موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

فرض أهل مكّة ، وإن كان الأحوط إحرامه من الجِعرانة وهي أحد مواضع أدنى الحل للصحيحين الواردين فيه المقتضي إطلاقهما عدم الفرق بين من انتقل فرضه أو لم ينتقل ، وإن كان القدر المتيقن الثاني فلا يشمل ما نحن فيه ، لكن الأحوط ما ذكرنا عملاً بإطلاقهما ، والظاهر أن الإحرام من المنزل للمذكورين من باب الرخصة وإلّا فيجوز لهم الإحرام من أحد المواقيت ، بل لعلّه أفضل لبُعد المسافة وطول زمان الإحرام.

______________________________________________________

فيعتبر القرب إلى مكّة وبين الحج فبالقرب إلى عرفات ، إذ لا يجب المرور على مكّة في إحرام الحج من المواقيت؟ وجوه وأقوال ، والمشهور هو الأوّل ، وذهب بعضهم إلى الثاني ، وبه صرّح الشهيد في اللّمعة (١) ونقله في المدارك (٢) عن المحقق في المعتبر (٣) ولكن ذكر صاحب الحدائق أنه لم يجده فيه بل استظهر من كلامه القرب إلى مكّة (٤) وعن الشهيد الثاني في المسالك الثالث (٥).

والصحيح ما ذهب إليه المشهور لتصريح الروايات بذلك ولم يذكر في شي‌ء منها القرب إلى عرفات ، فمن كان منزله أقرب إلى مكّة من سائر المواقيت فميقاته منزله ، وهو المعبر عنه في النصوص بدويرة أهله. نعم ، تلاحظ المسافة بين مجموع المواقيت ومنزله ، فإذا كانت مسافة منزله أقل من مسافة مجموع المواقيت فميقاته منزله ، وإذا كانت مسافة بعض المواقيت أقل فميقاته ذلك الميقات أو ميقات آخر لا منزله ، مثلاً إذا كان منزله أقل من مرحلتين إلى مكّة المكرمة فميقاته منزله ، وإذا كان منزله أكثر من مرحلتين فميقاته أحد المواقيت المعيّنة القريبة كقرن المنازل ، فإنه يبعد

__________________

(١) الرّوضة البهيّة ٢ : ٢١٠.

(٢) المدارك ٧ : ١٩٢.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٨٦.

(٤) الحدائق ١٤ : ٤٥١.

(٥) المسالك ٢ : ٤١٦.

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

عن مكّة بمقدار مرحلتين تقريبا.

فبالجملة : أن الميزان إنما هو بملاحظة المسافة بين منزله ومكّة من جهة وبين المواقيت من جهة أُخرى ، فإن كان منزله أقل مسافة إلى مكّة من المواقيت فميقاته منزله ودويرة أهله ، وأمّا إذا كانت مسافة منزله أكثر من مسافة ميقات آخر فميقاته ليس منزله ، بل عليه أن يذهب إلى أحد المواقيت المعيّنة فيحرم منه ، وعلى سبيل المثال فمن كان منزله بين مكّة والمدينة وكانت الجحفة أمامه فميقاته الجحفة لأنها أقرب إلى مكّة من منزله ، ولا يجوز له الإحرام من منزله ، وتشمله الروايات الناهية عن الإحرام من المنزل (١).

وبناءً عليه فالظاهر هو الفرق بين التحديد بالقرب إلى مكّة أو إلى عرفات ، لأنه لو فرضنا أن عرفات تفصل بين منزله ومكّة وكان الفصل بين منزله وعرفات اثني عشر فرسخاً فيفصل منزله عن مكّة بستة عشر فرسخاً لأنّ مكّة تبعد بأربعة فراسخ ، فإن قلنا بأنّ العبرة بالقرب إلى عرفات فميقاته منزله لأنّه أقرب إليها من المواقيت ، لأنّ أقرب المواقيت إلى مكّة قرن المنازل وهو يبعد عن مكّة بأقل من ستة عشر فرسخاً ، وأمّا إذا قلنا بأن العبرة بالقرب إلى مكّة فميقاته سائر المواقيت المعيّنة.

وإذا كانت مكّة فاصلة بين منزله وعرفات ، فإن قلنا بأنّ العبرة بالقرب إلى عرفات وكان الفصل بين منزله ومكّة باثني عشر فرسخاً فيحرم من الميقات لا من منزله ، لأنّ الفصل بين منزله وعرفات بستة عشر فرسخاً فلا بدّ أن يذهب إلى الميقات لأنّه أقرب إلى عرفات ، وأمّا لو قلنا بأنّ العبرة بالقرب إلى مكّة فميقاته منزله لأنّه أقرب إلى مكّة.

وبالجملة : يختلف الحال باختلاف المواقيت بعداً وقرباً من حيث المسافة بملاحظة البعد عن مكّة أو عن عرفات ، فليس الأمر كما قيل بأنّه لا تفاوت بين الأمرين.

ولكن قد عرفت أنّ المستفاد من الروايات أن الميزان بالقرب إلى مكّة ، هذا كلّه

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٩ / أبواب المواقيت ب ٩ ، ١١ ، ١٧.

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بناءً على أنّ المعيار هو القرب والبعد بلحاظ كثرة المسافة وقلتها بالنسبة إلى مجموع المواقيت.

وأمّا بناءً على أن الميزان بما قبل الميقات وبما دونه كما هو المستفاد من نصوص الباب ، لأنّ المذكور فيها «من كان منزله دون الميقات» أو «دون الجحفة» أو «دون ذات عرق» (١) ونحو ذلك فالعبرة بما إذا كان الميقات قدامه أو وراءه ، فمن كان الميقات وراءه يكون منزله أقرب إلى مكّة طبعاً فيحرم من منزله ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات الذي خلفه ، فكل يلاحظ منزله ومحله بالنسبة إلى الميقات الذي يقع خلفه أو قدامه ، فإن المستفاد من قوله (عليه السلام) : «دون المواقيت ، أو خلف هذه المواقيت» أن يلاحظ كل أحد ميقات محله ومنزله ، يعني كل من كان منزله أقرب إلى مكّة وكان الميقات وراءه وخلفه يحرم من منزله ، وليس عليه الرجوع إلى الميقات حتى إذا كان منزله أبعد مسافة إلى مكّة بلحاظ ميقات آخر ، لأنّ العبرة على الفرض ليست ببعد المسافة وقربها وإنما العبرة بموضع منزله ووقوعه بين مكّة والميقات.

