موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

ثمّ الظاهر أنه لا فرق في المسألة بين الحج الواجب والمستحب فلو نوى التمتّع مستحبّاً ثمّ أتى بعمرته يكون مرتهناً بالحج ويكون حاله في الخروج محرماً أو محلّاً والدخول كذلك كالحج الواجب (١).

______________________________________________________

والظاهر أن التحديد بالمسافة أو بالحرم لا دليل عليه أصلاً ، فإن الموضوع في النص هو الخروج من مكّة. نعم ، لو كان المذكور في النص مجرّد الخروج فقط أمكن القول بأن المراد به السفر إلى المسافة الشرعية كما ورد في بعض روايات صلاة المسافر من قوله : «فليس لك أن تقصّر حتى تخرج منها» (١) ، لإمكان حمله على المسافة الشرعية ، ولكن الموجود في نصوص المقام الخروج من مكّة كما في صحيحتين لزرارة (٢) ، وهذا العنوان يصدق بالخروج عن مكّة وإن لم يبلغ المسافة أو حد الحرم فالعبرة بصدق الخروج من مكّة وعدمه.

على أن التحديد بالمسافة يختلف أيضاً فلا يصح التحديد والتقدير بها ، وذلك لأنّ المسافر إذا كان عازماً على العود يكفي السير بمقدار أربعة فراسخ ذهاباً في الحكم بالقصر ، لأنّ مجموع ذهابه وإيابه يبلغ حدّ المسافة ، بخلاف ما إذا لم يكن عازماً على العود أو كان بانياً على الإقامة عشرة أيّام فلا يكفي السير بمقدار أربعة فراسخ فيختلف الحكم حسب اختلاف المكلفين.

وأمّا التقدير بحدود الحرم فلا دليل عليه أيضاً ، بل مقتضى النصوص أن من خرج من حدود الحرم يجب عليه أن يذهب إلى الميقات ويحرم منه إن أمكن وإلّا فيحرم من مكانه ، بل هذا الحكم لا يختص بمن خرج من الحرم ويشمل كل من خرج من مكّة لإطلاق الروايات ، فالميزان هو الخروج من مكّة سواء خرج من الحرم أم لا وسواء بلغ حدّ المسافة الشرعيّة أم لا.

(١) الأمر كما ذكره بالنسبة إلى حكم الخروج ، لإطلاق الأدلّة وعدم الفرق بين

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥٠٨ / أبواب صلاة المسافر ب ١٨ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠١ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ١ ، ٥.

٢٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

الواجب والمستحب من هذه الجهة فإنه مرتهن بالحج مطلقاً.

وأمّا بالنسبة إلى حكم الرجوع والدخول إلى مكّة ثانياً ففيه تفصيل ، لأنه تارة نلتزم بأنّ العمرة الثانية هي عمرة جديدة مفردة وغير مرتبطة بالحج ، وإنما هي واجبة مستقلّة كما مال إلى ذلك في الجواهر ، وأُخرى نلتزم بأن العمرة الثانية هي المرتبطة بالحج كما هو الصحيح على ما تقدّم فإن قلنا بالأوّل فلا كلام ، وإنما يجب الإتيان بالعمرة الثانية لدخول مكّة.

وإن قلنا بالثاني وفساد العمرة الاولى وعدم قابليتها للارتباط والاتصال بالحج للفصل بينهما فحينئذ يفترق الحج الواجب عن المستحب ، لأنّه لو كانت العمرة الأُولى فاسدة وملغاة وملحقة بالعدم فكأنه لم يعتمر ، فإنّ كان الحج مستحباً لا يجب عليه الإتيان بالعمرة الثانية ، وما دلّ على وجوب إتمام الحج والعمرة وإن كان الحج مستحباً إنما هو فيما إذا لم يخرج من مكّة ، وأمّا إذا خرج منها وفسدت عمرته على الفرض بالفصل بينهما فلا وجه لوجوب الإتيان بالعمرة الثانية عليه لفرض عدم وجوب الحج عليه ، وما أتى به من العمرة محكوم بالعدم ، فلا موضوع لوجوب اتصالها بالحج.

وقد استظهرنا من النصوص (١) أن العمرة الثانية هي المرتبطة بالحج كما عرفت وحيث إن الحج مستحب له يجوز له رفع اليد عنه ، بل يمكن أن يقال : إن الأمر كذلك في الواجب الموسع كالإجارة الموسعة أو النذر المطلق ونحوهما فله التأخير وعدم لزوم العود.

وبالجملة : لزوم العود إلى مكّة محرماً بالعمرة الثانية يبتني على كون العمرة الثانية هي عمرته المرتبطة بالحج وأن الاولى قد فسدت بالفصل بشهر فحينئذ لا يجب عليه العود إذا كان الحج مستحبّاً أو كان واجباً موسعاً ، وأمّا إذا قلنا بأن العمرة الثانية واجبة بالاستقلال وغير مرتبطة بالحج فيجب عليه العود محرماً لتفريغ ذمّته من هذا الواجب الاستقلالي.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠١ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢.

