتي يكون البعد بينها وبين المسجد الحرام أقل من ستّة عشر فرسخاً (١).

مسألة ١٤٦ : إذا أقام في مكّة وكانت استطاعته في بلده أو استطاع في مكّة قبل انقلاب فرضه إلى حج الإفراد أو القِران فالأظهر جواز إحرامه من أدنى الحل ، وإن كان الأحوط أن يخرج إلى أحد المواقيت والإحرام منها لعمرة التمتّع بل الأحوط أن يخرج إلى ميقات أهل بلده (٢).

______________________________________________________

الرّابعة : ما إذا قصد التوطن في مكّة ولكنّه كان مستطيعاً للحج في بلده قبل قصد التوطن فوظيفته حجّ التمتّع ، لأنّه كان مكلّفاً بالتمتع قبل ذلك ولا موجب لانقلاب فرضه من التمتّع إلى الإفراد ، فإنّ مقتضى الإطلاقات من الآية والرّوايات كما عرفت وجوب حجّ التمتّع على جميع المكلّفين ، خرج من ذلك أهالي مكّة ونحوهم ، والقدر المتيقن في الخروج عن المطلقات من استطاع بعد توطنه ، وأمّا في غير ذلك فهو باق تحت المطلقات الدالّة على التمتّع.

(١) لعدم الفرق بين مكّة وبين البلاد الّتي تكون محكومة بحكم مكّة.

(٢) قد عرفت في المسألة السابقة أنّ المقيم في مكّة قد يجب عليه حجّ التمتّع ، كما إذا كانت استطاعته في بلده قبل مجاورته في مكّة أو استطاع في مكّة قبل انقلاب فرضه إلى الإفراد ، كما إذا استطاع قبل السنتين ففي هاتين الصورتين يجب عليه التمتّع ويجب عليه الخروج لإحرام عمرة التمتّع بلا خلاف.

ولكن الخلاف وقع في تعيين ميقاته الّذي يجب الإحرام منه ، والأقوال في ذلك ثلاثة.

الأوّل : أنّ ميقاته ميقات أهل بلده ومهل أرضه ، فيجب عليه الخروج إلى ذلك الميقات ويحرم منه ، ذهب إليه جماعة كالمحقق في غير الشرائع (١) والعلّامة (٢)

__________________

(١) المختصر النافع : ٨٠.

(٢) إرشاد الأذهان : ٣٠٩ ، التحرير ٩٣ السطر ٣٤ ، المنتهي ٢ : ٦٦٤ السطر ٢٤.

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وغيرهما.

الثّاني : أنّه أحد المواقيت المخصوصة المعروفة على سبيل التخيير بينها فيجوز للعراقي أن يحرم من ميقات الشامي وبالعكس ولا يلزمه أن يحرم من ميقات أهله وإليه ذهب جماعة آخرون كالمحقق في الشرائع (١) وكالشهيدين (٢).

الثّالث : ما نقل عن الحلبي (٣) وتبعه بعض متأخِّري المتأخِّرين كالمحقق الأردبيلي (٤) واستحسنه السبزواري في الكفاية (٥) واحتمله قويّاً صاحب المدارك (٦) وهو أنّ ميقاته أدنى الحل ، وأنّ حاله حال المعتمر مفردة وهو في مكّة فلا حاجة إلى الخروج إلى المواقيت المخصوصة.

أقول : يقع البحث تارة : فيما تقتضيه القاعدة وأُخرى : فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.

أمّا القاعدة المستفادة من الرّوايات العامّة فمقتضاها لزوم الإحرام من المواقيت المعروفة الّتي وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لكل قطر من الأقطار فلأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن يلملم ولأهل المدينة مسجد الشجرة وهكذا فالواجب عليهم الإحرام من هذه المواقيت كل بحسب ميقاته.

نعم ، هناك روايات تدل على أن كلّ من مرّ بميقات أحرم منه وإن لم يكن من أهل ذلك ، ولا يلزم أن يحرم من ميقات بلده خاصّة (٧).

إلّا أنّه وقع الكلام في أنّ هذه الرّوايات هل تشمل المجاور في مكّة ويريد الحجّ منها ، أم تختص بمن يريد الحجّ من خارج مكّة.

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٧١.

(٢) الدروس ١ : ٣٤٢ ، الروضة ٢ : ٢١١.

(٣) الكافي لأبي الصلاح : ٢٠٢.

(٤) مجمع الفائدة ٦ : ٤١.

(٥) كفاية الأحكام : ٥٦ السطر ١٢.

(٦) المدارك ٧ : ٢٠٧.

(٧) الوسائل ١١ : ٣٣١ / أبواب المواقيت ب ١٥.

١٨٠