موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

كان واجباً وكان الآخر مستحبّاً (*) (١) ، ثمّ إنّ الإشعار عبارة عن شق السَّنام الأيمن بأن يقوم الرجل من الجانب الأيسر من الهدي ويشق سنامه من الجانب الأيمن

______________________________________________________

«خرجت في عمرة فاشتريت بدنة وأنا بالمدينة ، فأرسلت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فسألته كيف أصنع بها؟ فأرسل إليّ ما كنت تصنع بهذا ، فإنّه كان يجزئك أن تشتري من عرفة ، قال : انطلق» إلى آخر ما ذكره الكليني (١) ، فالرواية واردة في العمرة ، والإحرام لها تتحقق بالتلبية فقط لا بالاشعار ، وكلامنا في حج القران الذي يتحقق الإحرام له بالاشعار ، فالرواية أجنبيّة عن المقام ، وأمّا الاشعار الوارد في الرواية فمحمول على الاستحباب لوضوح عدم ثبوت الإشعار في العمرة على إطلاقها فالقول بوجوب التلبية على القارن وجوباً نفسياً كما في المتن وغيره لا دليل عليه.

(١) ربّما يقال بأنه كيف يجتمع استحباب الجمع بين التلبية والإشعار أو التقليد وأنه إذا بدأ بأحدهما كان الآخر مستحباً وبين ما سبق أن ذكره المصنف (قدس سره) من أنه يجب الإتيان بالتلبية وجوباً نفسياً ، لأنّ مقتضى الاستحباب الذي ذكره هنا أنه لو قدم الاشعار كان الإتيان بالتلبية مستحباً ، مع أنه ذكر (قدس سره) أنه يجب الإتيان بالتلبية ولو تحقق منه الاشعار.

والجواب : أنّ استحباب الجمع بين التلبية والإشعار أو التقليد بلحاظ عقد الإحرام ولو من جهة الخروج من خلاف السيّد وابن إدريس ، يعني أن استحباب الجمع بين التلبية والإشعار أو التقليد لأجل حصول القطع بعقد الإحرام حتى على رأي السيّد وابن إدريس ، ولا ينافي ذلك فتواه بوجوب التلبية في نفسها تعبّداً ، فلو قدم الإشعار أو التقليد فلا بأس بالتلبية في نفسها بعده خروجاً من خلاف السيّد ، وأمّا لو عكس ولبّى أوّلاً فالحكم باستحباب الاشعار بعد عقد الإحرام ممّا لا دليل عليه.

__________________

(*) استحباب الآخر مع الابتداء بالتلبية لم يثبت.

(١) الكافي ٤ : ٢٩٦ / ١.

٤٢١

ويلطخ صفحته بدمه (*) (١) ،

______________________________________________________

وعن المدارك أنه قال : وأمّا استحباب الإشعار أو التقليد بعد التلبية فلم نقف له على نص بالخصوص (١).

(١) كيفية الأشعار على ما يظهر من النصوص وذهب إليه عامّة الفقهاء أنه يشق سنامه من الجانب الأيمن ، وظاهر كلمات الأصحاب بل ظاهر الروايات بعد حمل المطلقات على المقيّد وجوب الاشعار بهذه الكيفية ، فما نسب إليهم صاحب الحدائق (٢) من الاستحباب لا تساعد عليه الروايات ولا كلمات الأصحاب ، فالإشعار إنما يتحقق بشق السنام وطعنه من الجانب الأيمن لا بسائر أعضائه.

نعم ، إذا كانت معه بدن كثيرة دخل الرجل بين اثنين منهما فيشعر هذه من الشق الأيمن ويشعر هذه من الشق الأيسر كما في صحيح حريز (٣) ، وأمّا كيفية وقوف الرجل عند الاشعار فذكر في المتن بأن يقف الرجل من الجانب الأيسر من الهدي ويشق سنامه من الجانب الأيمن ، وهذه الخصوصية لم يرد فيها نص ولا تصريح من الفقهاء.

وربّما يقال بأنها مذكورة في صحيحة معاوية بن عمّار ، قال : «البدن تشعر في الجانب الأيمن ، ويقوم الرجل في الجانب الأيسر ، ثمّ يقلدها بنعل خلق قد صلّى فيها» (٤).

وفيه : أنه لم يعلم أن قوله : «ويقوم الرجل في الجانب الأيسر» قيد للإشعار ويحتمل رجوعه إلى التقليد فيكون مستحبّاً ، لأنّ أصل التقليد في مورد الاشعار

__________________

(*) على المشهور.

(١) المدارك ٧ : ٢٦٧.

(٢) الحدائق ١٥ : ٥١.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٧٩ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ١٩.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٧٦ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ٤.

٤٢٢

والتقليد أن يعلق في رقبة الهدي نعلاً (*) خَلَقاً قد صلّى فيه (١).

[٣٢٤٥] مسألة ١٦ : لا تجب مقارنة التلبية (**) لنيّة الإحرام وإن كان أحوط ، فيجوز أن يؤخرها عن النيّة ولبس الثوبين على الأقوى (٢).

______________________________________________________

مستحب فضلاً عن الخصوصيات والكيفيات ، ولا أقل من الإجمال. مضافاً إلى أنه لو كان واجباً لذكره الفقهاء ، ولا يمكن خفاؤه عليهم مع كثرة الابتلاء وشدّة الحاجة بذلك.

(١) كما في صحيحة معاوية بن عمّار «يقلّدها بنعل قد صلّى فيها» (١) ، وفي صحيحة أُخرى له «يقلدها نعلاً خلقاً قد صلّيت فيها» (٢) ولكن الفقهاء لم يلتزموا بهذين القيدين ، أي كونه خلقاً قد صلّى فيها ، وذكروا أن التعليق لأجل التعيين وعلامة لكون ما يسوقه هدياً ، ولذا ذكروا أن التعليق يحصل بكل شي‌ء نعلاً كان أم غيره ، ففي معتبرة محمّد الحلبي «عن تجليل الهدي وتقليدها ، فقال : لا تبالي أي ذلك فعلت» (٣) وفي صحيحة حريز عن زرارة «قال : كان النّاس يقلّدون الغنم والبقر وإنما تركه النّاس حديثاً ، ويقلدون بخيط وسير» (٤).

