نشأة الشيعة الامامية

نبيلة عبد المنعم داود

نشأة الشيعة الامامية

المؤلف:

نبيلة عبد المنعم داود


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

وقد اختلف حال العلويين أيام تولي المأمون الخلافة فقد اتبع سياسة التسامح مع العلويين ولعل ذلك راجع إلى ما كان يتمتع به المأمون من ثقافة واسعة وتفكير حرّ فقد كان مجلسه يحفل برجال الأدب والفقه والتاريخ فتعقد المناظرات في مختلف المسائل وكان يخصص لها أياماً من الأسبوع (١).

كما أن المأمون كان يميل إلى الاعتزال لأن الاعتزال كان أقرب المذاهب إلى نفسه لاعتماده على العقل وقد قرب المعتزلة وتحسن حالهم إيامه ، ومن أشهر رجالهم ثمامة بن أشرس (٢).

ويبدو أيضاً من سيرة المأمون ان كان يميل إلى العلويين ، فيقول المسعودي أنه كان يظهر التشيع (٣).

وفي سنة ٢١٢ هـ نادى منادي للمأمون « ألابرئت الذمة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » وأرسل الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم الناس ذلك وأنكروه واظطربت العامة ، فأشير عليه بترك ذلك (٤).

وقد حاول المأمون أن يشرح موقفه هذا فجمع الفقهاء وأهل العلم والحديث ودار بينهم حديث فقال المأمون « فطائفة عابوا علينا ما نقول في تفضيل علي بن أبي طالب وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا لانتقاص غيره من السلف ،والله ما استحل أن انتقص الحجاج فكيف السلف الطيب » (٥).

وقد اعتبر عمل المأمون هذا بدعة فيقول ابن كثير « وفي سنة ٢١٢ هـ أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أعظم من الأخرى وهي القول بخلق القرآن والثانية تفضيل علي على الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) المسعودي : مروج الذهب ج ٤ ص ١٩.

(٢) ن. م ج ٤ ص ٨ ، ٦٦.

(٣) ن. م ج ٤ ص ٥.

(٤) ن. م ج ٤ ص ٤٠ ـ ٤١.

(٥) طيفور : بغداد ص ٤٥.

٢٠١

وقد أخطأ في كل منهما خطأ كبيراً فاحشاً واثم إثماً عظيماً » (١).

كما أن المأمون رد فدك إلى آل فاطمة (٢). ويعلل جبريالي ميل المأمون إلى العلويين لاتصاله بالبرامكة وأن ميله كان ميلاً عاطفياً دينياً (٣).

وبالرغم من تسامح المأمون مع العلويين فلم يخل عهده من ثورات قام بها العلويون وقد استغلوا فترة الصراع بين الأمين والمأمون وخاصة بعد مقتل الأمين.

وأخطر هذه الثورات ثورة أبي السرايا ومعه ابن طباطبا محمد بن إبراهيم بن إسماعيل سنة ١٩٩ هـ (٤).

فقد استغل أبو السرايا ( السرى بن منصور ) اظطراب الناس في أيام الفتنة بين الأمين والمأمون لذلك فقد دعا ابن طباطبا « إلى الرضا من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة » (٥).

ويظهر مما ذكره الطبري والأصفهاني أن أبا السرايا هو الذي قاد الثورة واتخذ شخصية محمد بن إبراهيم بن إسماعيل لكي يجلب تأييد الناس للحركة لكون القائد علوياً ، وكان أبو السرايا يلقب بداعية آل محمد (٦).

ويقول جبريالي عن أبي السرايا : أنه كان « فارساً عربياً من الطراز القديم » (٧).

وقد توفي ابن طباطبا أثناء الثورة (٨) ، ويتهم الطبري أبا السرايا بسمه

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٦٧.

(٢) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١٩٥.

(٣) جبريالي : المأمون والعلويون ( بالإيطالية ) عن العصر العباسيا الأول | الدوري ص ٢٠٤.

(٤) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١٠ ص ٢٢٧.

(٥) مسكوية : تجارب الأمم ج ٦ ص ٤١٩ ( ضمن كتاب العيون والحدائق ) ، وانظر :

Muir: The Caliphate. P. ٤٩٩.

(٦) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١٠ ص ٢٣٢ ، الأصفهاني ص ٥١٨ ـ ٥٣٦.

(٧) جبريالي : المأمون والعلويون عن العصر العباسي الأول ص ٢٠٦.

(٨) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١٧٣.

٢٠٢

فيقول : علم أبو السرايا أنه لا أمر له معه ( ابن طباطبا ) فسمه » (١).

ويذكر اليعقوبي أن أبا السرايا وضع بدله محمد بن محمد بن زيد (٢) ، وقد انتهت هذه الحركة بعد أن دامت من سنة ١٩٩ هـ ـ ٢٠١ هـ بقتل أبي السرايا.

وقد قوت هذه الحركة من مركز الطالبيين حتى انتشروا في البلاد (٣). كما استطاع العلويون أن يحتلوا واسط والبصرة والحجاز واليمن سنة ٢٠٠ هـ (٤).

وقد خرج أيا المأمون أيضاً محمد بن زيد أيام أبي السرايا فقد وضعه أبو السرايا مكان ابن طباطبا بعد وفاته سنة ١٩٩ هـ (٥).

ويذكر اليعقوبي أن محمداً هذا قد خرج مع عدد من الطالبيين فهجموا على دور بني العباس فأحرقوها ونهبوها (٦) ، وقد مات محمد بن محمد سنة ٢٠١ هـ (٧).