فتحصل مما ذكرنا : أنه إذا كانت العبرة بالقرب والبعد إلى مكّة حسب مجموع المواقيت فلا بدّ من ملاحظة المسافة بين منزله وبين الميقات بالنسبة إلى مكّة ، فإن كانت مسافة بيته أقل يحرم من منزله ، وإن كانت مسافة بيته أكثر من مسافة الميقات يحرم من الميقات ، وعلى ذلك تفترق الحال حسب ملاحظة القرب إلى مكّة أو إلى عرفات.

وأمّا إذا كانت العبرة بكون منزله دون الميقات وبعده أو قبله كما هو الصحيح فيلاحظ كل أحد موقع منزله ، فإن كان منزله وسطاً بين الميقات ومكّة يحرم من منزله ، وإذا كان الميقات فاصلاً ووسطاً بينه وبين مكّة يحرم من الميقات ، ولذا يختلف ذلك قرباً وبعداً بحسب المواقيت ، لأنّ بعد المواقيت إلى مكّة مختلف ، فبعض يقع منزله بعد قرن المنازل الذي يبعد عن مكّة بمرحلتين ، وبعض يقع منزله بعد الجحفة التي

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣٣ / أبواب المواقيت ب ١٧.

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تبعد عن مكّة بثلاثة مراحل تقريباً وهكذا.

نعم ، بالنسبة إلى مسجد الشجرة لا يتصور ذلك ، لأنّ من كان منزله بين مكّة والمدينة بعد مسجد الشجرة فأمامه ميقات آخر وهو الجحفة ، فإنها تقع في طريق الذاهب من المدينة إلى مكّة ، وقد ورد في النص أيضاً (١) أن من آخر الإحرام من مسجد الشجرة يحرم من الجحفة ، ولعله لذلك لم يرد في النصوص دون مسجد الشجرة كما ورد ذلك بالنسبة إلى الجحفة أو إلى ذات عرق.

هذا تمام الكلام في غير أهل مكّة ممن كان منزله قريباً إليها.

وأمّا أهل مكّة المكرّمة فالمعروف بين الأصحاب أنهم يحرمون من منازلهم أيضاً لأنّ منازلهم دون الميقات فيشملهم جواز الإحرام من دويرة أهله إذا كان منزله دون الميقات ، بل يمكن أن يقال إن القدر المتيقن من هذا الحكم إنما هو أهل مكّة وأُلحق بهم غيرهم ممن كان منزله قريباً إلى مكّة.

وقد استدلّ عليه بمرسلة الصدوق «عن رجل منزله خلف الجحفة من أين يحرم؟ قال (عليه السلام) : من منزله» (٢) بدعوى أن منازل أهل مكّة خلف الجحفة ، فعنوان خلف الجحفة لا يختص بمن كان منزله وسطاً بين مكّة والميقات بل يشمل منازل أهل مكّة أيضا.

ويرد عليه : أنه ليس في هذه الروايات ما يشمل أهل مكّة لا بعمومه ولا بإطلاقه.

أمّا عنوان دون الميقات فيختص بمن كان منزله وسطاً بين مكّة والميقات.

وأمّا المرسل ففيه مضافاً إلى ضعف السند بالإرسال أن عنوان الخلف لا يشمل منازل مكّة ، بيان ذلك : أن الخلف والقدام أمران إضافيان اعتباريان ، فكما يمكن أن تكون مكّة خلفاً للجحفة يمكن أن تكون الجحفة خلفاً لمكّة ، كما يصح أن يقال : إنّ كربلاء خلف النجف الأشرف أو بالعكس ، فلا بدّ في صدق عنوان الخلفية من فرض

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٦ / أبواب المواقيت ب ٦.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٣٥ / أبواب المواقيت ب ١٧ ح ٦ ، الفقيه ٢ : ١٩٩ / ٩١١.

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

موضعين وفرض شخص يريد الذهاب من أحدهما إلى الآخر ، فإذا ذهب من هذا المكان وتوجه إلى مكان آخر فالمكان الأوّل يكون خلفاً له ، ولو انعكس فبالعكس فمن دخل الجحفة وذهب منها إلى مكّة تكون الجحفة خلفه ، وكذا يصدق عنوان الخلف على من كان منزله بين مكّة والجحفة مثلاً ، وأمّا من كان منزله في مكّة فلا يصدق عليه عنوان خلف الجحفة ، فإنّ كلّاً منهما خلف الآخر باعتبار الذهاب والتوجه ، فإن توجه من مكّة إلى الجحفة فمكّة خلفه وإن توجه من الجحفة إلى مكّة فالجحفة خلفه.

وبالجملة : أن عنوان الخلف باعتبار الشخص المتوجه الذاهب من بلد إلى بلد آخر فالبلاد من حيث هي لا خلفية فيها حقيقة.

فلا دليل على أن بلدة مكّة المكرّمة ميقات لأهل مكّة ، وما ورد في النصوص من «دويرة أهله ومنزله» (١) مختص بغير أهل مكّة ممن هو قريب إليها فلا بدّ من التماس دليل آخر لمكان الإحرام لأهل مكّة ، وقد ورد في روايتين معتبرتين أن إحرامهم من الجعرانة :

الأُولى : صحيحة أبي الفضل ، وعبّر عنها صاحب الحدائق بصحيح أبي الفضل سالم الحناط (٢) مع أن الموجود في الكافي (٣) أبو الفضل فقط من دون ذكر سالم الحناط ولم يكن من دأب صاحب الحدائق إضافة شي‌ء في سند الروايات ، بل إنه (رحمه الله) ملتزم بذكر ما في الكتب الأربعة على ما هي عليه من دون زيادة شي‌ء أو نقيصته.

وكيف كان ، لا ريب في صحّة السند ، والمراد بأبي الفضل هو سالم الحناط لقرائن منها رواية صفوان عنه كثيراً ، ومنها رواية أبي الفضل عن الصادق (عليه السلام) «قال : كنت مجاوراً بمكّة فسألت أبا عبد الله (عليه السلام) من أين أُحرِم بالحج؟ فقال : من حيث أحرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الجعرانة أتاه في ذلك المكان فتوح

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣٥ / أبواب المواقيت ب ١٧.

