موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

بل الأقوى كفاية غسل اليوم إلى آخر اللّيل وبالعكس (١) ، وإذا أحدث بعدها قبل الإحرام يستحب إعادته خصوصاً في النوم (٢) ،

______________________________________________________

وأمّا ما رواه الشيخ عن عمر بن يزيد «من اغتسل بعد طلوع الفجر كفاه غسله إلى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل ، ومن اغتسل ليلاً كفاه غسله إلى طلوع الفجر» (١) فلا يصح الاستدلال به ، لأنّ السند غير واضح ، لما في بعض النسخ عثمان ابن يزيد بدل عمر بن يزيد ، والأوّل غير موثق ، فيكون الراوي مردداً بين الموثق وغيره.

(١) يدل عليه إطلاق صحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال : «غسل يومك يجزئك لليلتك ، وغسل ليلتك يجزئك ليومك» (٢).

وموثق سماعة «من اغتسل قبل طلوع الفجر وقد استحم قبل ذلك ثمّ أحرم من يومه أجزأه غسله ، وإن اغتسل في اللّيل ثمّ أحرم في آخر اللّيل أجزأه غسله» (٣) واحتمال أن اللام في قوله «لليلتك» و «ليومك» في صحيح جميل بمعنى إلى الغاية ليكون المراد انتهاء أمد الغسل إلى آخر النهار بعيد جدّاً ، بل هي للتعدية.

بل يمكن أن يقال بأن الغسل الواقع في اليوم يكفي لليوم الآخر ما لم يحدث ، وهذا وإن لم يصرح به في النصوص ، وقد لا يتحقق في الخارج عادة لوقوع الحدث في أثناء اليوم ولو مرّة واحدة غالباً ، ولكن لا مانع من الالتزام بكفاية ذلك لو اتفق ، لأنّ العبرة كما أشرنا إليه بحصول الإحرام عن الغسل وإن كان الغسل متقدِّماً عليه بيوم أو يومين أو أكثر أو أقل ، ولا خصوصية للاجتزاء بالغسل النهاري في الليل ولا العكس ، فلا حد زماني للغسل ، كما عرفت أنه لا حد مكاني له ويجوز تقديمه على الميقات من أي موضع شاء.

(٢) وجه التخصيص بالنوم مع أن البول أقوى لورود النص الخاص فيه ، وأمّا

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٦٤ / ٢٠٤ ، الوسائل ١٢ : ٣٢٨ / أبواب الإحرام ب ٩ ح ١.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٢٨ / أبواب الإحرام ب ٩ ح ١.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٢٩ / أبواب الإحرام ب ٩ ح ٥.

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

غيره من الاحداث فلا نص فيه ، وألحقوا بالنوم غيره من النواقض ، لانتقاض الغسل بغير النوم من الأحداث أيضاً ، بل انتقاضه بسائر الأحداث أقوى.

أمّا ما يدل على استحباب إعادة الغسل بعد النوم فهو صحيح النضر عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال : «سألته عن الرجل يغتسل للإحرام ثمّ ينام قبل أن يحرم قال : عليه إعادة الغسل» (١) ، ونحوه خبر علي بن أبي حمزة (٢) ، ولكنّه ضعيف السند.

ويعارضه صحيح العيص ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يغتسل للإحرام بالمدينة ، ويلبس ثوبين ثمّ ينام قبل أن يحرم ، قال : ليس عليه غسل» (٣) وقد حمله الشيخ على نفي الوجوب (٤) بينما حمله آخر على نفي التأكّد.

ولكن الظاهر أن الخبرين متعارضان ومتنافيان ولا جمع عرفي بينهما ، لأنّ المستفاد من صحيح النضر كون النوم ناقضاً ، ويظهر من صحيح العيص عدم ناقضيته ، ولا يمكن الجمع بين ما دل على الناقضية وما دلّ على عدمها فإنهما من المتنافيين ، وقد ذكرنا غير مرّة أن الميزان في الجمع العرفي بما لو اجتمع المتعارضان في كلام واحد ولم يكن تناف بينهما عرفاً ، بل كان أحدهما قرينة على الآخر ، ففي مثله يتحقق الجمع العرفي وأمّا إذا اجتمعا في كلام واحد وكانا متنافيين بنظر العرف فلا مجال للجمع بينهما عرفاً والناقضية وعدمها من المتنافيين ، والروايتان ناظرتان إلى الناقضية وعدمها ، فالروايتان متعارضتان فتسقطان ، والمرجع هو القاعدة المقتضية لانتقاض الغسل بالحدث ، فحكم النوم وغيره سيّان.

وتفصيل ذلك : أنه لا ريب في أن الغسل ينتقض بالحدث نوماً كان أم غيره ، وأمّا الروايات الواردة في المقام فمنحصرة بالنوم ، وقد عرفت أنها متعارضة ، وحمل ما دلّ على عدم الإعادة على نفي الوجوب بعيد ، لأنّ السؤال ليس عن أصل العمل وإتيان الغسل حتى يمكن حمله على نفي الوجوب ، بل السؤال عن الناقضية وعدمها ، ولا

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٢٩ / أبواب الإحرام ب ١٠ ح ١.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٢٩ / أبواب الإحرام ب ١٠ ح ٢

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٣٠ / أبواب الإحرام ب ١٠ ح ٣.

(٤) التهذيب ٥ : ٦٥ / ٢٠٨ ، الاستبصار ٢ : ١٦٤ / ٥٣٩.

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

معنى حينئذ للحمل على نفي الوجوب ، كما أن حمله على عدم التأكّد كما عن السيِّد صاحب المدارك ـ (١) بعيد أيضاً ، فإنّ الناقضية وعدمها لا يتأكدان ، فلا محيص إلّا عن التساقط فلا بدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة في النوم وغيره من الأحداث فنقول :

إن كان المراد من استحباب الغسل مجرد إتيان عمل خارجي قبل الإحرام كتقديم الصلاة على الإحرام أو تقديم بعض الأدعية فلا يضر الحدث الواقع بعده ، لأنه قد امتثل الأمر الاستحبابي فليس عليه إعادة الغسل وله أن يحرم ، كما أنه ليس عليه إعادة الصلاة أو الأدعية الواردة قبل الإحرام.