ويؤكد ذلك : أنه لو كان التقليد على النحو الخاص واجباً لظهر وشاع وصار أمراً واضحاً عند الأصحاب ، فكيف يمكن خفاء هذا الحكم عليهم مع كثرة الابتلاء به.

(٢) ذكر جماعة اعتبار مقارنة التلبية للنيّة كابن إدريس (٥) والشهيد في اللّمعة (٦) بينما ذهب آخرون إلى جواز تأخير التلبية عن النيّة كما نسب إلى المشهور.

__________________

(*) أو يجلله بشي‌ء كالسير.

(**) بناء على ما هو الصحيح من أن الإحرام إنما يتحقق بالتلبية أو الإشعار أو التقليد فلا حاجة إلى نيّة أُخرى غير نيّتها ، ولا بدّ من مقارنتها معها كما في سائر العبادات.

(١) الوسائل ١١ : ٢٧٨ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ١٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٧٨ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ١١.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٧٨ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ٥.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٧٨ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ٩.

(٥) السرائر ١ : ٥٣٢.

(٦) الرّوضة البهيّة ٢ : ٢٣٢.

٤٢٣

[٣٢٤٦] مسألة ١٧ : لا تحرم عليه محرمات الإحرام قبل التلبية وإن دخل فيه بالنيّة ولبس الثوبين ، فلو فعل شيئاً من المحرمات لا يكون آثماً وليس عليه كفّارة ، وكذا في القارن إذا لم يأت بها ولا بالإشعار أو التقليد ، بل يجوز له أن يبطل الإحرام ما لم يأت بها في غير القارن أو لم يأت بها ولا بأحد الأمرين فيه والحاصل أن الشروع في الإحرام وإن كان يتحقّق بالنيّة ولبس الثوبين إلّا أنّه لا تحرم عليه المحرمات ولا يلزم البقاء عليه إلّا بها أو بأحد الأمرين ، فالتلبية وأخواها بمنزلة تكبيرة الإحرام في الصّلاة (١).

______________________________________________________

والظاهر : أنّ اختلاف الأصحاب يبتني على الاختلاف في حقيقة الإحرام ، فقد ذهب جمع إلى أنه عبارة عن الالتزام وتوطين النفس على ترك المحرمات والمنهيات المعهودة ، وقال جمع آخر من الفقهاء أن الإحرام يحصل بالتلبية ، وهو الصحيح عندنا وعليه فلا ينبغي الشك في لزوم المقارنة. حيث ذكرنا أن الإحرام أمر بسيط وهو الدخول في حرمة الله وانّما يتحقق بالتلبية وبها يدخل في الإحرام ، وإذن فلا حاجة إلى نيّة أُخرى غير نيّتها ، ولا بدّ من مقارنة التلبية مع نيّة الإحرام لاعتبار اقتران العمل من أوّله إلى آخره بالنيّة كما في سائر العبادات ، ولا أثر للنيّة السابقة إذا كان حال العمل غافلاً عنها بالمرّة ، ولذا ذكرنا بطلان الغسل لمن خرج من بيته مريداً للغسل وكان حين الغسل غافلاً عنه بالمرّة.

وإن قلنا بأن الإحرام هو الالتزام والعقد القلبي وإن لم يكن له أثر ما لم يلب ، فلهذا البحث مجال ويصح أن يقال بأنه هل يعتبر أن يكون العزم مقارناً للتلبية أم لا ، فإذا عزم والتزم ثمّ أتى بالتلبية بنيّة الحج يكفي أم يعتبر أن يكون العزم مقارناً.

(١) قد عرفت مما تقدّم أنه لا كلام في جواز إتيان محرمات الإحرام قبل التلبية وأنه ما لم يلب يجوز له ارتكاب المنهيات حتى الجماع ، استناداً إلى جملة من النصوص (١) المعتبرة.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٣٣ / أبواب الإحرام ب ١٤.

٤٢٤

[٣٢٤٧] مسألة ١٨ : إذا نسي التلبية وجب عليه العود إلى الميقات لتداركها وإن لم يتمكّن أتى بها في مكان التذكّر (*) ، والظاهر عدم وجوب الكفّارة عليه إذا كان آتياً بما يوجبها ، لما عرفت من عدم انعقاد الإحرام إلّا بها (١).

______________________________________________________

إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم هل يختص بمورد التلبية ، أو يعم الإشعار أو التقليد وأنّ القارن الذي يدخل في الإحرام بسبب الإشعار أو التقليد كذلك أم لا؟

ربّما يستدل لذلك بالإجماع على أنّ القارن إذا لم يأت بالإشعار أو التقليد يجوز له ارتكاب محرمات الإحرام ، والظاهر عدم الحاجة إليه فإنّ في الأخبار غنى وكفاية حيث إن الحكم المذكور ينحل إلى حكم إيجابي وحكم سلبي ، أمّا الحكم الإيجابي فهو جواز ارتكاب المحرمات قبل التلبية. وأمّا السلبي فهو عدم جواز ارتكاب المحرّمات بعد التلبية ، وكلا الحكمين يستفاد من النصوص التي صرّحت بأنّ الإشعار والتقليد بمنزلة التلبية ، كمعتبرة معاوية بن عمّار «والإشعار والتقليد بمنزلة التلبية» (١) فإنّ دليل التنزيل يقتضي إجراء حكم التلبية على الإشعار أو التقليد ، فلو لم يشعر أو لم يقلد جاز له ارتكاب كل شي‌ء.

(١) النصوص الواردة في المقام (٢) موردها نسيان الإحرام لا نسيان التلبية ، فإن قلنا بأنّ الإحرام هو التلبية وبها يتحقق الإحرام فالأمر واضح. وأمّا إذا قلنا بأن الإحرام يتحقّق بالعزم وعقد القلب ففي هذا الفرض إن التزمنا أن التلبية متممة للإحرام وما صدر منه كان إحراماً ناقصاً ويتم بالتلبية ، فالأمر واضح أيضاً لشمول الروايات الواردة في نسيان الإحرام لنسيان التلبية.

