نشأة الشيعة الامامية

نبيلة عبد المنعم داود

نشأة الشيعة الامامية

المؤلف:

نبيلة عبد المنعم داود


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

هذا علي وهو الوصي

آخاه يوم النجوة النبي


وقول غلام من بني ضبة وهو من معسكر عائشة :

نحـن بني ضبة أعداء علـي

ذاك الذي يعـرف قدماً بالوصي

وكثير غيرها من الأشعار والأراجيز (١) ، والتي تدل على أن التسمية كانت تطلق عليه من قبل أنصاره وأعدائه وسنرى أهمية هذه اللفظة في مدلولها على الإمامة.

وانتهت وقعة الجمل بانتصار علي ومقتل طلحة والزبير وإرجاع عائشة إلى المدينة (٢).

ونزل علي بن أبي طالب بعد ذلك في الكوفة وكان في الكوفة يومئذ شيعة لعلي. والظاهر أنهم كانوا قلة يدل لوم علي لهم وعتابه إياهم ، ومن ذلك عتابه لسليمان بن صرد الخزاعي قال : « راتبت وتربصت وراوغت وقد كنت من أوثق الناس في نفسي » (٣).

وكذلك عاتب علي أهل الكوفة قال : « مابطَّأ بكم عني وأنتم أشراف قومكم والله لئن كان من ضعف النية وتقصير البصيرة انكم لبور والله لئن كان من شك في فضلي ومظاهرة علي أنكم لعدو » (٤).

وكثرت المراسلات بين علي ومعاوية واتهام معاوية علياً بقتل عثمان وطلب معاوية بثأره (٥).

__________________

(١) ابن أبي الحديد : شرح النهج ج ١ ص ٤٧ ـ ٤٨ ولم يرد ذكر لهذه الأشعار والأراجيز عند الطبري مع أنه أورد الروايات في وقعة الجمل من عدة أسانيد كما أنه اعتمد على أبي مخنف في كلامه عن وقعة الجمل وعلى روايات عراقية.

وقد ألف المفيد كتاباً في حرب الجمل سماء ( الجمل أو النصرة لحرب البصرة ) وصف فيه وقعة الجمل وما دار فيها من أحداث وبين الدور الذي لعبه أصحاب علي بن أبي طالب كما أنه في روايته لأحداث الجمل أعطى رأيه الذي يمثل رأي الشيعة الإمامية.

(٢) الطبري : تاريخ الرسول والملوك ج ٤ ص ٤٣٩.

(٣) نصر بن مزاحم : صفين ص ٦.

(٤) ن. م ص ٧.

(٥) ن. م ص ٨ ـ ١٠.

٦١

وكانت وقعة صفين وابتدأ الحرب واشتد القتال وقتل عدد من أنصار علي منهم هاشم بن عتبة ، وعمار بن ياسر من أخلص أنصاره وقد كان لمقتل عمار عند الشيعة تأثير كبير لبيان أصحاب الحق من الفريقين المقاتلين لأن النبي قد تنبأ لعمار بقوله : « تقتلك الفئة الباغية » (١).

وكاد النصر يتم لعلي لولا أن دبر أصحاب معاوية مكيدة فرفعوا المصاحف واختلف جيش علي وامتنعوا عن القتال وطلب أصحاب معاوية التحكيم (٢).

وأصبحت لفظة شيعة علي مقابلة لشيعة معاوية وقد ورد ذلك في صحيفة التحكيم فقد ورد في الصحيفة « هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب ، وقضية معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب » (٣).

فالشيعة هنا تعني الأنصار ، أنصار معاوية وأنصار علي أو جماعة معاوية وجماعة علي.

ويبدو مما مرّ من الروايات التاريخية ان هناك أشخاصاً عرفوا بميلهم إلى علي بن أبي طالب والوقوف معه مثل عمار بن ياسر وأبي ذر والمقداد وسلمان وكان تصرف هؤلاء الأشخاص وسيرتهم دليلاً على تفضيلهم علياً على سائر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقد وقفوا إلى جانبه يوم السقيفة واعتزلوا البيعة ولم يبايعوا حتى بايع علي (٤). وكذلك كان حالهم يوم الشورى (٥). ثم نلاحظ أنه في الفترة

__________________

(١) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٢ الورقة ٧٧ آ.

(٢) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ١٦٤.

(٣) نصر بن مزاحم : صفين ص ٥٠٤.

(٤) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ١٠٥.

(٥) ن. م ج ٢ ص ٣٢.

٦٢

من وفاة الرسول حتى تولي علي الخلافة ظهور مؤيدين آخرين لعلي مثل ثابت بن قيس الأنصاري ، وخزيمة بن ثابت وصعصعة بن صوحان وعقبة بن عمرو ومالك بن الحارث الأشتر (١).

ولكن المصادر التاريخية لا تشير إلى كلمة شيعة إلا في وقعة الجمل « شيعته من همدان » (٢).

ثم ترد كلمة شيعة في وقعة صفين في صحيفة التحكيم (٣). وترد الشيعة هنا بمعنى الأنصار.

فيمكن بعد هذا أن نعد هؤلاء الأشخاص البدايات أو البذرة الأولى للتشيع وأن هؤلاء الأشخاص قد أيدوا علياً في إثبات حقه بالإمامة ، ففكرة التشيع إذن أول ما بدأت بأشخاص اعتقدوا إمامة علي بن أبي طالب بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولننظر الآن إلى آراء بعض المؤرخين والباحثين حول بداية التشيع ، فالمقدسي يقول : « اعلم أن الشيعة أتوا في حياة علي ثلاث فرق ، فرقة على جملة أمرها في الاختصاص به والموالاة له مثل عمار وسلمان والمقداد وجابر وأبي ذر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجرير بن عبد الله البجلي ودحية بن خليفة » (٤).