وإن كان المراد باستحباب الغسل وقوع الإحرام عن طهور ، وأن يكون الإحرام صادراً منه حال كونه متطهراً ، وحيث إن الغسل طهور كما يظهر من الروايات ، بل هو أقوى في الطهورية من الوضوء لقوله (عليه السلام) : «وأي وضوء أطهر من الغسل» (٢) فإذا صدر الحدث بعده فلا طهور لانتفاضه به ، فإن الطهور والحدث لا يجتمعان ، فلا يكون الإحرام الصادر منه عن طهور ، فحينئذ يستحب له إعادة الغسل ليكون الإحرام صادراً عن الطهور ولا يكفي الوضوء ، لأنّ الإحرام يكون صادراً عن طهور الوضوء لا طهور الغسل والمسنون صدور الإحرام عن الغسل.

وهذا الذي ذكرناه هو الصحيح ، لا سيما على القول بأن كل غسل ثبت استحبابه يجزئ عن الوضوء كما هو المختار عندنا. وأنه يجوز معه الإتيان بكل ما يتوقف على الطهور ، فإذن لا حاجة إلى نص خاص يدل على استحباب إعادة الغسل بعد صدور مطلق الأحداث.

مضافاً إلى ما يؤكد ذلك ويدلُّ عليه ، صحيح عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يغتسل لدخول مكّة ثمّ ينام فيتوضّأ قبل أن يدخل أيجزئه ذلك أو يعيد؟ قال : لا يجزئه لأنه إنما دخل بوضوء» (٣) فإنّ الصحيح

__________________

(١) المدارك ٧ : ٢٥٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٤ / أبواب الجنابة ب ٣٢.

(٣) الوسائل ١٣ : ٢٠١ / أبواب مقدّمات الطواف ب ٦ ح ١.

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

يدل بوضوح على انتقاض الغسل بالنوم وأنه إذا دخل بعد النوم فقد دخلها من غير غسل ، والسؤال وإن كان عن النوم فلا يشمل حدثاً آخر ولكن الظاهر أن القصد من السؤال لم يكن مقصوراً على النوم ، وإنما منظورة في السؤال أنه هل يجزئ الوضوء عن الغسل السابق الملحوق بالنوم؟ وأنّ الغسل السابق هل انتقض بالنوم ويحتاج إلى الوضوء لدخول مكّة أم لا؟ فسؤاله مسوق لإجزاء الوضوء عن الغسل السابق الذي صدر بعده النوم ، وأجاب (عليه السلام) بعدم إجزاء الوضوء عن الغسل السابق ، فلا نظر إلى خصوص النوم ، بل لا نحتمل خصوصية للنوم ، وإنما الغرض انتقاض الغسل وإجزاء الوضوء عنه.

كما يستظهر منه عدم الاختصاص بالغسل لدخول مكّة ، بل المنظور بالعمل الذي يعتبر فيه الغسل إحراماً كان أم غيره من الأعمال ، غاية الأمر مصداقه في الرواية إنّما هو الغسل لدخول مكّة المكرّمة ، فإن المستفاد من التعليل الوارد في الرواية «لأنّه إنّما دخل بوضوء» أن كل عمل اعتبر فيه الغسل سواء كان إحراماً أو غيره ينتقض بالنوم باعتبار أنه حدث لا لخصوصية فيه ، كما لا خصوصية لغسل الدخول في مكّة وإنّما ذكر ذلك في الرواية من باب ذكر المصداق لحكم كلّي ، فإنّ التعليل يقتضي عموم الحكم لمطلق الحدث ولمطلق الغسل.

ثمّ إنّ الرواية رواها الكليني على النحو المتقدِّم (١) ، ولكن الشيخ رواها في التهذيب (٢) وذكر «يغتسل للزيارة» بدل «يغتسل لدخول مكّة» ، وذكر في ذيل الرواية «إنّما دخل بوضوء» مع أنّ المناسب أن يذكر «إنّما زار بوضوء» ليطابق الصدر ولعلّه وقع السهو من قلمه الشريف أو من النساخ ، وما ذكره الكليني هو الصحيح وكيف كان لا يفرق الحال بين الأمرين.

وممّا يدل على انتقاض الغسل بمطلق الحدث موثق إسحاق بن عمّار «عن غسل الزيارة يغتسل بالنهار ويزور باللّيل بغسل واحد ، قال : يجزئه إن لم يحدث ، فإن

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٠٠ ح ٨.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٥١ / ٨٥١ ، الوسائل ١٤ : ٢٤٩ / أبواب زيارة البيت ب ٣ ح ٤.

٣٦٤

كما أنّ الأولى إعادته إذا أكل أو لبس ما لا يجوز أكله أو لبسه للمحرم ، بل وكذا لو تطيب ، بل الأولى ذلك في جميع تروك الإحرام فلو أتى بواحد منها بعدها قبل الإحرام الأولى إعادته (١) ،

______________________________________________________

أحدث ما يوجب وضوء فليعد غسله» (١) والرواية واضحة الدلالة على انتقاض الغسل بمطلق الحدث ، ولا نحتمل الاختصاص بغسل الزيارة كما عرفت.

وأمّا من حيث السند فالرواية موثقة اصطلاحاً بإسحاق لأنه فطحي ثقة ، وأمّا عبد الله الواقع في السند فإن كان ابن سنان كما صرّح به في التهذيب (٢) فلا كلام وإلّا فالرواية معتبرة أيضاً ، لأنّ عبد الله مردد بين ابن سنان وبين عبد الله بن جبلة وكلاهما ثقة ، وهما يرويان عن إسحاق بن عمّار ويروي عنهما موسى بن القاسم ، وأمّا عبد الله ابن مسكان أو عبد الله بن المغيرة وإن كانا يرويان عن إسحاق بن عمّار ولكن لا يروي عنهما موسى بن القاسم ، وأمّا احتمال كونه عبد الله بن يحيى الكاهلي لأجل روايته عن إسحاق بن عمّار ورواية موسى بن القاسم عنه فيبعده أن عبد الله عند الإطلاق لا ينصرف إليه لأنّه غير معروف.

وروى الكليني (٣) أيضاً عن إسحاق بن عمّار بسند آخر مثل ما تقدّم.

(١) قد عرفت بما لا مزيد عليه انتقاض الغسل بالنوم وبغيره من الأحداث واستحباب إعادة الغسل إذا أحدث قبل الإحرام ، كما أنه لا ينبغي الإشكال في استحباب إعادة الغسل إذا أكل أو لبس ما لا يجوز أكله أو لبسه للمحرم ، بل وكذا لو تطيب ، ويشهد له النصوص :

منها : صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «إذا لبست ثوباً لا ينبغي لك لبسه أو أكلت طعاماً لا ينبغي لك أكله فأعد الغسل» (٤).