(٢) الحدائق ١٤ : ٤٣١.

(٣) الكافي ٤ : ٣٠٢ / ٩.

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فتح الطائف وفتح خيبر والفتح ، فقلت : متى أخرج؟ الحديث» (١).

ونوقش في الاستدلال بها بأنها واردة في المجاور بمكّة وكلامنا في المتوطن.

وفيه : ان المجاورة أعم من الاستيطان ، ولم يؤخذ في المجاورة عنوان المؤقت وعنوان المجاورة يشمل من يريد أن يتخذ بلداً وطناً له وكذلك يشمل الإقامة المؤقتة بدون قصد الاستيطان ، وقد استعمل في القرآن في غير المؤقت كقوله تعالى (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) (٢) نعم لا يصدق المجاور على من كان مولوداً في بلد ويستمر في الإقامة والسكنى.

والحاصل : عنوان المجاورة لا يختص بالمقيم المؤقت بل يشمل المقيم المستوطن أيضا.

وأغرب من ذلك ما في المتن من أن القدر المتيقن من إطلاق الصحيحة من لم ينتقل فرضه ولم يبق مقدار سنتين في مكّة ، فإن القدر المتيقن لا يمنع عن الأخذ بالإطلاق وإلّا فلم يبق إطلاق في البين ، لأنّ لكل إطلاق قدراً متيقّنا ، وإذن لا مانع من الأخذ بإطلاق الصحيحة والعمل على طبقها إلّا إذا قام إجماع على الخلاف ولم يقم.

الرواية الثانية : صحيحة عبد الرحمن ، قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إني أريد الجوار بمكّة فكيف أصنع؟ فقال إذ رأيت الهلال هلال ذي الحجّة فاخرج إلى الجعرانة فأحرم منها بالحج» (٣) والحديث طويل وهو ظاهر صدراً وذيلاً في أن الجعرانة ميقات لأهل مكّة (٤).

ثمّ إن المصنف ذكر أن الإحرام للمذكورين من المنزل من باب الرخصة وإلّا فيجوز لهم الإحرام من المواقيت ، بل لعله أفضل لبعد المسافة وطول الزمان.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٨ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٦.

(٢) الرعد ١٣ : ٤.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٦٧ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٥.

(٤) الجِعرانة بكسر أوّله وهي ماء بين الطائف ومكّة ، وهي إلى مكّة أقرب. معجم البلدان ٢ : ١٤٢.

٢٨٦

الثامن : فخّ ، وهو ميقات الصِّبيان في غير حج التمتّع عند جماعة ، بمعنى جواز تأخير إحرامهم إلى هذا المكان لا أنّه يتعيّن ذلك ، ولكن الأحوط ما عن آخرين (١) من وجوب كون إحرامهم من الميقات لكن لا يجرّدون إلّا في فخّ ، ثمّ إن جواز التأخير على القول الأوّل إنما هو إذا مرّوا على طريق المدينة ، وأمّا إذا سلكوا طريقاً لا يصل إلى فخّ فاللّازم إحرامهم من ميقات البالغين (١).

______________________________________________________

أمّا جواز الإحرام من أحد المواقيت فهو على القاعدة ، لأنّ كل ميقات ميقات لمن يمر عليه ولا يختص بأهل بلاد خاصّة فلا نحتاج إلى دليل خاص ، والتعليل ببعد المسافة وطول الزمان للأفضلية.

(١) المعروف والمشهور بين الأصحاب أن فخّ ميقات الصبيان (٢) ، وناقش فيه غير واحد بأن حكمهم حكم البالغين ، إذ لا فرق في الطبيعة الصادرة من البالغين وغيرهم إلّا من حيث الوجوب والندب ، فجميع ما يعتبر في الحج بالنسبة إلى البالغين يعتبر فيه بالنسبة إلى غيرهم كما هو كذلك في سائر العبادات كالصلاة والصوم ، فإن جميع موانع الصلاة مانعة لصلاة الصبي أيضاً ، وكل ما يعتبر في الصلاة يعتبر في صلاة الصبي ما لم يرد دليل بالخصوص ، كما ورد جواز كشف الرأس في الصلاة بالنسبة إلى الأمة وبالجملة : إطلاق نصوص المواقيت والنهي عن تأخير الإحرام عنها يشمل إحرام الصبي أيضا.

نعم ورد تجريد الصبيان من فخّ في صحيحتين :

الأُولى : صحيحة أيوب أخي أديم ، قال : «سئل أبو عبد الله (عليه السلام) من أين تجرد الصبيان؟ قال : كان أبي يجردهم من فخّ» (٣) ورواه الكليني بسند ضعيف فيه

__________________

(١) بل الظاهر ذلك ، وإنما يكون تجريدهم من فخّ لمن يمرّ بها.

(٢) فخ بفتح أوّله وتشديد ثانيه وادٍ بمكّة يبعد عنها بمقدار فرسخ واحد أستشهد فيه أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) سنة ١٦٩ هجرية. معجم البلدان ٤ : ٢٣٧.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٦٦ / أبواب المواقيت ب ١٨ ح ١.

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

سهل بن زياد (١) ، ورواه الشيخ بسند صحيح عن أيوب بن الحر (٢).

الثانية : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) مثل ذلك (٣).

وليس التجريد بمعنى الإحرام ، بل التجريد معناه لغة إنما هو نزع شي‌ء من شي‌ء والمراد به في المقام نزع الثياب من الصبيان من فخّ ولا ينافي ذلك إحرامهم من الميقات ، فإن التجريد ونزع الثياب من جملة أحكام الإحرام ، وقد دلّ النص على عدم إجراء هذا الحكم بخصوصه على الصبيان إلى فخّ وجوّز لهم لبس المخيط ، فحالهم من هذه الجهة كالنّساء في جواز لبس المخيط ، غاية الأمر النّساء يجوز لهنّ لبس المخيط إلى الأخير والصبيان يجوز لهم لبس المخيط إلى فخّ ومنه يجرّدون من ثيابهم.

وبالجملة : أقصى ما يستفاد من النص تجريد الصبيان من ثيابهم من فخّ وجواز لبس المخيط قبله وذلك أعم من الإحرام من فخّ ، ولا وجه لحمل كلمة التجريد على الإحرام ، فالمتبع حينئذ إطلاق نصوص المواقيت المقتضي لإحرامهم منها.