وخرج أيضاً محمد بن جعفر بمكة سنة ٢٠٠ هـ ودعا لنفسه كما قالت السمطية (٨) إحدى فرق الشيعة بإمامته ، ويقال أن محمد بن جعفر قد دعا أول الأمر إلى ابن طباطبا صاحب أبي السرايا فلما مات ، دعا لنفسه وتلقب بأمير المؤمنين « وليس في آل محمد ممن ظهر لإقامة الحق ممن سلف وحلف مثله وبعده من تسمى بأمير المؤمنين غير محمد بن جعفر هذا » وقد عفا عنه المأمون (٩).

__________________

(١) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١٠ ص ٢٢٨.

(٢) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١٧٣.

(٣) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١٠ ص ٢٢٨.

(٤) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١٧٣ ، الأصفهاني ص ٥١٨.

(٥) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١٠ ص ٢٢٨.

(٦) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١٧٤.

(٧) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١٠ ص ٢٤٤.

(٨) السمطية : الذين قالوا بإمامة محمد بن جعفر الصادق وولده من بعده وإنما سميت السمطية نسبة إلى رئيس لهم يقال له يحيى بن أبي السمط ، النوبختي : فرق الشيعة ص ٦٥.

(٩) المسعودي : مروج الذهب ج ٤ ص ٢٦ ـ ٢٧.

٢٠٣

وقد بايعه أهل الحجاز وهو « أول من بايعوا له من ولد علي بن أبي طالب » (١). وقد ظهر أيضاً إبراهيم بن موسى بن جعفر باليمن سنة ١٩٩ هـ في أيام أبي السرايا (٢). كما ظهر الحسين بن الحسن بن علي المعروف بابن الأفطس في أيام أبي السرايا أيضاً ودعا في بدء أمره إلى ابن طباطبا (٣).

وفشلت كل الحركات التي قام بها العلويون وقد كان المأمون متساهلاً معهم فقد عفا عن كثير ممن خرج منهم فعفا عن محمد بن جعفر الذي خرج بمكة كما عفا عن إبراهيم بن موسى بن جعفر (٤).

وقد عفا المأمون ايضاً عن محمد بن محمد بعد مقتل أبي السرايا وقربه وأدناه (٥).

وكانت سياسة المأمون من التساهل لدرجة دفعت الطالبيين أنفسهم للاعتذار منه عما بدر منهم من خروج عليه فقال المأمون لمتكلمهم : « كف واستمع مني أولنا وأولكم ما تعلمون وآخرنا وآخركم إلى ما ترون وتناسوا ما بين هذين » (٦).

وخرج من العلويين أيام المعتصم محمد بن القاسم بن علي بن عمر سنة ٢١٩ هـ بالطالقان (٧) ، « وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد وحسن المذهب » (٨) وكان محمد بن القاسم على رأي الزيدية « فكان يذهب إلى القول بالعدل والتوحيد ويرى رأي الزيدية الجارودية (٩) أي أنه يرى « ان الخلافة شورى في ولد الحسن والحسين ، فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل

__________________

(١) الخطيب : تاريخ بغداد ج ٢ ص ١١٣.

(٢) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١٧٦.

(٣) المسعودي : مروج الذهب ج ٤ ص ٢٧.

(٤) اليعقوبي : مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٩.

(٥) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١٧٥.

(٦) طيفور : بغداد ص ١٣.

(٧) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١٩٨ ( وهو من أبناء علي بن الحسين زين العابدين ).

(٨) الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص ٥٧٨.

(٩) ن. م ص ٥٧٨.

٢٠٤

ربه وكان عالماً فاضلاّ فهو الإمام » (١).

وكان محمد بن القاسم في أول أمره بالكوفة وقد خاف من المعتصم فهرب إلى خراسان وتنقل في مواضع كثيرة من كورها كسرخس والطالقان ونساومرو ودعا إلى الرضا من آل محمد وانقاد إلى إمامته خلق كثير من الناس (٢) ، ثم تمكن عبد الله بن طاهر أن يقبض عليه وأرسله إلى سامراء حيث سجن (٣).

وقد اختلف في موته فيذكر الأصفهاني أنه توارى أيام المعتصم والواثق ثم أخذ في أيام المتوكل فحبس حتى مات ، أو دس إليه سماً فمات (٤).

وأهمية حركة محمد بن القاسم فيما ظهر بعده من تطورات فقد ظهرت فرقة زيدية جديدة تعتقد بإمامته « ومنهم خلق كثير يزعمون أن محمد لم يمت وأنه حي يرزق وأنه يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وأكثر هؤلاء بناحية الكوفة وجبال طبرستان والديلم وكثير من كور خراسان » (٥).

وقد مرت على الطالبيين فترة هدوء أيام الواثق بن المعتصم فيقول الأصفهاني : « لا نعلم أحداً قتل في إيامه » ويذكر أن آل أبي طالب اجتمعوا بسر من رأى في أيامه تدر عليهم الأرزاق حتى جاء المتوكل فتفرقوا (٦).

وقد أحسن الواثق إلى العلويين ولم يسىء معاملتهم « وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم والتعهد لهم بالأموال » (٧).

__________________

(١) الأشعري : مقالات الإسلاميين ص ٦٧.

(٢) المسعودي : مروج الذهب ج ٤ ص ٥٢.

(٣) ن. م ج ٤ ص ٥٢.

(٤) الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص ٥٨٨.

(٥) المسعودي : مروج الذهب ج ٤ ص ٥٢ ـ ٥٣.

(٦) الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص ٥٩٣.

(٧) ابن الأثير : الكامل ج ٥ ص ٢٧٧ ، أبو الفدا : المختصر ج ٣ ص ٤٧ وانظر أيضاً عن حسن معاملة الواثق للعلويين ابن الساعي : مختصر اخبار الخلفاء ص ٦٠ ، السيوطي : تاريخ الخلفاء ص ٣٤٢.