والفرقة الثانية « تغلو في عثمان وتميل إلى الشيخين مثل عمرو بن الحمق ومحمد بن أبي بكر ومالك الأشتر » (٥).

والفرقة الثالثة السبأية « أتباع عبد الله بن سبأ » (٦). فالمقدسي يذكر

__________________

(١) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ١٥٥ وقد ذكر اليعقوبي أن هؤلاء قد أعطوا رأيهم في علي بن أبي طالب في خطبهم في أول يوم توليه مما يدل أن هؤلاء قد فضلوه وأهلوه للخلافة قبل هذا الوقت وأنهم كانوا يلقبوه بالوصي يدل على ذلك قول مالك بن الحارث الأشتر : « أيها الناس هذا وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء ... »

(٢) المسعودي : مروج الذهب ج ٢ ص ٣٧٧.

(٣) نصر بن مزاحم : صفين ص ٥٠٤.

(٤) المقدسي : البدء والتاريخ ج ٥ ص ١٢٤.

(٥) ن. م ج ٥ ص ١٢٥.

(٦) ن. م ج ٥ ص ١٢٥.

٦٣

وجود فئات مختلفة من الشيعة زمن علي كما يذكر النوبختي (١). ويبدو من كلام المقدسي أن التعبير استعمل بوضوح في خلافة الإمام علي.

أما ابن النديم فيرى « أن الشيعة تكونت لما خالف طلحة والزبير علياً وابيا إلا الطلب بدم عثمان وقصدهما علي ليقاتلهما حتى يفيا إلى أمر الله تسمى من اتبعه على ذلك الشيعة فكان يقول شيعتي وسماهم طبقة الأصفياء ، طبقة الأولياء ، طبقة شرطة الخميس ، طبقة الأصحاب ، ويفسر معنى شرطة الخميس ، أن علياً قال لهذه الطائفة تشرطوا فإنما أشارطكم على الجنة ولست اشارطكم على ذهب ولا فضة (٢).

فابن النديم لا يذكر البداية وإنما يذكر ظهور الشيعة كجماعة أو كتلة على مسرح الأحداث السياسة.

أما ابن حزم فيذكر أن التشيع لعلي بدأ بمقتل عثمان حيث يقول : « ثم ولي عثمان وبقي اثنا عشر عاماً حتى مات وبموته حصل الاختلاف وابتدأ أمر الروافض » (٣). ويلاحظ أن ابن حزم يستعمل كلمة رافضة عموماً على الشيعة كما يستعملها في فترة سابقة لأوانها كما سنرى بعد ذلك.

وممن ذهب مذهب ابن حزم في ذلك الحنفي قال : « إن افتراق الأمة لم يكن في ايام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وإنما بعد مقتل عثمان ظهرت الرافضة » (٤).

أما ابن خلدون فيرى « أن الشيعة ظهرت لما توفي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان أهل البيت يرون أنفسهم أحق بالأمر وأن الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش » (٥).

فابن خلدون يرى أن البداية كانت بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم يرى

__________________

(١) النوبختي : فرق الشيعة ص ١٦.

(٢) ابن النديم : الفهرست ص ١٧٥.

(٣) ابن حزم : الفصل في الملل والنحل ج ٢ ص ٨٠.

(٤) عثمان بن عبد الله بن الحسن الحنفي : الفرق المتفرقة بين أهل الزيغ والزندقة ص ٦.

(٥) ابن خلدون : العبر ج ٣ ص ٣٦٤.

٦٤

أن الشيعة وضح أمرها في أيام الشورى حيث يقول « كان جماعة من الصحابة يتشيعون لعلي ويرون استحقاقه على غيره ولما عدل به إلى سواه تأففوا من ذلك وأسفوا له مثل الزبير وعمار بن ياسر والمقداد بت الأسود وغيرهم ، إلا أن القوم لرسوخ قدمهم في الدين وحرصهم على الإلفة لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف » (١).

ويرى فإن فوتن : « إن الشيعة تفرعت من ذلك الحزب السياسي الذي قضى عليه الأمويون بحروراء ، ثم انتشرت وقامت بحركة دينية واسعة النطاق ضمت إليها جميع العناصر الإسلامية المعادية للأمويين وللعرب جميعاً » (٢).

ومن ملاحظة هذا الرأي يبدو لنا أن الجماعة التي خرجت بحروراء لم تكن من الشيعة وإنما من الخوارج بعد ان فارقوا علياً وذهبوا إلى قرية يقال لها حروراء (٣).

ثم أنهم خرجوا أيام علي بن أبي طالب وقاتلهم في وقعة النهروان سنة ٣٩ هـ (٤).

كما أن ظهور الشيعة كان سابقاً لهذه الفترة إذا رجعنا إلى التطورات السابقة كما تدل على ذلك الروايات التاريخية.

وأن الشيعة حينما ظهرت كانت حزباً عربياً قام حول إمامة علي بن أبي طالب ومخالفة ومعاداة من أنكر خلافته لأنه الخليفة بأمر الرسول كما ترى الشيعة. ولكن يبدو أن فان فلوتن يخلط بين الشيعة العلوية وبين الغلاة الذين استظلوا بالراية.

