موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ ذكر المصنف : وإن تمكن من الرجوع والابتعاد بالمقدار الممكن وجب. وستعرف أن الرجوع والعود بالمقدار الممكن لا دليل عليه.

وذهب بعضهم إلى أنه إذا كان مغمى عليه ينوب عنه غيره ، فحال الإحرام حال الطواف من الوجوب عليه بنفسه أوّلاً ثمّ الإطافة به ثمّ الطواف عنه ، واستدل هذا القائل بمرسل جميل «في مريض أُغمي عليه فلم يعقل حتى أتى الوقت ، فقال : يحرم عنه رجل» (١) وذكره في الوسائل في أبواب الإحرام (٢) أيضاً لكن قال فيه : «حتى أتى الموقف» وذكر «الوقت» بعنوان النسخة ، ومقتضى إطلاقه عدم وجوب العود إلى الميقات بعد الإفاقة والبرء وإن كان متمكناً ، والاكتفاء بالنيابة عنه ، ولكن المصنف ذكر أن العمل به مشكل ، لإرسال الخبر وعدم الجابر. مضافاً إلى أنه استظهر منه أن المراد به أن يحرمه رجل ويلقنه ويجنبه عن محرمات الإحرام لا أنه ينوب عنه في الإحرام.

ولا يخفى أن ما استظهره من المرسل بعيد جدّاً ، فإن الظاهر منه هو النيابة عنه ، ولو كان الخبر صحيح السند لصح ما ذكره هذا القائل ، والعمدة ضعف الخبر بالإرسال مضافاً إلى اضطراب متنه ، فإن المروي عن الكافي «حتى أتى الوقت» (٣) ، وكذلك رواه في الوسائل عن التهذيب في أبواب المواقيت ، ولذا ذكر في عنوان الباب أو أُغمي عليه في الميقات ، وذكره في أبواب الإحرام حتى أتى الموقف ، كذا في الأصل ، وذكر «الوقت» بعنوان النسخة ، وفي التهذيب المطبوع حديثاً (٤). «حتى أتى الموقف» ، وكذا في الجواهر (٥) والحدائق (٦) ، وفي الوافي «حتى أتى الوقت» (٧).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣٨ / أبواب المواقيت ب ٢٠ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤١٣ / أبواب الإحرام ب ٥٥ ح ٢.

(٣) الكافي ٤ : ٣٢٥ / ٨ والموجود فيه «يحرم منه».

(٤) التهذيب ٥ : ٦١ / ٩٢.

(٥) الجواهر ١٨ : ١٢٨.

(٦) الحدائق ١٤ : ٤٦٤.

(٧) الوافي ١٢ : ٥٠٨.

٣٤١

[٣٢٢٤] مسألة ٦ : إذا ترك الإحرام من الميقات ناسياً أو جاهلاً بالحكم أو الموضوع وجب العود إليه مع الإمكان ، ومع عدمه فإلى ما أمكن (*) إلّا إذا كان أمامه ميقات آخر ، وكذا إذا جاوزها مُحلّاً لعدم كونه قاصداً للنسك ولا لدخول مكّة ثمّ بدا له ذلك فإنه يرجع إلى الميقات مع التمكّن وإلى ما أمكن مع عدمه (١).

______________________________________________________

فإن كان الثابت «الموقف» فالرواية أجنبيّة عن المقام ، وإن كان الثابت «الوقت» فتفيد المقام ولكن لا نعلم بصحّته فتسقط الرواية عن الاستدلال.

(١) ذكر (قدس سره) في هذه المسألة أنه من ترك الإحرام من الميقات عن نسيان أو عن جهل بالحكم أو بالموضوع كالجهل بالميقات يجب عليه العود إلى الميقات مع الإمكان ، وإلّا فإلى ما أمكن ، وهذه المسألة تنحل إلى أربع صور :

الاولى : ما إذا تذكر وتمكن من الرجوع إلى الميقات ، فإنه يجب عليه العود والإحرام من الميقات.

وتدل على ذلك أوّلاً : النصوص العامّة الدالّة على توقيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المواقيت الخمسة وأنه لا يجوز العدول والتجاوز عنها بلا إحرام.

وثانياً : أن النصوص الواردة في المقام بعضها ورد في خصوص الناسي كصحيحة الحلبي ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي أن يحرم حتى دخل الحرم ، قال قال أبي : يخرج إلى ميقات أهل أرضه ، فإن خشي أن يفوته الحج أحرم من مكانه» (١).

وبعضها في خصوص الجاهل كصحيحة معاوية بن عمّار ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة كانت مع قوم فطمثت ، فأرسلت إليهم فسألتهم فقالوا : ما ندري أعليك إحرام أم لا وأنت حائض ، فتركوها حتى دخلت الحرم ، فقال : (عليه

__________________

(*) تقدّم الكلام عليه [في المسألة ٣٢٢١ التعليقة ٤].

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٨ / أبواب المواقيت ب ١٤ ح ١.

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

السلام) إن كان عليها مهلة فترجع إلى الوقت فلتحرم منه فإن لم يكن عليها وقت (مهلة) فلترجع إلى ما قدرت عليه بعد ما تخرج من الحرم بقدر ما لا يفوتها» (١).

وبعضها مطلق يشمل حتى العامد كصحيح آخر للحلبي ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل ترك الإحرام حتى دخل الحرم ، فقال : يرجع إلى ميقات أهل بلاده الذي يحرمون منه فيحرم ، فإن خشي أن يفوته الحج فليحرم من مكانه» (٢) وغير ذلك من الروايات.

والمتحصل من هذه الروايات أن من ترك الإحرام نسياناً أو جهلاً فإن تمكن من الرجوع إلى الميقات وجب العود إليه والإحرام منه.

الثانية : أن يكون في الحرم ولم يمكنه الرجوع إلى الخارج ، ففي صحيح الحلبي أنه يحرم من مكانه ، وإطلاقه يشمل الجاهل والناسي لأنّ موضوع الحكم من ترك الإحرام.

الثالثة : أن يكون في الحرم ولم يمكنه الرجوع إلى الميقات لكن يمكنه الرجوع إلى خارج الحرم ، فحينئذ يجب عليه أن يرجع إلى خارج الحرم والإحرام منه في أي مكان شاء منه ، ولا يجب عليه الابتعاد بالمقدار الممكن لعدم الدليل على ذلك.