٢٢٢

ثمّ إنّ سقوط وجوب الإحرام عمن خرج محلا ودخل قبل شهر مختص بما إذا أتى بعمرة بقصد التمتّع (*) ، وأمّا من لم يكن سبق منه عمرة فيلحقه حكم من دخل مكّة في حرمة دخوله بغير الإحرام إلّا مثل الحَطّاب والحَشّاش ونحوهما (١).

______________________________________________________

نعم ، على تقدير عدم قابلية العمرة الاولى للارتباط بالحج وعدم إجراء حكم المتعة عليها ففي انقلابها عمرة مفردة فيجب عليه الرجوع لطواف النّساء كلام يأتي التعرّض له عن قريب إن شاء الله تعالى.

(١) صدر عبارته مقصور بمن أتى بعمرة التمتّع ولكن الذيل أعم ، لقوله (قدس سره) : وأمّا من لم يكن سبق منه عمرة فيلحقه حكم من دخل مكّة ، فإن قوله : من لم يكن سبق منه عمرة يشمل العمرة المفردة أيضاً ، والأمر كما ذكر في الذيل لموثقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة (١) ، فانّ التعليل للرجوع إلى مكّة بعمرة بقوله : «لأنّ لكل شهر عمرة» يدل على أنّ الذي يوجب سقوط الإحرام عند الدخول إلى مكّة في شهر الاعتمار هو إتيان مطلق العمرة.

وبالجملة : لا ريب في أن النصوص مطبقة على أنه لا يجوز دخول مكّة إلّا محرماً ولا يجوز لأحد دخولها محلّاً حتى أنه إذا دخلها محلّاً عصياناً أو غفلة أو جهلاً ثمّ خرج وأراد الدخول ثانياً يجب عليه الإحرام للدخول ، وقد استثني من النصوص الدالّة على وجوب الإحرام الحطّاب والحشّاش ونحوهما ، وكذلك استثني منها من دخلها معتمراً وخرج ثمّ أراد الدخول قبل شهر (٢) ، وأمّا من كان من أهل مكّة الذي لم يسبق منه عمرة ، فلو خرج من مكّة وأراد الرجوع ولو في يومه وساعته يجب عليه الإحرام لدخول مكّة بمقتضى إطلاق النصوص الدالّة على عدم جواز دخول مكّة بغير إحرام.

__________________

(*) بل مطلقاً ولو مفردة.

(١) في ص ٢١٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ٦ ، ٨.

٢٢٣

وأيضاً سقوطه إذا كان بعد العمرة قبل شهر إنما هو على وجه الرخصة بناءً على ما هو الأقوى (*) من عدم اشتراط فصل شهر بين العمرتين فيجوز الدخول بإحرام قبل الشهر أيضاً (١).

______________________________________________________

نعم ، مرسل حفص وأبان : «في الرجل يخرج في الحاجة من الحرم قال : إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام ، فإن دخل في غيره دخل بإحرام» (١) ظاهر في عدم وجوب الإحرام لقاطن مكّة إذا رجع في شهر الخروج ، بناءً على أن مورد المرسل أهل مكّة ، ولكنّه غير صالح لرفع اليد عن تلك الروايات الكثيرة المطلقة ، لضعفه بالإرسال.

وقد ورد في بعض النصوص أن الصادق (عليه السلام) خرج من مكّة إلى الربذة لمشايعة والده الباقر (عليه السلام) ثمّ دخل مكّة حلالاً (٢).

فربّما يتوهّم من إطلاق ذلك جواز الدخول محلّاً وإن لم يسبق منه العمرة أو أتى بها وتحقق الفصل بأزيد من شهر ، ولكن هذا الفعل الذي صدر منه (عليه السلام) لا إطلاق له ، إذ لعلّه كان معتمراً قبل ذلك ولم يفصل بين الدخولين مقدار الشهر.

والحاصل : لا ريب في عدم جواز الدخول إلى مكّة محلا ، لأنّ المستفاد من الروايات الشريفة أن مكّة (زادها الله شرفاً وعزّاً) لها كرامة وحرمة لا يجوز الدخول إليها إلّا محرماً ملبياً بالحج أو العمرة ، وجواز الدخول محلا مختص بمن أتى بالعمرة سابقاً ولم يتجاوز الشهر ، وأمّا من لم يسبق منه عمرة أصلاً وخرج وأراد الدخول يجب عليه الإحرام سواء رجع في يومه وساعته أم لا ، قريباً أو بعيدا.

(١) قد ذكرنا في بحث العمرة أن الأظهر هو اعتبار الفصل بين العمرتين بشهر ولا عبرة بعشرة أيّام ، فإن أتى بها ثانياً قبل مضي شهر بعنوان عمرة التمتّع فلا مشروعية لها ، لأنّ حج التمتّع ليس فيه إلّا عمرة واحدة والمفروض إتيانها.

__________________

(*) فيه إشكال ، نعم لا بأس به رجاء.

(١) الوسائل ١٢ : ٤٠٧ / أبواب الإحرام ب ٥١ ، ح ٤ ، ٥.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٠٧ / أبواب الإحرام ب ٥١ ح ٤ ، ٥.