وقد يقال كما في الحدائق (٤) بأن بعض النصوص يدل صريحاً على الإحرام بهم من الميقات كصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : انظروا من كان معكم من الصبيان فقدّموه إلى الجحفة أو إلى بطن مر ، ويصنع بهم ما يصنع بالمحرم. الحديث» (٥).

وفيه : أن مفاد هذه الصحيحة يشبه مضمون صحيحة أيوب المتقدِّمة (٦) الدالّة على مجرّد نزع الثياب وتجريدهم عنها وترتيب لوازم الإحرام وإجراء أحكامه على الصبيان من هذه المواضع لا الإحرام بهم منها وذلك لذكر «بطن مرّ» (٧) فإنّه غير ميقات جزماً

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٠٣ / ٢.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٠٩ / ١٤٢١.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٣٦ / أبواب المواقيت ب ١٨ ح ٢.

(٤) الحدائق ١٤ : ٤٥٧.

(٥) الوسائل ١١ : ٢٧٨ / أبواب أقسام الحج ب ١٧ ح ٣.

(٦) في ص ٢٨٧.

(٧) بطن مرّ ، بفتح الميم وتشديد الراء : موضع على نحو مرحلة من مكّة. معجم البلدان ٤ : ٩٩.

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فيكون ذكره قرينة على أنه لا نظر في هذه الروايات إلى الإحرام بهم من هذه المواضع.

وبتعبير أوضح : المستفاد من هذه الصحاح أن الصبي لم يكن ملزماً بإجراء أحكام الإحرام من الأوّل ومن مسجد الشجرة ، بل يجوز لهم تأخير نزع الثياب إلى الجحفة أو إلى بطن مرّ أو إلى فخّ ، وذلك لا ينافي الإحرام بهم من الميقات كمسجد الشجرة. ولو لا هذه النصوص لكان إحرام الصبي كإحرام سائر النّاس من البالغين إلّا أن هذه الروايات تدل على جواز لبس المخيط للصبي إلى الجحفة أو إلى فخّ وبطن مرّ رعاية لحاله وعدم تحمله للبرد ونحوه من المشاق ، فليست الروايات في مقام بيان ميقات خاص للصبيان.

نعم ، خبر يونس بن يعقوب عن أبيه صريح في جواز إحرامهم من العرج أو الجحفة ، قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إن معي صبية صغاراً وأنا أخاف عليهم من البرد فمن أين يحرمون؟ قال : ائت بهم العرج (١) فليحرموا منها ، فإنّك إذا أتيت بهم العرج وقعت في تهامة ، ثم قال : فإن خفت عليهم فائت بهم الجحفة» (٢).

ولكن لم يقل أحد بكون العرج ميقاتاً للصبيان ، وذلك قرينة على عدم جواز تأخير الإحرام إلى العرج. مضافاً إلى ضعف السند بوالد يونس ، إذ لم يرد في حقّه مدح ولا قدح.

وقد يتوهّم من عبارة الحدائق (٣) كون الرواية موثقة للتعبير عنها بالموثق عن يونس ، ولكن قد ذكرنا أكثر من مرّة أن المراد بذلك توثيق الرواية إلى يونس لا إلى ما بعد يونس وإلّا لذكر موثقة والد يونس أو في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام).

__________________

(١) العرج بفتح العين وسكون الراء قرية من أعمال الفُرع على أيّام من المدينة. لاحظ لسان العرب ٢ : ٣٢٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩٨ / أبواب أقسام الحج ب ١٧ ح ٧.

(٣) الحدائق ١٤ : ٤٥٧.

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وربّما يقال بأن الرواية معتبرة لوجود هذا السند بعينه في تفسير علي بن إبراهيم (١) فإنّه يروي عن يونس بن يعقوب عن يعقوب بن قيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) ويعقوب بن قيس والد يونس ، والمفروض أن جميع رجال التفسير ثقات ما لم يعارض بتضعيف غيره.

وفيه : أن والد يونس بن يعقوب وإن كان يسمّى يعقوب بن قيس لتصريح النجاشي (٢) بذلك ، وكذا الشيخ صرّح في أصحاب الصادق (عليه السلام) من كتاب الرجال أن يعقوب بن قيس والد يونس بن يعقوب ، وكذا ذكر في أصحاب الباقر (عليه السلام) أن يعقوب بن يونس والد يونس بن يعقوب (٣) إلّا أنه لم يثبت أن يعقوب بن قيس المذكور في التفسير والد يونس بن يعقوب ، بل الظاهر أنه لم يكن والداً له وإلّا لقال في التفسير : عن يونس بن يعقوب عن أبيه ، كما هو المتعارف المتداول فيما إذا كان الراوي عن أبيه كما في الكافي والتهذيب والوسائل ، ولذا ترى جميع روايات أحمد بن محمّد بن خالد البرقي التي يرويها عن أبيه لم يذكروا اسم أبيه بل يقولون عن أبيه ، وإلّا لاحتمل أن يكون المراد من محمّد بن خالد هو الأشعري لا البرقي الذي هو والد أحمد بن محمّد.

فتحصل : أنه لا دليل على جواز تأخير إحرام الصبيان عن المواقيت بل حالهم حال البالغين وإنّما أجيز لهم لبس المخيط إلى فخّ ، ففي الحقيقة استثناء بالنسبة إلى لبس المخيط لا استثناء بالنسبة إلى الإحرام من مسجد الشجرة.

ثمّ إنّ جواز تأخير الإحرام لهم على القول به يختص بمن يمر على فخّ ، وأمّا من لا يمر به كما إذا سلكوا طريقاً لا يصل إلى فخّ فاللّازم إحرامهم من ميقات البالغين لاختصاص الدليل بذلك.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ٢ : ٣٠٩.

(٢) رجال النجاشي : ٤٤٦ / ١٢٠٧.

(٣) رجال الطوسي : ٣٢٣ / ٤٨٣٨ ، ١٤٩ / ١٦٦٢.