وبالجملة : مقتضى إطلاق النصوص هو وجوب الخروج من الحرم والإحرام من الخارج ، سواء في أوّل الحل ورأس الحد أو يبتعد عنه قليلاً أو كثيراً ، فإن العبرة بالإحرام خارج الحرم في أي مكان شاء ، وتقييد هذه المطلقات بمن لا يتمكن من الابتعاد عن الحرم تقييد بالفرد النادر جدّاً ، لأنّ كل من يتمكن من الخروج من الحرم يتمكن من الابتعاد بمقدار مائة ذراع أو مائتين من حدّ الحرم ، فلا يمكن حمل تلك المطلقات المجوزة للإحرام على من لا يتمكن من الابتعاد من الحرم بمقدار مائة ذراع مثلاً. نعم ، ورد الابتعاد بالمقدار الممكن في خصوص الحائض في صحيح معاوية بن

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٩ / أبواب المواقيت ب ١٤ ح ٤.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٣٠ / أبواب المواقيت ب ١٤ ح ٧.

٣٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عمّار المتقدِّمة ، والتعدي عنها إلى غيرها من ذوي الأعذار والناسي والجاهل قياس لا نقول به ، فالمرجع إطلاق النصوص ، ولم يرد فيها أي تقييد عدا ما ورد في خصوص الطامث.

فالمتحصل من هذه النصوص أنه لو كان متمكناً من الرجوع إلى الميقات يجب عليه الرجوع والإحرام هناك ، سواء دخل الحرم أم لا ، وإن لم يتمكن من الرجوع إليها فإن دخل الحرم يجب عليه العود إلى خارج الحرم والإحرام من الخارج من أي مكان شاء ، ولا يجب عليه الابتعاد بالمقدار الممكن ، وإن لم يتمكن من الخروج أحرم من مكانه.

وبإزاء هذه النصوص خبر علي بن جعفر المتقدّم «عن رجل ترك الإحرام حتى انتهى إلى الحرم فأحرم قبل أن يدخله ، قال : إن كان فعل ذلك جاهلاً فليبن مكانه ليقضي ، فإنّ ذلك يجزئه إن شاء الله ، وإن رجع إلى الميقات الذي يحرم منه أهل بلده فإنّه أفضل» (١) فإنّه صريح في عدم وجوب الرجوع إلى الميقات إذا كان جاهلاً وجواز الإحرام من غير الميقات حتى مع التمكن من الرجوع إليها.

ولا يخفى أن المراد بقوله : «فليبن مكانه» أنه يبني على إحرامه ويعتمد عليه ويمضي ولا يرجع إلى الميقات ليعيده.

وأمّا ما احتملناه سابقاً من تصحيف كلمة «فليبن» واحتمال كونها فليلب فبعيد جدّاً ، لأنّ المفروض في السؤال أنه أحرم ولبى فلا حاجة إلى التلبية ثانياً بعد إجزاء الأوّل ، والعمدة ضعف الخبر بعبد الله بن الحسن ، فإنه غير مذكور في الرجال بمدح ولا قدح ، ولو أغمضنا النظر عن ضعف الخبر سنداً لقلنا بعدم وجوب الرجوع بمقتضى هذا الخبر وحمل تلك الروايات على الاستحباب ، ولكن لضعفه لا يمكن الاعتماد عليه فلا حاجة إلى القول بكونه شاذاً ولا قائل بمضمونه.

الصورة الرابعة : ما إذا ارتفع العذر أو تذكر قبل الوصول إلى الحرم ولم يمكنه

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣١ / أبواب المواقيت ب ١٤ ح ١٠ ، وتقدّم في ص ٣٣٥.

٣٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الرجوع إلى الميقات الذي تجاوز عنه ، فقد يفرض أن أمامه ميقاتاً آخر ، كما إذا تجاوز عن مسجد الشجرة بلا إحرام وارتفع العذر في أثناء الطريق قبل الوصول إلى الحرم ولم يتمكن من الرجوع إلى الميقات ، وكان أمامه ميقات آخر كالجحفة ، ففي مثله يجب عليه الإحرام من الجحفة ، وهذا الحكم وإن لم يرد فيه نص بالخصوص فإن النصوص إنما وردت فيمن دخل الحرم ، ولكن الحكم المذكور على القاعدة ، لأنّ الرجوع إلى الميقات الأوّل غير واجب عليه لفرض عدم التمكن منه ، وأمّا لزوم الإحرام من الميقات الذي أمامه فيدل عليه عموم ما دلّ على لزوم الإحرام من الميقات والذهاب إليه وعدم التجاوز عنه إلّا محرما.

وقد يفرض أنه لم يكن أمامه ميقات آخر ، أو تجاوز عنه أيضاً بلا إحرام ولا يتمكن من الرجوع إليه أيضاً ، أو سلك طريقاً لا يمر بميقات أصلاً فذكر في المتن تبعاً لغيره أنه يحرم من مكانه.

أقول : وجوب الإحرام عليه من مكانه مبني على وجوب العود والرجوع بالمقدار الممكن ، وأنه لو أمكنه الابتعاد بأي مقدار كان وجب ، فحينئذ متمكن من الابتعاد فيجب عليه الإحرام من مكانه ولا يجوز له التجاوز عنه بلا إحرام ، وأمّا إذا قلنا بعدم وجوب الابتعاد بالمقدار الممكن كما هو المختار لعدم الدليل عليه فلا يجب عليه الإحرام من مكانه الذي ارتفع العذر فيه ، بل هو مخير في الإحرام من أيّ موضع شاء قبل الوصول إلى الحرم ولو بأن يؤخِّر الإحرام من مكانه ، لأنّ العبرة بوقوع الإحرام في خارج الحرم ، سواء وقع الإحرام في مكان رفع العذر أو وقع قريباً إلى الحرم.

ثمّ إن المصنف ألحق بالناسي من ترك الإحرام من الميقات لعدم كونه قاصداً للنسك ولا لدخول مكّة ثمّ بدا له ذلك ، فإنه يرجع إلى الميقات مع الإمكان وإلى ما أمكن مع عدمه.

