موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، ورد في رواية واحدة ضعيفة أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحرم من مسجد الشجرة (١) ، ولكنها غير دالّة على أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) عيّنه ميقاتاً وإنما تحكي فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنه أحرم من نفس المسجد ولا ريب في جواز ذلك ، فلا تدل هذه الرواية على قصر الميقات بالمسجد خاصّة ، فالروايات الدالّة على أن الميقات ذو الحليفة باقية على إطلاقها وسالمة من التقييد.

ولإثبات ما نقول لا بدّ لنا من استعراض الأخبار وهي :

صحيح معاوية بن عمّار ، وجاء فيه «ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة» (٢) ، وفي صحيح الحلبي جعل الميقات الشجرة «من أين يحرم الرّجل إذا جاوز الشجرة؟» (٣) ، وفي صحيح ابن سنان «فيكون حذاء الشجرة» (٤) ، وفي صحيح إبراهيم بن عبد الحميد «يعني الإحرام من الشجرة» (٥). والملاحظ من هذه الأخبار أن المذكور فيها ذو الحليفة والشجرة ومن ذلك يظهر أنهما اسمان لمكان واحد.

أمّا التعبير بمسجد الشجرة فلم يرد إلّا في رواية واحدة دلّت على أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أحرم من مسجد الشجرة ، وهو لا يدل على تعيينه ميقاتاً كما بيّنا مضافاً إلى ضعف سندها بالإرسال ، إلّا أنه مع ذلك كلّه لا بدّ من الإحرام من مسجد الشجرة واعتباره ميقاتاً لروايتين :

الأُولى : صحيحة علي بن رئاب «فقال : (عليه السلام) إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة وهي الشجرة» (٦).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١١ / أبواب المواقيت ب ١ ح ١٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

(٣) الوسائل ١١ : ٣١٦ / أبواب المواقيت ب ٦ ح ٣.

(٤) الوسائل ١١ : ٣١٧ / أبواب المواقيت ب ٧ ح ١.

(٥) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١.

(٦) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٧.

٢٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

الثانية : صحيحة الحلبي «ووقّت لأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة» (١) فمدلول صحيح ابن رئاب أن ذا الحليفة والشجرة اسمان لموضع واحد ، ومدلول صحيح الحلبي أن ذا الحليفة هو مسجد الشجرة ، فضم الروايات بعضها إلى بعض يقتضي كون الميقات نفس المسجد ولا داعي لحمل المطلق على المقيّد.

وهل يجب الإحرام من نفس المسجد أو يجوز من خارجه؟ الظاهر هو الثاني ، لأنّ المسجد أُخذ مبدأ لا ظرفاً ، ومعنى المبدأ على ما صرّح به في صحيح الحلبي وغيره هو المنع من الإحرام قبل الوصول إليه أو بعده ، قال (عليه السلام) : «لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها» (٢).

وأمّا لزوم الإحرام من نفس المسجد فلا يستفاد من الروايات ، فلو أحرم من خارج المسجد لا قبله ولا بعده صح إحرامه ، لصدق كون مبدإ إحرامه من المسجد ، ولا يلزم الدخول في المسجد ، نظير ما يقال : ركضت من دار فلان إلى المكان الفلاني فإنه يصدق على من ابتدأ الركض من خارج الدار وما حواليها ولا يلزم الابتداء بالركض من داخل الدار ، هذا ولا يبعد أن يكون مسجد الشجرة اسماً لمنطقة فيها المسجد ، كما هو كذلك في بلدة مسجد سليمان لا اسماً لنفس المسجد ، فمجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه البقعة من الأرض ، فهذه البقعة لها اسمان أحدهما ذو الحليفة والآخر مسجد الشجرة ، هذا كلّه بالنسبة إلى أهل المدينة.

وأمّا المار بذي الحليفة فحكمه حكم أهل المدينة ، بمعنى أن ذا الحليفة ميقات لأهل المدينة ولكل من يمر على طريقهم وإن لم يكن من أهل المدينة ، فلا يختص ذو الحليفة بأهل المدينة ، وتدل على ذلك طائفتان من الروايات :

الاولى : الروايات العامّة (٣) الدالّة على تعيين المواقيت وأنه ليس لأحد أن يمر عنها ويتجاوزها بلا إحرام ، فإن المستفاد منها أن هذه المواقيت مواقيت لكل حاج يكون

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١.

٢٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

طريقه عليها ، إذ من الواضح عدم اختصاص وجوب الحج بأهالي هذه البلاد من الشام والعراق واليمن والطائف وأهل المدينة ، بل الحج واجب على جميع المسلمين فطبعاً تكون هذه المواضع مواقيت لأهالي هذه البلاد ولغيرهم من الحجاج إذا تجاوزوا ومروا عليها. ففي صحيح الحلبي «لا ينبغي لحاج ولا معتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها ، ثمّ قال (عليه السلام) : ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)» (١).

وفي صحيح علي بن جعفر بعد ما ذكر المواقيت قال (عليه السلام) : «فليس لأحد أن يعدو من هذه المواقيت إلى غيرها» (٢) ، فإنهما يدلان بوضوح على أنه ليس لأحد أن يحرم من غير هذه المواقيت ، بل لا بدّ من الإحرام منها وإن لم يكن من أهل هذه البلاد.

الطائفة الثانية : النصوص الخاصّة ، منها : صحيحة صفوان عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، قال : «كتبت إليه : أن بعض مواليك بالبصرة يحرمون ببطن العقيق وليس بذلك الموضع ماء ولا منزل وعليهم في ذلك مئونة شديدة فترى أن يحرموا من موضع الماء لرفقة بهم وخفة عليهم؟ فكتب : أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقّت المواقيت لأهلها ومن أتى عليها من غير أهلها» (٣).