وأمّا لو قيل بأنّ التلبية غير دخيلة في الإحرام وإنّما هي واجب مستقل نظير لبس الثوبين ، فحينئذٍ لا موجب للعود إلى الميقات لتداركها ، لأنّها واجب مستقل ترك عن

__________________

(*) على تفصيل تقدّم [في المسألة ٣٢٢١ التعليقة ٤].

(١) الوسائل ١١ : ٢٧٧ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ١١.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٣٨ / أبواب المواقيت ب ٢٠.

٤٢٥

[٣٢٤٨] مسألة ١٩ : الواجب من التلبية مرّة واحدة ، نعم يستحب الإكثار بها وتكرارها ما استطاع خصوصاً في دبر كل صلاة فريضة أو نافلة وعند صعود شرف أو هبوط واد وعند المنام وعند اليقظة وعند الركوب وعند النزول وعند ملاقاة راكب وفي الأسحار (١) ،

______________________________________________________

عذر فيتداركه في مكانه متى تذكر ، والروايات الآمرة بالعود إلى الميقات إنما وردت في ناسي الإحرام.

(١) أمّا الاكتفاء بمرّة واحدة فممّا لا ريب فيه ، ويدلُّ عليه إطلاق الأدلّة كقوله في صحيح معاوية بن عمّار : «واعلم أنه لا بدّ من التلبيات الأربع التي كنّ في أوّل الكلام وهي الفريضة وهي التوحيد» (١) ، والمذكور في صدر الحديث وفي أوّل الكلام إنما هو الإتيان بالتلبيات الأربع مرّة واحدة.

وأمّا استحباب الإكثار وتكرارها ما استطاع في الموارد المذكورة في المتن فتدل عليه النصوص ، منها : صحيحة معاوية بن عمّار المتقدِّمة (٢).

وأمّا الإتيان بها عند المنام بخصوصه فلا دليل عليه ، وإنما يدل عليه عموم قوله في الصحيحة : «وأكثر ما استطعت» ، فإن وقت النوم آخر زمان يمكن فيه الإتيان بالتلبية.

وأمّا الإجهار بها فهو المعروف عند الأصحاب ، وربّما نسب وجوبه إلى الشيخ في التهذيب ، ولكن الذي صرّح بالوجوب هو المفيد في المقنعة (٣) لا الشيخ في التهذيب نعم لم يعلّق الشيخ في التهذيب على ما ذكره المفيد في المقنعة بل استدلّ له بصحيحة عمر بن يزيد (٤). ولعلّ المراد بالوجوب هو الاستحباب الأكيد ، فإن الشيخ ادعى في

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٨٢ / أبواب الإحرام ب ٤٠ ح ٢ ، وتقدّم في ص ٤١٧.

(٢) في ص ٤١٧.

(٣) المقنعة : ٤٠٧.

(٤) التهذيب ٥ : ٩٢ / ٣٠١ ، الوسائل ١٢ : ٣٨٣ / أبواب الإحرام ب ٤٠ ح ٣.

٤٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الخلاف أنه لم ير قائلاً بالوجوب (١). وكيف كان ، فقد اختار صاحب الحدائق الوجوب أو مال إليه للأمر به في النصوص وهو حقيقة في الوجوب ، وذكر أن حمل الأخبار المطلقة على مقيّدها يقتضي وجوب الإجهار (٢).

ويرد عليه : أن المستفاد من الأخبار إنما هو الاستحباب لا الوجوب ، فإن عمدة ما استدل به صاحب الحدائق روايات ثلاث :

الأُولى : صحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة (٣) ، قال (عليه السلام) بعد ما ذكر التلبيات الواجبة والمستحبة : «وأكثر ما استطعت واجهر بها» ، فإن الأمر بالإجهار لا يختص بالتلبيات الأربع الواجبة بل يرجع إلى التلبيات الكثيرة المذكورة في الدعاء ولا ريب أن هذه التلبيات الكثيرة مستحبة في نفسها ، فكيف يمكن أن يكون الجهر بها واجبا.

الثانية : ما روى عن حريز بطرق عديدة بعضها ضعيف للرفع كرواية الكليني وبعضها صحيح كطريق الصدوق والشيخ ، فإنهما رويا عن حريز بن عبد الله وما في الوسائل عن حريز عن عبد الله غلط ومحمّد بن سهل عن أبيه عن أشياخه عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، وجماعة من أصحابنا ممن روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما قالا : «لما أحرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال له : مر أصحابك بالعج والثج ، فالعج رفع الصوت والثج نحر البدن ، قال وقال جابر بن عبد الله : فما مشى الروحا حتى بحت أصواتنا» (٤).

والجواب : أنّ الأمر بالعج ورفع الصوت إنما هو بعد تحقق الإحرام وأداء التلبية الواجبة التي يتحقّق بها الإحرام ، لا في التلبية الأُولى التي توجب الإحرام ، ولا ريب

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٢٩٢.

(٢) الحدائق ١٥ : ٦١.

(٣) في ص ٤١٧ رقم ١.

(٤) الكافي ٤ : ٣٣٦ / ٥ ، الفقيه ٢ : ٢١٠ / ٩٦٠ ، التهذيب ٥ : ٩٢ / ٣٠٢ ، الوسائل ١٢ : ٣٧٨ / أبواب الإحرام ب ٣٧ ح ١.

٤٢٧

وفي بعض الأخبار «من لبى في إحرامه سبعين مرّة إيماناً واحتساباً أشهد الله له ألف ألف ملك براءة من النّار وبراءة من النفاق». ويستحب الجهر بها خصوصاً في المواضع المذكورة للرجال دون النّساء ، ففي المرسل «إنّ التلبية شعار المحرم فارفع صوتك بالتلبية» ، وفي المرفوعة (*) «لما أحرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أتاه جبرائيل فقال : مر أصحابك بالعج والثج ، فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج نحر البدن».

[٣٢٤٩] مسألة ٢٠ : ذكر جماعة أنّ الأفضل لمن حج على طريق المدينة تأخير التلبية إلى البيداء مطلقاً كما قاله بعضهم ، أو في خصوص الراكب كما قيل ولمن حج على طريق آخر تأخيرها إلى أن يمشي قليلاً ، ولمن حج من مكّة تأخيرها إلى الرقطاء كما قيل ، أو إلى أن يشرف على الأبطح (**) ، لكن الظاهر بعد عدم

______________________________________________________

أنّ التلبيات الأخيرة غير واجبة فضلاً عن الإجهار بها ، فلا بدّ من حمل الأمر برفع الصوت فيها على الاستحباب.