٢٩٠

التاسع : محاذاة أحد المواقيت الخمسة ، وهي ميقات من لم يمرّ على أحدها والدليل عليه صحيحتا ابن سنان ولا يضر اختصاصهما (*) بمحاذاة مسجد الشجرة بعد فهم المثالية منهما وعدم القول بالفصل ، ومقتضاهما محاذاة أبعد الميقاتين إلى مكّة إذا كان في طريق يحاذي اثنين (١) ،

______________________________________________________

(١) المعروف بين الأصحاب أن محاذاة أحد المواقيت الخمسة ميقات لمن لا يفضي طريقه إليها. واستدلّ له في المتن بصحيحتي ابن سنان ، وإنما عبّر عنهما بالصحيحتين مع أنّ الرواية واحدة ، لاختلافهما في الطريق والمتن يسيراً.

الاولى : ما رواه الكليني في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : من أقام بالمدينة شهراً وهو يريد الحج ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال ، فيكون حذاء الشجرة من البيداء» (١).

الثانية : ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : من أقام بالمدينة وهو يريد الحج شهراً أو نحوه ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق المدينة فإذا كان حذاء الشجرة والبيداء مسيرة ستة أميال فليحرم منها» (٢). ودلالتهما على كفاية المحاذاة في الجملة واضحة.

__________________

(*) لا يبعد الاختصاص بملاحظة أن مسجد الشجرة له خصوصية وهي أن السنة في الإحرام منه أن يفرض الحج في المسجد ويؤخر التلبية إلى البيْداء وهي خصوصية ليست لسائر المواقيت فلا يبعد أن يكون الاكتفاء بالمحاذاة خصوصية له ، وعلى فرض التنزل فالمحاذاة المعتبرة لا بدّ أن تكون مثل ذلك المقدار مما يمكن للشخص رؤية المحاذي له لا بمقدار مسافة بعيدة كعشرين فرسخاً أو أكثر ، وعلى هذا فلا مجال للكلام في سائر خصوصياتها التي في المتن ، ومع ذلك ففي كلامه مواضع للنظر لا موجب للتعرض لها.

(١) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ١ ، الكافي ٤ : ٣٢١ / ٩.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ٢٠٠ / ٩١٣.

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يقال بأنه يعارضهما مرسل الكليني حيث قال : وفي رواية أُخرى «يحرم من الشجرة ثمّ يأخذ أي طريق شاء» (١). وخبر إبراهيم بن عبد الحميد المتقدِّم «عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد وكثرة الأيّام يعني الإحرام من الشجرة وأرادوا أن يأخذوا منها إلى ذات عرق فيحرموا منها ، فقال : لا ، وهو مغضب ، من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلّا من المدينة» (٢).

وأُجيب بضعفهما سنداً وهجرهما عند الأصحاب ، ولكن قد عرفت أن خبر إبراهيم معتبر ، لأنّ جعفر بن محمّد بن حكيم المذكور في السند وإن لم يوثق في كتب الرجال ولكنّه ثقة ، لأنّه من رجال كامل الزيارات.

والصحيح أن يقال : إنّه لا معارضة في البين ، لأنّ مفاد خبر إبراهيم بن عبد الحميد هو المنع عن العدول من الشجرة إلى غيرها ، وأمّا إذا أحرم من المحاذاة رأساً فلا يشمله المنع.

وبالجملة : لا ينبغي الريب في دلالة صحيحة ابن سنان على كفاية المحاذاة في الجملة ، ولا معارض في البين.

إنّما الكلام في جهات :

الاولى : التعدّي عن مورد الصحيحة وهو محاذاة مسجد الشجرة إلى محاذاة غيره من المواقيت.

الثانية : هل يختص الحكم بكفاية المحاذاة بالإقامة في المدينة شهراً كما جاء ذلك في الرواية؟

الثالثة : هل يختص الحكم بمن يريد الحج في مدّة الإقامة في المدينة أو يشمل من لم يكن قاصداً للحج ثمّ بدا له؟

وبتعبير آخر : قد اشتملت الصحيحة على قيود متعددة فهل يقتصر عليها أم

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ٢ ، الكافي ٤ : ٣٢١.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١ ، والمتقدِّمة في ص ٢٦٧.

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يتعدّى عنها؟

والظاهر هو الاقتصار على مورد الصحيحة لأنّ الحكم على خلاف القاعدة ، ولا يمكن إلغاء هذه القيود ، لأنّ جميع هذه القيود والخصوصيات مأخوذة في كلام الإمام (عليه السلام) على نحو القضية الحقيقية الشرطية ، وحملها على مجرد المثال بعيد جدّاً ولذا اقتصرنا في المناسك على مورد النص.

ثمّ إنّ ظاهر الصحيحة الثانية لزوم الإحرام في خصوص مسيرة ستة أميال ، ومقتضاه أنه إذا بلغ السير إلى سبعة أميال أو أكثر لا يجوز له الإحرام ولو كان محاذياً ، كما إذا سار سبعة أميال بالخط غير المستقيم ، لأنّ المتفاهم من قوله : «فإذا كان حذاء الشجرة والبيداء مسيرة ستة أميال فليحرم منها» أن السير بمقدار ستة أميال له خصوصية وموضوعية في الحكم.

ولكن المستفاد من الصحيحة الاولى أن العبرة بمطلق المحاذاة ، لقوله : «فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال فيكون حذاء الشجرة من البيداء» ، لأنّ المراد بذلك أنه إذا سار ستة أميال فليحرم لكونه محاذياً للشجرة ، فيظهر من ذلك أنّ العبرة بالمحاذاة وإنما ذكر التحديد بالسير بمقدار ستة أميال لأنّه على نحو القضية الشخصية الخارجية ومن باب انطباق الكلي على أحد المصاديق ، ولعلّ وجهه أن السير المتعارف في ذلك الزمان كان بالخط المستقيم بمقدار ستة أميال ، فالمستفاد إذن من الصحيحة أنه لا عبرة بمسيرة ستة أميال ، بل العبرة بالمحاذاة وإن كان السير أكثر من تلك ، كسبعة أميال أو ثمانية ونحو ذلك ممّا لا يمنع من رؤية المحاذي له فيما إذا لم يكن موانع وحواجز في سطح الأرض ، نعم لا عبرة بالمسافة البعيدة كعشرين فرسخاً أو أكثر أو أقل.