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٤٨ / أبواب زيارة البيت ب ٣ ح ٢.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٥١ / ٨٥٠.

(٣) الكافي ٤ : ٥١١ / ٢ ، الوسائل ١٤ : ٢٩٤ / أبواب زيارة البيت ب ٤ ح ٣.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٣٢ / أبواب الإحرام ب ١٣ ح ١.

٣٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : صحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «إذا اغتسلت للإحرام فلا تقنع ولا تطيب ولا تأكل طعاماً فيه طيب فتعيد الغسل» (١).

وظاهر النص وإن كان وجوب الإعادة للأمر بها ولكن الوجوب غير محتمل بعد ما كان الغسل من أصله مستحباً ، فالإعادة كالأصل مستحبة.

ولكن وقع الكلام في أن الأمر بالإعادة إرشاد إلى بطلان الغسل الأوّل كما في إعادة الغسل بعد النوم ، أو أنه أمر مولوي ، ففي الحقيقة يستحب الغسلان؟

ولا يخفى أن الأمر في أمثال هذه الموارد ظاهر في الإرشاد ، ولكن حيث نعلم من أدلّة اخرى أن الطهور لا ينتقض إلّا بالنواقض المعروفة الخمسة ، وليس الأكل أو اللبس لما لا يجوز أكله أو لبسه للمحرم وكذا إتيان بقيّة تروك الإحرام من نواقض الوضوء أو الغسل ، فيكون الأمر بإعادة الغسل أمراً مولوياً استحبابياً ، ففي الحقيقة يكون كلا الغسلين مستحباً ، فقوله : «فتعيد الغسل» يعني من جهة الإحرام لا أنه يعيده لانتقاضه بأكل الطيب أو لبس المخيط ، فلو أكل بعد الغسل ولم يغتسل ثانياً فهو باق على طهارته ، وبناءً على إجزائه عن الوضوء يجوز له إتيان الصلاة ومس الكتاب وكل ما يتوقف على الطهور ، فالأمر بالإعادة غير ناظر إلى انتقاض الغسل باستعمال تروك الإحرام ، وإنما الأمر بالإعادة لأجل الإحرام وعدم الفصل بينه وبين الغسل بإتيان تروك الإحرام.

نعم ، مقتضى رواية القاسم بن محمّد عن علي بن أبي حمزة ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اغتسل للإحرام ثمّ لبس قميصاً قبل أن يحرم ، قال : قد انتقض غسله» (٢) هو انتقاض الغسل وبطلانه ، ولكن السند مخدوش بعلي بن أبي حمزة وهو البطائني الضعيف المعروف المتهم بالكذب ، وأمّا احتمال أن علي بن أبي حمزة هو الثمالي الموثق الممدوح فيبعده أن الثمالي لا توجد له رواية ولا واحدة في الكتب

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٣٢ / أبواب الإحرام ب ١٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٠٣ / أبواب الإحرام ب ١١ ح ١.

٣٦٦

ولو أحرم بغير غسل أتى به وأعاد صورة الإحرام (١) سواء تركه عالماً عامداً أو جاهلاً أو ناسياً ولكن إحرامه الأوّل صحيح باق على حاله ،

______________________________________________________

الأربعة. نعم ، ورد في الكافي (١) في مورد واحد من كتاب الصوم رواية القاسم بن محمّد الجوهري عن علي بن أبي حمزة الثمالي ، ولكن في نسخة اخرى علي بن أبي حمزة من غير تقييد بالثمالي ، وهو الصحيح الموافق للفقيه (٢) والتهذيب (٣) ، ومن المطمأن به أنّ علي بن أبي حمزة المذكور في السند هو البطائني لكثرة رواية القاسم بن محمّد الجوهري عنه.

(١) للأمر به في صحيحة الحسن بن سعيد ، قال : «كتبت إلى العبد الصالح أبي الحسن (عليه السلام) : رجل أحرم بغير صلاة أو بغير غسل جاهلاً أو عالماً ، ما عليه في ذلك؟ وكيف ينبغي له أن يصنع؟ فكتب ، يعيده» (٤) أي يعيد الإحرام ، ولا ينبغي الريب في عدم وجوب الإعادة والإتيان به ثانياً ، إذ لا وجه للوجوب بعد ما كان الغسل من أصله مستحبّاً ، ولذا قال في الجواهر : لا أجد له وجهاً ، ضرورة عدم تعقل وجوب الإعادة مع كون المتروك مندوباً (٥). على أنّ السائل لم يسأل عن أصل الحكم وعن وجوب الإعادة وعدمه ، وإنما يسأل عن كيفية التدارك ، فالرواية ليست في مقام بيان أصل الحكم.

إنما الكلام في الحكم باستحباب إعادة الإحرام والإتيان به ثانياً ، وأنه كيف يمكن الإحرام بعد الإحرام ليحكم باستحبابه أو وجوبه على قول ، وهل إعادة الإحرام أمر معقول أم لا؟ فإن المفروض أن الإحرام لا يحل منه إلّا بعد الفراغ من الأعمال بالحلق أو التقصير ، وما لم يفرغ من المناسك فهو باق على إحرامه ، فكيف يستحب للمحرم

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٥٦ / ٢.

(٢) الفقيه ٢ : ١٠٢ / ٤٥٩.

(٣) التهذيب ٥ : ٦٥ / ٢٠٩.

(٤) الوسائل ١٢ : ٢٤٧ / أبواب الإحرام ب ٢٠ ح ١.

(٥) الجواهر ١٨ : ١٥٨.

٣٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أن يحرم ثانياً ويعيده قبل الشروع في الأعمال أو الفراغ منها.

ومن ثمّ وقع الكلام بين الأصحاب في معنى الحديث ، وفي بيان المراد من استحباب الإعادة ، فعن بعضهم كابن إدريس إنكار الاستحباب ، وقال فيما حكي عنه في مقام الرد على الشيخ (قدس سره) : إن أراد أنه نوى الإحرام وأحرم ولبى من دون صلاة وغسل فقد انعقد إحرامه ، فأي إعادة تكون عليه ، وكيف يتقدر ذلك؟ وإن أراد أنه أحرم بالكيفية الظاهرة من دون النيّة والتلبية فيصح ذلك ويكون لقوله وجه ، فحمل الإحرام الصادر منه أوّلاً على الإحرام الصوري (١).

ويرده بأن الظاهر من الرواية أن الإحرام قد صدر من الرجل ، وإنما فقد منه مجرّد الصلاة أو الغسل ، فحملها على فقدان النيّة والتلبية بعيد جدّاً.

