موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

ولا فرق في جواز الإحرام في المحاذاة بين البر والبحر (١) ، ثمّ إن الظاهر أنه لا يتصوّر طريق لا يمرّ على ميقات ولا يكون محاذياً لواحد منها (*) ، إذ المواقيت محيطة بالحرم من الجوانب فلا بدّ من محاذاة واحد منها ، ولو فرض إمكان ذلك فاللّازم الإحرام من أدنى الحل (**) ، وعن بعضهم أنه يحرم من موضع يكون بينه وبين مكّة بقدر ما بينها وبين أقرب المواقيت إليها وهو مرحلتان ، لأنه لا يجوز لأحد قطعه إلّا محرماً ، وفيه : أنّه لا دليل عليه ، لكن الأحوط الإحرام منه وتجديده في أدنى الحل (٢).

______________________________________________________

إلى زمان إتيانه.

ثمّ إن الإجزاء إنما يجري في فقدان الجزء أو الشرط للمتعلق لكن بعد فرض فعلية الوجوب وتحققه ، وأمّا بالنسبة إلى شرط الوجوب إذا لم يكن متحققاً نظير تخلف الوقت بالنسبة إلى الصلاة فلا مجال للإجزاء أصلاً ، وكذا إذا كان الواجب تعليقياً كما إذا كان محبوساً ولم يميز بين النهار والليل فصام في الليل معتقداً أنه النهار فانكشف الخلاف فلا مجال للإجزاء ، وكذلك الحج فإنه وإن كان واجباً معلقاً ولكن إذا أحرم قبل الميقات وقبل تحقق الشرط والوصول إلى الميقات ، فلا مجال للإجزاء أبداً حتى إذا قلنا بإجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي ، وذلك لأنّ الأمر الواقعي في المقام غير موجود لنقول بإجزائه عنه.

(١) والأمر كما ذكره من عدم الفرق في جواز الإحرام في المحاذاة بين البر والبحر.

(٢) تضمنت عبارة المتن المذكورة أمرين :

أحدهما : أنه هل يتصور طريق لا يمر على ميقات ولا يكون محاذياً لواحد منها؟

__________________

(*) بين هذا وما تقدّم منه (قدس سره) من اختصاص المحاذاة بموارد الصدق العرفي تهافت ظاهر.

(**) بل اللازم الإحرام من أحد المواقيت مع الإمكان ومع عدمه يجري عليه حكم المتجاوز عن الميقات بغير إحرام.

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : لو فرض إمكان ذلك فمن أين يحرم؟

أمّا الأوّل : فيبتني على الالتزام بكفاية المحاذاة وعدمها ، فإن قلنا بعدم الاجتزاء بالمحاذاة أصلاً كما هو المختار عندنا لأنّ المحاذاة إنما وردت في مورد خاص فيمكن أن يسلك طريقاً لا يؤدي إلى الميقات ، وكذا لو قلنا بكفاية المحاذاة إذا كانت قريبة ، إذ يمكن أن يختار طريقاً بعيداً لا تتحقق معه المحاذاة ، وأمّا إذا قلنا بالاجتزاء بمطلق المحاذي ولو عن بعد فلا يمكن أن لا يمر على ميقات أو محاذيه ، لما أشار إليه في المتن من أن المواقيت محيطة بالحرم من جميع الجوانب ، ومكّة واقعة في وسط الحرم تقريباً فكل من يذهب إلى مكّة يمر على ميقات أو محاذيه.

ويظهر من المصنف هنا ما ينافي كلامه السابق ، لأنه تقدّم منه عدم الاكتفاء بالمحاذاة عن بعد ، ويظهر منه هنا الاجتزاء بالمحاذاة ولو كان عن بعد.

وأمّا الثاني : وهو حكم من لا يمر على ميقات ولا بالمحاذي بناءً على إمكان ذلك ذكر في المتن أن اللّازم عليه الإحرام من أدنى الحل. ويستدل له بالمطلقات الناهية عن دخول الحرم بلا إحرام (١) بضميمة أصالة البراءة عن وجوب الإحرام عن المواقيت المعيّنة لمن لا يمرّ بالميقات ومحاذيه ، ونتيجة الأمرين لزوم الإحرام من أدنى الحل.

وبالجملة : لو فرض عدم المرور على الميقات ولا على محاذيه فقد وقع الكلام في موضع الإحرام ، فذهب بعضهم إلى أنه يحرم من مساواة أقرب المواقيت إلى مكّة ، أي يحرم من موضع يكون بينه وبين مكّة بقدر ما بينها وبين أقرب المواقيت وهو مرحلتان ، وذهب بعضهم إلى أنه يحرم من أدنى الحل.

أمّا الأوّل : فلا دليل عليه أصلا.

وأمّا الثاني : فاستدل له بالروايات الدالّة على عدم جواز دخول الحرم بلا إحرام. مضافاً إلى أصالة البراءة عن لزوم الإحرام من المواقيت المعيّنة.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٠٢ / أبواب الإحرام ب ٥٠.

٣٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ويرده : أنّ الروايات الواردة في المقام مختلفة ، بعضها يدل على عدم جواز الدخول في الحرم إلّا محرماً ، وبعضها يدل على عدم جواز دخول مكّة إلّا محرماً ، فلا بدّ من تقييد ما دلّ على عدم جواز الدخول في الحرم إلّا محرماً بما إذا أراد الدخول إلى مكّة إذ لو وجب الإحرام لدخول الحرم فلا يبقى أثر وفائدة لوجوب الإحرام لدخول مكّة ، لأنها واقعة في وسط الحرم تقريباً ، فيكون الحكم بلزوم الإحرام لدخول مكّة لغواً ، فيعلم من ذلك أنهما ليسا حكمين مستقلين ، بل الحكم بلزوم الإحرام لدخول الحرم من باب المقدّمة لدخول مكّة وأنه في الحقيقة يجب الإحرام لدخول مكّة ، وأن الممنوع دخول مكّة بلا إحرام ، وإنما يجب الإحرام لأداء النسك من العمرة أو الحج وأمّا الإحرام وحده وإن كان عبادة ولكن لا يستقل بنفسه ، ولذا لو أراد الدخول في الحرم ولم يكن قاصداً لدخول مكّة لا يجب عليه الإحرام ، ولا خلاف بينهم في عدم وجوب الإحرام على من لم يرد النسك كالحطاب ونحوه ممن يتكرر دخوله لحاجة في خارج مكّة.