الثالثة : صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «إن كنت ماشياً فاجهر بإهلالك وتلبيتك من المسجد ، وإن كنت راكباً فإذا علت بك راحلتك البيداء» (١) وهي أيضاً غير دالّة على الوجوب ، لأنها في مقام بيان موضع الجهر لا في مقام بيان أصل الجهر حتى يقال بأن الأمر ظاهر في الوجوب.

ثمّ إنه بناءً على استحباب الجهر أو وجوبه كما قيل إنما يختص بالرجال ولا يشمل النّساء للنص ، ففي صحيحة أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «ليس على النّساء جهر بالتلبية» (٢).

__________________

(*) ورد ذلك في الصحيحة أيضا.

(**) لم تثبت أفضلية التأخير إلى الإشراف على الأبطح.

(١) الوسائل ١٢ : ٣٦٩ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٨٠ / أبواب الإحرام ب ٣٨ ح ٤.

٤٢٨

الإشكال في عدم وجوب مقارنتها للنيّة ولبس الثوبين استحباب التعجيل بها مطلقاً وكون أفضليّة التأخير بالنسبة إلى الجهر بها ، فالأفضل أن يأتي (*) بها حين النيّة ولبس الثوبين سرّاً ويؤخر الجهر بها إلى المواضع المذكورة ، والبَيداء أرض مخصوصة بين مكّة والمدينة على ميل من ذي الحليفة نحو مكّة (١) ،

______________________________________________________

(١) ذكر جماعة من الأصحاب أنّ الأفضل لمن حجّ عن طريق المدينة تأخير التلبية إلى البيداء مطلقاً ، أو في خصوص الراكب ، أو أنه مخير بين التلبية من نفس مسجد الشجرة أو من البيداء ، فيتوجه حينئذ إشكال وهو أنه بعد البناء على أن الإحرام يتحقّق بالتلبية أو أنها متممة له كما عن بعضهم فكيف يجوز تأخير التلبية من مسجد الشجرة لرجوع ذلك في الحقيقة إلى جواز تأخير الإحرام عن مسجد الشجرة. فيقع الكلام في مقامين :

أحدهما : لزوم تأخير التلبية عن مسجد الشجرة إلى البيداء كما اختاره صاحب الحدائق أو احتاط فيه احتياطاً لزومياً (١).

ثانيهما : جواز تأخيرها إلى البيداء.

أمّا المقام الأوّل : فقد ذكر صاحب الحدائق (قدس سره) أن ظاهر الروايات الدالّة على الإحرام من مسجد الشجرة وجوب تأخير التلبية عن موضع عقد الإحرام في المسجد ، وقال : لا موجب لرفع اليد عن ظهور الروايات ، مع أنه ممن يرى أن الإحرام لا يحصل إلّا بالتلبية ، وذكر أيضاً أن هذا الحكم مختص بالإحرام من مسجد الشجرة ، وأمّا في غيره فحكم بالتخيير بين إتيان التلبية من نفس الميقات أو التأخير بها عن الميقات بمقدار يسير.

ولكن الفقهاء (رضي الله عنهم) أجمعوا وتسالموا على جواز الإحرام والتلبية من نفس مسجد الشجرة وعدم وجوب تأخيرها إلى البيداء ، للسيرة القطعيّة والروايات

__________________

(*) لم تظهر أفضليّة التعجيل وإن كان هو الأحوط ولا يبعد أفضليّة التأخير.

(١) الحدائق ١٥ : ٤٦.

٤٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

العامّة في توقيت المواقيت والنهي عن التجاوز عنها بغير إحرام. مضافاً إلى الروايات الخاصّة الدالّة على جواز الإحرام وإتيان التلبية من نفس مسجد الشجرة ، كصحيح عبد الله بن سنان المعبر عنه في الحدائق بالقوي «أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) هل يجوز للمتمتع بالعمرة إلى الحج أن يظهر التلبية في مسجد الشجرة؟ فقال : نعم ، إنما لبّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في البيداء لأنّ النّاس لم يعرفوا التلبية فأحب أن يعلمهم كيف التلبية» (١) فإنّها كما ترى صريحة في جواز الإحرام وإتيان التلبية من نفس المسجد وأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إنما أخّرها إلى البيداء لتعليم النّاس كيفية التلبية.

ويدلُّ أيضاً على جواز التلبية من نفس مسجد الشجرة إطلاق موثق إسحاق بن عمّار «إذا أحرم الرجل في دبر المكتوبة أيلبِّي حين ينهض به بعيره أو جالساً في دبر الصّلاة؟ قال : أي ذلك شاء صنع» (٢) بلحاظ أن الصّلاة يؤتى بها غالباً في المسجد.

وفي صحيحة عمر بن يزيد المتقدِّمة (٣) «إن كنت ماشياً فاجهر بإهلالك وتلبيتك من المسجد» ، وموردها وإن كان المشي ولكنّها تدل على جواز التلبية من مسجد الشجرة ، فما استشكله صاحب الحدائق في غير محلّه.

وأمّا المقام الثّاني : فهل يجوز تأخير التلبية إلى البيداء بعد التسالم على جواز الإتيان بها من مسجد الشجرة؟ ذهب جماعة إلى جواز التأخير ، بل ذكروا أنّ الأفضل تأخيرها إلى البيداء واستدلّوا بعدّة من النصوص.

منها : صحيحة معاوية بن وهب «عن التهيؤ للإحرام ، فقال : في مسجد الشجرة فقد صلّى فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد ترى أُناساً يحرمون فلا تفعل حتى تنتهي إلى البيداء حيث الميل فتحرمون كما أنتم في محاملكم ، تقول : لبّيك اللهمّ لبّيك» (٤).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٧٢ / أبواب الإحرام ب ٣٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٧٣ / أبواب الإحرام ب ٣٥ ح ٤.