أما فلهاوزن فيذكر ظهور الشيعة كحزب فيرى أنه « كان ظهر بمقتل عثمان وانقسام الإسلام إلى حزبين حزب علي وحزب معاوية ، والحزب

__________________

(١) ابن خلدون : العبر ج ٣ ص ٣٦٥.

(٢) فان فلوتن : السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ٧٤.

(٣) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ١٦٧.

(٤) ن. م ج ٢ ص ١٦٧.

٦٥

يطلق عليه في العربية أيضاً اسم الشيعة ، فكانت شيعة علي مقابل شيعة معاوية » (١).

أما الدوري فيرى « أن تكون الحزب العلوي أو الشيعة العلوية كان بعد مقتل عثمان ، فالانقسام بين المسلمين أدى إلى ظهور شيعة عثمان مقابل شيعة علي ، كما أن مقتل علي أعطى مؤيديه وشيعته أول رابطة قوية وبلور اتجاههم وكوّن الحزب العلوي » (٢).

وفي هذه الفترة أصبح العراق يدين بالولاء لعلي ، وكان أكثر أهله أنصاراً له ، ولكن يبدو أنهم لم يكونوا شيعة حقاً ويظهر هذا من كلام علي وكثرة لومه وعتابه لأهل الكوفة والعراق (٣).

ويعلل الدوري سبب هذا فيقول : « إن ذكرى حكمه ربطت قضية العراق بالقضية العلوية فقد جعلت الكثيرين من أهل العراق يؤيدون بيته دون أن يكونوا شيعة حقاً لأنه يمثل بنظرهم زعامة العراق بين الأمصار » (٤).

أما المصادر الإمامية فتذكر ان ظهور الشيعة كان على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويوضح سعد القمي بداية الشيعة فيقول : « فاول الفرق الشيعة وهي فرقة علي بن أبي طالب المسمون شيعة علي في زمان النبي وبعده ، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته » (٥).

ويرى أن أول الشيعة هم المقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وابو ذر وسلمان « وهم أول من سموا باسم التشيع من هذه الأمة » (٦).

__________________

(١) فلهاوزن : الخوارج والشيعة ص ١٤٦.

(٢) الدوري : مقدمة في صدر الإسلام ص ٦١.

(٣) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ج ١ ص ١٧٧ ( خطبة علي في استنفار أهل العراق للشام ).

(٤) الدوري : مقدمة في صدر الااسلام ص ٦١.

(٥) سعد القمي : المقالات والفرق ص ١٥ ، النوبختي : فرق الشيعة ص ١٥.

(٦) ن. م ص ١٥.

٦٦

أما الرازي فيوضح مفهوم كلمة شيعة حيث يقول « إن اللفظة اختصت بجماعة ألفوا علي في حياة الرسول وعرفوا به مثل سلمان الفارسي وأبي ذر والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ... » (١).

« وكان يقال لهم شيعة علي وأنصار علي ، وفيهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتاقت الجنة إلى أربعة سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار » (٢).

وترد في بعض التفاسير الإمامية كلمة شيعة في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيذكر فرات في تفسيره سورة الفاتحة قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين » هم شيعة علي الذين أنعمت عليهم بولاية علي بن أبي طالب لم تغضب عليهم ولم يضلوا (٣).

كما يورد الشيخ الصدوق عدة احاديث يذكر فيها أن الشيعة كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا لهم وبشرهم بالجنة (٤).

وبهذا تدلل المصادر الإمامية ان التشيع لعلي بدأ منذ زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أول المنوهين بفكرة التشيع والمغذين إياها بأوامره المطاعة » (٥).

وترى الشيعة ان الرسول حينما حج حجة الوداع دعا الناس إلى موالاة علي وقال : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ... » (٦).

__________________

(١) الرازي : الزينة الورقة ٢٠٥.

(٢) ن. م الورقة ٢٠٥ ، ( ويسميهم الشيخ المفيد الأركان الأربعة المفيد : الاختصاص ص ٣ ).

(٣) فرات بن إبراهيم الكوفي : تفسير فرات ص ٢.

(٤) الشيخ الصدوق : صفات الشيعة ، فضائل الشيعة ، طبع ضمن كتاب علي والشيعة : نجم الدين العسكري ص ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٦.

(٥) محمد حسين الزين : الشيعة في التاريخ ص ٢٥.

(٦) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ٩٣ ، وسنأتي على تفسير حديث الغدير بالتفصيل في باب الإمامة في الفصل الثالث.

٦٧

وتفسر المصادر الإمامية حديث « من كنت مولاه » فكلمة مولى تعني « أن يكون اولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معه » ولما كان معنى الموالاة الطاعة والمتابعة فلذلك كل من حضر الغدير تعتبرهم الإمامية شيعة لعلي » (١).

وهكذا تستدل الإمامية على أن التشيع لعلي بدأ منذ زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

تطور التشيع في ضوء ما مرّ به من أحداث :

أ ـ استشهد علي بن أبي طالب سنة ٤٠ هـ فانتقلت الخلافة بعده إلى ابنه الحسن (٢) ، وتذكر المصادر التاريخية أن علياً لم يوصِ إلى أحد من أبنانه وأنه قال « لا آمركم ولا أنهاكم » (٣).

ويقول المسعودي « وذكرت طائفة من الناس أن علياً لم يوصِ إلى ابنيه الحسن والحسين لأنهما شريكاه في آية التطهير وهذا قول كثير ممن ذهب إلى القول بالنص » (٤).

وقد انفرد المسعودي بهذا القول من بين المؤرخين.