والحاصل : لا يستفاد من الروايات أن هناك واجبين أحدهما لزوم الإحرام لدخول الحرم والآخر الإحرام لدخول مكّة ، وعلى كلا التقديرين لا دلالة في الروايات على تعيين موضع الإحرام ، بل لو كنّا نحن وهذه الروايات ولم يكن دليل خارجي على تعيين مواضع الإحرام لالتزمنا بجواز الإحرام له من أي مكان شاء ولكن علمنا من أدلّة أُخرى عدم التخيير له في مواضع الإحرام وإنما يجب عليه الإحرام من مواضع خاصّة ، فلا يصح الاستدلال بهذه الروايات على لزوم الإحرام من أدنى الحل.

وأمّا أصالة البراءة عن وجوب الإحرام من المواقيت فلا تثبت لزوم الإحرام من أدنى الحل ، بيان ذلك : أنا نعلم إجمالاً بوجوب الإحرام من موضع ما ، ولو لا هذا العلم لجاز الإحرام من أي موضع شاء ، ولكن نعلم بلزوم الإحرام إمّا من أدنى الحل وإمّا من سائر المواقيت ، فكل منهما طرف للعلم الإجمالي ، ولا يمكن إثبات أحدهما دون الآخر بإجراء الأصل في أحد الطرفين ، لأنّ كلّاً منهما محتمل الوجوب والأصل

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فيهما على حد سواء ، بل لا ريب في أن مقتضى الاحتياط هو الإحرام من المواقيت المعروفة لأنه يجزي قطعاً ، وأمّا الإحرام من أدنى الحل فلم يثبت وجوبه أو الاكتفاء به ، وأصالة البراءة في كل من الطرفين معارضة بأصالة البراءة في الآخر ، فمقتضى القاعدة هو الاشتغال المقتضي للإحرام من المواقيت المعيّنة لأنه مجزئ قطعا.

على أنه لا مجال لأصالة البراءة مع النصوص الدالّة على لزوم الإحرام من المواقيت المعروفة وعدم جواز العدول عنها ، ففي صحيحة الحلبي «ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)» (١). وفي صحيحة علي بن جعفر «فليس لأحد أن يعدو من هذه المواقيت إلى غيرها» (٢) وغيرهما من الروايات فإن المستفاد منها وجوب الذهاب إلى هذه المواقيت وعدم جواز العدول والاعراض عنها.

والذي ينبغي أن يقال في توضيح جريان أصالة البراءة في المقام والاكتفاء بالإحرام من أدنى الحل : إنه لا ريب في أننا نعلم إجمالاً بوجوب الإحرام من موضع ما قبل الدخول في الحرم ، فإن تعين موضعه بدليل معتبر فهو وإلّا فالمتبع في تعيين موضعه هو الأصل العملي ، ولا إشكال في أن الإحرام من المواضع المعروفة مجزئ قطعاً ، وإنما الكلام في جواز الاجتزاء بغير ذلك كأدنى الحل ، فيكون المقام من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، إذ لا ندري أن الواجب هو الأعم الجامع بين المواقيت وبين غيرها كأدنى الحل ، أو أن الواجب خصوص الإحرام من المواقيت.

وبعبارة اخرى : لا ريب في أنا نعلم بعدم جواز الإحرام من غير هذه الأماكن وأن المكلف لم يكن مخيراً في موضع إحرامه ، بل يلزم عليه الإحرام إما من خصوص هذه المواقيت المعروفة أو من الأعم منها ومن أدنى الحل ، فيكون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير المعبر عنه بالأقل والأكثر أيضاً ، فإن الأقل هو التخيير لإلغاء قيد الخصوصية والأكثر هو التعيين لأخذ قيد الخصوصية ، والمعروف والمشهور هو جريان أصالة البراءة عن الأكثر أي عن التعيين فالنتيجة هي التخيير ، هذا على

__________________

(١) ٢) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣ ، ٩.

٣٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مسلك المشهور في جريان البراءة في أمثال المقام.

وأمّا على مسلك المحقق صاحب الكفاية (١) من أن الأقل والأكثر إذا كانا من قبيل العام والخاص فلا تجري البراءة العقلية ولا النقلية ، وإنما تجري قاعدة الاحتياط وذلك لأنّ كلّاً من العام والخاص وجود بنفسه ، وليس الخاص وجوداً للعام وزيادة فالرقبة المؤمنة في مثال ما لو قال المولى لعبده أعتق رقبة مؤمنة ليست رقبة وزيادة بل الرقبة المؤمنة وجود مستقل ، فإن أعتق الرقبة في ضمن غير المؤمنة فقد أتى بما يباين المأمور به ، وإن أتى بالمؤمنة فقد أتى بما هو الواجب في نفسه ، فالشك في اعتبار الإيمان في الرقبة ليس شكّاً في الزيادة ليدفع بأصالة البراءة.

وبتعبير آخر : إتيان الطبيعي في ضمن غير المقيّد إتيان بأمر مباين للمقيّد ، والشك بينهما من المتباينين ، نعم لا بأس بجريان البراءة في احتمال الشرطية ، لأنّ الواجب أمر معلوم ونشك في اشتراطه بأمر آخر فيدفع بالأصل ، ومسألة الدوران بين التعيين والتخيير في المقام من قبيل العام والخاص ، ويرجع الشك فيها إلى الشك بين المتباينين ، ومقتضى الأصل هو الاشتغال.

وكذلك لا مجال للبراءة بناءً على ما سلكه شيخنا الأُستاذ (٢) (قدس سره) في التعيين والتخيير.