أمّا إذا تمكن من الرجوع فلا كلام ، وأمّا إذا لم يتمكن من الرجوع فإن كان أمامه ميقات آخر فيحرم منه لنفس الدليل السابق ، بل المقام أولى من الفرض السابق الذي يقصد الحج وترك الإحرام من الميقات ، لأنّ المفروض في المقام عدم إرادة النسك فلم

٣٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

يكن مأموراً بالإحرام من الميقات الأوّل ، وإنما قصد الحج بعد التجاوز عن الميقات فجواز الإحرام له من الميقات الإمامي أولى من الحكم بجواز الإحرام منه لقاصد الحج من الأوّل ، وإذا لم يكن أمامه ميقات آخر فالظاهر أن المعروف بينهم أنه يحرم من مكانه ، فحاله حال الناسي والجاهل. وربّما يستدل له بالإجماع ، وفيه ما لا يخفى.

وقد يستدل له بإطلاق صحيح الحلبي لقوله : «عن رجل ترك الإحرام» ، فإن ذلك صادق على غير مريد النسك أيضا.

وفيه : أن الظاهر من السؤال أنه ترك الوظيفة المعيّنة المقرّرة له ، والسؤال والجواب ناظران إلى من ترك الوظيفة الواجبة عليه فلا يشمل من ترك الإحرام لعدم قصده إلى الحج أصلا.

والصحيح أن يستدل له بوجهين آخرين :

الأوّل : دعوى الأولوية القطعية ، فإن المكلف بالحج إذا سقط عنه وجوب الإحرام من الميقات وجاز له الإحرام من غير الميقات ، فثبوت هذا الحكم لمن لم يكن مأموراً بالحج من الأوّل واقعاً لعدم المقتضى ، بطريق أولى.

الثاني : ذيل صحيح الحلبي ، فإن صدره وإن كان لا يشمل غير مريد النسك كما عرفت ولكن ذيله لا مانع من شموله له ، لقوله : «فإن خشي أن يفوته الحج فليحرم من مكانه» ، فإنه يستفاد منه جواز الإحرام من غير الميقات في كل مورد يخشى أن يفوت الحج منه ، والمفروض أن هذا الشخص قد وجب عليه الحج بالفعل ولا يجوز له التسويف ، وفرضنا أنه لا يتمكن من الذهاب إلى الميقات لضيق الوقت ونحوه من الاعذار ، فيحرم من غير الميقات ، فإن كان في الحرم وتمكن من الخروج إلى الحل يخرج ويحرم من الخارج ، وإن لم يتمكن من الخروج يحرم من مكانه ، وإن كان في خارج الحرم فيحرم من أي موضع شاء قبل الوصول إلى الحرم.

وبالجملة : مورد السؤال وإن كان لا يشمل المقام ولكن تعليله بخشية فوت الحج شامل له ، فإن المستفاد من التعليل أن المدار في جواز الإحرام من الميقات بخوف فوت الحج الواجب عنه.

٣٤٦

[٣٢٢٥] مسألة ٧ : من كان مقيماً في مكّة وأراد حج التمتّع وجب عليه الإحرام لعمرته من الميقات (*) إذا تمكن ، وإلّا فحاله حال الناسي (١).

[٣٢٢٦] مسألة ٨ : لو نسي المتمتع الإحرام للحج بمكّة ثمّ ذكر وجب عليه العود مع الإمكان وإلّا ففي مكانه ولو كان في عرفات بل المشعر وصحّ حجّه وكذا لو كان جاهلاً بالحكم ، ولو أحرم له من غير مكّة مع العلم والعمد لم يصح وإن دخل مكّة بإحرامه بل وجب عليه الاستئناف مع الإمكان وإلّا بطل حجّه نعم لو أحرم من غيرها نسياناً ولم يتمكن من العود إليها صحّ إحرامه (**) من مكانه (٢).

______________________________________________________

(١) قد تقدّم حكم ذلك مبسوطاً في المسألة الرابعة من فصل أقسام الحج فلا موجب للإعادة.

(٢) هذه المسألة قد لمّح إليها المصنف فيما سبق ، وهي أنه لو ترك الإحرام للحج بمكّة عالماً عامداً وذهب إلى عرفات فإن لم يتمكن من العود بطل حجّه ، لأنه ترك الجزء الواجب عمداً بلا عذر فلم يأت بالمأمور به على وجهه ، وأمّا إذا تركه جهلاً يجب عليه الإحرام حينما يتذكر ، فإن تمكن من العود إلى مكّة فهو وإلّا فيحرم من مكانه ، فإن العبرة بخشية فوت الموقف كما يستفاد ذلك من ذيل صحيح الحلبي المتقدِّم مضافاً إلى صحيح علي بن جعفر ، قال : «سألته عن رجل نسي الإحرام بالحج فذكر وهو بعرفات ما حاله؟ قال يقول : اللهمّ على كتابك وسنّة نبيّك فقد تمّ إحرامه ، فإن جهل أن يحرم يوم التروية بالحج حتى رجع إلى بلده إن كان قضى مناسكه كلّها فقد تمّ حجّه» (١).

بل ربّما يقال : إن مقتضى إطلاقه عدم وجوب الرجوع إلى مكّة إذا تذكّر ولو في

__________________

(*) تقدّم حكم ذلك في المسألة الرابعة من (فصل في أقسام الحج).

(**) لا يبعد صحّة إحرامه الأوّل إذا كان حينه أيضاً غير متمكن من الرجوع إلى مكّة.

(١) الوسائل ١١ : ٣٣٠ / أبواب المواقيت ب ١٤ ح ٨.

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

حال التمكّن ، ولكن يبعده أن الظاهر من مورد السؤال عدم التمكن من الرجوع إلى مكّة ودرك الموقف ، خصوصاً بملاحظة الأزمنة السابقة التي لا يمكن الرجوع إلى مكّة من عرفات ثمّ الذهاب إليها لدرك الموقف لبعد الطريق ، وأمّا في زماننا هذا الذي يمكن الذهاب والعود في مدّة قليلة بالوسائط المستحدثة ، فلا موجب ولا وجه لرفع اليد عمّا دلّ على لزوم الإحرام من مكّة لكونه متمكِّناً من ذلك.

ثمّ إنّ صحيح علي بن جعفر يشتمل على حكمين :

أحدهما : ما إذا نسي الإحرام من مكّة وتذكر وهو بعرفات ، قال : «فقد تمّ إحرامه».