« فلما توفي علي خرج الحسن إلى المسجد فاجتمع الناس إليه فبايعوه » (٥). وكانت بيعته التي أخذ على الناس أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ، فقال بعض من حضر والله ما ذكر السلم إلا ومن رأيه أن يصالح معاوية (٦).

ب ـ ويبدو أن الفترة التي تولى بها الحسن الخلافة ( ٤٠ هـ ) كانت مليئة بالاضطرابات فمعاوية قد تمكن من الشام ، كما أن كثيراً من أصحاب علي خرجوا بعد التحكيم.

__________________

(١) محمد حسين الزين : الشيعة في التاريخ ص ٢٦.

(٢) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ١٨٩.

(٣) المسعودي : مروج الذهب ج ٢ ص ٤٢٥.

(٤) المسعودي : مروج الذهب ج ٢ ص ٤٢٥. وآية التطهير قوله تعالى : ( إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ).

(٥) الدينوري : الأخبار الطوال ص ٢١٦.

(٦) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٣ الورقة ٣ آ.

٦٨

وقد استطاع معاوية أن يستغل هذه الأمور ، فكان يدس إلى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ويوجه إلى عسكر قيس من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية ، كما أنه أرسل المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عامر لابن كريز إلى الحسن واتوه وهو نازل بالمدائن فخرجوا من عنده وهم يقولون ويسمعون الناس ان الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن به الفتنة وأجاب إلى الصلح ، فاضطرب العسكر ولم يشك الناس في صدقهم فوثبوا بالحسن ... وتفرق الناس عنه (١).

ويبدو من هذا أن الجماعة المحيطة بالحسن او شيعته لم يكونوا جميعاً شيعة حقاً لأنهم لو كانوا شيعة لما أثرت فيهم دسائس معاوية وإنما يظهر أنهم ، « كانوا يميلون للعلويين ويرون فيهم منذ قتل علي رمز سلطتهم المفقودة » (٢). ولكن هناك جماعة أخلصت للحسن ، فيذكر البلاذري أن الحسن حينما جرح نزل في دار سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد الثقفي بالمدائن وكان أبوه قد ولاه إياها ، فأشار عليه المختار أن يوثقه ويسير به إلى معاوية على أن يطعمه خراج جوخي ، فأبى ذلك وقال للمختار : قبح الله رأيك أنا عامل أبيه وقد ائتمنني وشرفني ، وهبني نسيت بلاء أبيه أأنس رسول الله ولا أحفظه في ابن بنته وحبيبه ، ثم أنه أتاه بطبيب واقام عليه حتى برا (٣). وقد ذكر الطبري ان الشيعة كانت تشتم المختار وتعتبه لهذا السبب (٤).

فسعد بن مسعود إذن من مخلصي شيعة علي فهو حافظ لعهده ولعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكون الحسن ابنه. وعندما وثب القوم بالحسن نادى اين ربيعة وهمدان فتبادروا إليه (٥). فخص بالنداء ربيعة وهمدان لثقته بولائهما

__________________

(١) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ١٩١.

(٢) الدوري : العصر العباسي الأول ص ١٥.

(٣) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٣ الورقة ٣ ب.

(٤) الطبري ج ٥ ص ٥٦٩.

(٥) الدينوري : الأخبار الطوال ص ٢١٧.

٦٩

وكانت نصرتهم له دليلاً على أنهما بقيتا شيعة للحسن كما كانت لعلي.

ولكن الظاهر أن الحسن لم يكن واثقاً من أصحابه ونصرتهم له وإلا لما أقدم على الصلح ، ويؤكد هذا اليعقوبي « ولما رأى الحسن أن لا قوة به وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالح معاوية وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال « أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وقد سالمت معاوية وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين » (١).

وقد تم الصلح بين معاوية والحسن بشروط اشترطها الحسن عليه ، « على أن يسلم له الخلافة بعده ، وأن لا يأخذ أحداً من أهل العراق بأحنه ، ويحمل إلى أخيه الحسين في كل عام ألفي درهم ويفضل بني هاشم في العطاء على بني عبد شمس » (٢).

ويذكر البلاذري ان من ضمن شروط الصلح التي أخذها الحسن على معاوية أن لايعهد لأحد من بعده وأن يكون الأمر شورى بين الناس وعلى أن لا يبغي الحسن بن علي غايلة سراً ولا علانية ولا يخيف أحداً من أصحابه (٣).

فالدينوري يرى أن الحسن بن علي اوصى بأهل العراق ، والبلاذري يؤكد اهتمام الحسن بأصحابه وأصحابه هم الشيعة.

ويورد الطبري أن من شروط الصلح أن لا يشتم معاوية علياً على مسمع من الحسن (٤). ويقول المقدسي أن الحسن طلب « أماناً لشيعة علي » (٥).

وبالرغم من اهتمام الحسن بأصحابه إلا أنه كان عاتباً عليهم وذلك حين خاطبهم بعد الصلح ؛ « يا أهل الكوفة لو لم تذهل نفسي عنكم إلا

__________________

(١) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ١٩٢.

(٢) الدينوري : الأخبار الطوال ص ٢١٨.

(٣) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٣ الورقة ٤ آ.

(٤) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ٥ ص ١٦٠.

(٥) المقدسي : البدء والتاريخ ج ٥ ص ٢٣٦.

٧٠

لثلاث خصال لذهلت فقلتكم أبي وسلبكم ثقلي ، وطعنكم في بطني ، وأني قد بايعت معاوية فاسمعوا له وأطيعوا (١).