وحاصل ما ذكره : أنّ البراءة إنما تجري عن التعيين إذا لم تكن الأطراف بنظر العرف متباينة وإلّا فيجري الاشتغال ، فإذا دار الواجب بين نوعين وصنفين كالعبد والأمة تجري أصالة الاشتغال ، لأنهما بنظر العرف متباينان وإن كانا بحسب الدقّة متحدين وداخلين تحت جنس واحد ، وكذا يجري الاشتغال فيما لو دار الواجب بين كونه جنساً أو نوعاً خاصّاً ، فإن الجنس لا وجود له إلّا بالنوع ، والشك بينهما من قبيل الشك بين المتباينين.

__________________

(١) كفاية الأُصول ٢ : ٢٢٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٨.

٣٠٥

العاشر : أدنى الحل ، وهو ميقات العمرة المفردة بعد حج القران أو الإفراد ، بل لكل عمرة مفردة (*) (١) والأفضل أن يكون من الحديبية أو الجِعرانة أو التنعيم

______________________________________________________

فالإحرام من المواقيت الخاصّة أو الأعم منها ومن أدنى الحل إما من قبيل العام والخاص الذي ذكره صاحب الكفاية ، وإما أنهما يختلفان بنظر العرف كالنوعين وعلى كلا التقديرين يجري الاشتغال لا البراءة.

ولكن قد ذكرنا في محلِّه (١) أنه لا فرق في جريان البراءة في الأقل والأكثر بين العام والخاص وبين الجنس والنوع ، ففيما نحن فيه تجري البراءة عن الخصوصية الزائدة المقيّدة بالمواقيت المعروفة ، فيكتفي بالإحرام من أدنى الحل.

هذا ولكن مع ذلك لا مجال لجريان البراءة في المقام ، ولا يمكن الحكم بالاكتفاء بأدنى الحل ، وذلك لأنّ من جملة الأطراف المحتملة الإحرام من مرحلتين ، أي مساواة أقرب المواقيت إلى مكّة كما ذهب إليه جماعة فلا إجماع على الخلاف ، فحينئذ تكون الأطراف ثلاثة ، الإحرام من أدنى الحل ومن المواقيت المعروفة ومن مرحلتين ، فنعلم إجمالاً باكتفاء الإحرام من خصوص المواقيت أو الجامع بينها وبين أدنى الحل أو الجامع بين المواقيت وأدنى الحل وبين الإحرام من مرحلتين.

فالنتيجة أنه يتخير بين الأُمور الثلاثة ، وأصالة البراءة عن المواقيت لا تعين الإحرام من أدنى الحل ، لأنّ العلم الإجمالي على الفرض ذو أطراف ثلاثة. هذا كلّه مع قطع النظر عن النصوص الدالّة على لزوم الذهاب إلى المواقيت المعروفة والإحرام منها وعدم جواز العدول والاعراض عنها إلى غيرها.

(١) الظاهر أنه لا خلاف بينهم في كون أدنى الحل ميقاتاً للعمرة المفردة بعد حج القران والإفراد ، كما أنه ميقات للعمرة المفردة لمن كان في مكّة ، ومراد المصنف من

__________________

(*) لمن كان بمكّة وأراد العمرة ومن أتى دون المواقيت غير قاصد لدخول مكّة ثمّ بدا له أن يعتمر.

(١) في مصباح الأُصول ٢ : ٤٥٣.

٣٠٦

فإنها منصوصة ، وهي من حدود الحرم على اختلاف بينها في القرب والبعد ، فإن الحديبية بالتخفيف أو التشديد بئر بقرب مكّة على طريق جدّة دون مرحلة ثمّ أُطلق على الموضع ، ويقال : نصفه في الحل ونصفه في الحرم ، والجِعرانة بكسر الجيم والعين وتشديد الراء أو بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء موضع بين مكّة والطائف على سبعة أميال ، والتنعيم موضع قريب من مكّة وهو أقرب أطراف الحل إلى مكّة ، ويقال : بينه وبين مكّة أربعة أميال ، ويعرف بمسجد عائشة ، كذا في مجمع البحرين ، وأمّا المواقيت الخمسة فعن العلّامة (رحمه الله) في المنتهي أن أبعدها من مكّة ذو الحليفة فإنها على عشرة مراحل من مكّة ، ويليه في البعد الجُحفة ، والمواقيت الثلاثة الباقية على مسافة واحدة بينها وبين مكّة ليلتان قاصدتان ، وقيل : إن الجحفة على ثلاث مراحل من مكّة.

______________________________________________________

قوله : «بل لكل عمرة مفردة» العمرة المفردة لمن أراد العمرة وحدها من مكّة ، وأمّا النائي الخارج من مكّة فميقات عمرته سائر المواقيت المعروفة كما سيأتي في المسألة السادسة ، ففي العبارة مسامحة واضحة.

وكيف كان ، الذي يدل على أن أدنى الحل ميقات للعمرة المفردة إنما هو روايتان :

الأُولى : صحيحة جميل ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية ، قال : تمضي كما هي إلى عرفات فتجعلها حجة ، ثمّ تقيم حتى تطهر فتخرج إلى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة ، قال ابن أبي عمير : كما صنعت عائشة» (١).

وربّما يشكل الاستدلال بها من جهتين :

إحداهما : أنها واردة في العمرة المفردة المسبوقة بالحج ، وكلامنا في مطلق العمرة المفردة فالتعدي يحتاج إلى الدليل.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٦ / أبواب أقسام الحج ب ٢١ ح ٢.

٣٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيتهما : أن ظاهرها وجوب الإحرام من خصوص التنعيم مع أن كلامنا في مطلق أدنى الحل.

ويمكن الجواب عن الثاني بأن ذكر التنعيم لكونه أقرب الأماكن من حدود الحرم وإلّا فلا خصوصية لذكره.

الثانية : صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : من أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر أحرم من الجِعرانة أو الحديبية أو ما أشبهها» (١) فإنها تشمل جميع مواضع حدود الحرم لقوله : «أو ما أشبهها» ، كما أنها مطلقة من حيث كون العمرة مسبوقة بالحج أم لا ، فلا ينبغي الريب في هذا الحكم.