٢٠٥

ولما ولي المتوكل الخلافة لقي الطالبيون شدة منه لأنه « كان شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً على جماعتهم ... شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم ... فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله » (١).

وقد بالغ المتوكل في التشديد على العلويين حتى أنه « منع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ومنع الناس من البر بهم ، وكان لا يبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشيء وإن قل إلا وأنهكه عقوبة وأثقله عزماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ثم يرقعنه ويجلس على مغازلهن عواري حواسر » (٢).

ومن آثار شدة المتوكل على العلويين أنه في سنة ٢٣٧ هـ أمر بهدم قبر الحسين وما حوله من المنازل والدور وأمر أن يحرث الموضع ويسقى ويبذر ومنع الناس من إتيانه وأمر بحبس كل من وجد عند الموضع (٣).

وكان لهدم قبر الحسين أثره السيىء في نفوس المسلمين إذ تألموا من ذلك وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على المساجد والحيطان كما هجاه الشعراء (٤).

وقد كان لموقف حاشية المتوكل تأثيره أيضاً في سياسته مع العلويين فقد أحاط بالمتوكل جماعة اشتهروا بالعداء لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته ومنهم وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان « فحسن له القبيح في معاملتهم » (٥).

__________________

(١) الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص ٥٩٧.

(٢) ن. م ص ٥٩٩ ، وانظر :

Muir: Caliphate. P. ٣٢٨.

(٣) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١١ ص ٤٤ ، ابن الأثير : الكامل ج ٥ ص ٣٠٠ ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ٣١٥.

(٤) السيوطي تاريخ الخلفاء ص ٣٤٧ ويذكر ما قيل من أشعار منها :

تـالله إن كـانـت أمية قد أتت

قـتـل ابـن بنت نبيها مظلوما

فـلـقـد أتاه بـنـو أبيه بمثله

هـذا لـعمري قـبـره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

فــي قتلـه فتتبعـوه رميمـا

(٥) الأصفهاني : مقتل الطالبيين ص ٥٩٧.

٢٠٦

وكان ممن ينادمه ويجالسه جماعة اشتهروا بالنصب لعلي بن أبي طالب منهم عبادة المخنث وعلي بن الجهم وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصه فكان هؤلاء يشيرون عليه بإبعاد العلويين والإساءه إليهم (١).

كما أن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق في محبه علي وأهل بيته (٢).

ولعل تخلي المتوكل عن الاعتزال مما ساعد على هذه السياسة مع الشيعة فقد أمر المتوكل بترك النظر والمباحثة في الجدال « وأمر شيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة » (٣).

وقد اشتد المتوكل في معاملة الشيعة حتى أنه قتل يعقوب بن السكيت أحد رجال الشيعة وسبب قتله أن المتوكل سأله ايهما أحب إليه ابنيه المعتز والمؤيد أو الحسن والحسين فتنقص ابن السكيت ابنيه وذكر الحسن والحسين بما هما أهل له فأمر الأتراك أن يدوسوا على بطنه وحملوه إلى داره ومات فيها (٤).

__________________

(١) ابن الأثير : الكامل ج ٧ ص ٢٠ ويذكر ابن الأثير قصة ندماء المتوكل فيورد عن عبادة المخنث أنه كان يشد على بطنه وتحت ثيابه مخدة ويكشف عن رأسه ويرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين يقصدون علياً وقد كان المنتصر على خلاف رأي والده المتوكل فكان لا يقر هذه التصرفات فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتل المتوكل. انظر ابن الأثير ج ٥ ص ٢٨٧ ، أما أبو السمط فيذكر عنه الطبري أنه دخل يوماً على المتوكل فأنشده قصيدة ذم فيها الرافضة فعقد له على البحرين واليمامة وخلع عليه أربع خلع وأمر له بثلاثة الاف دينار نثرت على رأسه وأمر ابنه المنتصر أن يلتقطها له والقصيدة :

مـلـك الخليفـة جعفـر

لـلـديـن والدنيا سـلامه

يرجو الثرات بنو البنـات

ومـا لـهـم فيـها قلامـه

والصهر لـيـس بوارث

والـبـنت لا تراث الإمامه

أخـذ الـوراثة أهـلـها

فـعـلام لـو مـكم علامه

انظر الطبري ج ١١ ص ٦٧.

(٢) ابن الأثير : الكامل ج ٥ ص ٢٠.

(٣) المسعودي : مروج الذهب ج ٤ ص ٨٦.

(٤) ابن الأثير : الكامل ج ٥ ص ٣٠٠ ، ويذكر السيوطي أنه أمر بسل لسانه فمات وأرسل إلى ابنه يرثيه. انظر السيوطي : تاريخ الخلفاء ص ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

٢٠٧

ونتيجة لهذه السياسة التي سار عليها المتوكل لم يخل عصره من خروج وثورات قام بها الطالبيون قوبلت بالشدة فحبس منهم من حبس وقتل من قتل وكان أكثر الخارجين من أبناء الحسن وأبناء الحسين الذين يرون رأي الزيدية في اشهار السيف بوجه السلطان الظالم (١).

وقد اختلف الحال أيام المنتصر فقد كان ميالاً إلى أهل البيت ، يخالف أباه في فعاله فلم يصب أحداً منهم بمكروه (٢).

وكان أول عمل عمله المنتصر بعد توليه عزل صالح بن علي عن المدينة وولى علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد وأوصاه أن يحسن معاملة آل أبي طالب حيث قال له : « يا علي إني أوجهك إلى لحمي ودمي ، ومد جلد ساعده وقال : إلى هذا وجهتك ، فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ فقلت : أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين .. فقال : إذا تسعد بذلك عندي » (٣).