وكانت الشيعة قد ساءها تنازل الحسن عن الخلافة وقد أظهرت له ذلك واول من كلمه في ذلك حُجر بن عدي الكندي قال : « يابن رسول الله لوددت أني مت قبل ما رأيت ، أخرجتنا من العدل إلى الجور فتركنا الحق الذي كنا عليه ودخلنا في الباطل الذي نهرب منه وأعطيتنا الدنية من أنفسنا وقبلنا الخسيسة التي لم تلق بنا » ، فكان جواب الحسن له : « إنما صالحت بقيا على شيعتنا خاصة من القتل » (٢).

وحجر بن عدي من الشيعة ومن المخلصين لعلي ، وكذلك أنكر سليمان بن صرد الخزاعي الصلح وكان سيد أهل العراق ورأسهم فدخل على الحسن فقال السلام عليك يا مذل المؤمنين ، وكان يعاتب الحسن على قعوده عن الحرب بالرغم من كثرة أنصاره هم مائة ألف مقاتل من أهل العراق سوى شيعته من أهل البصرة وأهل الحجاز (٣).

وكان جواب الحسن « فإنكم شيعتنا وأهل مودتنا ... وإني لم أرد بما رأيتم إلا حقن دماءكم وإصلاح ذات بينكم ... وأما قولكم يا مذل المؤمنين فو الله لأن تذلوا وتعافوا أحب إليّ من أن تعزوا وتقتلوا » (٤).

وقد منع الحسن أتباعه من القيام بأي عمل وقال : « وليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حياً » (٥).

ويظهر أن الشيعة قد يئسوا من الحسن فمال قسم منهم إلى الحسين وطلبوا منه أن يجمع شيعته ويحارب معاوية إلا أنه رفض ذلك وأوصاهم بما طلب منهم الحسن (٦).

__________________

(١) المسعودي : مروج الذهب ج ٣ ص ٩.

(٢) الدينوري : الأخبار الطوال ص ٢٢٠.

(٣) ابن قتيبة : الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٧١.

(٤) ن. م ج ١ ص ١٧١ ـ ١٧٢.

(٥) الدينوري : الأخبار الطوال ص ٢٢١.

(٦) ن. م ص ٢٢١ ، ابن قتيبة : الإمامية والسياسة ج ١ ص ١٧٣.

٧١

ويبدو أن معاوية لم يهدأ باله ما دام الحسن حياً فتشير بعض المصادر إلى احتمال تحريضه على سمه.

فيروي البلاذري « إنه شرب شربة عسل فمات منها ، ويقال أن معاوية دس إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس امرأة الحسن وأرغبها حتى سمته » (١).

ولما بلغ أهل الكوفة وفاة الحسن بن علي كتبوا إلى الحسين يعزونه بوفاة أخيه « أما بعد فإن من قبلنا من شيعتك متطلعة أنفسهم إليك لا يعدلون بك أحداً وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في دفع الحرب وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك والشدة في أمر الله فإن كنت تحب أن تطلب هذا الأمر فأقدم علينا فقد وطنا أنفسنا على الموت معك ، فكتب إليهم أما أخي فأرجو أن يكون الله قد وفقه وسدده وأما أنا فليس رأي اليوم ذاك ما دام معاوية حياً » (٢).

يظهر من هذا تطور الحال إلى قيام جماعة موالية لآل علي ولكنها غير جادة ، وأنها مستعدة لرد الإمامة إليهم بالثورة. ولكن الحسين لم يستطع إجابة طلبهم حفظاً لعهد أخيه.

ولم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن حتى بايع لابنه يزيد وقد امتنع عن بيعته الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير (٣).

فكانت بيعة يزيد أول نقض لشروط الصلح بين معاوية والحسن ولم يكتفِ معاوية بهذا وإنما نقض الشرط الآخر وهو « أن لا يسيء إلى أصحاب الحسن ». فأمر معاوية عماله « أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة وأمر بحرمان كل من عرف منه موالاة علي من العطاء وإسقاطه من الديوان والتنكيل به وهدم داره » (٤).

____________

(١) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٣ الورقة ٥ آ وذكر ذلك أيضاً اليعقوبي ج ٢ ص ٢٠٠.

(٢) أبو مخنف ( ت١٧٠ هـ ) : مقتل الحسين ص ٦ ، الدينوري : الأخبار الطوال ٢٠٣ ، اليعقوبي ج ٢ ص ٢٠٣.

(٣) اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٣.

(٤) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ٥ ص ٢٢٤.

٧٢

وأمر معاوية بلعن علي على المنابر (١). ونادى مناديه وكتب بذلك إلى عماله « ألا برئت الذمة ممن روى حديثاً في مناقب علي وأهل بيته وقامت الخطباء في كل كورة ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب والبراءة منه » (٢).

كما كتب معاوية كتاباً إلى ابن عباس يأمره بالكف عن ذكر مناقب علي وأهل بيته (٣).

وكانت الكوفة مركزاً للشيعة ، وقد لاقى الشيعة الاضطهاد في فترة تولي زياد على الكوفة وكان زياد عامل علي بن أبي طالب على فارس فلما صار الأمر إلى معاوية كتب إليه يتهدده ثم عفا عنه وولاه البصرة والكوفة (٤).

وقد طارد زياد الشيعة وعاملهم بقسوة حتى قيل : « إن أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي وقتل حجر بن عدي ودعوة زيادة » (٥).

واستمر شيعة علي على إخلاصهم ووفائهم حتى أن معاوية كان يعجب من وفائهم فكان يقول : « والله لوفاؤكم له بعد موته أكثر من إخلاصكم له في حياته » (٦).