ثانيهما : ما إذا جهل بالإحرام يوم التروية وأتى بجميع الأعمال والمناسك حتى رجع إلى بلده وتذكر هناك ، فحكم (عليه السلام) بصحّة الحج وأنه قد أتم إحرامه.

والمستفاد من الصحيحة أن السؤال عن مطلق المعذور ، وإلّا فلا خصوصية لذكر النسيان في صدر الرواية وذكر الجهل في ذيلها ، فكل من الحكمين بصحّة الحج والإحرام يشمل الموردين ، فإذا جهل الإحرام فذكر وهو بعرفات تمّ إحرامه ، كما إذا نسي الإحرام وقضى المناسك كلّها فذكر وهو في بلده صحّ حجّه ، لا أن الحكم بالصحّة في النسيان يختص بمورد نسيان الإحرام والحكم بالصحّة في مورد الجهل يختص بمورده ، فأحد الفرضين لم يكن مختصاً بالجهل أو النسيان ، بل الميزان هو العذر وعدم التمكن من الرجوع إلى مكّة.

وممّا ذكرنا يظهر حكم المشعر أو ما بعده ، فإنه بعد ما حكم بصحّة العمل والحج إذا قضى المناسك كلّها بغير إحرام فصحّته بعد أداء البعض بلا إحرام بطريق أولى.

ولو أحرم من غير مكّة نسياناً ولم يتمكن من العود إليها ذكر (قدس سره) أنه صح إحرامه من مكانه ، أي من مكان التذكر.

أقول : ان كان حال الإحرام متمكناً من الذهاب إلى مكّة ولكن حال الذكر غير متمكن منه فلا بدّ من الذهاب إلى مكّة ، وإن كان حين الإحرام غير متمكن من الرجوع إلى مكّة فلا حاجة إلى الإحرام ثانياً ، بل يكتفي بنفس الإحرام الأوّل ، لأنه قد أتى بالوظيفة الواقعية.

٣٤٨

[٣٢٢٧] مسألة ٩ : لو نسي الإحرام ولم يذكر حتى أتى بجميع الأعمال من الحج أو العمرة (*) فالأقوى صحّة عمله ، وكذا لو تركه جهلاً حتى أتى بالجميع (١).

______________________________________________________

(١) لو ترك الإحرام نسياناً أو جهلاً وأتى بجميع الأعمال سواء كان في الحج أو العمرة بقسميها ولم يذكر حتى أكمل وقضى المناسك كلّها ، فهل يصح عمله أم لا؟

يقع الكلام في موارد ثلاثة :

الأوّل : في الحج ، والظاهر صحّته لصحيح علي بن جعفر ، قال : «سألته عن رجل كان متمتعاً خرج إلى عرفات وجهل أن يحرم يوم التروية بالحج حتى رجع إلى بلده قال : إذا قضى المناسك كلّها فقد تمّ حجّه» (١) بناءً على إرادة ما يعم النسيان من الجهل ، وقد ذكرنا قريباً أن العبرة بالعذر ، سواء كان مستنداً إلى النسيان أو الجهل.

الثاني : في العمرة المفردة ، والظاهر عدم صحّتها إذا أتى بها بلا إحرام ، إذ لا نص فيها إلّا ما يقال إنها كالحج بدعوى عدم الفرق بين الحج والعمرة المفردة ، وهي غير ثابتة.

الثالث : عمرة التمتّع ، وقد استدل على صحّتها بمرسل جميل «في رجل نسي أن يحرم أو جهل وقد شهد المناسك كلّها وطاف وسعى ، قال : تجزئه نيّته ، إذا كان قد نوى ذلك فقد تمّ حجّه» (٢) بدعوى إطلاق الحج على عمرة التمتّع ، وقد أُطلق عليها في كثير من الأخبار. على أنه لم يقيد نسيان الإحرام فيه بنسيان إحرام الحج بل هو مطلق من هذه الجهة.

ولكن الخبر ضعيف بالإرسال وإن كان المرسل جميل الذي هو من أصحاب الإجماع ، وقد ذكرنا في محلّه (٣) أن المراد بتصحيح ما يصح عن أصحاب الإجماع وثاقة أنفسهم وجلالتهم ، لا عدم النظر إلى من تقدّمهم من الرواة والقول بصحّة روايتهم

__________________

(*) في صحّة العمرة مع ترك إحرامها نسياناً أو جهلاً إشكال.

(١) الوسائل ١١ : ٣٣٨ / أبواب المواقيت ب ٢٠ ح ٢.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٣٨ / أبواب المواقيت ب ٢٠ ح ١.

(٣) معجم الرجال ١ : ٦٠ (المدخل).

٣٤٩

فصل

في مقدّمات الإحرام

[٣٢٢٨] مسألة ١ : يستحب قبل الشروع في الإحرام أُمور :

أحدها : توفير شعر الرأس بل واللحية لإحرام الحج مطلقاً لا خصوص التمتّع كما يظهر من بعضهم لإطلاق الأخبار من أوّل ذي القعدة بمعنى عدم إزالة شعرهما ، لجملة من الأخبار (١) ، وهي وإن كانت ظاهرة في الوجوب إلّا أنها محمولة على الاستحباب لجملة أُخرى من الأخبار ظاهرة فيه ، فالقول بالوجوب كما هو ظاهر جماعة ضعيف ، وإن كان لا ينبغي ترك الاحتياط ، كما لا ينبغي ترك الاحتياط بإهراق دم لو أزال شعر رأسه بالحلق حيث يظهر من بعضهم وجوبه أيضاً لخبر محمول على الاستحباب (*) أو على ما إذا كان في حال الإحرام ويستحب التوفير للعمرة شهراً.

______________________________________________________

على كل حال حتى ولو رووا عن غير معلوم الحال ، وقد ناقش الشيخ (١) في بعض الأخبار المرسلة مع أن المرسل مثل ابن أبي عمير أو غيره من أصحاب الإجماع.

أمّا الانجبار فلا نلتزم به كما مرّ غير مرّة ، فالصحيح أنه لا دليل على الصحّة في العمرة المفردة ولا عمرة التمتّع.

(١) منها : صحيح ابن سنان (مسكان) عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «لا تأخذ من شعرك وأنت تريد الحج من ذي القعدة» (٢).

__________________

(*) الخبر صحيح وظاهره وجوب الدم على الحالق رأسه بمكّة إذا كان متمتعاً وكان ذلك فيما بعد شهر شوال فهو أجنبي عن محل الكلام.