ومنها : صحيح ابن جعفر بعد ما سأله عن إحرام أهل الكوفة وغيرها قال (عليه السلام) : «وأهل السند من البصرة ، يعني من ميقات أهل البصرة» (٤) فيعلم من ذلك أن ميقات أهل البصرة لا يختص بأهل البصرة بل يعم من يمر عنه ولو كان من أهل السند.

ومنها : معتبرة إبراهيم بن عبد الحميد «عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٠ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٩.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٣١ / أبواب المواقيت ب ١٥ ح ١.

(٤) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٥.

٢٦٣

[٣٢١٣] مسألة ١ : الأقوى عدم جواز التأخير إلى الجُحفة وهي ميقات أهل الشام اختياراً ، نعم يجوز مع الضرورة لمرض أو ضعف أو غيرهما من الموانع ، لكن خصها بعضهم بخصوص المرض والضعف ، لوجودهما في الأخبار فلا يلحق بهما غيرهما من الضرورات ، والظاهر إرادة المثال ، فالأقوى جوازه مع مطلق الضرورة (*) (١).

______________________________________________________

وكثرة الأيّام يعني الإحرام من الشجرة وأرادوا أن يأخذوا منها إلى ذات عرق فيحرموا منها ، فقال : لا ، وهو مغضب من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلّا من المدينة» (١) فإنها أيضاً تدل على عدم اختصاص الميقات بأهل المدينة بل يشمل كل من دخل المدينة ، والرواية معتبرة ، فإن إبراهيم ثقة وإن كان واقفياً ، وأمّا جعفر بن محمّد بن حكيم فإنه وإن لم يوثق في كتب الرجال ولكنه من رجال كامل الزيارات.

ومنها : صحيح الحلبي «عن رجل نسي أن يحرم حتى دخل الحرم ، قال قال أبي : يخرج إلى ميقات أهل أرضه ، فإن خشي أن يفوته الحج أحرم من مكانه ، فإن استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج ثمّ ليحرم» (٢) فإنه يدل على أن من ترك الإحرام نسياناً وجب عليه العود إلى الميقات والإحرام منه ، ويستفاد منه أن الذاكر لا يجوز له المرور والتجاوز عن الميقات إلّا محرماً. وغير ذلك من الروايات.

(١) الظاهر أنه لا خلاف بينهم في جواز تأخير الإحرام من مسجد الشجرة إلى الجحفة للمريض والضعيف ، بل يجوز العدول من ميقات إلى ميقات آخر رعاية لضعفه ومرضه كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى.

إنّما الكلام في المختار وأنه هل يجوز له العدول من مسجد الشجرة إلى الجحفة من دون عذر ومرض أم لا؟ المشهور والمعروف عدم جواز التأخير إلى الجحفة اختياراً

__________________

(*) التعدي إلى غير موارد الضرر أو الحرج محل إشكال ، بل منع.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٢٨ / أبواب المواقيت ب ١٤ ح ١.

٢٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ونسب إلى بعض القدماء جواز التأخير اختياراً كما عن الجعفي (١) وابن حمزة في الوسيلة (٢).

والصحيح ما ذهب إليه المشهور ، وتدل عليه طائفتان من الروايات :

الاولى : الروايات العامّة المتقدّمة الدالّة على التوقيت وأنه (صلّى الله عليه وآله) وقّت مواقيت معيّنة لا ينبغي لأحد أن يعدل عنها إلى غيرها ، والناهية عن التجاوز عنها إلّا وهو محرم ، ففي صحيحة معاوية بن عمّار «من تمام الحج والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لا تجاوزها إلّا وأنت محرم» ونحوها صحيحة علي بن جعفر (٣).

الثانية : الروايات الخاصّة :

منها : معتبرة أبي بكر الحضرمي ، قال «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إني خرجت بأهلي ماشياً فلم أهل حتى أتيت الجحفة وقد كنت شاكياً ، فجعل أهل المدينة يُسألون عنّي فيقولون : لقيناه وعليه ثيابه ، وهم لا يعلمون ، وقد رخص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمن كان مريضاً أو ضعيفاً أن يحرم من الجحفة» (٤) فإنها تدل على أن الترخيص مختص للمريض والضعيف ، وكذا ما في معتبرة أبي بصير الدالّة على أن الصادق (عليه السلام) أحرم من الجحفة ولم يحرم من الشجرة واعتذر (عليه السلام) بأنه كان عليلاً (٥).

وأمّا القائل بجواز الإحرام من الجحفة اختياراً فقد استدل بعدّة من الروايات :

منها : صحيح علي بن جعفر «وأهل المدينة من ذي الحليفة والجحفة» (٦) فإنه

__________________

(١) نقل عنه في الدروس ١ : ٤٩٣.

(٢) الوسيلة : ١٦٠.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢ ، ٣ ، ٩.

(٤) الوسائل ١١ : ٣١٧ / أبواب المواقيت ب ٦ ح ٥.

(٥) الوسائل ١١ : ٣١٧ / أبواب المواقيت ب ٦ ح ٤.

(٦) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٥.

٢٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

صريح في جواز الإحرام من الموضعين ، فأهل المدينة مخيرون بين الإحرام من ذي الحليفة والجحفة ، فتكون هذه الرواية قرينة على حمل الروايات الدالّة على الإحرام من ذي الحليفة على الأفضلية.

والجواب : أن دلالته على التخيير بالإطلاق فيقيّد بالروايات الدالّة على اختصاص جواز الإحرام من الجحفة للمريض والضعيف.

وبالجملة : يستفاد من الأدلّة أن أهل المدينة على قسمين المختار والمريض ، أمّا المختار فلا يجوز له الإحرام إلّا من مسجد الشجرة ، وأمّا المريض فيجوز له الأمران.

ومنها : صحيح معاوية بن عمّار «أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل من أهل المدينة أحرم من الجحفة ، فقال : لا بأس» (١).