وبتعبير آخر : أنه إذا حصلت المحاذاة بالسير بمقدار سبعة أميال أو ثمانية أو نحو ذلك كما إذا كان السير بخط منكسر ، فلا مانع من الإحرام في الموضع المحاذي وإن كان السير أزيد من ستة أميال ، ولعل ستة أميال المأخوذة في الرواية لأجل أن الطريق الذي كان يسلكه أهل المدينة في الزمان السابق كان بمقدار ستة أميال ، فهي قضية

٢٩٣

فلا وجه للقول بكفاية أقربهما إلى مكّة ، وتتحقق المحاذاة بأن يصل في طريقه إلى مكّة إلى موضع يكون بينه وبين مكّة باب وهي بين ذلك الميقات ومكّة بالخط المستقيم ، وبوجه آخر يكون الخط من موقفه إلى الميقات أقصر الخطوط في ذلك الطريق (١) ،

______________________________________________________

خاصّة في مورد خاص ، فالسير بمقدار ستة أميال ليس دخيلاً في الحكم فهذه الخصوصية ملغاة ، بدعوى أن الظاهر من الصحيحة كون العبرة بحذاء الشجرة سواء كان السير بالخط المستقيم أو غيره ، لكن فيما إذا كان البعد قليلاً كستّة أميال أو سبعة أو ثمانية ونحو ذلك ، وأمّا إذا كان الفصل كثيراً فلا عبرة بالمحاذاة ويجب عليه الرواح إلى الميقات ، كما لا وجه للتعدّي إلى سائر المواقيت فإنه يحتاج إلى دليل خاص.

(١) وأمّا المحاذاة فقد ذكر المصنف (قدس سره) أنها تتحقق بأحد أمرين :

الأوّل : أن يصل في طريقه إلى مكّة إلى موضع يكون بينه وبين مكّة كما بين ذلك الميقات ومكّة ، بمعنى أنه يكون مقدار المسافة بين موقفه إلى مكّة كالمسافة بين مكّة وذلك الميقات فالمسافتان متساويتان ، فذلك الموضع الذي وقف فيه يعتبر محاذياً للميقات.

الثانية : أن يكون الخط الواصل بينه وبين الميقات أي الخط بين موقفه إلى الميقات أقصر الخطوط في طريقه وأقل من بقيّة الأماكن.

وكلا هذين الأمرين غير تام.

أمّا الأوّل : فلأن النسبة المذكورة ربّما تكون ثابتة في موارد كثيرة ومع ذلك لا تصدق على ذلك الموقف المحاذاة.

وتوضيحه : أنا لو رسمنا دائرة وجعلنا مركزها مكّة المكرّمة فكل جزء من تلك الدائرة نسبته إلى المركز نسبة واحدة لا يختلف عن بقيّة أجزاء الدائرة ، لأنّ الخطوط الخارجة من المحيط إلى المركز متساوية ، فكل من وصل إلى الدائرة من كل طرف من

٢٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أطراف الخط الدائري يكون الفصل بين موقفه ومكّة مساوياً للفصل بين مسجد الشجرة ومكّة ، لأنّ جميع الخطوط المارة من المحيط إلى المركز متساوية ، ولازم ذلك أن تصدق المحاذاة على كل من وصل إلى الدائرة من أي جانب من جوانبها كان حتى إذا كان واقفاً في الطرف المواجه إلى مسجد الشجرة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به أصلاً ، ولا يعد ذلك من المحاذاة أبداً ، مع أن المسافة متحدة والفصل بينه وبين مكّة كالفصل بين مسجد الشجرة ومكّة.

وبعبارة اخرى : أن الذي قصد مكّة المكرّمة إن وقف في نصف الدائرة الواقع قبال مسجد الشجرة كان الشخص مواجهاً للميقات لا محاذياً له ، وإن وقف في النصف الآخر الذي وقع فيه مسجد الشجرة ، فإن كان موقفه على رأس أوّل ربع الدائرة كما لو بعد عن المسجد بتسعين درجة ففي مثله لا تتحقق المحاذاة ، بل يكون المسجد خارجاً عن يمينه أو يساره.

نعم ، تتحقّق المحاذاة للميقات فيما لو سار ووصل إلى مركز الدائرة وهي مكّة المشرفة ، فيكون مسجد الشجرة حينئذٍ عن يمينه أو يساره ، ولا فائدة في ذلك أبدا.

وبتعبير آخر : أنا لو رسمنا خطين متقاطعين في دائرة يمر أحدهما من الجنوب إلى الشمال والآخر من المشرق إلى المغرب فتكون نتيجة ذلك أن الخطين يربّعان الدائرة وكل منهما يمرّ بالمركز ، أحدهما من مسجد الشجرة إلى الطرف المواجه له ، والآخر من الطرف الآخر إلى مقابله ويحدث بذلك زوايا ذات قوائم أربع ، فإذا وصل الذاهب إلى مكّة إلى أوّل الخطين من جانب الشجرة لا تتحقق بذلك محاذاة لمسجد الشجرة إلّا إذا وصل إلى مكّة مركز الدائرة ، فيكون مسجد الشجرة عن يساره أو عن يمينيه بعد الوصول إلى مكّة المشرفة ، وما لم يصل لا يكون محاذياً مع أن البعد من موقفه إلى مكّة مساوٍ للبعد بين مسجد الشجرة ومكّة ، لأنّ البعد من أوّل الربعين إلى مكّة يساوي البعد من الشجرة إلى مكّة مع أنه لا يحاذي مسجد الشجرة قطعاً ، وكذلك كلّما سار وتوجه إلى مكّة لا تتحقق المحاذاة وإن قلّت المسافة إلّا إذا وصل إلى مركز التقاطع

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو مكّة المكرّمة كما قلنا ، فالمحاذاة لا تتحقق بتساوي المسافتين بين موقفه ومكّة وبين الميقات ومكّة ، لا من الجانب المواجه للشجرة من الدائرة ولا من جهة النصف الآخر الذي وقع فيه مسجد الشجرة.

وأمّا الوجه الثاني فباطل أيضاً ، لأنه لو فرضنا أنه توجه إلى مكّة من موقفه الواقع على الخط المحيط للدائرة على درجة خمس وأربعين من الدائرة أي نصف الربع فدخل في الدائرة ، فيكون بينه وبين مسجد الشجرة خطاً وهمياً موصلاً بينهما ، ويشكل بذلك زاوية من الخطوط المارة في طريقه إلى مسجد الشجرة ، ولا ريب أن الخط المار من وسط المثلث أقرب الخطوط وأقصرها من الضلعين إلى الميقات مع أنه خارج عن المحاذاة.