٢٢٤

ثمّ إذا دخل بإحرام فهل عمرة التمتّع هي العمرة الأُولى أو الأخيرة؟ مقتضى حسنة حماد أنها الأخيرة المتصلة بالحج ، وعليه لا يجب فيها طواف النّساء ، وهل يجب حينئذ في الأُولى أو لا؟ وجهان أقواهما نعم (*) ، والأحوط الإتيان بطواف مردّد بين كونه للأُولى أو الثانية (١).

______________________________________________________

وإن أتى بها بعنوان العمرة المفردة لتكون واقعة بين عمرة التمتّع وحجّه فلا بأس بالإتيان بها رجاءً لاحتمال مشروعيتها في نفسها ، ولكن مقتضى صحيح حماد عدم المشروعية ولزوم الرجوع محلا ، «قلت : فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام ثمّ رجع في أبان الحج في أشهر الحج إلى أن قال إن رجع في شهره دخل بغير إحرام وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً» (٢). فان الظاهر منه أنه (عليه السلام) في مقام بيان الوظيفة الفعلية ، وقد عيّن أنه يرجع محلا إن رجع قبل مضي الشهر فلا يجوز له التخلف عن الوظيفة المقررة له ، ثمّ ذكر (عليه السلام) وظيفة من دخل بعد الشهر وأنه يدخل محرما.

(١) مقتضى ظهور موثقة إسحاق وصراحة صحيح حماد (٣) أنه إذا دخل بالإحرام فعمرة التمتّع هي الأخيرة وأمّا الاولى فملغاة ، والأخيرة هي المحتبس بها التي وصلت بحجّته ، فلا تجب فيها طواف النّساء لعدم مشروعيته في عمرة التمتّع.

وهل يجب عليه طواف النّساء للعمرة الأُولى باعتبار أنها وإن كانت تمتعاً حدوثاً لكنها تنقلب إلى الإفراد قهراً بعد الفصل بشهر؟ ذكر المصنف (قدس سره) أن فيه وجهين ، أقواهما نعم.

ولكن ناقش غير واحد في ثبوت طواف النّساء للأُولى ، لأنه قد يفرض أنه أتى النّساء بعد الإحلال منها وقبل الخروج من مكّة أو بعده ، ومن البعيد جدّاً حرمتهنّ

__________________

(*) فيه إشكال ، بل منع.

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ٦.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ٨ ، ٦.

٢٢٥

ثمّ الظاهر أنّه لا إشكال (*) في جواز الخروج في أثناء عمرة التمتّع قبل الإحلال منها (١).

______________________________________________________

عليه بعد ذلك من غير موجب ، والاستبعاد المذكور في محلِّه ، فإن النّساء قد حلّت له بعد الإحلال من العمرة سواء خرج من مكّة أم لا فكيف تحرم عليه ثانياً وبأي موجب ، إذ لا دليل على التحرّم مرّة أُخرى ، بل قد عرفت أن المستفاد من معتبرة إسحاق وصحيحة حمّاد المتقدّمتين كون العمرة الاولى لاغية بالمرّة ومحكومة بالعدم فالانقلاب إلى الافراد يحتاج إلى الدليل ومجرّد الفساد ولغوية الاولى لا يوجب انقلابها إلى الافراد كي يحتاج إلى طواف النّساء.

والحاصل : يظهر من النص أن العمرة الاولى ملغاة وغير محسوبة لا أنّها تنقلب إلى الإفراد ، ولو فرضنا انقلابها إلى الإفراد كان على الإمام (عليه السلام) البيان والأمر بطواف النّساء ، فسكوته (عليه السلام) عن ذلك يكشف عن عدم انقلابها إليه ، فليس عليه طواف النّساء لا بالنسبة إلى الأُولى لكونها ملغاة ولا بالنسبة إلى الثانية لأنّها عمرة التمتّع.

(١) الظاهر أن هذه المسألة غير محرّرة عند الفقهاء (قدس سرهم) ولم أر من تعرّض لذلك.

والذي يمكن أن يقال : إن الروايات المانعة عن الخروج كلّها وردت بعد الفراغ من العمرة ، وأمّا الخروج في الأثناء فلا تشمله الروايات ، ومقتضى الأصل هو الجواز. ولا بدّ لنا من التكلم في مقامين :

أحدهما : أنه هل يجوز له الخروج من مكّة أثناء العمرة وقبل الإحلال منها أم لا؟ الظاهر هو الثاني لإطلاق النصوص المانعة ، فإن عمدة النصوص الواردة في المقام إنّما هي صحيحة الحلبي وصحيحة حماد ، وموضوع المنع فيهما هو الدخول إلى مكّة وعدم الخروج منها إلّا للحج وأنه مرتهن بحجه ، فلا بدّ من إتمام العمرة والبقاء في مكّة حتى

__________________

(*) بل الظاهر عدم جوازه.

٢٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

يأتي بالمناسك.

ففي صحيح حماد «من دخل مكّة متمتعاً في أشهر الحج لم يكن له أن يخرج حتى يقضي الحج ، فإن عرضت له حاجة إلى عسفان ، إلى أن قال : خرج محرماً ودخل ملبياً بالحج» (١) وفي صحيح الحلبي «عن الرجل يتمتّع بالعمرة إلى الحج يريد الخروج إلى الطائف ، قال : يهل بالحج من مكّة وما أُحب أن يخرج منها إلّا محرما» (٢).