يبقى الكلام في مرسلة الصدوق التي رواها بعد صحيحة عمر بن يزيد ، قال الصدوق : «وإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اعتمر ثلاث عمر متفرقات كلّها في ذي القعدة ، عمرة أهلّ فيها من عسفان وهي عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء أحرم فيها من الجُحفة ، وعمرة أهلّ فيها من الجعرانة وهي بعد أن رجع من الطائف من غزاة حنين» (٢) ، ورواها الكليني في الكافي بسند صحيح عن معاوية بن عمّار باختلاف يسير (٣).

وربّما يقال بأن ظاهر الرواية أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أحرم للعمرة من عسفان ، الذي يبعد عن مكّة بمقدار مرحلتين ولم يكن ميقاتاً ولا من أدنى الحل ، كما يظهر منها أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أحرم لعمرة القضاء من الجحفة مع أنه لو كان (صلّى الله عليه وآله وسلم) قاصداً للعمرة من المدينة فكيف لم يحرم من مسجد الشجرة ، فمقتضى هذه الرواية جواز تأخير إحرام العمرة المفردة للنائي من الميقات الذي أمامه إلى ميقات آخر بعده.

والجواب : أنه إذا كان المراد بالإهلال الإحرام فتدل الرواية على جواز الإحرام

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٤١ / أبواب المواقيت ب ٢٢ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٤١ / أبواب المواقيت ب ٢٢ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ٢٧٥ / ١٣٤١.

(٣) الكافي ٤ : ٢٥١ / ١٠.

٣٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

من مكانه وعدم لزوم الرجوع إلى الميقات ، نظير من كان منزله بعد الميقات ، فإن موضع إحرامه دويرة أهله وليس عليه الرجوع إلى الميقات ، فالحكم بجواز الإحرام من مكانه وعدم لزوم الرجوع إلى الميقات لا يختص بمن كان منزله دون الميقات ، بل يشمل من كان بنفسه دون الميقات من باب الاتفاق وإن كان منزله بعيداً ، فالمستفاد من الرواية أن من كان دون الميقات ولو اتفاقاً وأراد العمرة يجوز له الإحرام من مكانه وليس عليه الرجوع إلى الميقات ، ولا خصوصية لذكر عسفان ، بل الميزان كل من كان بعد الميقات سواء كان في عسفان أو في غيره من المواضع.

ولكن لا يبعد أن يكون المراد بالإهلال هو رفع الصوت بالتلبية كما هو معناه لغة يقال : أهل بذكر الله : رفع به صوته ، وأهل المحرم بالحج والعمرة : رفع صوته بالتلبية وأهلوا الهلال واستهلوه : رفعوا أصواتهم عند رؤيته ، وأهل الصبي : إذا رفع صوته بالبكاء (١) ، فمعنى الرواية أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) رفع صوته بالتلبية في عسفان ، والعمرة التي رفع صوته بالتلبية من عسفان هي عمرة الحديبية ، فلا ينافي ذلك مع إحرامه من مسجد الشجرة.

يبقى الإشكال في إحرامه (صلّى الله عليه وآله وسلم) من الجحفة في عمرة القضاء كما في المرسلة.

ويندفع بأن العبرة بصحيحة الكافي عن معاوية بن عمّار ، فإن المذكور فيها الإهلال من الجحفة ، وقد عرفت أن المراد به رفع الصوت بالتلبية.

والذي يظهر من الروايات الصحيحة والتواريخ المعتبرة أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إنما اعتمر بعد الهجرة عمرتين ، وإنما عبر في هذه الصحيحة بثلاث عمر باعتبار شروعه في العمرة والإحرام لها ولكن المشركين منعوه من الدخول إلى مكّة ، فرجع (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد ما صالحهم في الحديبية واعتمر في السنة اللّاحقة قضاءً عمّا فات عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعن أصحابه فسمِّيت بعمرة

__________________

(١) أساس البلاغة : ٤٨٧.

٣٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

القضاء ، كما صرح بذلك في صحيحة أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «اعتمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عمرة الحديبية وقضى الحديبية من قابل ، ومن الجعرانة حين أقبل من الطائف ، ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة» (١) وفي صحيحة صفوان أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أحرم من الجعرانة (٢).

فالذي يستفاد من صحيحة معاوية بن عمّار أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أحرم من مسجد الشجرة للعمرة ورفع صوته بالتلبية من عُسفان ، وهي العمرة التي منعه المشركون من الدخول إلى مكّة وصالحهم في الحديبية ورجع من دون إتيان مناسك العمرة ، ثمّ في السنة اللاحقة اعتمر وأحرم من مسجد الشجرة وأهل ورفع صوته بالتلبية من الجحفة فسميت بعمرة القضاء.

وأمّا الجِعرانة فالظاهر من الصحيحة أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أحرم منها لظهور قوله : «وعمرة من الجعرانة» في أن ابتداء العمرة كان من الجعرانة ، لا أنه أحرم قبل ذلك ورفع صوته بالتلبية من الجعرانة كما صرّح بذلك في صحيحة أبان المتقدّمة.

فالمستفاد من الصحيحة جواز الإحرام للعمرة المفردة من الجِعرانة اختياراً وإن لم يكن من أهل مكّة كالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه ، كما يجوز الإحرام من أدنى الحل. ولكن إنما يختص ذلك بمن بدا له العمرة في الأثناء.

فما ذكرناه في أوّل البحث من أن ميقات العمرة المفردة للنائي الخارج من مكّة هو المواقيت المعروفة غير تام على إطلاقه ، بل لا بدّ من التفصيل ، وحاصله :

أن النائي إذا سافر وخرج من بلده لغرض من الأغراض كقتال ونحوه ووصل إلى حدود الحرم ودون الميقات فبدا له أن يعتمر ، يجوز له أن يعتمر من أدنى الحل من الجِعرانة ونحوها كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، ولا يجب عليه العود والرجوع إلى الميقات ، وأمّا النائي الذي يخرج من بلده بقصد العمرة فليس

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٩٩ / أبواب العمرة ب ٢ ح ٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦٨ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٦.