(١) التهذيب ٨ : ٢٥٧ / ٩٣٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣١٥ / أبواب الإحرام ب ٢ ح ١.

٣٥٠

الثاني : قص الأظفار ، والأخذ من الشارب ، وإزالة شعر الإبط والعانة بالطلي أو الحَلق أو النَّتف ، والأفضل الأوّل ثمّ الثاني ، ولو كان مطلياً قبله يستحب له الإعادة وإن لم يمض خمسة عشر يوماً ، ويستحب أيضاً إزالة الأوساخ من الجسد لفحوى ما دلّ على المذكورات ، وكذا يستحب الاستياك.

______________________________________________________

ومنها : صحيح ابن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «خذ من شعرك إذا أزمعت على الحج شوال كلّه إلى غرة ذي القعدة» (١).

وهذا ممّا لا إشكال فيه في الجملة ، وانما يقع الكلام في جهات :

الاولى : هل يختص توفير الشعر بحج التمتّع أو يشمل الأعم منه ومن غيره من أقسام الحج؟ الظاهر هو التعميم لإطلاق النصوص ، ولا موجب للاختصاص بحج التمتّع.

الثانية : هل يختص توفير الشعر بالرأس أو يشمل اللِّحية أيضاً؟ ربّما يقال بالتعميم لإطلاق الأخبار الناهية عن أخذ الشعر.

وفيه : أن توفير الشعر إنما هو مقدّمة للحلق ، ومن المعلوم أن الحلق إنّما يختص بالرأس ، وممّا يؤكد أن هذه الروايات لا إطلاق لها بالنسبة إلى شعر اللِّحية ، وإنّما نظرها إلى شعر الرأس خاصّة أنّ الأصحاب لم يذكروا توفير الشعر بالنسبة إلى سائر الجسد ، بل ذكروا استحباب إزالة الشعر عن بعض مواضع الجسد كابطيه.

وقد استدلّ على التعميم بخبرين :

أحدهما : خبر الأعرج «لا يأخذ الرجل إذا رأى هلال ذي القعدة وأراد الخروج من رأسه ولا من لحيته» (٢) لكنّه ضعيف بالإرسال.

ثانيهما : خبر أبي الصباح الكناني «عن رجل يريد الحج أيأخذ شعره في أشهر

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣١٦ / أبواب الإحرام ب ٢ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣١٧ / أبواب الإحرام ب ٢ ح ٦.

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الحج؟ فقال : لا ، ولا من لحيته» (١) وهو ضعيف بمحمّد بن الفضيل الأزدي ، وأمّا ما ذكره الأردبيلي (٢) في رجاله من اتحاده مع محمّد بن القاسم بن الفضيل الثقة الذي يعبر عنه باسم جدّه كثيراً وعدم ذكر والده فغير تام ، ولا أقل من كونه مردداً بين محمّد بن الفضيل الضعيف وبين محمّد بن القاسم بن الفضيل الثقة ، ولا مميز في البين.

نعم لا بأس بدعوى الاستحباب بناءً على التسامح في أدلّة السنن.

ثمّ إن المصنف (رحمه الله تعالى) حمل الروايات الناهية عن أخذ الشعر أو الآمرة بالتوفير على الحلق وإزالة الشعر ، مع أن الظاهر من الروايات وفتوى الأصحاب هو توفير الشعر وتكثيره وإعفائه وعدم أخذ شي‌ء منه.

الثالثة : المشهور بين الأصحاب استحباب التوفير ، ونسب إلى المفيد في المقنعة (٣) والشيخ في النهاية (٤) والاستبصار (٥) الوجوب.

ولا يخفى أن ظاهر الروايات يعطي الوجوب ، لأنّ أخذ الشعر إذا كان منهيّاً كما في النصوص يكون تركه واجباً ولازماً ، ولكن بإزائها ما يدل على الجواز صريحاً والجمع العرفي يقتضي حمل تلك الروايات الآمرة بالتوفير على الاستحباب ، وهو صحيح علي بن جعفر ، قال : «سألته عن الرجل إذا هم بالحج يأخذ من شعر رأسه ولحيته وشاربه ما لم يحرم؟ قال : لا بأس» (٦) والرواية صحيحة سنداً كما عبّر عنها في الجواهر (٧) بالصحيحة ، لأنّ طريق الوسائل إلى الشيخ صحيح ، وطريق الشيخ إلى كتاب علي بن جعفر صحيح ، فلا مجال للتأمّل في صحّة السند ، ومقتضاها جواز أخذ

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٠٢ / أبواب الإحرام ب ٤ ح ٤.

(٢) جامع الرواة ٢ : ١٧٤.

(٣) المقنعة : ٣٩١.

(٤) النهاية : ٢٠٦.

(٥) الاستبصار ٢ : ١٦٠.

(٦) الوسائل ١٢ : ٣٢٠ / أبواب الإحرام ب ٤ ح ٦.

(٧) الجواهر ١٨ : ١٧٢.

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الشعر إلى أن يحرم وإن كان إحرامه في الثامن من شهر ذي الحجّة ، فالعبرة بالإحرام لا بالزمان ، هذا. مضافاً إلى أنه لا يمكن الالتزام بالوجوب ، لأنّ هذا الحكم مما يكثر الابتلاء به ، ولو كان واجباً لظهر وبان مع أنه لم يقل به أحد إلّا الشاذ النادر.

وبنفس البيان تحمل بقيّة الأُمور المذكورة كقص الأظفار والأخذ من الشارب على الاستحباب ، إذ لا رواية تدل على الاستحباب ، وإنما الروايات اشتملت على الأمر بها ، وتحمل على الاستحباب لأجل ما ذكر.

الرابعة : هل يجب عليه إهراق الدم بالحلق بناءً على وجوب التوفير كما عن المفيد (١) أم لا؟ ربّما يقال بوجوب الدم لصحيح جميل ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن متمتع حلق رأسه بمكّة ، قال : إن كان جاهلاً فليس عليه شي‌ء ، وإن تعمد ذلك في أوّل الشهور للحج بثلاثين يوماً فليس عليه شي‌ء ، وإن تعمد بعد الثلاثين التي يوفر فيها للحج فإن عليه دماً يهريقه» (٢).