والجواب : أن دلالته أيضاً بالإطلاق وترك الاستفصال فيقيّد بما دلّ على جواز الإحرام من الجحفة لخصوص العاجز. على أنه يمكن أن يكون الرجل المسئول عنه مريضاً أو ضعيفاً أو لم يكن عازماً على الحج وخرج من المدينة لحاجة ثمّ بدا له الحج فأجاز له الإحرام من الجحفة وأنه لا يجب عليه الرجوع إلى ميقات بلده وهو ذو الحليفة.

وبالجملة : لم يظهر من الرواية أن الرجل كان مختاراً أو كان عازماً على الحج من الأوّل.

ومنها : صحيح الحلبي «من أين يحرم الرجل إذا جاوز الشجرة؟ فقال : من الجحفة ولا يجاوز الجحفة إلّا محرماً» (٢).

وفيه : أن الصحيح يدل على حكم من تجاوز الشجرة ولا يدل على جواز تأخير الإحرام اختيارا.

وهل يعم جواز التأخير إلى الجحفة سائر الأعذار كشدّة البرد أو الحر أو يختص بالمريض والضعيف كما في النص؟ وجهان ، فعن جماعة منهم المصنف التعميم ، وعن

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٦ / أبواب المواقيت ب ٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٦ / أبواب المواقيت ب ٦ ح ٣.

٢٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

آخرين الاختصاص بالمريض والضعيف.

ولا يبعد التفصيل بين الضرر والحرج وبين غيرهما من الأعذار.

ففي الأوّل يرتفع وجوب الإحرام من مسجد الشجرة لنفي الضرر والحرج من دون حاجة إلى دليل بالخصوص ، ولكن جوازه من الجحفة يحتاج إلى دليل آخر ، لأنّ نفي الضرر والحرج يرفع الحكم الثابت في موردهما ولا يثبت حكماً آخر ، فالمرجع حينئذٍ إطلاق ما دلّ على التخيير بين ذي الحليفة والجحفة كصحيح علي بن جعفر المتقدِّم (١) فإذا سقط وجوب أحد العدلين كما في المقام على الفرض يثبت العدل الآخر فيتعين عليه الإحرام من الجحفة.

وبتعبير آخر قد عرفت أنه لا مجال للعمل بهذا الإطلاق بالنسبة إلى من كان متمكِّناً من الإحرام من ذي الحليفة ، لتقييده بما دلّ على جواز التأخير إلى الجحفة لخصوص المريض والضعيف ، وأمّا من لم يكن مكلّفاً بالإحرام من ذي الحليفة كما هو مفروض بحثنا فيتعيّن عليه الفرد الآخر من الواجب التخييري وهو الجحفة.

وأمّا الثاني : وهو غير موارد الضرر والحرج كالحاجة الشخصية والحرج العرفي كالبرد والحر ونحو ذلك فيشكل الحكم بجواز التأخير إلى الجحفة ، لاختصاص دليل الجواز بالمريض والضعيف كما في معتبرة أبي بكر الحضرمي المتقدِّمة (٢) ، وحملها على مجرّد المثال كما في المتن غير ظاهر ، بل صحيح إبراهيم بن عبد الحميد (٣) يدل على عدم جواز الإحرام من غير مسجد الشجرة في الحرج العرفي كشدّة البرد ونحوها من الأعذار العرفية ، فالتعدي من مورد خبر أبي بكر الحضرمي إلى مطلق العذر والحرج وإن كان عرفياً مما لا وجه له ، ولا قرينة على إرادة المثال من المريض والضعيف ، بل القرينة على الخلاف موجودة وهي صحيحة إبراهيم المتقدِّمة.

__________________

(١) في ص ٢٦٥.

(٢) في ص ٢٦٥.

(٣) الوسائل ١١ : ٣١٨ / أبواب المواقيت ب ٨ ح ١.

٢٦٧

[٣٢١٤] مسألة ٢ : يجوز لأهل المدينة ومن أتاها العدول إلى ميقات آخر كالجُحفة أو العقيق ، فعدم جواز التأخير إلى الجحفة إنما هو إذا مشى من طريق ذي الحليفة ، بل الظاهر أنّه لو أتى إلى ذي الحليفة ثمّ أراد الرجوع منه والمشي من طريق آخر جاز ، بل يجوز أن يعدل عنه (*) من غير رجوع فإن الذي لا يجوز هو التجاوز عن الميقات مُحلا وإذا عدل إلى طريق آخر لا يكون مجاوزاً وإن كان ذلك وهو في ذي الحليفة ، وما في خبر إبراهيم بن عبد الحميد من المنع عن العدول إذا أتى المدينة مع ضعفه منزّل على الكراهة (١).

______________________________________________________

على أنّه يمكن تقريب ما ذكرناه ببيان آخر وهو : أن معتبرة إبراهيم دلّت على عدم جواز العدول إلى غير مسجد الشجرة بالإطلاق ، وصحيح علي بن جعفر يدل على التخيير بين الإحرام من مسجد الشجرة والإحرام من الجحفة بالإطلاق أيضاً ، وقد رفعنا اليد عن إطلاقه بالنسبة إلى العليل والمريض وخصّصنا الجواز بهما ، فتكون نسبة صحيح علي بن جعفر بعد تخصيصها برواية الحضرمي الدالّة على اختصاص الجواز بالمريض والضعيف إلى إطلاق صحيح إبراهيم بن عبد الحميد نسبة الخاص إلى العام فيختص صحيح إبراهيم بغير المريض والضعيف وتنقلب النسبة من التنافي إلى العام والخاص فيختص الجواز بالمريض والضعيف.

(١) لا ريب في جواز الخروج من المدينة إلى بلد آخر كالشام أو الطائف أو اليمن والإحرام من ميقات ذلك البلد ، ولا يجب عليه البقاء في المدينة ليحرم من ميقاتها وما دلّ على أن ذا الحليفة ميقات لأهل المدينة منصرف إلى من يريد الحج من طريق المدينة ، وأمّا إذا أراد الحج من طريق آخر فلا يشمله وجوب الإحرام من ذي الحليفة بل يجب عليه الإحرام من ميقات البلد الذي أراد الحج منه.