وعن البعض الآخر كالمصنف (قدس سره) حمل الإعادة على صورة الإحرام ، فالإحرام الحقيقي هو الأوّل والثاني صورة الإحرام فيعيد مجرد التلبية. وعن آخرين أن الإحرام الثاني هو الإحرام الحقيقي ، وهو وإن كان مستحباً ولكن يوجب بطلان الإحرام الأوّل فكأنه لم يحرم من الأوّل. وبعبارة اخرى : الإحرام الأوّل مشروط بشرط متأخر وهو الإحرام الثاني ، ويصح الإحرام الأوّل ما لم يأت بالإحرام الثاني فإذا أتى به ثانياً بطل الإحرام الأوّل ، نظير التكبيرة الثانية بنيّة الشروع في الصلاة.

وذهب بعضهم إلى أنه لا مانع من انعقاد الإحرام بعد الإحرام وكلا الإحرامين حقيقي صحيح ، والأوّل واجب على فرض وجوب الحج والثاني مستحب ، نظير الصلاة المعادة جماعة ، ويحسب له في الواقع أفضلهما ، نحو ما ورد في الصلاة جماعة فالأوّل صحيح وإن استحب له الإعادة التي لا تبطله ، فالحكم بالإعادة حكم تعبّدي شرعي لتدارك الفضيلة ، وهذا الوجه اختاره صاحب الجواهر (٢) ، وهو الصحيح ويوافق ظاهر الرواية لأنّ الظاهر منها إعادة نفس ما أتى به أوّلاً ، وأن الإعادة إعادة حقيقة للإحرام الأوّل ولا موجب لبطلانه.

__________________

(١) السرائر ١ : ٥٣٢.

(٢) الجواهر ١٨ : ١٨٩.

٣٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ودعوى أنه لا معنى للإحرام الثاني ، إن أُريد به عدم التكرر في الحكم الشرعي المترتب على الإحرام كحرمة الصيد وحرمة لبس المخيط واستعمال الطيب ونحوها فالأمر كما ذكر ، لعدم التعدد في الحكم الشرعي ، ولا معنى للقول بأنه يحرم عليه لبس المخيط ثانياً كما حرم عليه أوّلاً ، ولكن ليس هذا معنى الإحرام بل ذلك حكم مترتب على الإحرام ، فإن الإحرام له معنيان :

أحدهما : الالتزام بترك المحرمات ولو إجمالاً إلى أن يفرغ من الأعمال ، كما صرّح به الشيخ الأنصاري (قدس سره) في مناسكه ، ولذا لو كان بانياً من الأوّل أن يلبس المخيط أو يصيد فسد إحرامه لعدم التزامه بالترك.

ثانيهما : أن الإحرام هو التكلم بالتلبية مقدّمة للإتيان بالأعمال ، فقوله (لبّيك) قبول منه لإتيان الأعمال وليس وراء ذلك شي‌ء آخر ، فحال التلبية حال تكبيرة الإحرام للصلاة بقصد إتيان بقيّة أفعال الصلاة ، فلو كان قاصداً للصيد أو لبس المخيط أو الاستظلال لا يضر بإحرامه وإن كان بانياً من الأوّل إتيان بعض التروك.

نعم ، القصد إلى بعض التروك في أثناء الأعمال كالجماع يضر بإحرامه ، لأنّه لم يكن قاصداً لإتيان حج صحيح ، فأمر الإحرام دائر بين اثنين إمّا أنه الالتزام بترك المحرمات وإمّا أنّه التلبية ، والصحيح هو الثاني كما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى وعلى كلا التقديرين لا مانع من إعادة الإحرام وتعدّده ، إذ لا مانع من تعدد الالتزام كما لا مانع من إبراز الإحرام بالتلبية ثانياً ، وليس في تكرار التلبية أو الالتزام أي محذور ، غاية الأمر الإحرام الثاني مصداق للمستحب كما أنّ الإحرام الأوّل مصداق للواجب ، فكل منهما إحرام حقيقي ، نظير تكرار الوضوء فإنّ الوضوء بعد الوضوء نور على نور ، فالوضوء الأوّل صحيح وكذا الوضوء الثاني ، نعم لا معنى لتكرار الطّهارة الحاصلة من الوضوء وأمّا نفس الأفعال والأعمال فلا مانع من الالتزام بأنّ كلا الفردين حقيقيان ، غاية الأمر أحدهما واجب والآخر مستحب فكل منهما امتثال لأمره.

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ودعوى : أن التعبير بالإعادة كما في النص كاشف عن بطلان الأوّل ، لأنّ المتفاهم من لفظ الإعادة هو بطلان ما أتى به أوّلاً ، فإن الإعادة عبارة عن الإتيان بالشي‌ء ثانياً بعد الإتيان به أوّلاً ، لوقوعه على نوع خلل كتجرده عن شرط معتبر أو اقترانه بأمر مبطل كما عن الرياض (١) ، فاسدة ، إذ لا موجب للبطلان ، لأنّ المفروض أن أصل الحكم في نفسه مستحب ، فالالتزام ببطلان الإحرام الأوّل لفقدان الغسل بلا موجب ، بل هو باق على حاله وعلى إحرامه ، غاية الأمر يستحب له إعادة الإحرام مع الغسل.

والحاصل : لو تمّ ما ذكرناه من صحّة كلا الإحرامين فهو ، وإلّا فيتعين ما ذهب إليه المصنف من أن الإحرام الثاني صوري فلا موجب لبطلان الإحرام الأوّل أصلا.

فلا مانع من صحّة كلا الإحرامين لعدم المنافاة بينهما. وتوضيح ذلك يبتني على بيان حقيقة الإحرام.

فإن قلنا بأن الإحرام أمر اعتباري يحصل بالتلبية أو بالإشعار وهو مسبب من أحدهما ، نظير حصول الطّهارة من الوضوء أو الغسل ، فبناءً على هذا لا معنى لتكرار الإحرام ، لعدم تعقل تكرار أمر اعتباري ، لأنّ المفروض أنه قد حصل بالأوّل فلا معنى لحصوله ثانياً بسبب آخر ، فالشخص الواحد لا يمكن أن يكون محرماً بإحرامين ، فإن ذلك من اجتماع المثلين وذلك محال حتى في الأُمور الاعتبارية ، فلا محيص حينئذٍ إلّا من الالتزام بكون الإحرام الثاني صورياً أو حقيقياً والإحرام الأوّل باطلاً كما استظهره بعضهم من النص ، بدعوى أن إعادة الإحرام ظاهرة في الإحرام الحقيقي.