وأثارهم معاوية بمختلف الوسائل ولكنهم جابهوه بشدة ووقفوا بوجهه.

جـ ـ وقام الشيعة بأول حركة ضد معاوية وهي حركة حجر بن عدي الكندي وأصحابه وكانوا من الناقمين على زياد والي الكوفة ، فأخذ زياد حجراً وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه ، وكانت التهمة الموجهة إليهم « أنهم

__________________

(١) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ٢٠٥.

(٢) ابن أبي الحديد : شرح النهج ج ٣ ص ١٥.

(٣) اخبار العباس : مؤلف مجهول الورقة ١٤ آ ويذكر ذلك نقلاً عن سليم بن قيس.

(٤) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٥) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ٥ ص ٢٧٩.

(٦) ابن عبد ربه : العقد الفريد ج ٢ ص ١٠٨.

٧٣

خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب وزوروا على الولاة فخرجوا بذلك على الطاعة » (١).

وكتب زياد إلى معاوية « إن طواغيت من هذه الترابية السبأية رأسهم حجر بن عدي خالفوا أمير المؤمنين وفارقوا جماعة المسلمين ... » (٢).

وهنا نلاحظ أن زياداً يسمي الشيعة الترابية والسبأية ، فالترابية مأخوذة من كنية علي أبو تراب التي كناه بها النبي وكانت من أحب الكنى له (٣) ولكن الأمويين اعتبروها منقصة لعلي فأكثروا من ذكرها.

أما السباية فهم من أصحاب عبد الله بن سبأ ، والسبأية غير الشيعة وحجر وأصحابه من مخلصي الشيعة فلا يمكن عدهم من السبأية.

وقد احتار معاوية في أمر حجر وأصحابه « فأشار عليه زياد أن يقتلهم فقتلهم بمرج عذراء » (٤).

ولكن يبدو ان معاوية ندم بعد قتلهم سيما بعد أن لامته عائشة وكان يقول : « ما أعد نفسي حليماً بعد قتلي حجراً وأصحاب حجر » (٥).

وبعد مقتل حجر وأصحابه سكتت الشيعة خوفاً من الأضطهاد والقتل بعد أن صار شعار الأمويين « لا صلاة إلا بلعن أبي تراب » (٦).

ويمكن أن يفسر سكوتهم بأنهم كانوا يتقون الأمويين ولم تكن لهم طاقة بمواجهتهم ، إلا أن الوضع لم يستمر على هذه الحال.

د ـ ولما توفي معاوية خلفه ابنه يزيد فأمر الوليد بن عتبة واليه على المدينة أن يأخذ له البيعة من أهل المدينة ومن الحسين بن علي وعبد الله ابن الزبير وكان أبوه لم يكرههم على البيعة ، فامتنع الحسين عن البيعة

__________________

(١) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ٢٠٥ ، الطبري : ج ٥ ص ٢٥٣ ـ ٢٧٠.

(٢) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ٥ ص ٢٧٢.

(٣) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٢ الورقة ٦٥ ب.

(٤) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ٢٠٥.

(٥) اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦.

(٦) ن. م ج ٢ ص ٢١٥.

٧٤

وترك المدينة خارجاً إلى مكة (١).

« وجاءته الرسل من العراق من شيعته تدعوه إلى القدوم فقد اجتمع جماعة من الشيعة في منزل سليمان بن صرد واتفقوا على أن يكتبوا إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم ليسلموا الأمر إليه » (٢).

وكان الحسين بن علي منكراً لصلح الحسن معاوية فلما وقع الصلح دخل جندب بن عبد الله الأزدي والمسيب بن نجبة الغزاري وسليمان بن صرد الخزاعي وسعيد بن عبد الله الحنفي في قصر الكوفة وسلموا عليه فلما رأى سوء حالهم ، تكلم وذكر كراهيته للصلح وقال : « ولكنه أخي عزم علي وناشدني فأطعته كأنما يحزّ أنفي بالمواسي ويشرح قلبي بالمدى ... » (٣).

فيبدو أن الشيعة قد استعدت للقيام بعمل إيجابي أي الثورة بوجه السلطان الأموي.

ولما وردت رسل أهل العراق إلى الحسين تستعجله القدوم « بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين ، أما بعد فحي هلا فإن الناس ينتظرونك لا إمام لهم غيرك فالعجل العجل والسلام » (٤).

ونلاحظ أن كلمة شيعة هنا لا تستعمل بمفردها وإنما يقال شيعة الحسين التي تدين بموالاة الحسين وإمامته بعد الحسن.

وخرج الحسين إلى مكة ومعه مواليه وبنو أخيه وجميع أهل بيته إلا محمد بن الحنفية وقد نصح الحسين » أن لا يذهب إلا بعد أن يستوثق بيعة الناس له لئلا يختلف عليه الناس فيقتل ويذهب دمه هدراً » (٥).

__________________

(١) اليعقوبي ج ٢ ص ٢١٥.

(٢) الدينوري : الأخبار الطوال ص ٢٢٩.

(٣) أبو مخنف : مقتل الحسين ص ١٤.

(٤) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ١٩٢.

(٥) أبو مخنف : مقتل الحسين ص ١٤.

٧٥

فيظهر من كلام محمد بن الحنيفة أنهم لا زالوا في شك من نصرة أهل العراق لهم بالرغم من كثرة عددهم.