وقد تحسن حال الشيعة أيام المنتصر فقد أزال عنهم ما كانوا فيه من خوف وظلم كما أجاز لهم زيارة قبر الحسين ورد على آل الحسين فدك وفي ذلك يقول المهلبي :

ولقـد بـررت الطالبية بعدما

ذموا زمانـاً بعدهـا وزمانا

ورددت ألفـة هـاشم فرأبتهم

بعد العداوة بينهم إخوانا (٤)

وهكذا سار أبناء الحسن في خط هو الثورة على السلطة واعتبروا العباسيين ظالميين فشهروا السيف بوجههم ولم تقتصر الثورة على أبناء الحسن فقط وإنما شاركهم فيها أبناء عمهم الحسين ممن كان يرى رأي الزيدية مثل محمد بن القاسم بن عمر صاحب الطالقان وقد مر ذكره.

__________________

(١) الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص ٦٠٠ وما بعدها.

(٢) ن. م ص ٦٣٦ وانظر :

Muir: The Caliphate. P. ٥٣٤.

(٣) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ١١ ص ٨١.

(٤) ابن الساعي : مختصر أخبار الخلفاء ص ٦٧ ـ ٦٨.

٢٠٨

ولكن هذه الثورات لم يكتب لها النجاح ما عدا حركة إدريس في المغرب حيث نجح إدريس في إقامة دولة الأدارسة. فقد فشلت كل الحركات بالرغم من كثرة أنصارها ومؤيديها نظراً للظروف التي أحاطت بها ولمقدرة العباسيين السياسية في القضاء على خصومهم ، كما أن هذه الحركات لم تكن خالية من المغامرين والطامحين كما مر من ثورة أبي السرايا ثم أن العلويين لم تجمعهم غاية واحدة ولم يظهروا في بلد واحد.

ومع هذا فقد كان العلويون خطراً هدد الدولة العباسية في عصرها الأول وسببوا لها الكثير من المتاعب بثوراتهم المستمرة ، وتذكيرهم من حين لآخر بوجود من يرى أنهم ليسوا بأصحاب الحق الشرعي في الخلافة.

ب ـ موقف الإمامية من الثورات الزيدية :

وقد أيقن الإمامية أن لا فائدة من هذه الثورات فاعتزلوها وحذروا أصحابها كما فعل الصادق مع عبد الله بن الحسن وابنه محمد فيذكر سبط ابن الجوزي « لما خرج محمد بن الحسن بالمدينة هرب جعفر بن محمد (الصادق ) إلى ما له بالفرع فأقام معتزلاً للقوم حتى قتل محمد وعاد إلى المدينة » (١).

إلا أن اعتزال الصادق عن محمد لم يكن سوء تفاهم أو عدم انسجام بينه وبين أبناء عمه فيذكر الطبري أن المنصور لما حبس أبناء الحسن وحملهم من المدينة الى العراق وكان الصادق في المدينة كان ينظر اليهم ويتألم ويدعو على آل العباس ويقول : « والله لا يحفظ الله حرمة بعد هؤلاء » (٢).

ويذكر الكليني عن المعلى بن خنيس قال « كنت عند أبي عبد الله إذ أقبل محمد بن عبد الله فسلم ثم ذهب فرق له أبو عبد الله ودمعت عيناه فقلت له : لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع بأحد فقال : رققت له

__________________

(١) سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواص ص ٣٥٧.

(٢) الطبري : تاريخ الرسل والملوك ج ٩ ص ١٩٤.

٢٠٩

لأنه ينسب إلى أمر ليس له لم أجده في كتاب علي من خلفاء هذه الأمور ولا من ملوكها » (١).

ويورد ابن طاووس رسالة للصادق في تعزية أبناء عمه الحسن حينما حبسهم المنصور وتدل هذه الرسالة على الصلة الحسنة بين الصادق وأبناء عمه وعلى منزلتهم عنده :

بسم الله الرحمن الرحيم إلى الخلف الصالح والذرية الطيبة من ولد أخيه وابن عمه.

أما بعد فلأن كنت تفردت أنت وأهل بيتك ممن حمل معك بما أصابكم ما انفردت بالحزن والكآبة وأليم وجع القلب دوني ، فلقد نالني من ذلك الجزع ، والقلق وحر المصيبة مثل ما نالك ، ولكن رجعت إلى ما أمر الله جل جلاله به المتقين من الصبر حين يقول لنبيه : ( فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) ... إلى أن يقول : فعليكم يا عم وابن عم وبني عمومتي بالصبر والرضا والتسليم والتفويض إلى الله عزوجل والرضا والصبر على قضائه والتمسك بطاعته والنزول عند أمره. أفرغ الله علينا وعليكم الصبر وختم لنا ولكم بالأجر والسعادة وأنقذكم وإيانا من كل هلكة بحوله وقوته وإنه سميع قريب » (٢).

ويقول ابن طاووس : « وهذه شهادة صريحة من طرق صحيحة بمدح المأخوذين من بني الحسن وإنهم مضوا إلى الله بشرف المقام والظفر بالسعادة » (٣).

وقد استمر الأئمة على موقفهم هذا من أبناء الحسن كما بذلوا النصح لكل من خرج منهم كما فعل موسى بن جعفر مع الحسين بن علي ابن الحسن صاحب فخ فقد قال له بعد أن امتنع من الخروج معه : « إنك مقتول فأجد الضراب فإن القوم فساق يظهرون إيماناً ، ويضمرون نفاقاً

__________________

(١) الكليني : الكافي ج ٨ ص ٣٩٥.

(٢) ابن طاووس : الأقبال ص ٥٠ ـ ٥١.

(٣) ن. م ص ٥٠ ـ ٥١.

٢١٠

وشركاً فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وعند الله عز وجل احتسبكم من عصبة » (١).