وإن قلنا بأنه لا دليل على كون الإحرام أمراً اعتبارياً وإن أمكن القول به بالنسبة إلى الطهور في باب الوضوء والغسل كما ذهب إليه بعضهم ، وإن كان الصحيح خلاف ذلك حتى في مثل الطهور ، فإنه ليس أمراً اعتبارياً حاصلاً من الوضوء أو الغسل ، بل

__________________

(١) رياض المسائل ٦ : ٢٤٠.

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الطهور اسم لنفس الأفعال من الغسلتين والمسحتين ، ويظهر ذلك من روايات النواقض ، فإنها تدل بوضوح على أن الوضوء له البقاء ، ولذا يصح أن يقال : إنه نام وهو على وضوء أو أنه فعل وهو على وضوء ونحو ذلك من التعابير التي تدل على قابلية بقاء الوضوء ، وأنه ليس أمراً خارجياً ينقضي وينصرم.

وبالجملة : يظهر من الروايات بل من نفس الآية الشريفة أنّ الطهور والغسل أو الوضوء شي‌ء واحد ، ولذا أُمر بالطهور في مورد واحد وأُمر بالغسل في نفس المورد في آية أُخرى ، قال عزّ من قائل (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (١) وذكر في آية أُخرى (وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (٢) وليس ذلك من باب تعلق الأمر بالسبب مرّة وبالمسبب اخرى ، بل ذلك من باب أنهما شي‌ء واحد ، فالطهور اسم لنفس هذه الأفعال الخاصّة.

هذا حال الطهور بالنسبة إلى الوضوء أو الغسل وإن أبيت إلّا عن كون الطّهارة أمراً اعتبارياً حاصلاً من الوضوء أو الغسل إلّا أن الإحرام ليس كذلك ، إذ لا دليل على أنه أمر اعتباري سببه التلبية أو الإشعار ، وعلى فرض التسليم لا بدّ من القول بكون الثاني صورياً ، أو أنه حقيقي والأوّل باطل لامتناع اجتماع المثلين.

فبناءً على عدم كون الإحرام أمراً اعتبارياً كما هو الصحيح يدور أمره بين كونه عبارة عن توطين النفس على ترك المحرمات المعلومة ، أو أنه نفس التلبية ونحوها كالإشعار والتقليد ، نظير تكبيرة الإحرام ، وعلى كل تقدير لا مانع من صحّة الإحرامين ، إذ لا محذور في أن يوطن نفسه مرّتين على ترك المحرمات ، ولا يستلزم من ذلك اجتماع المثلين كما في باب النذر ، فإنه يجوز أن ينذر الشي‌ء المنذور مرّة ثانية بأن يوطن نفسه على إتيان ذلك الشي‌ء المنذور ، نعم وجوب الوفاء لا يتكرر وإنما يتأكّد ، ولا مانع من تكرار الكفّارة لتكرر الحنث بمخالفة النذر ، نظير ما إذا نذر صيام

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) النساء ٤ : ٤٣.

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

شهر رمضان وخالف فإنه يترتب عليه كفارة تعمد الإفطار وكفارة حنث النذر.

فلا نرى مانعاً من تعدد الالتزام والبناء ، ويكون الالتزام المتأخر وتوطين النفس الثاني غير التوطين الأوّل. كما أنه لا مانع من تعدد التلبية بقصد الحج ، وإنما لا يتعدّد الحكم الشرعي من حرمة الصيد وحرمة لبس المخيط ، فإن ذلك حكم واحد يترتب على التلبيتين والالتزامين فلا مانع من أن يكون كل منهما إحراماً حقيقيا (١).

بقي الكلام في شي‌ء وهو أنه إذا ارتكب المحرم بعض المحرمات بعد الإحرامين بناءً على صحّتهما وكون كل منهما إحراماً حقيقياً ، فهل يتعدد العقاب أو الكفّارة لأجل تعدد الإحرام أم لا؟

وصاحب الجواهر (قدس سره) مع أنه تعرّض لهذه المسألة تفصيلاً ولكنّه لم يتعرّض إلى ما ذكرنا ، ولعل عدم تعرضه لأجل الوضوح ، لأنّ هذه الأُمور المحرّمة مترتبة على المحرم لا الإحرام ، خلافاً لباب النذر.

بيان ذلك : أنّ النذر هو الالتزام بشي‌ء وعقد القلب عليه فهو فعل قلبي قابل للتعدد ، فإذا نذر إتيان فعل يمكن أن ينذره ويلتزم به ثانياً ويعقد قلبه على ذلك ، فإذا خالف ولم يأت بالمنذور أصلاً تعددت الكفّارة ، لأنّ كل نذر موضوع مستقل للكفارة ، والكفّارة إنما تترتّب على مخالفة الالتزام. وبعبارة اخرى : موضوع الكفّارة مخالفة النذر ، وهي من آثار نفس الالتزام والنذر ، فإذا كان النذر متعدداً تتعدّد الكفّارة طبعاً ، نعم وجوب الوفاء لا يتعدّد وإنما يتأكد بالنذر الثاني ، لأنّ الحكم الشرعي غير قابل للتعدد ، وهكذا في اليمين والعهد ، هذا كلّه في باب النذر.

وأمّا الإحرام فالمحرمات غير مترتبة على الإحرام حتى يتعدّد العقاب بتعدّد الإحرام ، وإنما هي مترتبة على المحرم وهو شخص واحد ، بلا فرق بين أن يكون المحرم محرماً بإحرامين أو بإحرام واحد.

__________________

(١) سيأتي في ذيل المسألة الخامسة من (فصل في كيفية الإحرام) أن سيّدنا الأُستاذ دام ظلّه عدل عما ذهب إليه هنا من الحكم بصحّة الإحرامين واختار عدم الصحّة ، وسنتعرض لذلك إن شاء الله تعالى.

٣٧٢

فلو أتى بما يوجب الكفّارة بعده وقبل الإعادة وجبت عليه (١). ويستحب أن يقول عند الغسل أو بعده. بسم الله وبالله اللهمّ اجعله لي نوراً وطهوراً وحرزاً وأمناً من كل خوف وشفاءً من كل داء وسقم ، اللهمّ طهرني وطهر قلبي واشرح لي صدري وأجر على لساني محبتك ومدحتك والثناء عليك فإنه لا قوّة إلّا بك وقد علمت أن قوام ديني التسليم لك والاتباع لسنّة نبيّك صلواتك عليه وآله.