ويرده : أن الرواية أجنبيّة عما نحن فيه ، لأنّ المدعى إزالة الشعر وحلقه في شهر ذي القعدة قبل الإحرام ، ومورد الرواية حلق الرأس في مكّة بعد الإحرام. على أنه لو كان إهراق الدم واجباً لظهر وشاع ولا يخفى حكمه على الأصحاب لكثرة الابتلاء به ، مع أنه لم ينسب إلى أحد من الأصحاب إلّا المفيد.

وأمّا فقه الحديث فالمراد من قوله : «وإن تعمد ذلك في أوّل الشهور للحج بثلاثين يوماً» هو شهر شوال ، فالمعنى أنه لو حلق رأسه متعمداً في شهر شوال الذي هو أوّل أشهر الحج وإن كان في مكّة بعد أعمال التمتّع فلا بأس ، وأمّا لو تعمد ذلك بعد الثلاثين التي يوفر فيها للحج فعليه الدم ، فيقع الكلام في المراد بذلك.

فإن كانت كلمة «التي» صفة «للثلاثين» كما تقتضيها القاعدة الأدبية فالمراد بذلك شهر ذي الحجّة ، لأنّ الثلاثين التي يوفر فيها هو شهر ذي القعدة وبعده شهر ذي

__________________

(١) المقنعة : ٣٩١.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٢١ / أبواب الإحرام ب ٥ ح ١.

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الحجّة ، فيكون حكم توفير الشعر في شهر ذي القعدة مسكوتاً عنه ، لأنّ المذكور في الرواية بناءً على ما ذكرنا حكمه بالجواز في شهر شوال وحكمه بالمنع في شهر ذي الحجة الذي عبّر عنه ببعد الثلاثين التي يوفر فيها ، وسكت عن ذي القعدة ، وهذا بعيد في نفسه ، على أن التعبير عن ذي الحجة بذلك غير متعارف وتبعيد للمسافة ، ولو كان المقصود شهر ذي الحجة لقال (عليه السلام) : وإن تعمد ذلك في ذي الحجة فكذا.

والظاهر أن كلمة «التي» صفة لقوله «بعد» ، وإن كان لا تساعد عليه القاعدة النحوية ، فيكون المعنى وإن كان بعد شوال فإن البعد الذي يوفر فيه الشعر إنما هو ذو القعدة ، والبعد الواقع بعد الثلاثين أي شهر شوال هو شهر ذي القعدة ، والألف واللام في الثلاثين إشارة إلى الثلاثين من أوّل شهور الحج ، فمدلول الرواية تفصيل بين شهر شوال وشهر ذي القعدة.

فالمستفاد من الرواية أن المتمتع إذا حلق رأسه في شهر شوال فلا بأس به ، وإن حلق بعد شهر شوّال ففيه بأس ، ولا مانع من الالتزام بذلك ، إذ لا إجماع على الخلاف ، إلّا أن الرواية كما عرفت أجنبية عن الحلق في شهر ذي القعدة قبل التلبس بالإحرام الذي هو المدعى ، وإنما موردها الحلق في مكّة بعد الإحرام وبعد عمرة التمتّع.

تذنيب حكى صاحب الحدائق (١) عن الشيخ (٢) استدلاله بصحيحة جميل المتقدِّمة (٣) لما ذهب إليه المفيد من وجوب الدم بالحلق في ذي القعدة ، ونقل عن صاحب المدارك (٤) طعنه في السند باشتماله على علي بن حديد ، وأورد عليه بأن الخبر روي بطريقين

__________________

(١) الحدائق ١٥ : ٦.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٨.

(٣) في ص ٣٥٣.

(٤) المدارك ٧ : ٢٤٧.

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما عن الكليني (١) وفيه علي بن حديد ، ثانيهما رواه الصدوق (٢) عن جميل وطريقه إليه صحيح وليس فيه علي بن حديد ، فكأن صاحب المدارك لم يعثر إلّا على طريق الكليني فالخبر صحيح السند.

ثمّ تصدّى صاحب الحدائق فيما يستفاد من الصحيحة ، وذكر أن السؤال في الصحيحة وإن كان عن المتمتع وخاصّاً لمن حلق رأسه بمكّة ، ولكن الجواب عام يشمل جميع المكلفين من كان بمكّة أو في غيرها ، ولا يختص بالمتمتع.

بيان ذلك : أنه لا بدّ من تقدير كلمة الدخول أو المضي في قوله : «بعد الثلاثين» فالمقدّر إمّا بعد دخول الثلاثين أو بعد مضي الثلاثين ، فإن كان المقدر المضي فيكون المراد من بعد مضي الثلاثين شهر ذي الحجة ، فأُسقط شهر ذي القعدة في الرواية مع أنه أولى بالبيان ، وذكر أن تقدير المضي ينافي الفصاحة ، فلا بدّ أن يكون المقدّر هو الدخول ، وبه يتم المراد وتنتظم الرواية مع الروايات السابقة ، فتدل الرواية على أنه لو حلق رأسه بعد دخول الثلاثين التي يوفر فيها الشعر أي دخول شهر ذي القعدة فعليه الدم.

أقول : ما ذكره من لزوم تقدير المضي أو الدخول واضح الفساد ، لأنّ البعدية بنفسها تقتضي المضي أو الدخول فلا حاجة إلى التقدير ، فإن القبلية كالبعدية متقومة بالتحقق والمضي.

ثمّ إنّ التقدير ببعد الدخول خلاف الظاهر ، لأنّ المراد بالثلاثين هو شهر شوال وذكرنا أنّ «التي» الموصولة صفة لبعد الثلاثين ، فيكون المراد إذا كان بعد ثلاثين شوال وهو شهر ذي القعدة ، فلا حاجة إلى التقدير أصلاً.

وأمّا ما ذكره من أن الجواب عام يشمل جميع المكلفين فمما لا محصل له ، لأنّ الضمائر كلّها ترجع إلى المتمتِّع ، فلا يشمل الجواب من لم يدخل في الإحرام كما هو محل الكلام

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٤١ / ٧.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٣٨ / ١١٣٧.

٣٥٥

الثالث : الغسل للإحرام في الميقات (١).

______________________________________________________

نعم يذكر في الجواب حكماً كلياً للمتمتع لا كلياً له ولغيره ممن يقصد الحج ولم يتلبس بعد بشي‌ء من الأعمال ، ولا إشكال في أن هذا الحكم غير ثابت لجميع المكلفين وإنّما يختص بطائفة خاصّة ، هذا كلّه قبل الدخول في الإحرام.