٣١٠

[٣٢١٧] مسألة ٥ : كل من حج أو اعتمر على طريق فميقاته ميقات أهل ذلك الطريق وإن كان مهلّ أرضه غيره (١) كما أشرنا إليه سابقاً ، فلا يتعيّن أن يحرم من مهل أرضه بالإجماع والنصوص ، منها صحيحة صفوان «إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقّت المواقيت لأهلها ومن أتى عليها من غير أهلها».

______________________________________________________

له الإحرام إلّا من المواقيت المعروفة ، وليس له التأخير إلى أدنى الحل (١).

(١) لإطلاق الروايات (٢) الدالّة على توقيت النبي (صلّى الله عليه وآله) المواقيت

__________________

(١) تفصيل اعتمار رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) في السنة السادسة من الهجرة من شهر ذي القعدة أحرم من مسجد الشجرة للعمرة ، وكان معه ١٥٢٠ نفر ، وفي رواية ٤٠٠ نفر ، وساق ٧٠ بعيراً ، ولما وصل (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى حديبية وهي على مرحلة إلى مكّة منعه المشركون من الدخول إلى مكّة ، ثمّ وقع الصلح بينه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين المشركين في الحديبية ، ومن جملة شروط الصلح أن يرجع في هذه السنة ويعتمر في السنة اللّاحقة ، واشترطوا أيضاً أن لا يبقى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه في مكّة أزيد من ثلاثة أيّام ، فرجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية إلى المدينة ولم يعتمر ، وفي السنة السابعة من الهجرة بعد ما رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من خيبر صمم لزيارة مكّة والعمرة ، وعزم في شهر ذي القعدة للعمرة لقضاء عمرة الحديبية التي منعه المشركون من أدائها ، ودخلوا مكّة معتمرين ولم يبقوا في مكّة أزيد من ثلاثة أيّام ثمّ رجعوا حسب شروط الصلح ، فسميت عمرته بعمرة القضاء ، لقضاء ما فات عنه وتداركه في السنة السابعة ، ثمّ في السنة الثامنة وقع فتح مكّة المعظمة ، وتوجه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعساكره إلى مكّة لفتحها في شهر رمضان ، وشرب الماء في عُسفان ، ولم يصم إلى أن وصلوا مكّة فاتحين ، ثمّ بعد فتح مكّة مباشرة تقريباً وقعت غزوة حنين وهو وادٍ بين مكّة والطائف وبعد غلبة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ونصرته في حنين أحرم في الثامن عشر من ذي القعدة من الجعرانة للعمرة.

وأمّا حج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فإنما هو في السنة العاشرة من الهجرة ، وكانت مدّة إقامته (صلّى الله عليه وآله وسلم) في المدينة عشر سنين تقريباً ولم يحج ، ثمّ أنزل الله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ) فأمر المؤذنين بأن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يحج من عامه هذا.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١.

٣١١

[٣٢١٨] مسألة ٦ : قد علم ممّا مرّ أنّ ميقات حج التمتّع مكّة واجباً كان أو مستحباً من الآفاقي أو من أهل مكّة ، وميقات عمرته أحد المواقيت الخمسة أو محاذاتها (*) كذلك أيضاً ، وميقات حج القران والإفراد أحد تلك المواقيت مطلقاً أيضاً إلّا إذا كان منزله دون الميقات أو مكّة (**) فميقاته منزله ويجوز من أحد تلك المواقيت أيضاً بل هو الأفضل ، وميقات عمرتهما أدنى الحل إذا كان في مكّة ويجوز من أحد المواقيت أيضاً وإذا لم يكن في مكّة فيتعين أحدها ، وكذا الحكم في العمرة المفردة مستحبّة كانت أو واجبة ، وإن نذر الإحرام من ميقات معيّن تعيّن والمجاور بمكّة بعد السنتين حاله حال أهلها ، وقبل ذلك حاله حال النائي فإذا أراد حج الإفراد أو القرآن يكون ميقاته أحد الخمسة أو محاذاتها (***) ، وإذا أراد العمرة المفردة جاز إحرامها من أدنى الحل (١).

______________________________________________________

الخمسة ، فإنها مطلقة من حيث أهل هذه البلاد ومن حيث من يمر عليها ولخصوص معتبرة إبراهيم بن عبد الحميد ، قال : «من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلّا من المدينة» (١) فإن المستفاد منها أن المدينة ميقات لأهلها ولكل من دخل فيها وإن لم يكن من أهلها.

وصحيحة علي بن جعفر «وأهل السند من البصرة ، يعني من ميقات أهل البصرة» (٢) فإنها تدل على أن ميقات أهل البصرة ميقات لأهل السند لأنهم يمرون عليه. وأوضح من الكل صحيحة صفوان (٣) المذكورة في المتن.

(١) لخّص المصنف (قدس سره) في هذه المسألة ما ذكره في المسائل المتقدّمة من

__________________

(*) تقدّم الإشكال فيه [في الميقات التاسع].

(**) تقدّم أن أهل مكّة يخرجون إلى الجعرانة ويحرمون منها.

(***) تقدّم الإشكال فيه [في الميقات التاسع].

(١) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٥.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٣٣ / أبواب المواقيت ب ١٥ ح ١.

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

مبحث المواقيت فنقول :

إنّ مكّة ميقات لحج التمتّع للنائي سواء كان واجباً أو ندباً.

وأمّا عمرة التمتّع للنائي فميقاتها أحد المواقيت الخمسة أو محاذيها بناء على الالتزام بكفاية المحاذي ، وقد تقدّم الاشكال فيه.

وأمّا من كان منزله دون الميقات فميقاته منزله ودويرة أهله ، وليس عليه الرجوع إلى الميقات.

وأمّا من كان من أهل مكّة المكرّمة فإن أراد إتيان حج التمتّع كما إذا أتى به استحباباً أو نذراً أو إجارة أو غير ذلك ممّا يصح التمتّع منه ، فقد ذكر المصنف أن ميقات عمرته أحد المواقيت الخمسة مخيراً بينها لجملة من الأخبار (١) ، ولكن قد ذكرنا آنفاً أن الصحيح هو التخيير له بين الإحرام من أحد المواقيت الخمسة ومن أدنى الحل (٢) ، لأنّه مقتضى الجمع بين الأدلّة.