فإنه لم يفرض فيهما الفراغ من العمل ، بل الظاهر منهما أن موضوع السؤال والجواب هو الاشتغال بالأعمال وأنه يخرج وهو مشغول بالأعمال ، خصوصاً أن قوله «يتمتّع» في صحيح الحلبي ظاهر جدّاً في كون موضوع الحكم مجرد الدخول في مكّة والاشتغال بالأعمال وعدم الفراغ منها ، لأنّه فعل استقبالي يدل على الاشتغال بالعمل في الحال بخلاف الفعل الماضي فإنّه يدل على الفراغ من العمل كما هو كذلك في سائر موارد الاستعمالات ، فإذا قيل رجل يصلِّي يراد به الاشتغال بالصلاة ، وإذا قيل رجل صلّى معناه الفراغ منها ، وقد ذكرنا سابقاً أن قوله «ما أُحب» لا يدل على الجواز مع الكراهة وإنّما يدل على مطلق المبغوضية وهي أعم من الكراهة والحرمة ، وإذن فلا نعرف وجهاً لجواز الخروج التكليفي في الأثناء ، فلا فرق في حرمة الخروج بين أثناء العمل أو بعده.

ثانيهما : أنه إذا فرضنا أنه خرج من مكّة محرماً بإحرامه الأوّل جهلاً أو غفلة أو عمداً قبل الفراغ من عمرته وأراد الرجوع فهل يجب عليه إحرام جديد لدخول مكّة أو أنه يدخل بنفس الإحرام الأوّل؟.

الظاهر أنّه لا حاجة إلى إحرام جديد ، لأنّ المفروض أنه على إحرامه ولم يحل ، ولا موجب لبطلان الإحرام الأوّل ، ولا دليل على إحرام آخر غير الأوّل ، حتى إذا بقي شهراً أو أزيد وأراد الدخول جاز له الدخول بنفس الإحرام الأوّل ، فإن الفصل بشهر إنّما يوجب الإحرام مجدداً على من خرج محلّاً وأراد الدخول بعد شهر لا على من خرج محرماً وهو باق على إحرامه.

__________________

(١) ٢) الوسائل ١١ : ٣٠٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ٦ ، ٧.

٢٢٧

[٣٢١٠] مسألة ٣ : لا يجوز لمن وظيفته التمتّع أن يعدل إلى غيره من القسمين الأخيرين اختياراً ، نعم إن ضاق وقته عن إتمام العمرة وإدراك الحج جاز له نقل النيّة إلى الإفراد وأن يأتي بالعمرة بعد الحج بلا خلاف ولا إشكال وإنّما الكلام في حدّ الضيق المسوغ لذلك ، واختلفوا فيه على أقوال : (١)

______________________________________________________

(١) لا إشكال ولا خلاف في أنه ليس للمتمتع العدول إلى الإفراد أو القرآن ، لأنّ العدول من واجب إلى واجب آخر على خلاف القاعدة ويحتاج إلى دليل خاص. على أن من كانت وظيفته التمتّع لا يشرع في حقّه الإفراد أو القرآن لا من الأوّل ولا في الأثناء. نعم ، إذا ضاق وقته عن إتمام العمرة وإدراك الحج ولم يسع الوقت لذلك جاز له العدول ويجعل عمرته حج الإفراد ويتمّها حجاً ، ثمّ يأتي بعمرة مفردة ، والروايات في ذلك متضافرة (١).

إنّما الكلام في حدّ الضيق المسوغ للعدول وقد اختلفوا فيه على أقوال :

الأوّل : زوال يوم التروية ، فإن تمكّن من إتمام عمرته قبل زوال يوم التروية فهو وإلّا بطلت متعته ويجعلها حجة مفردة. اختاره والد الصدوق (٢) وحكي عن المفيد (٣) (قدس سره).

الثاني : غروب الشمس من يوم التروية ، حكي عن الصدوق (٤) والحلبي (٥) من قدماء أصحابنا.

الثالث : ظهر يوم عرفة. اختاره الشيخ في النهاية (٦).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٦ / أبواب أقسام الحج ب ٢١.

(٢) نقله عنه في المختلف ٤ : ٣٤٩.

(٣) لاحظ المقنعة : ٤٣١.

(٤) المقنع : ٨٥.

(٥) الكافي في الفقه : ١٩٤.

(٦) النهاية : ٢٤٧.

٢٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الرابع : أن العبرة بفوات الموقفين ، واختلف القائلون بفوات الموقفين على أقوال أيضا.

أحدها : أن الميزان خوف فوات الركن من الوقوف الاختياري لعرفة وهو المسمّى منه.

ثانيها : أن العبرة بخوف فوت الواجب من الوقوف وهو من الزوال إلى الغروب وهو الوقوف الاختياري.

ثالثها : فوات الاختياري والاضطراري من عرفة.

رابعها : أنه إذا زالت الشمس من يوم التروية وخاف فوت الوقوف فله العدول وإن لم يخف الفوت فهو مخير بين العدول والإتمام.

ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار ، فإنها مختلفة غاية الاختلاف ، فيقع الكلام تارة فيما يقتضيه القاعدة وأُخرى فيما يقتضيه النصوص ، فإن لم يمكن العمل بها لتعارضها واختلافها أو لعدم ظهورها فالمتبع حينئذ هو القاعدة.

أمّا الأوّل : فلا ريب أن مقتضى القاعدة الأولية عدم جواز العدول مطلقاً ووجوب حج التمتّع عليه ابتداءً أو إتماماً إذا شرع فيه كما دلّت عليه الآية المباركة الآمرة بإتمام الحج والعمرة كقوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (١) ، فالوظيفة الفعلية الأولية هي حج التمتّع ولا ينتقل فرضه إلى واجب آخر إلّا بدليل ، وعليه لو فرضنا أنه لا يتمكن من إتيان حج التمتّع وإتمامه يستكشف عدم وجوب الحج عليه فينقلب ما أتى به إلى عمرة مفردة أو أنه يحكم ببطلانه ، فإن الانقلاب يحتاج إلى دليل وهو مفقود.

وأمّا الثاني : فالنصوص الواردة في المقام على طوائف :

الطائفة الأُولى : الروايات الدالّة على أن العبرة بخوف فوت الوقوف بعرفة.

فمنها : معتبرة يعقوب بن شعيب الميثمي ، قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : لا بأس للمتمتِّع إن لم يحرم من ليلة التروية متى ما تيسر له ما لم يخف فوت

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٦.

٢٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الموقفين» (١).

فربّما استدلّ بها على أن العبرة في العدول عن التمتّع إلى الإفراد بخوف فوت الموقف ، بمعنى أنه متى قدم مكّة والنّاس في عرفات وخشي أنه إن اشتغل بأعمال العمرة يفوت عنه الوقوف فحينئذ يدع العمرة وينقل حجّه إلى الإفراد ويبادر إلى عرفات لدرك الموقف.

ويقع البحث في هذه الرواية من جهتين :

الاولى : من حيث السند. والظاهر أن الرواية معتبرة ، لأنّ رواتها ثقات حتى إسماعيل بن مرار ، فإنّه وإن لم يوثق في كتب الرجال لكنّه من رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي (رحمه الله) ، وقد وثق جميع رواته في مقدّمة التفسير (٢) ، فيعامل معهم معاملة الثقة ما لم يعارض بتضعيف غيره كالنجاشي والشيخ ونحوهما.

الثانية : من حيث الدلالة. والظاهر أن الرواية أجنبية عمّا نحن فيه ، لأنها وردت في إنشاء إحرام الحج وأنه غير مؤقّت بوقت خاص ، وأنه يجوز له إحرام الحج في أي وقت شاء وتيسر له ما دام لم يخف فوت الموقفين ، ومحل كلامنا فيمن أحرم لعمرة التمتّع وضاق وقته عن إتمامها.

ومنها : خبر محمّد بن مسرور ، قال : «كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) : ما تقول في رجل متمتع بالعمرة إلى الحج وافى غداة عرفة وخرج النّاس من منى إلى عرفات أعمرته قائمة أو قد ذهبت منه ، إلى أي وقت عمرته قائمة إذا كان متمتِّعاً بالعمرة إلى الحج فلم يواف يوم التروية ولا ليلة التروية فكيف يصنع؟ فوقع (عليه السلام) : ساعة يدخل مكّة إن شاء الله يطوف ويصلّي ركعتين ويسعى ويقصر ، ويحرم بحجّته ويمضي إلى الموقف ويفيض مع الإمام» (٣) فان الظاهر منه أن العبرة بالإفاضة مع الإمام إلى المشعر لا الوقوف بعرفة في تمام الوقت من الزوال إلى الغروب ، وإنما

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ٥.

(٢) تفسير القمي ١ : ٤.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٩٥ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ١٦.

٢٣٠

أحدها : خوف فوات الاختياري من وقوف عرفة. الثاني : فوات الركن من الوقوف الاختياري وهو المسمّى منه. الثالث : فوات الاضطراري منه. الرابع : زوال يوم التروية. الخامس : غروبه. السادس : زوال يوم عرفة. السابع : التخيير بعد زوال يوم التروية بين العدول والإتمام إذا لم يخف الفوت.

______________________________________________________

أمره (عليه السلام) بأن يمضي إلى الموقف ليدرك الإمام ليفيض معه إلى المشعر فهو يدرك الموقف طبعاً بمقدار المسمّى ثمّ يفيض مع الإمام إلى المشعر.

لكنّه ضعيف السند بمحمّد بن مسرور كما في الوسائل ، فإنّه لا وجود له في كتب الرجال ، أو بمحمّد بن سرد أو سرو كما في التهذيب (١) فإنّه مجهول ، وذكر صاحب المنتقى (٢) أن راوي الحديث محمّد بن جزك وهو ثقة ، وذكر سرد أو سرور من غلط النساخ ، فيكون الخبر معتبراً ، ولكن لا يمكن الاعتماد على ما ذكره صاحب المنتقى لأنّه مجرّد تخمين وظن ولا شاهد له ، ومجرّد رواية عبد الله بن جعفر عن محمّد بن جزك لا يكون شاهداً ولا قرينة على أن محمّد بن جزك هو الراوي في سند هذه الرواية ، لإمكان رواية عبد الله بن جعفر عن شخص آخر مسمى بمحمّد بن سرد أو سرو.