وكذلك نصح الرضا محمد بن جعفر حيث قال له : « يا عم لا تكذب أباك ولا أخاك فإن هذا الأمر لم يتم » (٢).

ويذكر الصدوق أن الرضا لم يؤيد أخاه زيد بن موسى حينما خرج « عنفه وخلى سبيله وحلف أن لا يكلمه أبداً ما عاش » (٣).

٢ ـ الشيعة الإمامية :

أما الشيعة الإمامية ، فقد سلكت سبيلاً آخر غير الذي سلكته الشيعة الزيدية فبعد مقتل الحسين وانتقال الإمامة إلى ابنه على ( زين العابدين ) لم تقم الشيعة بحركة ضد السلطة ما عدا حركة المختار والتوابين وكانت هاتان الحركتان إنما قام بها عدد من الشيعة الذين أيدوا آل البيت ولكنهم لم يدعوا إلى إمام معين ولم يقدهم إمام أو يأمرهم بالثورة إمام كما رأينا.

وقد ولد علي بن الحسين سنة ٣٨ هـ في حياة علي بن أبي طالب وقتل جده وله سنتان ، وقتل أبو الحسين في كربلاء وله ثلاث وعشرون سنة وشهد يعينه مصرع إخوانه وأعمامه (٤).

ثم عاصر الأمويين وشاهد شهدتم على العلويين والشيعة فانقاهم إلى درجة أنه بايع ليزيد بن معاوية على أنه عبد قن بعد أن رأى كثرة القتل في المسلمين بعد وقعة الحرة فاظطر إلى هذه البيعة ليقتدي به الناس ويتخلصوا من القتل (٥).

ثم ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي في أيامه يطلب بثأر الحسين وتبعه جماعة من الشيعة فلعنه علي بن الحسين على باب الكعبة وأظهر

__________________

(١) الأصفهاني : مقاتل الطالبيين ص ٤٤٧.

(٢) الصدوق : عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٠٧.

(٣) ن. م ج ٢ ص ٢٣٣.

(٤) ابن سعد : الطبقات ج ٥ ص ١٥٧.

(٥) اليعقوبي : التاريخ ج ٢ ص ٢٢٣.

٢١١

كذبه (١).

كما ظهرت في أيامه دعوة لعمه محمد بن الحنفية قام بها المختار بن أبي عبيد الثقفي وادعى بأنه الإمام ولقبه بالمهدي والوصي وفي ذلك بقول السيد الحميري :

ألا قـل للوصي فدتـك نفسـي

أطلـت بـذلك الجبـل المقـاما

أضــر بمعشـر والـوك منـا

وسمـوك الخليفـة والإمـا مـا

وعـادوا فيك أهل الأرض طرا

مغيبـك عنهـم سبعيـن عـاما

ومـا ذاق ابن خـولة طعم موت

ولا وارت لـه أرض عظـامـا

لقد أمسى بمردف شعب رضوى

تراجعـه الملائكـة الكلامـا (٢)

ولقد عاصر علي بن الحسين أيضاً حركة عبد الله بن الزبير وكان شديد التحامل والبغض لبني هاشم حتى أنه ترك الصلاة على محمد في خطبه ولما سئل عن سبب ذلك قال « إن له أهل سوء يشرئبون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به » (٣).

وهكذا عاصر علي بن الحسين هذه الأحداث فاتقاها وكان يقول : « التارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره إلا أن يتقي تقاة قيل : وما تقاته قال : يخاف جباراً عنيداً يخاف أن يفرط عليه أو يطغى » (٤) فأثرت فيه وجعلته يعتزل ويتخذ الزهد سبيلاً له ونظرة إلى الصحيفة السجادية تلقي ضوءاً كافياً على سيرة الإمام زين العابدين ، كما أنها بما جاء فيها من وعظ ودعاء يمكن أن نعتبرها سلاحاً شهر بوجه الأمويين قد يكون أبلغ أثراً من الثورة (٥).

__________________

(١) ابن سعد : الطبقات ج ٥ ص ١٥٨.

(٢) المسعودي : مروج الذهب ج ٣ ص ٨٨.

(٣) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ٨.

(٤) ابن سعد : الطبقات ج ٥ ص ١٥٨.

(٥) انظر الصحيفة السجادية لعلي بن الحسين. وانظر أيضاً « رسالة الحقوق » للأمام زين العابدين نقلها الحراني في كتابه نحف العقول ص ١٨٣ وانظر أيضاً صحيفة في الزهد للسجاد رواها المفيد في الأمالي ص ١١٧ ، وانظر الشيبي الصلة بين التشيع والتصوف ج ١ ص ١٥٣ ـ ١٦٩.

٢١٢

وقد سار الإمام محمد بن علي الباقر على طريقة أبيه زين العابدين فاتخذ الزهد منهجاً له ، وكان يسمى أبو جعفر الباقر لأنه بقر العلم ، فقد ذكر جابر الأنصاري ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : إنك ستبقى حتى ترى رجلاً من ولدي أشبه الناس بي اسمه على اسمي إذا رأيته لم يخل عليك فاقرأه مني السلام فعاش جابر حتى أدركه (١).

ويقول ابن خلكان : « وكان الباقر عالماً سيداً كبيراً وإنما قيل له الباقر لأنه تبقر العلم وفيه قال الشاعر :

يـا باقـر العلـم لأهـل التقى

وخير من لبى على الأجبل (٢)


ويذكر ابن شهراشوب لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين من العلوم ما ظهر منه من التفسير والكلام والفتيا والحلال والحرام والأحكام (٣).