الرابع : أن يكون الإحرام عقيب صلاة فريضة أو نافلة ، وقيل بوجوب ذلك لجملة من الأخبار الظاهرة فيه المحمولة على الندب للاختلاف الواقع بينها واشتمالها على خصوصيات غير واجبة ، والأولى أن يكون بعد صلاة الظهر في غير إحرام حج التمتّع فإن الأفضل فيه أن يصلّي الظهر بمنى ، وإن لم يكن في وقت الظهر فبعد صلاة فريضة أُخرى حاضرة ، وإن لم يكن فمقضية ، وإلّا فعقيب صلاة النافلة.

______________________________________________________

(١) إذا ارتكب شيئاً من المحرمات بين الإحرامين وقبل الغسل فهل تجب الكفّارة أم لا؟

إذا قلنا بأن الإعادة صورية أو قلنا بصحّة الإحرامين معاً كما قويناه فلا ينبغي الإشكال في وجوب الكفّارة ، لأنه أتى بما يوجبها حال كونه محرما.

وأمّا على القول ببطلان الأوّل فما ارتكبه إنما أتى به قبل بطلان إحرامه ، فإن الإحرام الأوّل على القول ببطلانه إنما يبطل إذا أتى بالإحرام الثاني وما لم يأت بالإحرام الثاني لم يبطل الإحرام الأوّل ، فحينئذٍ إذا أتى بما يوجب الكفّارة قبل الإحرام الثاني فهل تجب الكفّارة أم لا؟ فيه كلام ، قال بعضهم بعدم الوجوب ، وذهب آخر إلى الوجوب.

أقول : إن البطلان في المقام ليس بمعنى اكتشاف فساد الإحرام الأوّل من أصله وأنه لم يقع في محله ، كالإحرام للحج في مورد تبين عدم الاستطاعة واقعاً ، فإن الحج في هذه الصورة لم يتصف بالوجوب وإنما تخيل أنه واجب ، ولذا لو ارتكب بعض التروك

٣٧٣

الخامس : صلاة ست ركعات أو أربع ركعات أو ركعتين للإحرام ، والأولى الإتيان بها مقدّماً على الفريضة ، ويجوز إتيانها في أي وقت كان بلا كراهة حتى في الأوقات المكروهة وفي وقت الفريضة حتى على القول بعدم جواز النافلة لمن عليه فريضة ، لخصوص الأخبار الواردة في المقام ، والأولى أن يقرأ في الركعة الأُولى بعد الحمد التوحيد وفي الثانية الجحد لا العكس كما قيل.

[٣٢٢٩] مسألة ٢ : يكره للمرأة إذا أرادت الإحرام أن تستعمل الحِنّاء إذا كان يبقى أثره إلى ما بعده مع قصد الزينة ، بل لا معه أيضاً إذا كان يحصل به الزينة وإن لم تقصدها ، بل قيل بحرمته ، فالأحوط تركه وإن كان الأقوى عدمها والرواية مختصّة بالمرأة لكنّهم ألحقوا بها الرّجل أيضاً لقاعدة الاشتراك ولا بأس به ، وأمّا استعماله مع عدم إرادة الإحرام فلا بأس به وإن بقي أثره ، ولا بأس بعدم إزالته وإن كانت ممكنة.

______________________________________________________

فلا شي‌ء عليه لعدم كونه محرماً واقعاً وعدم كونه حاجّاً ، بل المراد بالبطلان في المقام أنّه بالإحرام الثاني يتبدل إحرامه إلى فرد آخر ، فلم يأت عليه زمان وهو محلّ وإنّما هو محرم حدوثاً بالإحرام الأوّل وبقاءً بالإحرام الثاني ، وأقصى ما يلزم من الاعتداد بالإحرام الثاني والقول بصحّته تبدل الإحرام الأوّل بالإحرام الثاني لا بطلان الإحرام الأوّل وفساده بالمرّة ، وذلك لأنّ مقتضى ما يستفاد من النص الآمر بالإعادة تبدّل الإحرام الأوّل إلى الإحرام الثاني ، فلم يكن محلّاً في زمان أصلاً ليقع بعض التروك حال الحل ، فالظاهر وجوب الكفّارة إذا أتى بما يوجبها بين الإحرامين حتى على القول ببطلان الإحرام الأوّل ، لأنّ ما أتى به من التروك يكون قد أتى به في حال الإحرام فلا مانع من شمول إطلاقات الأدلّة له ، لأنه محرم قد لبس المخيط مثلاً.

ثمّ إنّ المذكور في النص إعادة الإحرام لمن ترك الغسل جهلاً ، وأمّا الناسي فلم يذكر في النص ، ولذا وقع الكلام في حكمه ، وقد ألحقوه بالجاهل للفحوى والأولوية وقد نوقش في ذلك.

٣٧٤

فصل

في كيفية الإحرام

وواجباته ثلاثة :

الأوّل : النيّة ، بمعنى القصد إليه ، فلو أحرم من غير قصد أصلاً بطل (*) ، سواء كان عن عمد أو سهو أو جهل ، ويبطل نسكه أيضاً إذا كان الترك عمداً وأمّا مع السّهو والجهل فلا يبطل ويجب عليه تجديده من الميقات إذا أمكن ، وإلّا فمن حيث أمكن على التفصيل الذي مرّ سابقاً في ترك أصل الإحرام (١).

______________________________________________________

والصحيح أن يقال : إنّه لا حاجة إلى هذه الوجوه الضعيفة ، بل الناسي داخل في الجاهل. بيان ذلك : أنّ العلم والجهل لا بدّ من تحقق أحدهما في المورد القابل ، لأنّ التقابل بينهما في المورد القابل بالعدم والملكة ، فحالهما حال النقيضين من عدم جواز خلو المورد من أحدهما ولزوم الاتصاف بأحدهما ، كما هو الحال في الإنسان فإنّه لا يخلو من أحدهما ، نظير القدرة والعجز والعمى والبصر ، نعم الجدار أو الحجر ونحو ذلك لا يتصف بشي‌ء منهما لعدم قابليته لذلك.

ثمّ إنّ الجهل قد يكون مسبوقاً بالعلم وقد لا يكون مسبوقاً به والأوّل يسمى بالنسيان ، ويجمعهما الجهل بالفعل وعدم العلم بالشي‌ء ، فالناسي قسم من أقسام الجاهل وليس قسماً ثالثاً في قبال العالم والجاهل ، فمن كان عالماً بشي‌ء ونسي فهو جاهل بالفعل ، والنص وإن بيّن حكم الجاهل إلّا أن إطلاقه يشمل الناسي لأنه فرد من أفراد الجاهل ، فالنص بنفسه يتكفل حكم الناسي فلا حاجة إلى التشبث بالوجوه الضعيفة.