ومنها : صحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : المتمتع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة ، وله الحج إلى زوال الشمس من يوم النحر» (٣) فإن دلالته على أنّ له إتمام العمرة إلى زوال الشمس من يوم عرفة واضحة جدّاً ، ومن الواضح أن السير من مكّة إلى عرفات كان يستغرق في تلك الأزمنة عدّة ساعات لأنّ ما بين مكّة وعرفات مقدار أربعة فراسخ تقريباً ، فلا يدرك المتمتِّع الموقف بتمامه وإنما يدرك مقداراً ما منه.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ١٧١ / ٥٧٠.

(٢) منتقى الجمان ٣ : ٤٣٠.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٩٥ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ١٥.

٢٣١

والمنشأ اختلاف الأخبار فإنها مختلفة أشد الاختلاف ، والأقوى أحد القولين الأوّلين ، لجملة مستفيضة من تلك الأخبار ، فإنّها يستفاد منها على اختلاف ألسنتها أن المناط في الإتمام عدم خوف فوت الوقوف بعرفة ، منها قوله (عليه السلام) في رواية يعقوب بن شعيب الميثمي : «لا بأس للمتمتِّع إن لم يحرم من ليلة التروية متى ما تيسّر له ما لم يخف فوات الموقفين» ، وفي نسخة «لا بأس

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : لازم صحّة إتيان العمرة إلى زوال يوم عرفة عدم اعتبار درك الموقف بتمامه وكفاية دركه مقداراً ما قبل الغروب ، والرواية كما ذكرنا صحيحة سنداً وإن كان محمّد بن عيسى الواقع في السند مردداً بين محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني وبين الأشعري ، لأنّ كلّاً منهما ثقة على الأصح ، ومدلولها يطابق القاعدة المقتضية لصحّة الحج إذا أدرك الموقف بمقدار المسمى وإن لم يستوعب تمام الوقت من الزوال إلى الغروب ، ولذا حكي عن السيّد في المدارك أن الصحيحة نص في المطلوب (١).

ومنها : صحيح الحلبي «عن رجل أهلّ بالحج والعمرة جميعاً ثمّ قدم مكّة والنّاس بعرفات فخشي إن هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف ، قال : يدع العمرة ، فإذا أتم حجّه صنع كما صنعت عائشة ولا هدي عليه» (٢) فإنه دال أيضاً على أن العبرة في العدول عن التمتّع إلى غيره بخوف فوت الموقف وبخشية عدم إدراكه وأمّا إذا أمكنه درك الموقف ولو بمقدار المسمى فلا مجال للعدول.

وربّما قيل : إن الوقوف الواجب إنما هو من الزوال إلى الغروب ، ولا فرق في فوت الموقف بين كون الفائت ركناً أو غيره ، فالعدول إنما يجوز فيما إذا خاف فوت الوقوف في تمام الزمان بين الظهر والغروب.

وفيه أوّلاً : أنه لو تمّ ما ذكر فهو بالإطلاق ، بمعنى أن إطلاق صحيح الحلبي يقتضي كون العبرة في العدول بفوات تمام الموقف من الزوال إلى الغروب ، ولكن صحيح

__________________

(١) المدارك ٧ : ١٧٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩٧ / أبواب أقسام الحج ب ٢١ ح ٦.

٢٣٢

للمتمتِّع أن يحرم ليلة عرفة» إلخ ، وأمّا الأخبار المحدّدة بزوال يوم التروية أو بغروبه أو بليلة عرفة أو سحرها فمحمولة على صورة عدم إمكان الإدراك إلّا قبل هذه الأوقات فإنه مختلف باختلاف الأوقات والأحوال والأشخاص ، ويمكن حملها على التقيّة إذا لم يخرجوا مع النّاس يوم التروية ، ويمكن كون الاختلاف لأجل التقيّة كما في أخبار الأوقات للصلوات. وربّما تحمل على تفاوت مراتب أفراد المتعة في الفضل بعد التخصيص بالحج المندوب ، فإنّ أفضل أنواع التمتّع أن تكون عمرته قبل ذي الحجّة ثمّ ما تكون عمرته قبل يوم التروية ثمّ ما يكون قبل يوم عرفة ، مع أنّا لو أغمضنا عن الأخبار من جهة شدّة اختلافها وتعارضها نقول : مقتضى القاعدة هو ما ذكرنا ، لأنّ المفروض أن الواجب عليه هو التمتّع فما دام ممكناً لا يجوز العدول عنه ، والقدر المسلم من جواز العدول صورة عدم إمكان إدراك الحج واللّازم إدراك الاختياري من الوقوف فإن كفاية الاضطراري منه خلاف الأصل.