(٣) في ص ٤٢٨.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٧٠ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ٣.

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : صحيحة منصور بن حازم «قال : إذا صليت عند الشجرة فلا تلب حتى تأتي البيداء حيث يقول النّاس يخسف بالجيش» (١).

ومنها : صحيحة ابن سنان «إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يلبي حتى يأتي البيداء» (٢).

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار «قال : صل المكتوبة ثمّ أحرم بالحج أو بالمتعة واخرج بغير تلبية حتى تصعد إلى أوّل البيداء ، إلى أوّل ميل عن يسارك ، فإذا استوت بك الأرض راكباً كنت أو ماشياً فلب ...» (٣) ، ونحوها غيرها.

ولكن أدلّة المواقيت وعدم التجاوز عنها إلّا محرماً تنافي هذه الأخبار ، وأنه كيف يمكن القول بجواز تأخير التلبية مع أن الإحرام يحصل بالتلبية ، بل حتى على القول بتتميم الإحرام بها ، ولذا ذهب جماعة إلى أن التأخير إنّما هو بالنسبة إلى التلبيات المستحبة وحملوا الروايات الآمرة بالتأخير على ذلك ، وأمّا بالنسبة إلى التلبيات الواجبة فاللّازم إتيانها من نفس مسجد الشجرة ، وبذلك دفعوا التنافي بين الروايات وهذا الحمل بعيد ولا يساعده المتفاهم من الروايات ، فإن بعضها صريح في تأخير التلبية الواجبة ، بل قد ورد النهي في بعضها عن التلبية والإحرام بها في المسجد.

وأبعد من ذلك حمل الروايات على تأخير الإجهار بها إلى البيداء لا نفس التلبيات ، وذلك لعدم ذكر تأخير الجهر بها إلى البيداء في شي‌ء من الروايات ، بل صرّح في بعض الروايات بالجهر بالتلبية من نفس المسجد (٤).

والظاهر من الروايات تأخير نفس التلبية الموجبة للإحرام لا الإجهار بها ، ولا مناص إلّا من الأخذ بهذه الروايات الصحيحة الدالّة على جواز تأخيرها إلى البيداء وحينئذ فلا بدّ لنا من علاج منافاتها لأدلّة المواقيت.

والجواب عن ذلك : أن أدلّة المواقيت الناهية عن التجاوز عن الميقات بلا إحرام

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٧٠ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ٤ ، ٥.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٧٠ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ٤ ، ٥.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٧٠ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ٦.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٦٩ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ١.

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

مطلقة من حيث تحقق الإحرام بعد قليل وزمان يسير ، ومن حيث عدم حصول الإحرام منه أصلاً ، فتخصص بهذه الروايات الدالّة على جواز تأخير التلبية والإحرام إلى البيداء ، فيختص النهي والمنع عن التجاوز عن الميقات بلا إحرام لمن لا يحرم أصلاً ، وأمّا من يريد الإحرام بعد قليل فلا مانع له من التجاوز عن المسجد بلا إحرام ، وحيث إن الإحرام من الميقات جائز جزماً كما عرفت تحمل هذه الروايات الدالّة على تأخير التلبية على الأفضليّة ، وإن كان الأحوط الإتيان بها في نفس مسجد الشجرة.

هذا لمن حج عن طريق المدينة ، فبناءً على ما ذكرنا لم تظهر أفضليّة التعجيل ، بل لا يبعد أفضليّة التأخير وإن كان التعجيل أحوط.

وأمّا من حج عن طريق آخر فذكر المصنف أنه يؤخرها إلى أن يمشي قليلاً كما في صحيحة هشام بن الحكم (١) ، ولمن حج من مكّة تأخيرها إلى الرقطاء وهو موضع دون الردم ويسمى مدعى ، ويدلُّ عليه صحيح الفضلاء (٢).

وأمّا تأخيرها إلى أن يشرف على الأبطح فلا دليل على أفضليّته ، بل لا قائل بها وإنما الدليل قام على الجهر بها إذا أشرف على الأبطح كما في صحيحة معاوية بن عمّار (٣).

ثمّ إنه لو قلنا بوجوب مقارنة التلبية لنيّة الإحرام فلا يجوز تأخير التلبية عن مسجد الشجرة إلى البيداء ، وأمّا بناءً على جواز التأخير وعدم الإشكال في عدم وجوب مقارنتها للنيّة ، فقد ذكر المصنف استحباب التعجيل بها وكون أفضليّة التأخير بالنسبة إلى الجهر بها.

أقول : إن كان مراده من هذا الكلام ما ذكره بعد ذلك من أن الأفضل أن يأتي بها حين النيّة ولبس الثوبين سرّاً ويؤخر الجهر بها إلى المواضع المذكورة ، فاستحباب التعجيل بها إنما هو بالنسبة إلى إتيانها في نفس المسجد ، بمعنى أنه لا يؤخر التلبية عن

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٧٢ / أبواب الإحرام ب ٣٥ ح ١.

(٢) ٣) الوسائل ١٢ : ٣٩٦ / أبواب الإحرام ب ٤٦ ح ١ ، ٤.

٤٣٢

والأبطح مسيل وادي مكّة وهو مسيل واسع فيه دقائق الحَصى أوّله عند منقطع الشعب بين وادي منى وآخره متصل بالمقبرة التي تسمى بِالعُلى عند أهل مكّة والرقطاء موضع دون الرَّدم يسمى مَدعى ، ومدعى الأقوام مجتمع قبائلهم والردم حاجز يمنع السيل عن البيت ويعبر عنه بالمدعى.

______________________________________________________

النيّة ويأتي بها فوراً ، فالاستعجال في مقابل تأخير الإتيان بالتلبية في نفس المسجد لا بالنسبة إلى البيداء ، ويدلُّ على استحباب هذا التعجيل عموم ما دلّ على استحباب المسارعة والاستباق إلى الخيرات ، فإن كان مراده ذلك فلا كلام لنا معه وإن كانت إرادة هذا المعنى في نفسه خلاف الظاهر.