(١) لا ريب في أنّ الواجب الأوّل في الحج هو الإحرام ، وقد وقع الكلام في

__________________

(*) فيجري عليه حكم تارك الإحرام ، وقد مرّ تفصيل ذلك [في المسألة ٣٢٢١ التعليقة ٤].

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

حقيقته ، فهل هو أمر اعتباري مغاير للتلبية والالتزام بترك الأُمور المعلومة وأنه مغاير لحكم الشارع بحرمة الأُمور المعهودة ، فهو نظير الطّهارة المترتبة على الوضوء ، أم أنه عبارة عن التلبية؟

وغير خفي أنّ المتحقق في الخارج ليس إلّا عزم المكلف على ترك المحرمات المعلومة ، والتلبية ، وحكم الشارع بحرمة هذه الأُمور ، وليس وراء هذه الأُمور الثلاثة شي‌ء آخر يسمّى بالإحرام.

أمّا العزم على ترك المحرمات وتوطين النفس على ترك المنهيات المعهودة فقد التزم الشيخ الأنصاري (١) بل المشهور بأنه حقيقة الإحرام ، ولذا ذكروا أنه لو بنى على ارتكاب شي‌ء من المحرمات بطل إحرامه لعدم كونه قاصداً للإحرام.

ويردّ : بأن ما ذكر لا يستظهر من شي‌ء من الأدلّة ، ولذا لو حج شخص وهو غير عالم بالمحرمات صحّ حجّه وإحرامه ، فالبناء والعزم على الترك ليس من مقومات الإحرام ، وأمّا المحرمات المعهودة فهي أحكام شرعيّة مترتبة على الإحرام.

والذي يظهر من الروايات أن التلبية سبب للإحرام وحالها حال تكبيرة الإحرام للصلاة ، فهي أوّل جزء من أجزاء الحج ، كما أن التكبيرة أوّل جزء من أجزاء الصلاة وبالتلبية أو الإشعار يدخل في الإحرام ويحرم عليه تلك الأُمور المعلومة وما لم يلب يجوز له ارتكابها ، والروايات في هذا المعنى كثيرة.

منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج «في الرجل يقع على أهله بعد ما يعقد الإحرام ولم يلبّ ، قال : ليس عليه شي‌ء» (٢) فإنها تدل بوضوح على أنه ما لم يلب لا يترتّب على الجماع شي‌ء ، وهذا يكشف عن عدم تحقق الإحرام قبل التلبية ، إذ لا معنى لأنّ يكون محرماً ومع ذلك يجوز له الجماع ، فالمراد من قوله : «بعد ما يعقد الإحرام» عقد القلب على الإحرام والعزم والبناء عليه.

__________________

(١) نسب في المستمسك ١١ : ٣٥٨ هذا القول إلى الشهيد فراجع.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٣٣ / أبواب تروك الإحرام ب ١١ ح ١.

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : صحيحة حفص البختري «فيمن عقد الإحرام أي بنى عليه وعقد قلبه على ذلك في مسجد الشجرة ، ثمّ وقع على أهله قبل أن يلبّي؟ قال : ليس عليه شي‌ء» (١) فإن المستفاد منها أن العبرة بالتلبية وقبل التلبية لا يترتّب على الجماع شي‌ء فيعلم أن التلبية سبب للإحرام.

وليعلم أن أهل اللغة ذكروا لكلمة أحرم معنيين :

أحدهما : أن يحرّم الإنسان على نفسه شيئاً كان حلالاً له.

ثانيهما : أن يدخل نفسه في حرمة لا تهتك (٢).

والمعنى الثاني أنسب ، لأنه يدخل بالتلبية في حرمة الله التي لا تهتك ، والتلبية توجب دخوله في حرمة الله فيقال أحرم أي أدخل نفسه في تلك الحرمة التي لا تهتك.

ومنها : صحيحة حماد بن عيسى عن حريز «فإنه إذا أشعرها وقلدها وجب عليه الإحرام وهو بمنزلة التلبية» (٣) ووجب بمعنى ثبت ، أي إذا أشعرها ثبت واستقر عليه الإحرام وصار محرماً بذلك.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : يوجب الإحرام ثلاثة أشياء : التلبية والإشعار والتقليد ، فإذا فعل شيئاً من هذه الثلاثة فقد أحرم» (٤) وهذه الصحيحة أوضح دلالة من الصحاح المتقدِّمة ، حيث تدل بصراحة على أن الذي يوجب الدخول في الحرمة التي لا تهتك ، أحد هذه الأُمور الثلاثة ، وأن الإحرام يتحقّق بأحدها.

ومنها : صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «من أشعر بدنته فقد أحرم وإن لم يتكلم بقليل ولا كثير» (٥) باعتبار أن الإشعار في حج القران مكان التلبية.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٣٧ / أبواب الإحرام ب ١٤ ح ١٣.

(٢) أقرب الموارد ١ : ١٨٤.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٧٩ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ١٩.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٧٩ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ٢٠.

(٥) الوسائل ١١ : ٢٧٩ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ٢١.

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : صحيحة معاوية بن وهب «عن التهيؤ للإحرام ، فقال : في مسجد الشجرة ، فقد صلّى فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد ترى أُناساً يحرمون فلا تفعل حتى تنتهي إلى البيداء حيث الميل فتحرمون كما أنتم في محاملكم ، تقول : لبيك اللهمّ لبيك» (١) وهذه الصحيحة أيضاً واضحة الدلالة ولعلّها أوضح ممّا سبق ، لقوله : «فتحرمون كما أنتم في محاملكم تقول : لبيك» مع النهي عن الإحرام في مسجد الشجرة فقبل التلبية لا إحرام.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار «إذا فرغت من صلاتك وعقدت ما تريد أي عزمت على الإحرام فقم وامش هنيهة (هنيئة) ، فإذا استوت بك الأرض ماشياً كنت أو راكباً فلب» (٢) وغير ذلك من الروايات المذكورة في أبواب متفرِّقة ، فإنّ المستفاد من جميعها أن التلبية سبب للإحرام وما لم يلب لم يكن بمحرم وليس عليه شي‌ء.