بل لو أتى مسجد الشجرة ثمّ بدا له السفر إلى مكان آخر وأراد الحج من هناك لا

__________________

(*) هذا مشكل لصدق التجاوز عن الميقات وهو يريد مكّة ورواية ابن عبد الحميد لا بأس بها سندا.

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مانع من الاجتياز عن ذي الحليفة بلا إحرام ، فإن الممنوع إنما هو التجاوز عن الميقات بلا إحرام لمن يريد الحج من ذي الحليفة ، وأمّا إذا أراد الحج من طريق آخر فلا إشكال في الاجتياز بلا إحرام.

إنما الكلام فيما إذا أتى مسجد الشجرة ولم يرجع منه إلى الوراء ومن هنا أراد العدول إلى ميقات آخر كالجحفة ليحرم من هناك فهل يجوز له ذلك ، أو يتعين عليه الإحرام من هذا الميقات الذي وصل إليه؟ اختار الجواز في المتن وقال (قدس سره) : «بل يجوز أن يعدل عنه من الميقات من غير رجوع» بدعوى عدم صدق التجاوز عن الميقات محلا على ما إذا عدل إلى طريق آخر ، وما في خبر إبراهيم بن عبد الحميد من المنع عن العدول إذا أتى المدينة مع ضعفه سنداً منزل على الكراهة.

ويردّه : أن التجاوز عن الميقات بلا إحرام صادق وإن عدل إلى طريق آخر ، غاية الأمر أنه تجاوز من الميقات بطريق غير مستقيم ، فإن الممنوع هو التجاوز عن الميقات بلا إحرام سواء كان بطريق مستقيم بأن يتجاوز عن الميقات ويتوجه إلى مكّة من دون عدول إلى طريق آخر ، أو بطريق غير مستقيم بأن يتجاوز عن الميقات ويذهب إلى ميقات آخر ، وأمّا رواية إبراهيم بن عبد الحميد فقد عرفت أنها معتبرة ، وجعفر ابن محمّد بن حكيم المذكور في السند من رجال كامل الزيارات.

فالصحيح : أن من أتى مسجد الشجرة وكان قاصداً للحج لا يجوز له العدول إلى ميقات آخر ، بل يجب عليه أن يحرم من ميقات المدينة ولا يتجاوزه إلّا محرماً كما في معتبرة إبراهيم.

ثمّ إنه بناءً على جواز العدول إلى ميقات آخر فهل يتعين عليه الإحرام من الجحفة أو يجوز له الإحرام من أي ميقات شاء؟ لم أر من تعرض لذلك.

والتحقيق أن يقال : إنه إذا كان معذوراً من الإحرام من ذي الحليفة وغير متمكن منه فلا يجب الإحرام منه ويجوز له التجاوز عنه بلا إحرام لسقوطه عن كونه ميقاتاً بالنسبة إليه ، ففي الحقيقة مسجد الشجرة ليس ميقاتاً له أصلاً ، فحينئذ لا يتعيّن عليه الإحرام من الجحفة لعدم كون مسجد الشجرة بميقات له أصلاً ولم يجب عليه الإحرام

٢٦٩

[٣٢١٥] مسألة ٣ : الحائض تحرم خارج المسجد على المختار ، ويدل عليه مضافاً إلى ما مرّ مرسلة يونس (*) في كيفية إحرامها «ولا تدخل المسجد وتهلّ بالحج بغير صلاة» ، وأمّا على القول بالاختصاص بالمسجد فمع عدم إمكان صبرها إلى أن تطهر تدخل المسجد وتحرم في حال الاجتياز إن أمكن ، وإن لم يمكن لزحم أو غيره أحرمت خارج المسجد وجددت في الجحفة أو محاذاتها (١).

______________________________________________________

منه لا تعييناً ولا تخييراً لفرض سقوطه عن الميقات بالنسبة إليه ، وحيث يجب عليه الإحرام من الميقات يجوز له اختيار أي ميقات شاء ، فيذهب إلى أي بلد شاء الذي يمر بالميقات سواء كان الجحفة أم ميقاتاً آخر.

وأمّا إذا فرضنا أنه يتمكن من الإحرام من مسجد الشجرة ولكن يجوز له العدول عنه إلى ميقات آخر على نحو الواجب التخييري كالمريض والضعيف فيتعين عليه الإحرام من الجحفة ، لأنّه إذا لم يأت بأحد العدلين الواجبين يتعيّن عليه العدل الآخر كما صنع الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) على ما في معتبرة أبي بصير ومعتبرة أبي بكر الحضرمي (١) ، إذ من الواضح أن الواجب إذا كان تخييرياً وتعذّر عليه أحدهما يتعيّن عليه الفرد الآخر ، وأمّا العدول إلى ميقات آخر ليس بعدل للواجب التخييري فيحتاج إلى دليل خاص.

وإن شئت قلت : إنّ المقدار الذي ثبت من جواز المرور عن الميقات بلا إحرام لذوي الأعذار كالمريض والضعيف إنما هو التجاوز عن مسجد الشجرة بشرط الإحرام من الجحفة ، وأمّا التجاوز عنه والإحرام من ميقات آخر غير الجحفة فلم يثبت ، فالصحيح هو التفصيل بين الموردين.

(١) إذا قلنا بجواز الإحرام من خارج المسجد اختياراً فلا كلام حتى إذا قلنا بأن

__________________

(*) الرواية مسندة ومعتبرة ، ودلالتها على أن إحرامها من خارج المسجد واضحة ولا يجوز لها دخول المسجد وأمّا الاجتياز فلا يتحقق فيه.

(١) الوسائل ١١ : ٣١٧ / أبواب المواقيت ب ٦ ح ٤ ، ٥.