وإن كان مراده جواز تأخير نفس التلبية إلى البيداء وإن كان التقديم مستحباً ، كما هو الظاهر من عبارته لعقد هذه المسألة في استحباب تأخير التلبية إلى البيداء ، ففيه : أن ظاهر الروايات لزوم تأخير نفس التلبية لا جوازه ، وإذن فكيف تحمل الروايات على استحباب تأخير الجهر بها ، ولو قلنا بأن ظاهر الروايات هو تأخير الجهر فتأخير التلبية بأي مجوز وبأي دليل.

والحاصل : لا يمكن الجمع بين الأمرين ، فإنه لو قلنا باستحباب التعجيل وإتيان التلبية في نفس المسجد في قبال تأخيرها إلى البيداء فلا يساعده الروايات ، لظهورها في لزوم تأخير نفس التلبية ، وإن قلنا بأن مفادها استحباب تأخير الجهر بها فتأخير التلبية لا دليل عليه.

والبيداء اسم لأرض مخصوصة بين مكّة والمدينة على ميل من ذي الحليفة نحو مكّة على يسار الذاهب إلى مكّة ، وهو المكان الذي يقول النّاس يخسف بالجيش وقد وقع التصريح بذلك في عدّة من الروايات (١) ، وصرّح بذلك في مجمع البحرين وحدّده بما ذكرنا وبأنه دون المكان المسمّى بالحفيرة بثلاثة أميال (٢).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٦٩ / أبواب الإحرام ب ٣٤.

(٢) مجمع البحرين ٣ : ١٨.

٤٣٣

[٣٢٥٠] مسألة ٢١ : المعتمر عمرة التمتّع يقطع التلبية عند مشاهدة بيوت مكّة في الزّمن القديم ، وحدّها لمن جاء على طريق المدينة عقبة المدنيين وهو مكان معروف ، والمعتمر عمرة مفردة عند دخول الحرم إذا جاء من خارج الحرم ، وعند مشاهدة الكعبة إن كان قد خرج من مكّة لإحرامها (*) ، والحاج بأي نوع من الحج يقطعها عند الزوال من يوم عرفة ، وظاهرهم أنّ القطع في الموارد المذكورة على سبيل الوجوب ، وهو الأحوط ، وقد يقال بكونه مستحبّاً (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في مسائل :

الأُولى : المعتمر عمرة التمتّع يقطع التلبية عند مشاهدة بيوت مكّة في الزمن القديم ويدلُّ على ذلك جملة من الأخبار.

منها : صحيح معاوية بن عمّار ، قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «إذا دخلت مكّة وأنت متمتع فنظرت إلى بيوت مكّة فاقطع التلبية ، وحدّ بيوت مكّة التي كانت قبل اليوم عقبة المدنيين ، فإن النّاس قد أحدثوا بمكّة ما لم يكن ، فاقطع التلبية» (١).

ومنها : صحيح الحلبي «المتمتع إذا نظر إلى بيوت مكّة قطع التلبية» (٢).

ومنها : صحيح ابن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) «أنه سئل عن المتمتع متى يقطع التلبية؟ قال : إذا نظر إلى عراش مكّة ، عقبة ذي طوى ، قلت : بيوت مكّة؟ قال : نعم» (٣) والتحديد بعقبة ذي طوى لا ينافيه التحديد بعقبة المدنيين في الرواية الأُولى ، لاحتمال أن عقبة ذي طوى اسم آخر لعقبة المدنيين ، وإما أنها مكان آخر عن طريق آخر ، والعبرة بمشاهدة البيوت السابقة ، وحدّ تلك البيوت من طريق المدينة مثلاً بعقبة المدنيين ومن طريق آخر بعقبة ذي طوى.

ومنها : صحيح زرارة ، قال : «سألته أين يمسك المتمتع عن التلبية؟ فقال : إذا دخل

__________________

(*) بل كل من كان إحرامه من أدنى الحل.

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ١٢ : ٣٨٨ / أبواب الإحرام ب ٤٣ ح ١ ، ٢ ، ٤.

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

البيوت بيوت مكّة لا بيوت الأبطح» (١).

وربّما يتوهم التعارض بينه وبين الروايات السابقة ، إذ العبرة حسب الرواية الأخيرة بدخول البيوت بينما الروايات المتقدّمة جعلت العبرة بمشاهدة البيوت.

ويمكن دفعه بأن الدخول في بيوت مكّة المستحدثة التي حدثت في زمان الأئمّة (عليهم السلام) كما ورد في صحيح معاوية بن عمّار «فإن النّاس قد أحدثوا بمكّة ما لم يكن» (٢) يستلزم النظر إلى البيوت السابقة التي يكون النظر إليها سبباً للقطع ، فلا مخالفة بين الروايات ، نعم في خبر زيد الشحام جعل العبرة في القطع بدخول الحرم (٣) ولكنه ضعيف السند بأبي جميلة المفضل بن صالح الذي كان يكذب ويضع الحديث.

وما في صحيح معاوية بن عمّار «وإن كنت معتمراً فاقطع التلبية إذا دخلت الحرم» (٤) مطلق يشمل عمرة المتعة فيقيد بالروايات السابقة الدالّة على القطع في المتعة ، وكذلك إطلاق موثق زرارة (٥).

المسألة الثانية : المعتمر بعمرة مفردة من أدنى الحل يقطع التلبية عند مشاهدة الكعبة ، والمصنف خص الحكم بمن كان بمكّة وخرج منها للاعتمار من أدنى الحل والظاهر أنه لا اختصاص بذلك ، بل الميزان بالإحرام من أدنى الحل سواء كان من التنعيم أو من غيره ، وسواء كان في مكّة وخرج منها للاعتمار أو كان في الخارج وبدا له أن يعتمر ، فليس عليه أن يذهب إلى الميقات ، وله أن يحرم من أدنى الحل كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واعتمر من الجعرانة ، ولذا قلنا بعدم وجوب الرجوع إلى الميقات في العمرة المفردة في خصوص هذا القسم ، وهو الذي كان خارج مكّة ودون الميقات وأراد أن يعتمر.

وبالجملة : فهنا صورتان :

إحداهما : أن يحرم للمفردة من أدنى الحل إذا كان في مكّة وخرج منها للاعتمار.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٩٠ / أبواب الإحرام ب ٤٣ ح ٧.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٩٠ / أبواب الإحرام ب ٤٣ ح ٩.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٩٠ / أبواب الإحرام ب ٤٣ ح ١.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٩٣ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ١.