وأمّا ما ورد في بعض الروايات من عقد الإحرام أو الأمر بعقد الإحرام الذي يتوهّم منه أنه الإحرام دون التلبية فهو غير صحيح ، وذلك لأنّ المراد بهذه الكلمة «عقد الإحرام» إمّا العزم والبناء على نفسه بترك المحرمات المعهودة ، أو يراد بها الإتيان بجميع مقدّمات الإحرام حتى لبس الثوبين ، ولعلّ الثاني أنسب ، ولكن ذلك لا علاقة له بنفس الإحرام ، لأنّ الروايات كما عرفت صريحة في كون التلبية سبباً للإحرام وما لم يلب لم يتحقق منه الإحرام ، وليس بإزاء هذه الروايات الكثيرة الواضحة دلالة ما يوجب رفع اليد عنها ، فالقول بأنّ الإحرام غير التلبية ، وأنه هو البناء والعزم على الترك وتوطين النفس على ذلك كما عن الشيخ الأنصاري (قدس سره) ، بحيث لو كان بانياً على ارتكاب بعض المحرّمات لبطل حجّه وإحرامه ، ممّا لا وجه له أصلا.

نعم ، في البين خبران يظهر منهما أن الإحرام يتحقّق قبل التلبية ، ولكن لا بدّ من رفع اليد عن ظهورهما بحملهما على العزم على الإحرام أو إتيان مقدّمات الإحرام والتهيؤ له ، لصراحة الروايات المتقدّمة على خلافهما.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٧٠ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ٣ ، ٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٧٠ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ٣ ، ٢.

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : مرسل النضر عن بعض أصحابه ، قال : «كتبت إلى أبي إبراهيم (عليه السلام) : رجل دخل مسجد الشجرة فصلّى وأحرم وخرج من المسجد فبدا له قبل أن يلبي أن ينقض ذلك بمواقعة النساء ، إله ذلك؟ فكتب : نعم أو لا بأس به» (١) فإنّه دال على تحقّق الإحرام قبل التلبية ، والجواب ما عرفت مضافاً إلى ضعف السند بالإرسال.

ثانيهما : صحيح معاوية بن عمّار قال (عليه السلام) : «صلّ المكتوبة ثمّ أحرم بالحج أو بالمتعة واخرج بغير تلبية حتى تصعد إلى أوّل البيداء إلى أوّل ميل عن يسارك فإذا استوت بك الأرض راكباً كنت أو ماشياً فلبّ» (٢) فإنه أيضاً يدل على وقوع الإحرام قبل التلبية ، إلّا أنه لا بدّ من حمله على المقدّمات مثل التجرّد من المخيط ولبس الثوبين ، لما عرفت من صراحة تلك الروايات في حصول الإحرام بالتلبية. وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في كون الروايات صريحة في أنّ التلبية سبب وموجب للإحرام وقبلها لا يتحقق الإحرام.

وإن شئت قلت : إنّ المستفاد من الروايات المعتبرة الكثيرة أن التلبية سبب للإحرام وبها يدخل في الإحرام وقبلها لا يكون محرماً ، ولكن ليس مرادنا من ذلك أن الإحرام يصدق على التلبية أو التلبية صادقة على الإحرام ، بل التلبية تلبية الإحرام لا أنها بنفسها إحرام ، نظير تكبيرة الإحرام فإن المكلف بسبب التكبيرة إذا قصد بها الصلاة يدخل في الصلاة ، وكذلك بالتلبية بقصد الحج يدخل في الإحرام وفي أوّل جزء من الحج ، بل مرادنا أن الإحرام معناه إدخال نفسه في حرمة الله ، غاية الأمر إنما يدخل في حرمة الله بسبب التلبية ، فما لم يلب لم يدخل في الإحرام وفي حرمة الله ، كما إذا لم يكبر لم يدخل في الصلاة وإذا كبر حرم عليه منافيات الصلاة ، وفي المقام تحرم عليه الأُمور المعهودة إذا لبّى ، ولا يتحلّل من ذلك إلّا بالتقصير في العمرة والسعي في الحج.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٣٧ / أبواب الإحرام ب ١٤ ح ١٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٧٠ / أبواب الإحرام ب ٣٤ ح ٦.

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ما استفدناه من الروايات أن الإحرام شي‌ء مترتب على التلبية لا أنه نفس التلبية ، ولذا يعبر عنها بتلبية الإحرام ، ولا يدخل في هذه الحرمة الإلهيّة إلّا بالتلبية.

وتؤكد ذلك : الروايات الكثيرة الدالّة على أن المحرم يحرم عليه كذا أو يجب عليه كذا ، فإن المستفاد منها أن هذه الأحكام مترتبة على من دخل في حرمة الله وموضوع هذه الأحكام هو الداخل في حرمة الله وليس موضوعها الملبي ، فقوله : المحرم يحرم عليه كذا ، ليس المراد به من لبى يحرم عليه كذا ، بل يظهر من الروايات أن الإحرام أمر إذا دخل فيه المكلف وتحقق منه يحرم عليه هذه الأُمور ، غاية الأمر سبب الإحرام هو التلبية ، والإحرام أو الدخول في حرمة الله مسبب عن التلبية فلا بدّ أن نقول بأن الإحرام أمر اعتباري يترتب عليه هذه الأُمور بسبب التلبية ، ولا يعقل أخذ هذه المنهيات والمحرمات في معنى الإحرام وإلّا للزم الدور وأخذ الحكم في موضوعه وهو أمر غير معقول ، إذ لا يعقل أن نقول إن المحرم الذي حكم عليه بحرمة الصيد يحرم عليه الصيد ، فحال الحج بعينه حال الصلاة في كون التكبيرة أوّل جزء من أجزائها وبها يدخل في الصلاة ، وكذلك التلبية فإنها أوّل جزء من أجزاء الحج وبها يدخل في تلك الحرمة الإلهيّة ، كما في النص الدال على أن الذي يوجب الإحرام ثلاثة : التلبية ، الاشعار ، والتقليد (١).

وإذن فترتب الإحرام على التلبية قهري لا قصدي ، بمعنى أنه إذا لبى بقصد الحج يتحقق الإحرام منه قهراً ولا يتحلل منه إلّا بالتقصير أو السعي ، فتدبّر جيدا.

ثمّ إنه بعد ما عرفت حقيقة الإحرام يقع الكلام في واجباته وهي ثلاثة :

الأوّل : النيّة بمعنى القصد إليه ، فلو أحرم من غير قصد لم يكن آتياً بالإحرام ، لأنّ العمل الصادر من دون قصد كالعمل الصادر سهواً أو غفلة لا يكون اختيارياً له فلا بدّ من القصد إليه ليكون صدوره منه عن اختيار.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٧٩ / أبواب أقسام الحج ب ١٢ ح ٢٠ ، وتقدّم في ص ٣٧٧.

٣٨٠