وخرج الحسين قاصداً الكوفة وأرسل قبله مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة ليتأكد من بيعة الناس له فوصل مسلم بن عقيل الكوفة واجتمع إليه خلق كبير من الشيعة وجعلت الشيعة تختلف إليه وهو في دار عروة بن هانيء المذحجي ويبايعون الحسين سراً ومسلم بن عقيل يكتب أسماءهم ويأخذ عليهم العهود أنهم لا ينكثون حتى بايعه ما ينيف على عشرين ألفاً (١).

وبينما الحسين في طريقه لقي الفرزدق بن غالب الشاعر فسأله عن أمر الناس فقال له الفرزدق : « الخبير سألت ان قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية » (٢).

ونفهم من هذا النص أن الشك كان يحوم حول مدى نصرة أهل الكوفة من شيعة وغيرهم للعلويين.

ثم توالت الأحداث ، فقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وخافت الشيعة ولم تخرج لنصرتهم ولم يعلم الحسين ما حدث إلا بعد وصوله ولم يبق معه غير أهل بيته وعددهم ٦٢ أو ٧٢ رجلاً ، وعمر بن سعد في ٤ آلاف (٣).

وقد خير الحسين أهل بيته بين البقاء معه أو الخروج لأن القوم لا يريدون غيره فأبوا وقاتلوا معه حتى قتل وقتلوا (٤).

وهكذا نرى أن حركة التشيع كانت لا تزال متعثرة في طريقها « لأن التشيع في نظر أهل العراق كان مرتبطاً بذكرى حكم علي الذي يمثل زعامة العراق بين الأمصار » (٥).

__________________

(١) أبو مخنف : مقتل الحسين ص ٢٨ ـ ٢٩ ، وانظر الخوارزمي : مقتل الحسين ج ١ ص ٢٠٠.

(٢) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٣ الورقة ٢٠ آ.

(٣) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ٢١٦.

(٤) أبو مخنف : مقتل الحسين ص ٦١ ـ ٦٢.

(٥) الدوري : مقدمة في صدر الإسلام ص ٦١.

٧٦

وكان لاستشهاد الحسين أثر كبير في نفوس شيعته وقد أغنت هذه الحادثة الأدب العربي بالروائع وألفت الكتب الكثيرة في وصف مقتل الحسين (١).

وهكذا كان « تبلور الحركة السياسية تحت اسم الشيعة كان بعد مقتل الحسين مباشرة » (٢).

فنلاحظ في أيام الحسين أن كلمة شيعة أصبحت تطلق مفردة فيقال الشيعة ولا يقال شيعة علي أو شيعة الحسين وهذا يعني أن مفهوم الشيعة كجماعة بدأ بالوضوح والتحديد.

ويرى الشيخ المفيد « أن كلمة شيعة إذا دخلت عليها أل التعريف فهي على التخصيص لأتباع أمير المؤمنين (٣).

وسوف يتوضح معنى كلمة شيعة أكثر بحركة التوابين.

هـ ـ ولما قتل الحسين بن علي (سنة٦١ هـ ) تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم ففزعوا إلى خمسة نفر من رؤوس الشيعة وهم سليمان بن صرد الخزاعي وكانت له صحبة والمسيب بن نجبة الفزاري وكان من خيار أصحاب علي وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي ، وعبد الله بن وال التيمي ، ورفاعة بن شداد البجلي ، ثم الفتياني ، فاجتمع هؤلاء في منزل سليمان بن صرد ومعهم ناس من وجوه الشيعة ، فتلاوموا على خذلانهم الحسين واتفقوا على قتل قتلته كما اتفقوا على تولية هذا الأمر « شيخ الشيعة » وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد الخزاعي ، وخطب فيهم : « كونوا كتوابي بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم ، إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم

__________________

(١) كتاب اللهوف في قتلى الطفوف : ابن طاووس ( ت٦٦٤ هـ ) ، كتاب مثير الأحزان : ابن نما الحلي ( ت٦٥٤ هـ ) وكتاب مقتل الحسين للخوارزمي ( ت٥٦٨ هـ ) وكتاب عين العبرة في غبن العترة : جمال آل طاووس.

(٢) الشيبي : الصلة بين التشيع والتصوف ج ١ ص ١٧.

(٣) الشيخ المفيد : أوائل المقالات ص ٣.

٧٧

ذلك خير لكم عند بارئكم » (١).

وبدأ سليمان بن صرد يبث الرسل إلى الشيعة في المدائن والبصرة (٢).

ويبدو من هذا أن هناك شيعة لعلي في المدائن والبصرة ، وكان ابتداء أمر التوابين سنة ٦١ هـ لكنهم اتفقوا على الخروج سنة ٦٥ هـ وأن يجتمعوا بالنخيلة (٣).

فيظهر أن الشيعة كانوا يستعدون ويتحينون الفرصة المناسبة للطلب بدم الحسين ولكنهم لم يتمكنوا من الظهور زمن يزيد. فلما مات يزيد اجتمعت الشيعة إلى سليمان بن صرد وقالوا : قد مات هذا الطاغية فإن شئت أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قاتلية فمنعهم من ذلك وطلب منهم أن يصبروا وقال لهم إن قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه ومتى علموا ما تريدون وعلموا أنهم المطلوبون كانوا أشد عليكم ، ثم أوصاهم أن يدعوا إلى أمرهم هذا شيعتهم وغير شيعتهم لأنه قال ، فإني أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه (٤).

فلما كانت سنة ٦٥ هـ خرج سليمان إلى النخيلة ونادوا أصحابه يا لثارات الحسين وكان معه ستة عشر ألفاً ، فلما عرض أصحابه وجدهم أربعة آلاف (٥).