وأمّا النائي الذي لا يمر بالميقات ولا بالمحاذي بناءً على إمكان ذلك فعليه أن يرجع إلى الميقات ، فإن لم يتمكن من ذلك فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.

وأمّا ميقات حج القران والإفراد فإن كان خارجاً من مكّة وكان منزله قبل الميقات فميقاته أحد المواقيت الخمسة أو ما يحاذيه بناءً على الاكتفاء بالمحاذاة ، وأمّا إذا كان منزله بعد الميقات فميقاته دويرة أهله ، وليس عليه الرجوع إلى الميقات.

وأمّا ميقات حج القران والإفراد لمن كان منزله في مكّة فذكر المصنف أنه يحرم من مكّة كما عليه المشهور ، ولكن الصحيح أن ميقاتهم الجعرانة ويحرمون منها كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وصحيحة أبي الفضل (٣) ، وقد ذكرنا أن دويرة أهله لا تشمل من كان منزله في مكّة.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحج ب ٩.

(٢) قد تقدّم تفصيل ذلك في المسألة ٤ من فصل أقسام الحج ص ١٧٠.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٦٧ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٥ ، ٦.

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ ذكر المصنف (قدس سره) أن ميقات العمرة لمن كان منزله في مكّة أدنى الحل سواء كانت عمرته العمرة المفردة المستقلة أو التي يؤتى بها بعد حج القران أو الإفراد وأمّا إذا لم يكن في مكّة فميقات عمرته سواء كانت عمرة مفردة أو عمرة التمتّع أحد المواقيت الخمسة.

ولا يخفى عليك أن هذا الكلام لا يخلو من المسامحة ، إذ ليس كل من كان خارج مكّة يجب عليه الإحرام من المواقيت حتى من كان منزله بعد الميقات ، فإن إحرام هذا من منزله ، والإحرام من المواقيت يختص بمن كان منزله قبل الميقات وكان الميقات وسطاً بينه وبين مكّة.

ثمّ إنّ ما ذكره لا يتم على إطلاقه بناءً على مختاره من الاكتفاء بالمحاذي ، فلا وجه للتخصيص بالمواقيت وكان عليه أن يذكر المحاذي ، نعم يتم ما ذكره بناءً على المختار من عدم الاجتزاء بالمحاذاة.

وقد ذكر المصنف (قدس سره) أن من نذر الإحرام من ميقات معيّن تعين له ذلك.

أقول : ولكن لا بدّ من تقييده بكونه مشروعاً في حقّه ، وإلّا من كان أمامه ميقات ليس له أن ينذر الإحرام من الميقات الآخر الذي بعده ، مثلاً من كان في المدينة ليس له أن ينذر الإحرام من الجحفة ، إذ لا يجوز له التجاوز عن مسجد الشجرة بغير إحرام ، والنذر لا يجعل غير المشروع مشروعاً ولا يتعلق إلّا بما هو مشروع في نفسه.

نعم ، لو جاز له الإحرام من الميقاتين كمن كان بعيداً وكان أمامه مسجد الشجرة والجحفة بحيث لا يكون أحدهما قبل الآخر بالنسبة إليه يجوز له نذر الإحرام من أحدهما ، فإطلاق كلام المصنف لا يخلو عن الاشكال ، ولو ذكر بدل قوله «تعين» «وجب» لكان خالياً عن الاشكال ، وذلك لأنّ الظاهر من قوله «تعين» أنه يتبدل حكم الناذر من التخيير بين الميقاتين إلى تعيين الميقات الخاص الذي تعلّق به النذر ، فكأنه ينحصر ميقاته بذلك ولا يصح إحرامه من ميقات آخر ، مع أن الأمر ليس كذلك ، لأنّ النذر لا يعيّن الحكم الشرعي ولا يبدله وإن كان النذر سبباً لوجوب الإتيان بالمنذور ، ولكن لو خالف النذر وأتى بالفرد الذي لم يتعلق به النذر صحّ وإن كان

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مخالفاً للنذر وتجب عليه الكفّارة للحنث ، فلو نذر النائي الإحرام من الجحفة ولكن خالف وأحرم من الشجرة صحّ حجّه وعمله وإن وجبت عليه الكفّارة لمخالفته للنذر وذلك لما أشرنا إليه من أن النذر لا يوجب انقلاب الحكم الشرعي وتبدله إلى حكم آخر ، وإنما النذر واجب في واجب ، نظير من نذر أن يصلِّي الصلاة جماعة فصلّى منفرداً ، أو نذر أن يصلِّي صلاته في المسجد الفلاني وخالف وصلّى في بيته فإنه لا ريب في صحّة صلاته وإن وجبت الكفّارة لمخالفة النذر ، وكذا لو نذر أن يصوم صوم القضاء في شهر رجب وخالف وصام في شهر شعبان فإنه لا إشكال في صحّة صومه وإن كان حانثاً ، فالأحسن أن يقال وجب بدلاً عن قوله «تعيّن».

وأمّا المجاور بمكّة بعد السنتين فذكر المصنف (قدس سره) أن حاله حال أهلها وقد تقدّم منه أن إحرامهم لحج القران أو الإفراد من مكّة ، للنصوص الدالّة على الإحرام من دويرة أهله الشاملة لأهل مكّة أيضاً ، وقد ذكرنا أن تلك النصوص لا تشمل أهل مكّة وإنما تختص بمن كان منزله خارجاً من مكّة وقريباً منها ، فالواجب عليهم سواء كانوا من أهل مكّة أو من المجاورين فيها الإحرام من أدنى الحل كالجعرانة كما في صحيحة أبي الفضل وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (١).

وأمّا المجاور قبل السنتين وقبل أن ينقلب فرضه ففي المتن أن حاله حال النائي فإذا أراد حج الإفراد أو القرآن فميقاته أحد المواقيت الخمسة ، وقد تقدّم منه قريباً في الميقات السابع (٢) أن ميقاته أدنى الحل للصحيحتين المتقدّمتين ، وذكر أن القدر المتيقن منهما هو المجاور قبل السنتين ، فما ذكره هنا مخالف لما تقدّم منه ولا يبعد صدور ذلك منه سهواً.