وأمّا إذا أحرم وأتى بالأعمال وفرغ من أعمال عمرة التمتّع وحلق ، هل عليه التكفير بشاة أم لا؟ ذكر بعضهم لزوم الكفّارة ، لإطلاق الصحيحة من حيث صدور الحلق بعد الفراغ من الأعمال أو قبلها.

لكن لا يبعد عدم الوجوب ، لعدم صدق المتمتع بالفعل على من فرغ من أعماله لأنّ المشتق ظاهر في المتلبس في الحال ، كالمعتمر فإنه يصدق على من كان مشتغلاً بإتيان العمرة ، فإذا أحلّ لا يصدق عليه المتمتِّع ولا المعتمر ، وإنما كان متمتِّعاً وقد مضت متعته ، ولا قرينة على إرادة الأعم من المتلبس وممن انقضى عنه المبدأ ، نعم الحلق في نفسه بعد أعمال عمرة المتمتع غير جائز ، ولا بدّ من التحفظ على شعره ليحلقه في منى كما هو المستفاد من صحيح جميل ، إلّا في شهر شوال ، فإنه يجوز الحلق فيه ولو بعد الفراغ من أعمال عمرة التمتّع.

فالمتحصل : أنّ المكلّف إذا أتى بعمرة التمتّع في شهر شوال جاز له الحلق إلى مضي ثلاثين يوماً من يوم عيد الفطر ، وأمّا بعده فلا يجوز بل يتحفّظ على شعره إلى يوم عيد الأضحى.

(١) لا ريب في أن من جملة المستحبات المؤكدة غسل الإحرام ، والاخبار به مستفيضة (١) بل كادت تكون متواترة ، وظاهر جملة منها بل صريح بعضها وإن كان هو الوجوب كما في موثقة سماعة (٢) لإطلاق الواجب عليه ، ولكن لا بدّ من رفع اليد عن ذلك وحملها على الاستحباب وتأكده ، إذ لا يمكن الالتزام بالوجوب مع تصريح

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٢٢ / أبواب الإحرام ب ٦ ، ٨.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٠٣ / أبواب الأغسال المسنونة ب ١ ح ٣.

٣٥٦

ومع العذر عنه التيمّم (١) ،

______________________________________________________

الأصحاب بالاستحباب وتسالمهم عليه ، ولو كان واجباً لكان من جملة الواضحات لكثرة الابتلاء به في كل سنة لكثير من المسلمين ، وكيف يخفى الوجوب عليهم ، ولم ينقل القول بالوجوب إلّا من ابن أبي عقيل (١) وابن الجنيد (٢) ولا يعبأ بخلافهما ، لقيام السيرة القطعية المستمرّة بين المسلمين على الخلاف ، فلا ينبغي الشك في عدم الوجوب.

هذا مع إمكان حمل الواجب في موثق سماعة على معناه اللّغوي وهو الثابت ، وقد تقدّم الكلام مفصّلاً في باب الأغسال المسنونة من كتاب الطّهارة (٣) ، وذكرنا هناك وجهاً آخر لعدم إمكان القول بالوجوب أصلاً لا النفسي ولا الغيري.

(١) هل يقوم التيمم مقام الغسل مع العذر عنه أم لا؟ قولان ، والصحيح هو الأوّل كما هو الحال في جميع الأغسال المستحبة ، لإطلاق ما دلّ على بدلية التراب عن الماء (٤) في الطّهورية ، فكل مورد ثبت كون الغسل مشروعاً وطهوراً وتعذّر منه يقوم التيمّم مقامه ، ولا حاجة إلى نص خاص.

وتوقف بعضهم في ذلك لعدم النص الخاص ، ولأنّ الغرض من الغسل تنظيف البدن وإزالة الأوساخ عنه ، ولا يترتّب ذلك على التيمم. ولكن يضعف ذلك ، لأنّ الغسل عبادة مستقلّة في نفسها وهو طهور ، وقد أُطلق الطهور على التيمّم أيضاً وأنّ التيمّم أحد الطّهورين ، وذلك يكفي في قيام التيمّم مقام الغسل. نعم ، إجزاء الغسل عن الوضوء يختص بالمبدل عنه وهو الغسل ، ولا يجري في البدل أي التيمّم ، لقصور دليل البدلية عن إثبات ذلك حتى في التيمم بدل الأغسال الواجبة غير الجنابة ، فلو تيمّم عن غسل المس مثلاً عليه أن يتوضّأ وإن كان نفس الغسل مجزئاً عن الوضوء.

__________________

(١) المختلف ٤ : ٧٦ المسألة ٣٧.

(٢) المختلف ٤ : ٧٧ المسألة ٤٠.

(٣) بعد المسألة [١٠٥١] فصل في الأغسال الفعليّة.

(٤) الوسائل ٣ : ٣٨٥ / أبواب التيمم ب ٢٣.

٣٥٧

ويجوز تقديمه على الميقات مع خوف إعواز الماء ، بل الأقوى جوازه مع عدم الخوف أيضاً والأحوط الإعادة في الميقات (١) ،

______________________________________________________

(١) يجوز تقديم الغسل على الميقات إذا خاف عوز الماء فيه أو لم يتمكن فيه من الغسل لعذر من الأعذار كالبرد وخوف الضرر ، ويدلُّ عليه صحيح هشام ، قال : «أرسلنا إلى أبي عبد الله (عليه السلام) ونحن جماعة ونحن بالمدينة إنا نريد أن نودعك ، فأرسل إلينا أن اغتسلوا بالمدينة والبسوا ثيابكم التي تحرمون فيها ثمّ تعالوا فرادى أو مثاني» (١) وأصرح من ذلك ما رواه الصدوق والشيخ هذه الصحيحة مع زيادة «فلما أردنا أن نخرج قال : لا عليكم أن تغتسلوا إن وجدتم ماءً إذا بلغتم ذا الحليفة» (٢) فإن ذلك صريح في الاكتفاء بالغسل المتقدّم وعدم لزوم إعادته بذي الحليفة وإن وجد الماء.