وبعبارة واضحة : لو كان الميزان في المحاذاة بكون الخط من موقفه إلى الميقات أقصر من سائر الخطوط فلازمه كون الخط من وسط الزاوية محاذياً ، لكونه أقصر وأقل مسافة من الخط الواصل بين موقفه والميقات ، مع أنّ ذلك خارج عن المحاذاة حساً ، لاستلزامه الانحراف عن الميقات يميناً أو شمالاً وليس بموازٍ له.

فتحصل ممّا تقدّم : أنه لا دليل على كفاية مطلق المحاذاة إلّا في خصوص مسجد الشجرة في صورة خاصّة مما يصدق عليه المحاذاة عرفاً ، فالتعدِّي إلى غير ذلك ممّا لا وجه له ، ولا إجماع في المقام ، ولذا لا نكتفي بالمحاذاة إذا كان الفصل كثيراً وإن كان محاذياً حقيقة حسب الدقة.

والذي يؤكِّد ذلك أن مسجد الشجرة أبعد المواقيت إلى مكّة ، وأمّا الجحفة التي هي ميقات لأهل الشام وكذا العقيق الذي هو ميقات لأهل العراق فهما أقرب إلى مكّة من مسجد الشجرة ، فمن يأتي من العراق أو الشام أو المغرب متوجهاً إلى مكّة التي تقع في نقطة الجنوب بالنسبة إليهم يكون محاذياً لمسجد الشجرة قبل الوصول إلى الجحفة أو العقيق ، لأنهما أقرب إلى مكّة ، ومع ذلك يكون ميقاتهم الجحفة أو العقيق ، وهذا شاهد على عدم كفاية محاذاة الشجرة.

٢٩٦

ثمّ إنّ المدار على صدق المحاذاة عرفاً ، فلا يكفي إذا كان بعيداً عنه فيعتبر فيها المسامتة كما لا يخفى. واللّازم حصول العلم بالمحاذاة إن أمكن ، وإلّا فالظن الحاصل من قول أهل الخبرة ، ومع عدمه أيضاً فاللّازم الذهاب إلى الميقات أو الإحرام من أوّل موضع احتماله واستمرار النيّة والتلبية إلى آخر مواضعه ، ولا يضر احتمال كون الإحرام قبل الميقات حينئذ مع أنّه لا يجوز ، لأنّه لا بأس به إذا كان بعنوان الاحتياط ، ولا يجوز إجراء أصالة عدم الوصول إلى المحاذاة أو أصالة عدم وجوب الإحرام لأنّهما لا يثبتان كون ما بعد ذلك محاذياً والمفروض لزم كون إنشاء الإحرام من المحاذاة ، ويجوز لمثل هذا الشخص أن ينذر الإحرام قبل الميقات فيحرم في أوّل موضع الاحتمال أو قبله على ما سيأتي من جواز ذلك مع النذر والأحوط في صورة الظن أيضاً عدم الاكتفاء به وإعمال أحد هذه الأُمور ، وإن كان الأقوى الاكتفاء ، بل الأحوط عدم الاكتفاء بالمحاذاة مع إمكان الذهاب إلى الميقات ، لكن الأقوى ما ذكرنا من جوازه مطلقاً (١).

______________________________________________________

ثمّ إنّه بناءً على الاكتفاء بالمحاذاة مطلقاً فلو كان في طريقه ميقاتان فالعبرة بمحاذاة أبعدهما كما إذا فرضنا أنه يحاذي مسجد الشجرة والجحفة ، فاللّازم أن يحرم من محاذاة مسجد الشجرة ، لأنّ الظاهر من قوله : «فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال» وجوب الإحرام من هذا المكان المحاذي ، فهو كأنه يمر بميقات ، وليس له التأخير إلى ميقات آخر فضلاً عن محاذيه ، وتشمله الأدلّة المانعة عن المرور بالميقات بلا إحرام.

(١) إذا ثبت حجية بعض الظنون الخاصّة كخبر الواحد الثقة في الموضوعات وإن لم تثبت حجيته في بعض الموارد واحتياجه إلى شهادة عدلين فالتقييد في كلامه (قدس سره) بأنّه يلزم حصول العلم بالمحاذاة إن أمكن وإلّا فالظن ممّا لا وجه له ، لأنّ اللّازم تحصيل الحجة كخبر الثقة أو الاطمئنان ، ولا تتوقّف حجيتهما على عدم التمكّن من العلم ، ولو فرضنا عدم حجية خبر الثقة وقول أهل الخبرة فلا يجوز العمل بالظن مطلقاً حتى إذا لم يتمكن من تحصيل العلم ، فلا بدّ حينئذٍ من أن يمضي إلى

٢٩٧

ثمّ إن أحرم في موضع الظن بالمحاذاة ولم يتبين الخلاف فلا إشكال ، وإن تبيّن بعد ذلك كونه قبل المحاذاة ولم يتجاوزه أعاد الإحرام ، وإن تبين كونه قبله وقد تجاوز أو تبيّن كونه بعده فإن أمكن العود والتجديد تعين ، وإلّا فيكفي في الصورة الثانية ويجدِّد في الاولى في مكانه ، والأولى التجديد مطلقاً (١).

______________________________________________________

ميقات آخر أو ينذر الإحرام قبل الميقات ، فإنّ عدم التمكّن من العلم لا يوجب حجية ما لا حجية له.

فالأظهر أن يقال : إنه يلزم عليه تحصيل الحجة على المحاذاة من علم أو ظن معتبر أو اطمئنان ، وإن لم يتمكن من ذلك يذهب إلى ميقات آخر أو ينذر الإحرام من أوّل موضع احتمال المحاذاة ، فإن كان قبل المحاذي يصح إحرامه بالنذر ، وإن كان محاذياً واقعاً يصح ولو لم يتعلق به النذر.

ويمكن أن يحرم احتياطاً من أوّل موضع احتمال المحاذاة ويستمر في النيّة والتلبية إلى آخر مواضعه ، وبذلك يحرز وقوع الإحرام محاذياً للميقات.

ويشكل بأنه يلزم من ذلك الإحرام قبل الميقات ، لأنّ الأصل يقتضي عدم الوصول إلى المحاذي ، والإحرام قبل الميقات غير جائز.