وكيف كان ، ذكرنا في الميقات السابع أن المجاور مطلقاً حكمه حكم أهل مكّة فيخرج إلى الجعرانة فيحرم منها.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٧ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٥ ، ٦.

(٢) في ص ٢٨٠.

٣١٥

فصل

في أحكام المواقيت

[٣٢١٩] مسألة ١ : لا يجوز الإحرام قبل المواقيت ولا ينعقد ، ولا يكفي المرور عليها محرماً بل لا بدّ من إنشائه جديداً ، ففي خبر ميسرة «دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا متغير اللّون فقال (عليه السلام) : من أين أحرمت بالحج؟ فقلت : من موضع كذا وكذا ، فقال (عليه السلام) : ربّ طالب خير يزلّ قدمه ، ثمّ قال : أيسرّك إن صليت الظهر في السفر أربعاً؟ قلت : لا ، قال : فهو والله ذاك» (١).

______________________________________________________

(١) لا خلاف في عدم جواز الإحرام قبل الميقات ولا بعده ، والروايات في ذلك متضافرة ، فقد ورد في بعضها أن الإحرام دون الميقات في حكم العدم (١) ، وقد شبّه في بعض الروايات تقديم الإحرام على الميقات بالصلاة ست ركعات عوض أربع ركعات العصر (٢) ، فتلك زيادة في الأفعال والركعات وهذه زيادة في الزمان.

والمصنف لم يذكر في المتن إلّا رواية واحدة عن ميسرة ، والموجود في الوسائل ميسر (٣) وهو الصحيح ، والرواية معتبرة لأنّ رجالها ثقات ، وأمّا ميسر فقد ذكر الكشي (٤) روايات كثيرة تدل على مدحه ، وقد وثقه علي بن الحسن بن فضال.

وبالجملة : لا ينبغي الريب في حرمة الإحرام قبل الميقات أو بعده ، ولكن الحرمة حرمة تشريعية لا ذاتيّة.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٠ / أبواب المواقيت ب ٩ ح ٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٢٤ / أبواب المواقيت ب ١١ ح ٥ ، ٦.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٢٤ / أبواب المواقيت ب ١١ ح ٥ ، ٦.

(٤) رجال الكشي : ٢٤٣.

٣١٦

نعم ، يستثني من ذلك موضعان : أحدهما : إذا نذر الإحرام قبل الميقات ، فإنّه يجوز ويصحّ للنصوص ، منها خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «لو أنّ عبداً أنعم الله تعالى عليه نعمة أو ابتلاه ببلية فعافاه من تلك البلية فجعل على نفسه أن يحرم من خراسان كان عليه أن يتم». ولا يضر عدم رجحان ذلك بل مرجوحيته قبل النذر مع أن اللّازم كون متعلق النذر راجحاً ، وذلك لاستكشاف رجحانه بشرط النذر من الأخبار ، واللّازم رجحانه حين العمل ولو كان ذلك للنذر ، ونظيره مسألة الصوم في السفر المرجوح أو المحرّم من حيث هو مع صحّته ورجحانه بالنذر ، ولا بدّ من دليل يدل على كونه راجحاً بشرط النذر ، فلا يرد أن لازم ذلك صحّة نذر كل مكروه أو محرّم ، وفي المقامين المذكورين الكاشف هو الأخبار ، فالقول بعدم الانعقاد كما عن جماعة لما ذكر لا وجه له ، لوجود النصوص وإمكان تطبيقها على القاعدة. وفي إلحاق العهد واليمين بالنذر وعدمه وجوه ، ثالثها إلحاق العهد دون اليمين ، ولا يبعد الأوّل لإمكان الاستفادة من الأخبار (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في موردين :

الأوّل : نذر الإحرام قبل الميقات.

المعروف والمشهور انعقاد نذره ووجوب الإحرام من ذلك الموضع ، وذهب جماعة إلى المنع بدعوى أنه نذر غير مشروع ، وممن صرّح بالمنع ابن إدريس (١) ونسبه إلى جماعة كالسيّد وابن أبي عقيل والصدوق والشيخ في الخلاف (٢) ، ولكن العلّامة خطّأه في نقله (٣). وكيف كان ، فالصحيح ما ذهب إليه المشهور للنصوص :

منها : ما رواه الشيخ في الصحيح بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن

__________________

(١) السرائر ١ : ٥٢٧.

(٢) راجع الخلاف ٢ : ٢٨٦ مسألة ٦٢.

(٣) المختلف ٤ : ٦٨.

٣١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الحلبي (علي) قال «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل جعل لله عليه شكراً أن يحرم من الكوفة ، قال : فليحرم من الكوفة وليف لله بما قال» (١) ، ودلالته واضحة على انعقاد النذر وصحّته ووجوب الوفاء.

وأمّا السند فالمعروف صحّته ، ولكن صاحب المنتقى ناقش في صحّة الخبر تارة بجهل الراوي لترديده بين الحلبي وعلي ، أي علي بن أبي حمزة البطائني الكذّاب ، فإن المذكور في نسخ التهذيب القديمة علي لا الحلبي ، وفي الوسائل ذكر كلمة علي على نحو الاحتمال ، وتصحيف علي بالحلبي قريب ، ويؤيد كون الراوي علي بن أبي حمزة رواية حماد عنه ، فإن رواية حماد بن عيسى عنه معروفة كثيرة ، وأُخرى : بأن حماد واقع في السند ، فإن كان ابن عثمان كما تشعر به روايته عن الحلبي فالحسين ابن سعيد لا يروي عنه بغير واسطة قطعاً ، وإن كان ابن عيسى فهو لا يروى عن عبيد الله الحلبي فيما يعهد من الأخبار فالاتصال غير محرز ، ثمّ قال : في آخر كلامه : وبالجملة فالاحتمالات قائمة على وجه ينافي الحكم بالصحّة ، وأعلاها كون الراوي علي بن أبي حمزة فيتضح ضعف الخبر (٢).