يبقى الكلام في ترجيح أحد القولين الأولين ولا يبعد رجحان أوّلهما (*) بناءً على كون الواجب استيعاب تمام ما بين الزوال والغروب بالوقوف وإن كان الركن هو المسمّى ، ولكن مع ذلك لا يخلو عن إشكال ، فإن من جملة الأخبار مرفوع سهل

______________________________________________________

جميل (١) صريح في جواز إتيان العمرة إلى زوال يوم عرفة ، وهذا يقتضي فوات شي‌ء من الموقف بالطبع بمقدار سيره من مكّة إلى عرفات ، لأنّ ذلك يستلزم فوات عدّة ساعات من الموقف فنرفع اليد عن ظهور خبر الحلبي بصراحة رواية جميل.

وثانياً : أنّ الوقوف الذي هو جزء الواجب هو الوقوف بمقدار المسمّى ، وأمّا الوقوف من الزوال إلى الغروب فهو واجب مستقل وليس بجزء أصلاً لا أنه جزء غير

__________________

(*) بل الأرجح ثانيهما.

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ١٥ ، وتقدّم في ص ٢٣١.

٢٣٣

عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «في متمتِّع دخل يوم عرفة ، قال : متعته تامّة إلى أن يقطع النّاس تلبيتهم» حيث إن قطع التلبية بزوال يوم عرفة وصحيحة جميل «المتمتِّع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة وله الحج إلى زوال الشمس من يوم النحر» ومقتضاهما كفاية إدراك مسمّى الوقوف الاختياري فإنّ من البعيد إتمام العمرة قبل الزوال من عرفة وإدراك النّاس في أوّل الزوال بعرفات.

______________________________________________________

ركني ، ولذا لو تركه عمداً لا يوجب فساد الحج وإن أثم بتركه نظير ترك طواف النّساء ، وذلك شاهد على أنه ليس بجزء للواجب ، إذ لا يعقل أن يكون جزءً للواجب وفي نفس الوقت كان تركه عمداً وعصياناً غير موجب للبطلان.

وثالثاً : أن المفروض في صحيح الحلبي أنه ورد مكّة عند ما كان النّاس بعرفة وهو زوال يوم عرفة ، ولا ريب أن السير من مكّة إلى عرفات ابتداءً من الزوال يستلزم فوت بعض الموقف عنه قطعاً سواء عدل إلى الإفراد أو لم يعدل ، فحينئذ لا بدّ أن يكون مورد سؤاله عن خشية فوت الركن من الموقف لا عن تمام ما وجب عليه فالموقف في عبارة السائل يراد منه الركن منه وهو الوقوف في الجملة.

وأمّا التحديد بفوات الموقف الاضطراري لعرفة كما هو أحد الأقوال فلا يوجد له أي نص.

الطائفة الثانية : ما دلّت على التحديد بإدراك النّاس بمنى أي ليلة عرفة ، حيث يستحب المبيت في منى ليلة عرفة ومن هناك يذهب إلى عرفات.

فمنها : خبر أبي بصير : «المرأة تجي‌ء متمتعة فتطمث قبل أن تطوف بالبيت فيكون طهرها ليلة عرفة ، فقال : إن كانت تعلم أنها تطهر وتطوف بالبيت وتحل من إحرامها وتلحق النّاس بمنى فلتفعل» (١).

ومنها : صحيحة شعيب العقرقوفي ، قال : «خرجت أنا وحديد فانتهينا إلى البستان

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ٣.

٢٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يوم التروية فتقدمت على حمار ، فقدمت مكّة فطفت وسعيت وأحللت من تمتعي ثمّ أحرمت بالحج ، وقدم حديد من الليل ، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أستفتيه في أمره ، فكتب إليّ : مره يطوف ويسعى ويحل من متعته ويحرم بالحج ويلحق النّاس بمنى ولا يبيتن بمكّة» (١).

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إلى متى يكون للحاج عمرة؟ قال : إلى السحر من ليلة عرفة» (٢).

وإنما ذكرنا هذه الرواية في عداد هذه الطائفة من الأخبار لأنّ تحديد إتيان العمرة بالسحر من ليلة عرفة يقتضي الالتحاق بالنّاس بمنى بعد الفراغ من أعمال متعته. وكيف كان ، لا قائل بمضمون هذه الأخبار.

ويمكن حملها على أن التحديد بإدراك النّاس بمنى باعتبار أنّه إذا لم يلتحق الحاج بمنى يفوته الموقف ، لبعد المسافة بين مكّة وعرفات خصوصاً إذا كان الحاج من الضعفاء أو كانت امرأة ونحوها من العاجزين ، وأمّا إذا ذهب إلى منى ليلة عرفة فيتمكّن من درك الموقف ، كما يمكن حملها على التقيّة. على أنّها معارضة بصحيحتي جميل (٣) والحلبي (٤) الدالّتين على أن العبرة بخوف فوت الموقف ، والترجيح مع الصحيحتين لموافقتهما للسنّة.

الطائفة الثالثة : ما دلّت على التحديد بزوال يوم التروية أو غروبها ، وفي بعضها يوم التروية (٥) ، ولكنّها معارضة بما تقدّم مما دلّ على جواز إتيان العمرة ليلة عرفة وإدراك النّاس بمنى ، وفي بعضها أن الإمام (عليه السلام) أتى بأعمال العمرة ليلة عرفة (٦) ، ومعارضة أيضاً بصحيحي جميل والحلبي المتقدّمين الدالّين على كفاية إدراك

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ٤.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ٩.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٩٥ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ١٥.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٩٧ / أبواب أقسام الحج ب ٢١ ح ٦.