(٥) الوسائل ١٢ : ٣٩٣ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ٥.

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيتهما : ما لو كان خارج مكّة دون الميقات وأراد أن يعتمر ، والحكم فيهما قطع التلبية بمشاهدة الكعبة.

ويدلُّ عليه في الصورتين صحيحة عمر بن يزيد «ومن خرج من مكّة يريد العمرة ثمّ دخل معتمراً لم يقطع التلبية حتى ينظر إلى الكعبة» (١) وهي مختصّة بالصورة الأُولى. وصحيحة معاوية بن عمّار «من اعتمر من التنعيم فلا يقطع التلبية حتى ينظر إلى المسجد» (٢) وإطلاقها شامل للصورتين ، والظاهر عدم اختصاص الحكم بالتنعيم بل الميزان بالاعتمار من أدنى الحل.

المسألة الثالثة : المعتمر للمفردة من خارج الحرم ، سواء أحرم من أحد المواقيت المعهودة أو من دويرة أهله كمن كان منزله بعد الميقات يقطع التلبية عند دخول الحرم ، ويدلُّ عليه عدّة من النصوص.

منها : خبر عمر بن يزيد «من دخل مكّة مفرِداً للعمرة فليقطع التلبية حين تضع الإبل أخفافها في الحرم» (٣) فإن الظاهر منها بيان حكم من كان خارجاً من الحرم وأراد العمرة من الخارج بقرينة قوله : «حتى تضع الإبل أخفافها في الحرم».

ومنها : معتبرة زرارة «يقطع التلبية المعتمر إذا دخل الحرم» (٤).

ومنها : معتبرة مرازم «يقطع صاحب العمرة التلبية إذا وضعت الإبل أخفافها في الحرم» (٥).

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار «وإن كنت معتمراً فاقطع التلبية إذا دخلت الحرم» (٦) فإن إطلاقها يشمل العمرة المفردة وعمرة التمتّع ، وبعد إخراج عمرة التمتّع عنه بالروايات السابقة يثبت اختصاص قطع التلبية بدخول الحرم بالعمرة المفردة.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٩٥ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ٨.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٩٤ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ٤.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٩٤ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ٢.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٩٤ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ٥.

(٥) الوسائل ١٢ : ٣٩٤ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ٦.

(٦) الوسائل ١٢ : ٣٩٣ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ١.

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ هنا روايات يظهر منها قطع التلبية بالنظر إلى بيوت مكّة كما في عمرة التمتّع.

منها : رواية يونس «عن الرجل يعتمر عمرة مفردة من أين يقطع التلبية؟ قال : إذا رأيت بيوت مكّة ذي طوى فاقطع التلبية» (١) ولكنّها ضعيفة بمحسن بن أحمد ، فإنه ممن لم يوثق ، فالتعبير بالموثقة في غير محله.

ومنها : صحيحة الفضيل ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) قلت : دخلت بعمرة فأين أقطع التلبية؟ قال : حيال العقبة عقبة المدنيين؟ فقلت : أين عقبة المدنيين؟ قال : بحيال القصارين» (٢).

والجواب : أنه ليس فيها تصريح بالعمرة المفردة وإنما هي بالإطلاق ، والروايات المتقدّمة واردة في خصوص المفردة فتقيد الصحيحة ويرتفع التنافي.

وربّما يتوهم معارضة هذه الروايات الدالّة على قطع التلبية بدخول الحرم بصحيحة البزنطي «عن الرجل يعتمر عمرة المحرم من أين يقطع التلبية؟ قال : كان أبو الحسن (عليه السلام) من قوله : يقطع التلبية إذا نظر إلى بيوت مكّة» (٣) ، فإن المصرح فيها العمرة المفردة ، لأنّ عمرة شهر المحرم إنما هي مفردة ، فتعارض ما دلّ على قطع التلبية بدخول الحرم في العمرة المفردة.

والجواب : أن الرواية وإن كان موردها العمرة المفردة ولكنها مطلقة من حيث بدء العمرة من أدنى الحل أو من قبل الحرم ، والروايات السابقة موردها الاعتمار من خارج الحرم إما لظهور الروايات في نفسها أو لأجل التقيّة ونحوها ، وصحيحة البزنطي مطلقة من حيث الإحرام من خارج الحرم أو من أدنى الحل ، أو كان في مكّة وخرج وأراد العمرة ، فالنسبة نسبة المطلق والمقيّد فتحمل صحيحة البزنطي على الإحرام من أدنى الحل ويرتفع التنافي.

نعم يبقى شي‌ء وهو أن صحيح البزنطي جعل حدّ قطع التلبية بالنظر إلى بيوت

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٩٣ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ٣.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٩٥ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ١١.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٩٦ / أبواب الإحرام ب ٤٥ ح ١٢.

٤٣٧

[٣٢٥١] مسألة ٢٢ : الظاهر أنه لا يلزم في تكرار التلبية أن يكون بالصورة المعتبرة في انعقاد الإحرام ، بل ولا بإحدى الصور المذكورة في الأخبار ، بل يكفي أن يقول : (لبيك اللهمّ لبيك) بل لا يبعد كفاية تكرار لفظ لبيك (١).

______________________________________________________

مكّة وصحيح عمر بن يزيد المتقدّم الوارد فيمن اعتمر من أدنى الحل جعل الحد بالنظر إلى الكعبة ، ولكن يمكن رفع التنافي بالتلازم بين الأمرين ، فإن النظر إلى بيوت مكّة يستلزم النظر إلى الكعبة المشرفة لعلو البيت وارتفاعه ونحو ذلك.

فتحصل : أنّ ما ذهب إليه المشهور من قطع التلبية عند دخول الحرم إذا اعتمر من خارج الحرم هو الصحيح ، وما ذهب إليه الصدوق (١) من التخيير بين دخول الحرم والنظر إلى بيوت مكّة ضعيف.

المسألة الرابعة : الحاج بأي نوع من الحج يقطعها عند الزوال من يوم عرفة بلا خلاف عند الأصحاب ، ويشهد له النصوص ، منها : صحيح ابن مسلم «الحاج يقطع التلبية يوم عرفة زوال الشمس» (٢) وغيرها من الصحاح.