أقول : الظاهر أن ذكر علي في السند اشتباه ، وإنما ذكر في بعض نسخ التهذيب القديم ، والمصرح به في النسخة الجديدة (٣) والاستبصار (٤) الحلبي بدل علي ، فالاشتباه إنما وقع من الناسخ ، وأمّا حماد الواقع في الطريق الذي يروي عن الحلبي فالظاهر أنه حماد بن عثمان ، فإنه يروي عن الحلبي بعنوانه وعن عبيد الله بن الحلبي وعن عبيد الله بن علي وعن عبيد الله الحلبي كثيراً ما يقرب من مائتي مورد.

وما ذكره من أنّ الحسين بن سعيد لا يروي عن حماد بن عثمان فغير تام ، فإنّه قد روى عنه في بعض الموارد وإن كان قليلاً لا أنه لا يروي عنه أصلاً ، ولو قلنا بأن حماد

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٦ / أبواب المواقيت ب ١٣ ح ١ ، التهذيب ٥ : ٥٣ / ١٦٣.

(٢) منتقى الجمان ٣ : ١٩٣.

(٣) التهذيب ٥ : ٥٣.

(٤) الاستبصار ٢ : ١٦٣.

٣١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا هو حمّاد بن عيسى فالحلبي الذي يروى عنه هو عمران الحلبي ، لا عبيد الله الحلبي حتى يقال بأنّ حمّاد بن عيسى لا يروي عن عبيد الله الحلبي ، وأمّا ما ذكر من أنّ إرادة عمران الحلبي عند إطلاق الحلبي بعيدة فغير تام ، إذ قد يطلق الحلبي ويراد به عمران والحسين بن سعيد يروي عن حماد بن عيسى كثيرا.

ثمّ إنّه لو سلمنا أن الثابت في النسخة علي بدل الحلبي فليس المراد به علي بن أبي حمزة البطائني ، بل المراد إما علي بن يقطين أو علي بن المغيرة ، نعم حماد بن عيسى يروي عن علي البطائني وأمّا حماد بن عثمان فلا يروي عنه. والحاصل : لا ينبغي الريب في صحّة السند.

ومنها : خبر صفوان عن علي بن أبي حمزة ، قال : «كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن رجل جعل لله عليه أن يحرم من الكوفة ، قال : يحرم من الكوفة» (١) ولكنّه ضعيف بعلي بن أبي حمزة ، ولعلّ ذكر علي في هذه الرواية أوجب الاشتباه في ذكره في الخبر السابق.

ومنها : موثقة أبي بصير ، قال : «سمعته يقول : لو أن عبداً أنعم الله عليه نعمة أو ابتلاه ببلية فعافاه من تلك البلية فجعل على نفسه أن يحرم بخراسان كان عليه أن يتم» (٢) وتكفينا هاتان الروايتان المعتبرتان في الحكم المذكور ، ولا وجه للمناقشة فيه بعد وضوح الدلالة وصحّة السند.

إنّما وقع الكلام في تطبيق الروايات على القاعدة المعروفة ، وهي لزوم الرجحان في متعلق النذر ، وأن النذر لا ينعقد إلّا إذا كان متعلقه راجحاً في نفسه ، فمن هنا يتوجّه الاشكال من أنه لو فرضنا كون الإحرام قبل الميقات غير مشروع فكيف يتعلّق به النذر وينعقد.

وقد أجاب عنه المصنف (رحمه الله) في المتن بأن اللّازم رجحان النذر في ظرف

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٢٧ / أبواب المواقيت ب ١٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٢٧ / أبواب المواقيت ب ١٣ ح ٣.

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

العمل ولو كان ذلك للنذر ، ولا يضر عدم رجحانه قبل النذر ، بل ولو كان مرجوحاً قبله فالرجحان الناشئ من قبل النذر كاف.

وأُشكل عليه بأن لازم ذلك انعقاد النذر إذا تعلق بالحرام أو المكروه.

وأجاب عنه في المتن بأنه إنما نقول بصحّة النذر وانعقاده فيما إذا قام الدليل على الجواز فنستكشف من الدليل كونه راجحاً بشرط النذر ، وما لم يدل دليل على الجواز لا يمكن إثبات رجحانه بالنذر ، وحيث قام الدليل على جواز نذر الإحرام قبل الميقات نستكشف منه رجحانه بالنذر ، ونظيره مسألة الصوم في السفر المرجوح أو المحرم ، وهذا بخلاف باقي المحرمات والمكروهات ، فإن إطلاق دليل الحرام أو عمومه يكفي في عدم الرجحان حتى يتعلق النذر به. وبالجملة : إنما نقول بصحّة النذر في المقام لقيام الدليل على صحّة النذر.

وأُورد عليه بأن ذلك غير معقول لاستلزامه الدور ، لأنّ صحّة النذر متوقفة على الرجحان والرجحان متوقف على صحّة النذر وهذا دور واضح.

وفيه : أن المتوقَف عليه يغاير المتوقِف عليه فلا دور ، لأنّ صحّة النذر وإن كانت متوقفة على رجحان متعلقه ولكن رجحان المنذور غير متوقف على صحّة النذر ، بل إنما يتوقف على نفس النذر. وبعبارة اخرى : مشروعية النذر تتوقف على نفس النذر وفي علم الله ثابت أنه متى التزم المكلف على نفسه شيئاً يكون ذلك راجحاً فيجب الوفاء به لأنّ متعلقه مشروع ، هذا كلّه بناءً على تطبيق الروايات على القاعدة.

ويمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى التطبيق المذكور ، ونلتزم بالتخصيص في المورد بدعوى أن لزوم الرجحان في متعلق النذر ليس من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص ، وإنما هو حكم شرعي تعبدي يقبل التخصيص ، فيمكن الالتزام بوجوب الوفاء بالنذر في مورد نذر الإحرام قبل الميقات ونذر الصوم في السفر وإن كان الرجحان فيهما ناشئاً من قبل النذر ، لاستكشاف رجحانه بشرط النذر من النص.

وبتعبير آخر : لو اعتبرنا الرجحان النفسي في متعلق النذر فلا محيص عن التخصيص بالنص الوارد في الموردين ، وإن اعتبرنا مطلق الرجحان ولو كان الرجحان ثابتاً في

٣٢٠