كما يذكر محمد بن مسلم ، أنه سأله عن ثلاثين ألف حديث كما روى عنه معالم الدين من الصحابة والتابعين ورؤساء الفقهاء منهم جابر الأنصاري ، وجابر بن يزيد الجعفي ، وكيسان السختاني صاحب الصوفية ، ومن الفقهاء ابن المبارك والزهري والأوزاعي ، وأبو حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر النهدي (٤).

كما تروي المصادر الإمامية أخباره وأخبار من روى عنه العلوم وهكذا كان تأثير الباقر على الناحية الفكرية أكثر منه على الناحية السياسية (٥).

وقد حفل عصر الباقر بحركات غلو مختلفة فحاول جهده أن يوقف تيار هذا الغلو وتبرأ منه ونصح شيعته بأن قال لهم : « يا شيعة آل محمد

__________________

(١) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ٦١.

(٢) ابن خلكان : وفيات العيان ج ٣ ص ٣١٤.

(٣) ابن شهراشوب : مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ١٩٥.

(٤) ن. م ج ٤ ص ١٩٥.

(٥) انظر البرقي : الرجال ص ٩ ـ ١٦ الطوسي : الرجال ص ١٠٢ ـ ١٤١ الحراني : تحف العقول ص ٢٠٦.

٢١٣

كونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي ويلحق إليكم التالي » (١).

كما عاصر الباقر أبو هاشم بن محمد بن الحنفية وشاهد ما أحاطه من حركات غلو وظهور دعوة له تخرج الإمامة من أولاد الحسين (٢).

وهكذا شغل الباقر بالعلم وترك الخروج على السلطان (٣).

ثم ورث الإمامة بعده ابنه جعفر بن محمد الصادق. وقد ظهر الصادق في فترة من أصعب وأدق الفترات التاريخية ( ٨٣ هـ ١٤٨ هـ ) (٤) ، فقد عاصر الصادق أواخر الدولة الأموية وأوئل الدولة العباسية ، وثار في أيامه عمه زيد بن علي بن الحسين سنة ١٢٢ هـ وقد أدت هذه الثورة غلى خروج جماعة من الشيعة كانت تقول بإمامة جعفر بن محمد الصادق فقالت بإمامة زيد وظهر خط جديد من الشيعة هم الزيدية (٥).

وشاهد بداية الدعوة العباسية وظهور جماعة تدعو لآل العباس وتخرج الخلافة من أولاد علي إلى أولاد العباس (٦).

ثم كان هناك أبناء عمه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذين مالوا إلى راي الزيدية ورأوا الخروج على السلطان (٧).

ولكن الصادق اعتزل كل هذه الأحداث وشغل بالعبادة عن طلب الرئاسة (٨).

ويذكر الأصبهاني الصادق ويقول : « ومنهم الإمام الناطق ذو الزمام السابق أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، أقبل على العبادة والخضوع وآثر العزلة والخشوع ونهى عن الرئاسة والجموع » (٩).

__________________

(١) الكليني : الكافي ج ١ ص ٣٦ ( الأصول ).

(٢) انظر الفصل الثالث باب الدعوة العباسية.

(٣) انظر الشيبي : الصلة بين التشيع والتصوف ج ١ ص ١٦٩ ـ ١٧٧.

(٤) ابن طولون : الأئمة الاثني عشر ص ٨٥.

(٥) انظر بداية هذا الفصل.

(٦) انظر الفصل الثالث باب الدعوة العباسية.

(٧) انظر القسم الأول من هذا الفصل.

(٨) سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواص ص ١٩٢.

(٩) الأصبهاني : حلية الأولياء ج ٣ ص ١٩٢.

٢١٤

وقد بينا موقف الصادق من ثورة زيد بن علي وموقفه من الدعوة العباسية التي دعت إلى الرضا من آل محمد ورفضه دعوة أبي سلمة وكذلك موقفه من أبناء عمه الحسن وتحذيرهم من الخروج.

ابتعد الصادق عن هذه الأحداث وكان موقفه دقيقاً تجاهها ، لذلك كان المفروض أن مثل هذا الموقف يجعله بمنأى من الخلفاء العباسيين ، غلا أنه كما يبدو أن العباسيين كانوا يخشون الصادق وشيعته بالرغم من أنه لم تكن هناك دعوة للصادق يعرف بها.

ولا تزودنا المصادر التاريخية بأخبار الصادق مع أبي جعفر المنصور إلا قليلاً إلا أن أخباره ترد في المصادر الإمامية وبعض المصادر غير الإمامية.

فيذكر المسعودي أن المنصور استقدم الصادق من المدينة إلى العراق بعد أن بلغته الوشايات فيه إلا أن الصادق استطاع ان ينفي كل ما وصل من الأخبار إلى المنصور حتى أن المنصور صدقه وأمر له بستة آلاف درهم وأرجعه إلى المدينة (١).

ويبدو مما يرويه الكليني أن المنصور كان يحاول الإيقاع بالصادق ليجد عليه حجة يدينه بها فقد ذكر : قال أبو عبد الله : سرت مع أبي جعفر المنصور في موكبه وهو على فرس وبين يديه خيل ومن خلفه خيل وأنا على حمار إلى جانبه فقال لي : يا أبا عبد الله قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة وفتح لنا من العز ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الأمر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم ، قال : فقلت : ومن رفع هذا إليك عني فقد كذب فقال لي : أتحلف على ما تقول؟ قال : فقلت : إن الناس سحرة يعني يحبون أن يفسدوا قلبك علي فلا تمكنهم من سمعك فأنا إليك احوج منك إلينا ، فقال لي : تذكر يوماً سألتك هل لنا ملك؟ فقلت : نعم طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم وفسحة من ديناكم حتى تصيبوا منا دماً حراماً في شهر حرام ، في بلد حرام فعرفت أنه قد حفظ

__________________

(١) المسعودي ( منسوب ) : إثبات الوصية ص ١٥٣.