بل يجوز تقديمه وإن لم يخف الإعواز ، فيجوز الإتيان بالغسل في المدينة اختياراً من دون عذر عن الإتيان به في الميقات ، ويدلُّ على ذلك إطلاق عدّة من الروايات ، منها : صحيحة الحلبي «عن رجل يغتسل بالمدينة للإحرام أيجزئه عن غسل ذي الحليفة؟ قال (عليه السلام) : نعم» (٣) والظاهر أن المراد بالسؤال عن أصل المشروعية وتقديمه في نفسه في المدينة وليس السؤال عن إجزاء الغسل الواقع في المدينة في فرض مشروعيته ولو للإعواز.

وأمّا صحيحة معاوية بن وهب فلا يصح الاستدلال بها لجواز التقديم لأنها رويت على نحوين :

أحدهما : ما رواه الشيخ والصدوق عن معاوية بن وهب ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ونحن بالمدينة عن التهيؤ للإحرام ، فقال : أطل بالمدينة وتجهز بكل ما

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٢٦ / أبواب الإحرام ب ٨ ح ١.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٠١ / ٩١٨ ، التهذيب ٥ : ٦٣ / ٢٠٢.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٢٧ / أبواب الإحرام ب ٨ ح ٥.

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تريد واغتسل ، وإن شئت استمتعت بقميصك حتى تأتي مسجد الشجرة» (١).

ثانيهما : ما رواه الشيخ عن موسى بن القاسم عن معاوية بن وهب (٢) ، وليس فيها ذكر للغسل ، فهي على الرواية الأُولى تنفعنا لا على الثانية.

هذا كلّه مضافاً إلى إطلاقات ما دلّ على مشروعية غسل الإحرام ورجحانه (٣) فإنّها تكفي في الحكم بجواز التقديم اختياراً ولو مع عدم خوف الإعواز ، وقد ذكرنا في محلّه (٤) أن المطلق لا يحمل على المقيّد في باب المستحبات ، وإنما يحمل عليه في الواجبات ، للتنافي وعدم إمكان وجوب كل منهما ، ولكن المستحب حيث يجوز تركه اختياراً فلا موجب لحمل المطلق على المقيّد وإنما يكون المقيّد أفضل الأفراد ، وتمام الكلام وتحقيقه في محله.

بل المستفاد من هذه المطلقات استحباب الغسل وجواز تقديمه في أي بلد شاء ولا يلزم إتيانه في المدينة ، فلو اغتسل في بغداد وذهب مع الطائرة إلى المدينة وأحرم من مسجد الشجرة أجزأ وكفى ، فإن المقصود تحقق الإحرام في حال الغسل وأن يكون مغتسلاً عند الإحرام وإن اغتسل في بلد آخر غير المدينة بعيداً كان أو قريبا.

وأمّا صحيح هشام فلا يدل على عدم جواز الغسل في غير المدينة المنورة بل يدل على الجواز ، وذلك لأنّ تقديم الغسل إذا كان غير مشروع فخوف الإعواز لا يجعل غير المشروع مشروعاً إلّا تعبّداً ، والمستفاد من التعليل الوارد فيه أنّ المدار بصدور الإحرام مع الغسل سواء اغتسل في ذي الحليفة أو في المدينة أو في بلد آخر.

ولو قدمه اختياراً مع عدم خوف الإعواز ، ذكر المصنف أن الأحوط الإعادة في الميقات ، والاحتياط في محله ، لاحتمال عدم مشروعية الغسل الصادر عن المختار

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٦٢ / ١٩٦ ، الفقيه ٢ : ٢٠٠ / ٩١٥ ، الوسائل ١٢ : ٣٢٤ / أبواب الإحرام ب ٧ ح ١.

(٢) التهذيب ٥ : ٦٤ ح ٢٠٣ ، الوسائل ١٢ : ٣٢٥ / أبواب الإحرام ب ٧ ح ٣.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٠٣ أبواب الأغسال المسنونة ب ١ ، الوسائل ١٢ : ٣٢٦ / أبواب الإحرام ب ٨.

(٤) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٨٤.

٣٥٩

ويكفي الغسل من أوّل النهار إلى الليل ومن أوّل الليل إلى النهار (١) ،

______________________________________________________

واقعاً ، فلا بأس بالإتيان به رجاءً.

وهل يعاد الغسل فيما لو كان قد اغتسل لخوف الإعواز فوجد الماء في ذي الحليفة؟ ربّما يقال باستحباب الإعادة لصحيح هشام ، لقوله (عليه السلام) : «لا عليكم أن تغتسلوا إن وجدتم ماءً إذا بلغتم ذا الحليفة» (١).

وفيه : إن كان المراد بقوله «لا عليكم» نفي الحرمة ، أي لا جناح ولا عقوبة عليكم أن تغتسلوا ، نظير ما يقال : لا عليك أن تدخل الماء وأنت صائم ما لم تغمس فيه ، فلا بأس بالاستدلال به على استحباب الإعادة ، لأنه يدل على جواز الغسل ، وحيث إنه أمر عبادي إذا جاز استحب ، كما صرّح بذلك في المستند (٢) وقال بأنه إذا لم يكن به بأس كان راجحاً. إلّا أن ذلك خلاف الظاهر لاحتياجه إلى التقدير ، والظاهر أن المنفي بقوله «لا عليكم» هو الوجوب ، لأنّ النفي وارد على نفس الغسل ، ولا حاجة إلى التقدير ، فالمعنى أن الغسل لا يجب عليكم وغير ثابت ولا آمر به إذا وجدتم ماءً في ذي الحليفة ، فلا يدل على الاستحباب في صورة عدم الأمر به ، ومن الواضح أنّ الاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى الدليل.

(١) صرّح الأصحاب بأنه يجزئ الغسل في أوّل النهار ليومه وفي أوّل الليل لليلته وتدل عليه النصوص ، فإن المستفاد منها وقوع الإحرام مع الغسل ، ولم يؤخذ في شي‌ء منها كون الغسل مقارناً للإحرام أو كان الفصل بينهما قليلاً ، فالعبرة بوقوع الإحرام عن الغسل وإن كان الغسل واقعاً في أوّل النهار والإحرام في آخره ، ويدلُّ عليه أيضاً صحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : غسل يومك ليومك وغسل ليلتك لليلتك» (٣).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٢٦ / أبواب الإحرام ب ٨ ح ٢.

(٢) المستند ١١ : ٢٧٢.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٢٨ / أبواب الإحرام ب ٩ ح ٢.

٣٦٠