وهكذا كانت الشيعة لا تزال حتى في هذه الفترة غير مستقرة إذ ما تبدأ بعمل وتتفق عليه حتى تتفرق متأثرة بتأثيرات مختلفة. وكان نصيب حركة التوابين الفشل (٦).

__________________

(١) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٢٠٤ ـ ٢٠٦ والرواية عن أبي مخنف وذكر ذلك أيضاً الطبري ج ٥ ص ٥٥٢ مع اختلاف بسيط في الألفاظ.

(٢) ن. م ج ٥ ص ٢٠٦.

(٣) ن. م ج ٥ ص ٢٠٦.

(٤) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ٥ ص ٥٥٨.

(٥) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ، الطبري ج ٥ ص ٥٦٠.

(٦) ن. م ج ٥ ص ٢١٠.

٧٨

ويتضح لنا مما مر من الروايات التاريخية أن الشيعة أصبحت بعد خروج التوابين حزباً سياسياً واضح المفهوم فكان يقال الشيعة وشيخ الشيعة فيعرف مدلولهما (١).

ولما كانت حركة التوابين دعوة للثأر من قتلى الحسين كان المفروض أن تلاقي تأييداً من كل الشيعة لا سيما بعد أن كثر عدد الشيعة كما رأينا وأن يكتب للحركة النجاح ، لكن الحركة الشيعية قد تعرضت لتأثيرات مختلفة منها تأثير السلطة الأموية ، وأناس عدوا من الشيعة ولكنهم كما يبدو قد جعلوا مصلحتهم الشخصية فوق ما اعتقدوه ، فكل هذه الأمور أدت إلى فشل هذه الحركة بالرغم من كثرة مؤيديها.

و ـ وقد تزعم المختار بن أبي عبيد الثقفي الشيعة المطالبين بثأر الحسين بعد فشل حركة التوابين.

وقد ولد المختار في السنة التي هاجر فيها رسول الله من مكة إلى المدينة وكان مع أبيه حين وجهه عمر بن الخطاب إلى العراق وأقام مع عمه في المدائن وكان والياً عليها من قبل علي بن أبي طالب ، وكان المختار عند الشيعة عثمانياً ، فلما قدم مسلم بن عقيل الكوفة نزل دار المختار وكان فيمن بايع مسلماً سراً (٢).

واختلف الآراء في حركة المختار والمختار نفسه فمنهم من قال أنه دعا للثأر من قتلة الحسين وأن هذا غرضه من الثورة ، ويقال أن المختار لما أراد الذهاب إلى الكوفة أتى ابن الحنفية وأخبره أنه خارج للطلب بدمائهم والانتصار لهم فسكت ابن الحنفية ولم يأمره ولم ينهه ، وقيل أنه قال له اني لأحب أن ينصرنا الله ويهلك من سفك دماءنا ولست آمن بحرب ولا إراقة دم (٣).

أما الدينوري فيرى أن المختار إنما قام بهذه الحركة طلباً لمصلحة

__________________

(١) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ٥ ص ٥٥٨.

(٢) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٢١٤.

(٣) ن. م جـ ٥ ص ٢١٨ ، الطبري ج ٥ ص ٥٨٠.

٧٩

شخصية ، فيروى ، قد قيل للمختار يا أبا إسحاق لقد ظن الناس أن قيامك بهذا الأمر دينونة فقال المختار لا لعمري ما كان إلا لطلب دنيا فإني رأيت عبد الملك بن مروان قد غلب على الشام وعبد الله بن الزبير على الحجاز ومصعباً على البصرة ونجده الحروري على العروض وعبد الله بن خازم على خراسان ولست بواحد منهم ولكن ما كنت أقدر على ما أردت إلا بالدعاء إلى الطلب بثار الحسين (١).

ومن هذا يتبين أن الدعوات التي قامت لنصرة آل البيت لم تكن خالصة في حد ذاتها.

ومهما يكن من أمر فقد قام المختار بحركته فيذكر الدينوري أن المختار جعل يختلف إلى شيعة بني هاشم وهم يختلفون إليه فيدعوهم إلى الخروج معه والطلب بدم الحسين فاستجاب له بشر كثير وأكثر من استجاب له همدان وقوم كثير من أبناء العجم كانوا بالكوفة ، وكان يجتمع بأصحابه سراً (٢).

فالدينوري يورد هنا كلمة شيعة بني هاشم ، وهذا التعبير يدخل ضمنه كل آل الرسول وليس علياً وأولاده فقط ، ثم أن المختار حينما ظهر كان ظهوره للأخذ بثار الحسين وأنه من الشيعة والشيعة أتباع علي وأولاده.

وقد استطاع المختار أن يستغل الظروف المحيطة به فقد ذكر البلاذري أن المختار ثبط الناس عن سليمان بن صرد لأن المختار عندما قدم الكوفة ودعا إلى الطلب بثار الحسين لم يجبه أحد وقال له الناس هذا سليمان شيخ الشيعة وقد أطاعته الشيعة وانقادت له فيقول لهم أن سليمان رجل لا علم له بالحروب وسياسة الرجال وقد جئتكم من قبل المهدي ، يعني ابن الحنفية ، فلم يزل حتى انشعبت له طائفة (٣).

وعندما اجتمعت الشيعة إلى المختار كان يقول أن محمد بن الحنيفة

__________________

(١) الدينوري : الأخبار الطوال ص ٣٠٧.

(٢) ن. م ص ٢٨٨.

(٣) البلاذري : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨ الطبري ج ٥ ص ٥٦٠.

٨٠