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الميقات نفس المسجد ، وذلك لأنّ المسجد أُخذ مبدأ لا ظرفاً كما عرفت.

ويدلُّ عليه أيضاً صحيح يونس بن يعقوب ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحائض تريد الإحرام ، قال : تغتسل أي غسل الإحرام وتستثفر وتحتشي بالكرسف وتلبس ثوباً دون ثياب إحرامها وتستقبل القبلة ، ولا تدخل المسجد وتهل بالحج بغير الصلاة» (١).

والرواية مسندة معتبرة لا مرسلة ، ودلالتها على أن إحرامها من خارج المسجد واضحة ، وهي بإطلاقها لترك الاستفصال فيها تشمل إحرام العمرة من مسجد الشجرة أيضاً ، وذكر الإهلال بالحج في الرواية لا يوجب اختصاصها بإحرام الحج من المسجد الحرام ، لأنّ حج التمتّع اسم لمجموع العمرة والحج ويصح إطلاق الحج على عمرة التمتّع ، فلا قصور في شمول الرواية لإحرام العمرة من مسجد الشجرة ، بل شمولها لإحرام العمرة من مسجد الشجرة أولى ، إذ يبعد جدّاً خلو القوافل المتوجهة من الشجرة إلى مكّة من الحائض بل يكثر الابتلاء بذلك ، ومعه لا يصح السكوت عن بيان حكمها.

وقد يستفاد وجوب الإحرام من خارج المسجد على الحائض والنفساء وعدم جواز تأخير الإحرام لهما إلى الجحفة من قضية أسماء بنت عميس لمّا نفست بمحمّد بن أبي بكر في البيداء ، وهو خارج مسجد الشجرة ، فأمرها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأن تحرم وتلبِّي مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه ، كما في صحيحة معاوية ابن عمّار وصحيحة زرارة (٢) ، فتكون حالها كالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه من حيث الإحرام من هذا المكان وعدم تأخيره إلى الجحفة أو إلى ميقات آخر.

وأمّا إذا قيل بلزوم الإحرام من نفس المسجد فقد ذكر في المتن أنه مع عدم إمكان صبرها إلى أن تطهر تدخل المسجد وتحرم في حال الاجتياز.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٩٩ / أبواب الإحرام ب ٤٨ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٠١ / أبواب الإحرام ب ٤٩ ح ١ ، ١٣ : ٤٤٢ / أبواب الطواف ب ٩١ ح ١.

٢٧١

[٣٢١٦] مسألة ٤ : إذا كان جنباً ولم يكن عنده ماء جاز له أن يحرم خارج المسجد (*) ، والأحوط أن يتيمم للدخول والإحرام ، ويتعيّن ذلك على القول بتعيين المسجد ، وكذا الحائض إذا لم يكن لها ماء بعد نقائها (١).

______________________________________________________

ويرد عليه : أن أدلّة حرمة التجاوز عن الميقات بلا إحرام لا تشمل المقام ، لأنّ المفروض أن هذا المكان لم يكن بميقات لها ، وأمّا الإحرام من نفس المسجد فغير قادرة عليه فيسقط هذا الموضع عن الميقاتية بالنسبة إليها ، لا سيما بملاحظة الروايات الواردة في الإحرام من الجحفة لمن لا يتمكّن من الإحرام من الشجرة ، وأمّا الاجتياز فلا يتحقق في المقام ، لأنّ الميزان في تحقّقه صدق عنوان عابري سبيل المذكور في الآية الشريفة (وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ) (١) ، وهو أن يدخل من باب ويخرج من باب آخر على نحو يتخذ المسجد طريقاً وسبيلاً ، ولا يصدق على ما إذا دخل في المسجد وطاف ودار فيه وخرج من نفس الباب أو من الباب الملاصق له الواقع في جنبه.

على أنّه لو فرض جواز الطواف والدوران في المسجد لم يكن وجه لتقييده بعدم إمكان الصبر إلى أن تطهر ، إذ لو كان ذلك جائزاً لكان جائزاً من الأوّل ، ولا موجب لتقييده بعدم إمكان الصبر.

وما ذكره من الاحتياط في المتن بالإحرام من خارج المسجد وتجديده من الجحفة أو من ميقات آخر فلا بأس به.

(١) إذا قلنا بجواز الإحرام من خارج المسجد اختياراً فلا ريب في أنّه يتعيّن عليها الإحرام من خارج المسجد ، إذ لا يجوز لها الدخول في المسجد. وأمّا الاحتياط المذكور في المتن فهو غير مشروع ، ولا أقل من أنه على خلاف الاحتياط ، وذلك لأنه لو فرضنا جواز الإحرام من نفس المسجد وخارجه والتخيير بينهما في نفسه فإذا حاضت أو أجنب ولم يكن الماء موجوداً يرتفع التخيير ويتعين الإحرام من خارج

__________________

(*) بل هو المتعيّن ، ولا مجال للاحتياط المزبور.

(١) النساء ٤ : ٤٣.

٢٧٢

الثاني : العقيق ، وهو ميقات أهل نجد والعراق ومن يمرّ عليه من غيرهم وأوّله المسلخ ، وأوسطه غَمرة ، وآخره ذات عِرق ، والمشهور جواز الإحرام من جميع مواضعه اختياراً ، وأنّ الأفضل الإحرام من المسلخ ثمّ من غمرة ، والأحوط عدم التأخير إلى ذات عرق إلّا لمرض أو تقيّة فإنه ميقات العامّة ، لكن الأقوى ما هو المشهور ، ويجوز في حال التقيّة الإحرام من أوّله قبل ذات عرق سرّاً من غير نزع ما عليه من الثياب (*) إلى ذات عرق ثمّ إظهاره ولبس ثوبي الإحرام هناك بل هو الأحوط ، وإن أمكن تجرده ولبس الثوبين سرّاً ثمّ نزعهما ولبس ثيابه إلى ذات عرق ثمّ التجرّد ولبس الثوبين فهو أولى (١).