وأجاب عنه في المتن بأن حرمة الإحرام قبل الميقات حرمة تشريعية لا حرمة ذاتيّة ، فلا مانع من الإتيان به رجاءً واحتياطاً ، لأنّ الحرمة التشريعية لا تنافي الإتيان على نحو الاحتياط والرجاء.

(١) لو أحرم في موضع قيام الحجة على المحاذاة ولم ينكشف الخلاف فلا كلام ، وإن انكشف الخلاف قبل الوصول إلى المحاذي أعاد الإحرام في موضع المحاذي ، والإحرام الأوّل باطل قطعاً ، ولا أثر لقيام الحجة عنده لارتفاع حجيتها بانكشاف الخلاف على الفرض ، من دون فرق بين كون الأمر الظاهري مجزئاً عن الأمر الواقعي أم لا ، فلا يبتني الحكم بإعادة الإحرام على عدم الإجزاء في موافقة الحكم الظاهري كما توهم.

بل لو قلنا بإجزاء الأمر الظاهري عن الحكم الواقعي لا يمكن القول به في المقام ،

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وذلك لأنّ محل البحث في الإجزاء إنما هو فيما إذا كان الأمر الواقعي موجوداً ولكن لا يعلم به ، وكان الأمر الظاهري مخالفاً له ، فيقع البحث حينئذٍ في أن الأمر الظاهري هل يجزئ عن الأمر الواقعي الموجود أم لا؟ كما إذا قام الدليل على عدم اعتبار السورة في الصلاة ثمّ انكشف الخلاف وتبين وجود الدليل على لزوم السورة ، فيصح أن يقال : إن الأمر الظاهري يجزئ عن الأمر الواقعي أم لا ، وأمّا إذا فرضنا أنه لم يكن للأمر الواقعي وجود أصلاً حين الإتيان بالأمر الظاهري وإنما يحدث بعد ذلك فلا مجال ولا مورد للإجزاء ، كما إذا صلّى قبل الوقت فإنه لا أمر بالصلاة أصلاً وإنما هو تخيل وتوهم لوجود الأمر.

وبالجملة : لا مورد للإجزاء في المقام أصلاً حتى على قول الأشعري القائل بالتصويب وانقلاب الواقع إلى ما أدى إليه الظاهر ، لأنّ الإجزاء حتى على القول بالتصويب إنما يتحقق فيما إذا كان للأمر الواقعي وجود ولكن لا يعلم به ، وأمّا إذا لم يكن موجوداً أصلاً فلا مجال للإجزاء أبداً ، نظير ما لو صام في شعبان بدلاً عن شهر رمضان.

وأمّا لو انكشف الخلاف بعد التجاوز عن المحاذي وعلم عندئذ أن إحرامه كان قبل المحاذي أو بعده ، ذكر في المتن أنه يجب عليه العود والتجديد في الموضع المحاذي في كلتا الصورتين إن أمكن ، وإلّا ففي الصورة الأُولى وهي ما إذا أحرم قبل المحاذي يجدد الإحرام في مكانه ، وفي الصورة الثانية وهي ما إذا أحرم بعد المحاذاة يكتفي بإحرامه وإن كان الأولى التجديد مطلقا.

وما ذكره وإن كان صحيحاً إلّا أن ما اختاره من الاكتفاء بالإحرام في الصورة الثانية على إطلاقه غير تام ، بل لا بدّ من التفصيل بين ما إذا لم يكن قادراً في وقت الإحرام من الرجوع واقعاً فكانت وظيفته الواقعية حال الإحرام عقده من هذا المكان ، لعدم قدرته على العود واقعاً ، فاحرامه صحيح وقد أتى بوظيفته ولا حاجة إلى التجديد ، وبين ما إذا كان يمكنه الرجوع حال الإحرام وإن تعذّر عليه فعلاً حين الالتفات وانكشاف الخلاف ، ففي مثله لا بدّ من تجديد الإحرام من هذا المكان ولا يكتفي بالإحرام الأوّل ، لأنّ الإحرام في غير الميقات إنما يجوز لمن لا يتمكن من

٢٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الرجوع والوصول إلى الميقات ، وهذا العنوان غير صادق على هذا الشخص ، لأنّ المفروض أنه كان متمكِّناً من الرجوع إلى الميقات حال الإحرام وإن تعذر عليه حال الالتفات ، فيكون إحرامه باطلاً ولا بدّ من تجديده وعقده ثانياً.

ملاحظة :

لا بدّ لنا من بيان نبذة ترجع إلى توضيح ما يتعلق بالإجزاء وعدمه مما يخص المقام. فنقول : قد عرفت أن محل الكلام في إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي إنما هو في متعلق التكليف من جهة الاختلاف في جهة من الجهات ، كفقدان الجزء والشرط للواجب ، لا في شرائط التكليف والوجوب.

بيان ذلك : أنهم قسموا الواجب إلى المطلق والمشروط ، وزاد صاحب الفصول قسماً آخر وهو الواجب المعلق وجعله من أقسام الواجب المطلق ، فإنه قسم الواجب المطلق إلى المنجز والمعلق ، وفسّر المعلق بما كان الوجوب فعلياً والواجب استقباليا.

وقد ذكرنا في المباحث الأُصولية (١) أن ما ذكره صاحب الفصول وإن كان صحيحاً ولا يرد عليه الاشكال المعروف من تخلف الوجوب عن الإيجاب ، ولكن ما ذكره ليس قسماً مقابلاً للمشروط ، بل المعلق بعينه هو الواجب المشروط غاية الأمر مشروط بالشرط المتأخر ، فإن الواجب المشروط قد يكون مشروطاً بالشرط المقارن كاشتراط وجوب الصلاة بالوقت ، فإن الوقت شرط مقارن ويحدث الوجوب بحلول الوقت وأمّا قبله فلا وجوب ، وقد يكون مشروطاً بالشرط المتأخر فيكون الوجوب فعلياً ، كوجوب الصوم من أوّل غروب الشمس في الليلة الاولى من شهر رمضان ، بناءً على أن المراد بقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢) دخول شهر رمضان ورؤية هلاله ، فالمكلّف من الليل مأمور بالصوم غاية الأمر مشروطاً بدخول النهار ، وكذلك الحج فإنّه واجب عليه بالفعل ولكنّه مشروط ببقاء الاستطاعة

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٤٨.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

٣٠٠