٢١٥

الحديث فقلت : لعل الله أن يكفيك فإني لم أخصك بهذا وإنما هو حديث رويته ثم لعل غيرك من أهل بيتك أن يتوالى ذلك فسكت عني (١).

وقد أوصى الصادق أصحابه أيضاً بالتقية فيذكر الكليني رسالة الصادق إلى جماعة الشيعة وقوله لهم : « وعليكم بمجاملة أهل الباطل ، وتحملوا الضيم منهم وإياكم ومماظتهم ، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام ، فإنه لا بد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم فإذا ابتليتم بذلك منهم فإنهم سيؤذونكم » (٢).

ويرد هنا الحديث عن التقية التي اتخذتها الشيعة سبيلاً في علاقاتها مع الحاكمين ولو أن سكوت الأئمة الذين سبقوا الصادق وعدم خروجهم على السلطة يمكن أن نعده تقية منهم ، إلا أن أكثر الأقوال في التقية ترد عن الصادق كقوله : « التقية من ديني ودين آبائي » و « لا دين لمن لا تقية له » (٣).

وكان الصادق يتقي كل ما من شأنه ان يثير السلطة الحاكمة آنئذ فقد ذكر الأربلي أن سفيان الثوري استأذن في الدخول على الصادق فلما دخل قال له : « يا سفيان إنك رجل يطلبك السلطان وأنا أتقي السلطان قم فاخرج غير مطرود » (٤).

وقد حاول الصادق بمختلف الوسائل أن يزيل أوهام العباسيين وشكوكهم نحوه فقد أكد أن هذا الأمر لهم مرات عديدة ، فذكر ابن شهراشوب أن المنصور لما أكبر أمر ابني عبد الله بن الحسن استطلع حالهما من جعفر الصادق فقال : ما يؤول إليه حالهما ، اتلو عليك آية فيها منتهى علمي وتلا ( لئن اخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ) ، فخر المنصور ساجداً وقال :

____________

(١) الكليني : الكافي «ـ ٨ ص ٣٦ ـ ٣٧ (الروضة ).

(٢) ن. م ج ٨ ص ٣ (الروضة ).

(٣) ن. م ج ١ ص ٢٠٥ (الأصول ).

(٤) الأربلي : كشف الغمة ج ٢ ص ٢٦٩.

٢١٦

حسبك يا أبا عبد الله » (١).

وكما تعرض العباسيون للصادق كذلك تعرضوا لاتباعه وشيعته ومنهم المعلى بن خنيس فقد قتل في أيام المنصور قتله داود بن علي وكان من أخلص أتباع الصادق ومن الفقهاء في أيامه فيروي الكشي انه حينما اراد داود قتله طلب منه أن يخرجه إلى الناس لأن له ديناً كثيراً ومالاً فلما أخرجه إلى الناس قال « يا أيها الناس أنا معلى بن خنيس فمن عرفني فقد عرفني اشهدوا أن ما تركت من مال أو عين أو دين أو أمة أو عبد أو دار أو قليل أو كثير فهو لجعفر بن محمد ، فشد عليه صاحب شرطة داود فقتلته (٢).

وقد أحفظ هذا العمل الصادق إلى درجة أنه لم يسكت وإنما ذهب إلى داود بن علي هو وابنه إسماعيل فقال : « يا داود قتلت مولاي وأخذت مالي فقال : ما أنا قتلته ولا أخذت مالك : فقال : والله لأدعون الله على من قتل مولاي وأخذ مالي قال ما قتلته ولكن قتله صاحب شرطتي فقال : بإذنك أو بغير إذنك؟ فقال : بغير إذني. فقال : يا إسماعيل شأنك به قال فخرج إسماعيل والسيف معه حتى قتله في مجلسه » (٣).

وهكذا عاش الصادق وشيعته هدفاً للعباسيين بالرغم من أنه لم يكن من رأيه طلب خلافته وإنما كان سائراً على طريق إحياء العلوم (٤) ، فقد ذكر المفيد « ونقل الناس عنه ( الصادق ) من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلدان ولم ينقل عن أهل بيته العلماء ما نقل عنه ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أصحاب الرواة عنه من الثقات على

__________________

(١) ابن شهراشوب : مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٢٢٨.

(٢) الكشي : الرجال ص ٣٢٣.

(٣) ن. م ص ٣٢٤.

(٤)

M. G. S. Hodgson, Dja\'Far Al-Sadik, Encyclopeadia of Islam, New edition, Vol. ١١. Taylor: Ja\'far Al-Sadik, Spirthal Forebear of the Sufis, Islamic Culture, Vol. XL. No. ٢, April, ١٩٦٦.

٢١٧

اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل » (١).

ويعدد الطوسي ٣٠٤٠ رجلاً من أصحاب الصادق الذين رووا عنه (٢).

ويروي الأصبهاني أن من حدث عن جعفر الصادق من الأئمة الأعلام : مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وابن جريج وعبد الله بن عمرو وروح بن القاسم وسفيان بن عيينة وسليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر كما روى عنه الشافعي وأحمد بن حنبل وعمرو بن دينار .. (٣) كما ان ابن شهرآشوب ذكر أن أبا حنيفة كان من تلامذة الصادق (٤).

ويذكر ابن خلكان أن الصادق من سادات أهل البيت ولقب بالصادق لصدقه في مقالته وفضله أشهر من أن يذكر وله كلام في صنعة الكيمياء والزجر والفأل. وقد تتلمذ عليه أبو موسى جابر بن حيان الكوفي ، وقد ألف كتاباً يشمل على ألف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة (٥).