______________________________________________________

المسجد ، لأنّ أحد الفردين للواجب التخييري إذا كان غير مقدور يتعين الفرد الآخر فإذا تعين الإحرام من خارج المسجد لا يشرع التيمم للدخول في المسجد والإحرام منه ثانيا.

وأمّا إذا قيل بكون الميقات نفس المسجد فيتعيّن التيمم للدخول في المسجد والإحرام منه ، فإن التراب أحد الطهورين ، فما عن المستند من أنها تؤخر الإحرام إلى الجحفة (١) لم يظهر لنا وجهه بعد كون التراب أحد الطهورين.

(١) لا ريب في أن العقيق من المواقيت التي وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، والروايات في ذلك متضافرة (٢).

إنما الكلام في حدّه من حيث المبدأ والمنتهى بحسب التحديد في الروايات ، ومن جملة الروايات التي جمعت بين الأمرين معاً روايتان :

الأُولى : مرسلة الصدوق ، قال «قال الصادق (عليه السلام) : وقّت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأهل العراق العقيق ، وأوّله المسلخ ووسطه غمرة وآخره

__________________

(*) مع الاحتياط بالفدية للبس المخيط.

(١) مستند الشيعة ١١ : ١٨٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١.

٢٧٣

الثالث : الجُحفة ، وهي لأهل الشام ومصر ومغرب ومن يمرّ عليها من غيرهم إذا لم يحرم من الميقات السابق عليها.

الرابع : يَلَمْلَم ، وهو لأهل اليمن.

______________________________________________________

ذات عرق ، وأوّله أفضل» (١).

ولكن لضعفها بالإرسال لا يمكن الاستدلال بها ، ومجرد إخبار الصدوق عن الإمام (عليه السلام) على نحو الجزم لا يوجب الاعتماد عليها ، إذ يمكن ثبوت الرواية عنده بطريق غير ثابت عندنا.

الثانية : معتبرة أبي بصير وهي العمدة ، قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : حدّ العقيق أوّله المسلخ وآخره ذات عرق» (٢).

وقد عبروا عن هذه الرواية بالخبر ، المشعر بالضعف ، حتى أن صاحب الحدائق الذي ملتزم بتوصيف بعض الأخبار بالصحّة وبعضها بالضعف عبّر عن هذه الرواية بالخبر (٣) ، ولكن الظاهر أنها معتبرة ، فإن عمّار بن مروان الذي يروي عن أبي بصير وإن كان مردداً بين عمّار بن مروان اليشكري الثقة وبين عمّار بن مروان الكلبي غير الموثق إلّا أن المراد به هو اليشكري الثقة ، لأنه المعروف وهو الذي له كتاب ، وهذا الاسم عند الإطلاق ينصرف إليه ، وأمّا الكلبي فليس له كتاب وليس بمعروف حتى أن الشيخ لم يذكره.

وأمّا الحسن بن محمّد فربّما يقال إنه مجهول الحال ، والظاهر أنه الحسن بن محمّد بن سماعة الثقة الذي يروي عن محمّد بن زياد كثيراً وهو ابن أبي عمير ورواياته عنه تبلغ ستين مورداً بهذا العنوان ، وكذا بعنوان الحسن بن محمّد عن محمّد بن أبي عمير أو ابن أبي عمير.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٣ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ٩.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٣ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ٧.

(٣) الحدائق ١٤ : ٤٣٨.

٢٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : الرواية معتبرة سنداً ودلالتها واضحة فلا حاجة إلى الانجبار.

وبإزائها روايات من حيث التحديد بالمبدإ والمنتهى ، أمّا من حيث المنتهي فقد وردت روايات عديدة دالّة على أن منتهى العقيق غمرة وليس بعدها ميقات.

منها : خبر أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام) «قال : حدّ العقيق ما بين المسلخ إلى عقبة غمرة» (١). وهو ضعيف بسهل بن زياد والبطائني.

ومنها : صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «وقت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل المشرق العقيق نحواً من بريدين ما بين بريد البعث إلى غمرة» (٢) وفي الوسائل في الطبعة الجديدة «نحواً من بريد» ولكنّه غلط والصحيح ما في التهذيب كما ذكرنا (٣) ، وأمّا دخول نفس الغمرة في حدّ العقيق فمبني على دخول الغاية في المغيى وعدمه.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار «آخر العقيق بريد أوطاس ، وقال : بريد البعث دون غمرة ببريدين» (٤).

ومنها : ما رواه الشيخ بهذا الاسناد في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : أوّل العقيق بريد البعث وهو دون المسلخ بستة أميال ممّا يلي العراق ، وبينه وبين غمرة أربعة وعشرون ميلاً بريدان» (٥).

وبإزائها روايات تدل على أن منتهى العقيق ذات عرق.

منها : صحيحة أبي بصير المتقدّمة (٦) «حدّ العقيق أوّله المسلخ وآخره ذات عرق».

منها : صحيحة إسحاق بن عمّار الدالّة على أن الصادق (عليه السلام) أحرم من

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٢ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ٥.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٦.

(٣) التهذيب ٥ : ٥٦ / ١٧٠.

(٤) الوسائل ١١ : ٣١٢ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ١.

(٥) الوسائل ١١ : ٣١٢ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ٢.

(٦) في ص ٢٧٤.

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ذات عرق بالحج (١).

فلا بدّ من ملاحظة كيفية الجمع بين الروايات ، ولا ريب أن مقتضى الجمع العرفي بينهما هو رفع اليد عن ظهور تلك الروايات في عدم جواز تأخير الإحرام عن غمرة وحملها على أفضلية الإحرام منها ، وحمل هذه الروايات على جواز التأخير عن غمرة والإحرام من ذات عرق مع المرجوحية ، لأنّ تلك الروايات ظاهرة في عدم جواز التأخير وهذه الروايات صريحة في جواز التأخير إلى ذات عرق لا سيما بملاحظة فعل الصادق (عليه السلام) كما في معتبرة إسحاق المتقدِّمة ، فالنتيجة أفضلية الإحرام من غمرة وجواز تأخيره إلى ذات عرق مع المرجوحية.