بقي الكلام في أن القطع في الموارد المذكورة على نحو العزيمة أو الرخصة ، نسب إلى ظاهر كلامهم أنه على نحو الوجوب وهو الظاهر ، للأمر بالقطع وظاهر الأمر هو الوجوب ، ولا أقل من ارتفاع الأمر السابق وانتهائه ، وبقاؤه يحتاج إلى الدليل فلا مجوز للإتيان بها ، لأنّ العبادة توقيفية ومشروعيتها تحتاج إلى الأمر ، بل يظهر من بعض الروايات أن إتيان التلبية في غير موردها مبغوض عند الله تعالى كما في صحيحة أبان ، قال : «كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) في ناحية من المسجد وقوم يلبون حول الكعبة ، فقال : أترى هؤلاء الذين يلبون؟ والله لأصواتهم أبغض إلى الله من أصوات الحمير» (٣).

(١) لإطلاق النصوص الآمرة بالتلبية.

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٧٧.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٩١ / أبواب الإحرام ب ٤٤ ح ١.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٨٩ / أبواب الإحرام ب ٤٣ ح ٣.

٤٣٨

[٣٢٥٢] مسألة ٢٣ : إذا شك بعد الإتيان بالتلبية أنه أتى بها صحيحة أم لا بنى على الصحّة.

[٣٢٥٣] مسألة ٢٤ : إذا أتى بالنيّة ولبس الثوبين وشكّ في أنه أتى بالتلبية أيضاً حتى يجب عليه ترك المحرمات أو لا ، يبني على عدم الإتيان (*) بها فيجوز له فعلها ولا كفارة عليه.

[٣٢٥٤] مسألة ٢٥ : إذا أتى بموجب الكفّارة وشكّ في أنه كان بعد التلبية حتى تجب عليه أو قبلها ، فإن كانا مجهولي التاريخ أو كان تاريخ التلبية مجهولاً لم تجب عليه الكفّارة ، وإن كان تاريخ إتيان الموجب مجهولاً فيحتمل أن يقال بوجوبها لأصالة التأخر ، لكن الأقوى عدمه ، لأنّ الأصل لا يثبت (**) كونه بعد التلبية (١).

______________________________________________________

(١) ذكر في هذه المسائل صوراً ثلاثاً للشك في التلبية :

الأُولى : ما إذا أتى بها ثمّ شكّ في أنه أتى بها صحيحة أم لا.

الثانية : أن يشك في أصل وجود التلبية وتحققها وعدمه بعد النيّة ولبس الثوبين.

الثالثة : أن يشك في تقدّم التلبية وتأخرها على ما يوجب الكفّارة.

أمّا الصورة الاولى : فلا ريب في أنه يبني على الصحّة ، لعموم قوله «كلّما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» (١) ، فإن قاعدة الفراغ لا تختص بباب دون باب.

وأمّا الصورة الثانية : فقد ذكر في المتن أنه يبني على عدم الإتيان بها لأصالة عدمه ، فيجوز له فعل محرمات الإحرام ولا كفارة عليه كما يجب عليه الإتيان بالتلبية وما ذكره صحيح ولكنه يقيّد بما إذا لم يتجاوز المحل كما إذا شكّ وهو في الميقات ، وأمّا

__________________

(*) إلّا فيما إذا كان الشك بعد تجاوز المحل.

(**) بل هو غير جار في نفسه.

(١) الوسائل ٨ : ٣٣٨ / أبواب الخلل في الصّلاة ب ٢٣ ح ٣.

٤٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا تجاوز المحل وخرج عن الميقات ووصل إلى مكّة وشكّ في حال الطواف مثلاً ، فلا عبرة بشكّه لجريان قاعدة التجاوز ، فإنها تجري في جميع الموارد إلّا في باب الوضوء للنص (١) ، فكل مورد صدق عليه التجاوز عن محله تجري قاعدة التجاوز سواء أكان في العبادات أم في المعاملات ، وقد ذكرنا في محله أن التجاوز إنما هو باعتبار التجاوز عن محله لا التجاوز عن نفس الشي‌ء المشكوك فيه ، لعدم تحقق التجاوز عن الأمر المشكوك فيه وجوداً وعدماً ، كما إذا ركع وشكّ في القراءة وعدمها فإن التجاوز عنها باعتبار تجاوز محلها ، نعم في بعض الموارد لا يتحقّق التجاوز إلّا بالدخول في الغير كباب الصّلاة كالمثال المتقدّم ، فإنه لو شكّ في القراءة قبل الدخول في الركوع لا يتحقق التجاوز عن محل القراءة.

وأمّا الصورة الثالثة : فهي ما إذا أتى بموجب الكفّارة وبالتلبية وشكّ في المتقدِّم منهما والمتأخِّر ، فتارة يجهل تأريخهما ، وأُخرى يعلم تاريخ التلبية ، وثالثة يعلم تأريخ ارتكاب المحرمات.

اختار المصنف عدم وجوب الكفّارة في جميع الصور.

أقول : قد ذكرنا في توارد الحالتين أن جريان الأصلين وتعارضهما يتوقف على ترتب الأثر لكل منهما ، فإن جريانهما معاً غير ممكن وفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وأمّا إذا كان الأثر مترتباً على أحدهما دون الآخر فلا مانع من جريان الأصل فيه والرجوع إليه ، سواء كان المورد من موارد مجهولي التاريخ أو كان أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً. ومقامنا من هذا القبيل ، لأنّ ارتكاب الأفعال المنهية قبل التلبية لا أثر له وإنما الأثر يترتب بعد التلبية ، فلو شكّ في أنه هل ارتكب محرماً بعد التلبية ليترتّب عليه الكفّارة أو لم يرتكب شيئاً ، لم تجب عليه الكفّارة لأصالة عدم الارتكاب بعد التلبية ، ولا تعارض بأصالة عدم الارتكاب قبل التلبية لعدم ترتّب الأثر على ذلك ، فأحد الأصلين لا أثر له فلا يجري والأصل الآخر الذي يترتّب عليه

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢.

٤٤٠