وهكذا عاش الصادق في فترة حفلت بالتطورات الفكرية المختلفة وامتازت بظهور المذاهب الفقهية فقام بدوره بوضع أسس الفقه عند الشيعة الإمامية حتى نسب إليه الفقه الجعفري (٦).

كما كانت أراؤه الفقهية قد كونت مدرسة خاصة عرفت بمدرسة الإمام الصادق سار فيها على الأسس التي وضعها والده الباقر فطورها ثم قام تلاميذه بنشر هذه المبادىء حتى أصبحت مذهباً خاصاً بالشيعة

__________________

(١) المفيد : الإرشاد ص ٢٧٠.

(٢) الطوسي : الرجال ص ١٤٢ ـ ٣٤٢.

(٣) الأصبهاني : حلية الأولياء ج ٣ ص ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٤) ابن شهراشوب ج ٤ ص ٤٢٨.

(٥) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ٢٩١.

(٦) انظر أسد حيدر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، النجف ١٩٦٣ ، هاشم معروف الحسني : المبادىء العامة للفقه الجعفري ، بغداد.

٢١٨

الإمامية (١). كما كان لأرائه الكلامية أيضاً أثرها فقد قام تلاميذه بنشرها حتى كونت مدارس كلامية خاصة ومن اشهر هؤلاء هشام بن الحكم (٢).

إلا أن الفقه الجعفري لم يكتب له الانتشار كما انتشرت المذاهب الفقهية الأخرى وذلك لأن السلطة الحاكمة آنئذ قد حدت من انتشاره وفضلت عليه المذاهب الفقهية الأخرى حتى لا تفسح السبيل لظهوره.

كما حفل عصر الصادق بظهور حركات غلو مختلفة بين شعيته واختلافهم في الإمامة فوضح السبيل لشيعته وأبانه كما حارب الغلو وتبرأ منه وسيأتي بيان ذلك في فصل الإمامة. وكان هذا السبيل الذي سلكه الصادق قد سار عليه بقية الأئمة بعده وهكذا نجد أن الأثر الذي تركه جعفر الصادق على النواحي الفكرية أهم وأعظم من أثره على النواحي السياسية فقد كان الصادق كما يقول الشهرستاني : «وهو ذو علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة وزهد في الدنيا وورع تام عن الشهوات وقد أقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه ، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم ، ثم دخل العراق وأقام بها مدة ما تعرض للأمامة قط ولا نازع أحداً في الخلافة ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ... » (٣).

وعاش الصادق هكذا حتى توفي في سنة ١٤٨ هـ بالمدينة وقد اختلف في وفاته فاليعقوبي يذكر أنه توفي زمن المنصور وأن المنصور حزن عليه. وكان يقول : « فإن سيدهم وعالمهم وبقية الأخبار منهم توفي ... » كما وصف جعفراً بأنه ممن قال الله فيه : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) » فكان جعفر بن محمد ممن اصطفى الله وكان من السابقين

__________________

(١) انظر رسالة للصادق « جهات معائش العباد ووجوه إخراج الأموال » ورسالة في « الغنائم ووجوب الخمس » وغيرها من الرسائل نقلها الحراني : تحف العقول ص ٢٤٥ ـ ٢٥٣ وانظر أيضاً كتاب الكافي للكليني ومن لا يحضره الفقيه للصدوق والاستبصار للطوسي حيث أن أكثر الآراء الفقهية فيها ترد عن الصادق.

(٢) الكشي : الرجال ص ٢٢٠.

(٣) الشهرستاني : الملل والنحل ج ١ ص ٢٧٢.

٢١٩

بالخيرات » (١).

المسعودي يذكر أن الصادق مات مسموماً في زمن المنصور (٢). والظاهر أن قضية سم الصادق لا تعدو من شبهة لأنها لو كانت صحيحة لما أهملتها المصادر الإمامية التي أجمعت على أن الصادق توفي سنة ١٤٨ هـ في حياة المنصور (٣) ما عدا ابن رستم الطبري حيث يذكر أن المنصور سم الصادق فقتله (٤).

ولما توفي الإمام جعفر بن محمد الصادق انتقلت الإمامة إلى ابنه موسى بن جعفر ، وقد عاصر موسى بن جعفر المهدي والهادي والرشيد.

ونظراً لسياسة المهدي المتسامحة مع العلويين لم يتعرض لموسى بن جعفر إلا أنه استقدمه من المدينة إلى العراق ولما طلب منه الاذن بالرجوع إلى المدينة أذن له بعد أن قضى حوائجه (٥).

وبالرغم من شدة الهادي مع العلويين إلا أن المصادر التاريخية لا تذكر شيئاً عن علاقة موسى بن جعفر بالهادي.

أما المصادر الإمامية غتذكر أن موسى بن جعفر قد حبس في أيام الهادي فتذكر ابن عنبه أن موسى بن جعفر حبس في زمن الهادي إلا أنه أطلقه بعد أن رأى علي بن أبي طالب في نومه يقول له : يا موسى ( هل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) فعرف أنه المراد بذلك فأمر بإطلاقه ثم يقول : « ثم تنكر له بعد ذلك فهلك قبل أن يوصل إلى الكاظم أذى » (٦).

__________________

(١) اليعقوبي : التاريخ ج ٣ ص ١١٧.

(٢) المسعودي : مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٧.

(٣) انظر المفيد : الارشاد ص ٢٧١ ابن شهراشوب : مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٢٨٠ ، الطبرسي : أعلام الورى بأعلام الهدى ص ٢٦٦ ، الأربلي : كشف الغمة في معرفة الأئمة ج ٢ ص ٣٧٣.

(٤) ابن رستم الطبري : دلائل الإمامة ص ١١١.

(٥) المسعودي (منسوب ) : إثبات الوصية ص ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٦) ابن عنبه : عمدة الطالب ص ١٦٩.

٢٢٠