ويؤيده رواية الاحتجاج الدالّة على عدم متابعة العامّة في تأخير الإحرام إلى ذات عرق (٢).

وأمّا من حيث المبدأ فمقتضى بعض الروايات أنه قبل المسلخ كمعتبرة معاوية بن عمّار المتقدِّمة (٣) ، «قال : أوّل العقيق بريد البعث وهو دون المسلخ بستة أميال ممّا يلي العراق» ، فأوّل العقيق قبل المكان المسمى بالمسلخ بستة أميال ، وكذا يستفاد من صحيحة عمر بن يزيد المتقدِّمة ، وفي بعض الروايات أن أوّله المسلخ كما في معتبرة أبي بصير المتقدِّمة فيقع التنافي بينهما.

فإن قلنا بأن هجر الرواية والاعراض عنها يوجب سقوط حجيتها فالأمر سهل لإعراض الأصحاب عن الروايات الاولى وإجماعهم على عدم جواز الإحرام قبل المسلخ ، فالمرجع حينئذٍ ما دلّ على أنّ أوّله المسلخ.

وإن لم نقل بذلك فالصحيح أن يقال بأن هذه الروايات إنما تدل على أن العقيق اسم يطلق على ما قبل المسلخ ولا تدل على جواز الإحرام من قبل المسلخ ، إذ لا ملازمة بين كون العقيق اسماً لذلك المكان وبين جواز الإحرام منه ، لإمكان اختصاص جواز

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ٨.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٣ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ١٠ ، الاحتجاج : ٤٨٤.

(٣) في ص ٢٧٥.

٢٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الإحرام بمنطقة خاصّة من وادي العقيق كالمسلخ ، وتدل على ما ذكرنا صحيحة معاوية ابن عمّار الدالّة على أن الميقات بطن العقيق «قال (عليه السلام) : وقت لأهل العراق ولم يكن يومئذ عراق بطن العقيق» (١) وبطنه هو المسلخ ، فتكون هذه الصحيحة في الحقيقة مقيّدة لإطلاق ما دلّ على أن الميقات ما يسمّى بالعقيق.

ويمكن أن يقال : إن نفس التسمية بالمسلخ تدل على أن المسلخ أوّل الميقات لتسلخ الحاج وتجرّده عن الثياب في هذا المكان ثمّ يلبس ثوبي الإحرام ، فكان هذا المكان سمِّي بالمسلخ بعد جعله ميقاتاً فيرتفع التعارض والتنافي بالمرّة ، أمّا من حيث المنتهي فبالحمل على الأفضلية كما عرفت ، وأمّا من حيث المبدأ فبأن قبل المسلخ يسمّى بالعقيق لا أنه يجوز الإحرام منه.

فتلخّص : أن مبدأ الميقات هو المسلخ وأوسطه غمرة ومنتهاه ذات عرق ، والحاج مخير بين الإحرام من المسلخ إلى ذات عرق ، وأمّا كون الإحرام من غمرة أفضل من ذات عرق فلم يدل عليه دليل بالخصوص ، نعم الأولى والأحوط عدم تأخير الإحرام إلى ذات عرق لما ورد في بعض الروايات أن غمرة هو المنتهي.

وأمّا الإحرام من المسلخ وهو أوّل العقيق فقد ذكروا أنه أفضل ، ودلّت عليه عدّة من النصوص المعتبرة ، وقد عقد له باباً مستقلا في الوسائل (٢).

ففي صحيحة يونس «عن الإحرام من أي العقيق أفضل أن أُحرم؟ فقال : من أوّله أفضل» (٣) ونحوها ما رواه الشيخ عنه (٤).

ومعتبرة إسحاق بن عمّار «عن الإحرام من غمرة ، قال : ليس به بأس ، وكان بريد العقيق أحب إلى» (٥) وبريد العقيق أوّله ، فإنه ذكر في الروايات أن أوّل العقيق بريد

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٨ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

(٢) الوسائل ١١ : ٣١٤ / أبواب المواقيت ب ٣.

(٣) الوسائل ١١ : ٣١٤ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ١.

(٤) الوسائل ١١ : ٣١٤ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ٢ ، التهذيب ٥ : ٥٦ / ١٧٢.

(٥) الوسائل ١١ : ٣١٤ / أبواب المواقيت ب ٣ ح ٣.

٢٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

البعث وهو دون غمرة ببريدين.

نعم يظهر من رواية الاحتجاج لزوم الإحرام من أوّل العقيق وهو المسلخ وعدم جواز تأخيره عن أوّله ، فقد روى الطبرسي في الاحتجاج عن الحميري في جملة ما كتبه إلى صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) «أنه كتب إليه يسأله عن الرجل يكون مع بعض هؤلاء ويكون متصلاً بهم يحج ويأخذ عن الجادة ، ولا يحرم هؤلاء من المسلخ ، فهل يجوز لهذا الرجل أن يؤخر إحرامه إلى ذات عرق فيحرم معهم لما يخاف الشهرة أم لا يجوز إلّا أن يحرم من المسلخ؟ فكتب إليه في الجواب : يحرم من ميقاته ثمّ يلبس الثياب ويلبِّي في نفسه ، فإذا بلغ إلى ميقاتهم أظهره» (١).

ورواه الشيخ في كتاب الغيبة مسنداً عن أحمد بن إبراهيم النوبختي (٢) ، ولكن لا بدّ من رفع اليد عنها لما عرفت من دلالة بعض الأخبار المعتبرة على جواز التأخير صريحاً ، مضافاً إلى ضعف السند بكلا طريقيه. أمّا طريق الاحتجاج فبالإرسال ، وأمّا طريق الشيخ فبجهالة أحمد بن إبراهيم النوبختي.

بقي الكلام في مفاد رواية الاحتجاج وكيفية الاحتياط وملاحظة التقيّة.

فنقول : إن أمكن تجرّده ولبس ثوبي الإحرام سرّاً من المسلخ ثمّ ينزعهما ويلبس ثيابه إلى ذات عرق ثمّ يتجرّد ويلبس الثوبين تبعاً فلا إشكال ، وإن لم يمكنه ذلك إلّا متابعتهم فإن قلنا بأن لبس ثوبي الإحرام من مقومات الإحرام ودخيل في حقيقته فهو غير متمكِّن من الإحرام من الميقات وحكمه حكم من لم يتمكّن من الإحرام من الميقات. وأمّا إذا قلنا بأن لبس ثوبي الإحرام غير دخيل في حقيقة الإحرام وإنما هو واجب مستقل آخر فلا نحتاج في ارتفاع وجوبه حينئذٍ إلى دليل خاص ، بل نفس التقيّة كافية في رفع الوجوب ، فيرتفع وجوب لبس الثوبين لأجل التقيّة ولكن الكفّارة بلبس المخيط ثابتة.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١٣ / أبواب المواقيت ب ٢ ح ١٠ ، الاحتجاج : ٤٨٤.

(٢) الغيبة : ٢٣٥.

٢٧٨

الخامس : قَرن المنازل ، وهو لأهل الطائف (١).

السادس : مكّة ، وهي لحج التمتّع (٢).

______________________________________________________

نعم لو كانت رواية الاحتجاج صحيحة السند لالتزمنا بعدم وجوب الكفّارة ، لأنّ السكوت عن وجوب الكفّارة في مقام البيان يكشف عن عدم الوجوب.

ثمّ إن المذكور في نصوص المقام أن العقيق ميقات لأهل نجد والعراق ، ولكن ورد في صحيحة عمر بن يزيد ان قرن المنازل ميقات لأهل نجد (١) ، ويمكن الجواب بالحمل على التقيّة كما ذكره صاحب الحدائق (٢) ، لما رووا عن ابن عمر أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حدّ لأهل نجد قرن المنازل (٣) كما يمكن أن يقال بأن لأهل نجد طريقين ، أحدهما يمر بالعقيق والآخر يمر بقرن المنازل.

(١) هذه المواقيت الخمسة التي وقّتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأهل هذه البلاد ومن يمر عليها من غيرهم إلّا إذا أحرم من الميقات السابق ، وقد تضافرت النصوص في ذلك (٤).

(٢) وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة ، ففي بعضها الإحرام والإهلال بالحج من المسجد ، وفي بعضها من الكعبة ، وفي بعضها من رحله أو من الطريق أي شوارع مكّة وطرقها (٥) ، والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في المسألة.

نعم ، في المقام رواية معتبرة قد يستظهر منها خلاف ما تقدّم وأن ميقات حج التمتّع ذات عرق ، وهي معتبرة إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث «قال (عليه السلام) : كان أبي مجاوراً هاهنا فخرج يتلقى بعض هؤلاء فلمّا رجع فبلغ

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٩ / أبواب المواقيت ب ١ ح ٦.

(٢) الحدائق ١٤ : ٤٣٩.

(٣) المغني ٣ : ٢١٣.

(٤) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١.

(٥) الوسائل ١١ : ٣٣٩ / أبواب المواقيت ب ٢١ ، ١٢ : ٤٠٧ / أبواب الإحرام ب ٥٢.

٢٧٩

السابع : دُوَيْرة الأهل أي المنزل ، وهي لمن كان منزله دون الميقات إلى مكّة (١) بل لأهل مكّة أيضاً على المشهور الأقوى وإن استشكل فيه بعضهم فإنّهم يحرمون لحج القران والإفراد من مكّة (*) ، بل وكذا المجاور الذي انتقل فرضه إلى

______________________________________________________

ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحج ودخل وهو محرم بالحج» (١).

وفيه : أن هذه الرواية لا تخلو عن تشويش واضطراب ، فإن جوابه (عليه السلام) بقوله : «كان أبي مجاوراً إلى آخره» لا يرتبط بسؤال السائل ، لأنّ السائل سأل عن تجدد الإحرام لدخول مكّة في الشهر الذي خرج فيه ، فكأنه (عليه السلام) أعرض عن الجواب لوجود مانع عنه وقال (عليه السلام) : «كان أبي إلخ». على أنه لم يظهر من الرواية أن الصادق (عليه السلام) كان متمتعاً بالحج ثمّ خرج من مكّة وأحرم لحج التمتّع من ذات عرق ، بل المفروض في الرواية أنه (عليه السلام) كان مجاوراً في مكّة ولو بضعة أشهر وخرج لحاجة فبلغ ذات عرق وأحرم منه ويمكن أن يكون إحرامه للقران أو الإفراد.

مضافاً إلى أنه لو كان متمتعاً بالحج لا يجوز له الخروج من مكّة ، لأنه محتبس ومرتهن بالحج فكيف خرج محلّاً ، فهذه قرينة على أنه (عليه السلام) لم يكن متمتعاً بالحج.

والحاصل : جوابه (عليه السلام) واستشهاده بفعل أبيه (عليه السلام) غير مرتبطين بحج التمتّع الذي هو محل الكلام.

(١) أي كان منزله أقرب إليها من المواقيت ، والظاهر أنه لا إشكال ولا خلاف في ذلك ، وتشهد له النصوص المتضافرة (٢).

إنما الكلام في أن الميزان بالقرب إلى مكّة أو إلى عرفات أو التفصيل بين العمرة

__________________

(*) بل يخرجون إلى الجعرانة فيحرمون منها ، وكذلك المجاور مطلقا.

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ٨.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٣٣ / أبواب المواقيت ب ١٧.

٢٨٠