(٥) الوسائل ١١ : ٢٩٤ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ١٠.

(٦) الوسائل ١١ : ٢٩١ / أبواب أقسام الحج ب ٢٠ ح ٢.

٢٣٥

وأيضاً يصدق إدراك الموقف إذا أدركهم قبل الغروب إلّا أن يمنع الصدق فإن المنساق منه إدراك تمام الواجب ، ويجاب عن المرفوعة والصحيحة بالشذوذ كما ادعي ، وقد يؤيد القول الثالث وهو كفاية إدراك الاضطراري من عرفة بالأخبار الدالّة على أن من يأتي بعد إفاضة النّاس من عرفات وأدركها ليلة النحر تمّ حجّه ، وفيه أن موردها غير ما نحن فيه وهو عدم الإدراك من حيث هو وفيما نحن فيه يمكن الإدراك والمانع كونه في أثناء العمرة فلا يقاس بها. نعم لو أتم عمرته في سعة الوقت ثمّ اتفق أنه لم يدرك الاختياري من الوقوف كفاه الاضطراري ودخل في مورد تلك الأخبار.

______________________________________________________

الوقوف الركني ، فالمرجع حينئذ هو الإطلاقات الدالّة على أن من كانت وظيفته التمتّع يجب عليه إتمامه ويكتفي بالوقوف بمقدار المسمّى ولا يلزم الوقوف تمام الوقت ، فمن تمكن من الوقوف الاختياري ولو في الجملة لا ينقلب تمتعه إلى الإفراد ، ولا عبرة بالوقوف الاضطراري.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أن الأصل يقتضي عدم جواز العدول من التمتّع إلى الإفراد أو القرآن في جميع الصور حتى إذا لم يتمكّن من الوقوف الاضطراري أيضاً فضلاً عن الاختياري ، لأنّ الانتقال من واجب إلى واجب آخر يحتاج إلى الدليل فإذا تمكن من درك الحج صحيحاً وإتيان جميع أعماله فهو وإلّا فيبطل أو ينقلب إلى عمرة مفردة ، وأمّا الانقلاب إلى الإفراد وإجزاؤه عن التمتّع فيحتاج إلى دليل خاص.

نعم ، ثبت بالدليل أنه إذا خاف فوت الوقوف بعرفة بمقدار المسمّى ينتقل فرضه إلى الإفراد كما هو مدلول صحيحي الحلبي وجميل ، فلو دخل مكّة معتمراً بعمرة التمتّع وضاق وقته عن إدراك الموقف من عرفة حتى آناً ما يتبدل فرضه إلى الإفراد ، وما ذكرناه هو القدر المتيقن من الأخبار ، أمّا غير ذلك من الروايات فهي متضاربة في نفسها ومعارضة بصحيحي جميل والحلبي المتقدّمين (١) والترجيح لهما ، لموافقتهما للسنّة

__________________

(١) في ص ٢٣١ ، ٢٣٢.

٢٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وهي الإطلاقات الدالّة على كفاية درك الموقف ولو آناً ما. على أنه يمكن حمل تلك الروايات المتضاربة على التقية وغيرها من المحامل.

ومنهم من حمل الروايات على التخيير ، فيعمل بجميع الروايات مخيراً ، وزعم أن هذا ممّا تقتضيه القاعدة بدعوى أن العمل بالروايات إذا كان ممكناً ولو على نحو التخيير فلا مجال للتعارض والتساقط.

ويرد عليه : أنه إن أراد بالتخيير التخيير في المسألة الأُصولية باعتبار تعارض الروايات ففيه : أن التخيير لم يثبت في تعارض الأخبار كما حققناه في محلِّه (١). على أن التخيير الأُصولي وظيفة المجتهد لا العامي ، لأنّ التخيير الأُصولي في المقام يرجع إلى التخيير في الحجية وذلك وظيفة المجتهد ، فيفتي على طبق إحداها مخيراً ويعمل المقلد العامي على طبق فتواه.

وإن أراد بالتخيير أن الجمع العرفي يقتضي ذلك كالأمر بالقصر والإتمام مع العلم بأنه لا تجب صلاتان في يوم واحد ، فحينئذ يحمل الأمر في كلّ منهما على التخيير ونرفع اليد عن ظهور كل منهما في التعيين ، لأنّ الأمر لا يدل على الوجوب التعييني بالوضع وإنّما يدل عليه بالإطلاق ، فإذا ورد الأمر بالقصر في مورد فيستفاد الوجوب منه كما يستفاد أنه تعييني بالإطلاق ، فإذا ورد في مورده أمر آخر بالتمام كان الحال فيه كما في الأوّل غير أنه يرفع اليد عن إطلاق كل منهما بالآخر ، ونتيجة ذلك هي التخيير وهذا هو المراد من الجمع العرفي بين الأمرين ، ولكن لا يمكن تطبيق ذلك على ما نحن فيه ، لأنّ الروايات متعارضة نفياً وإثباتاً ومعه كيف يمكن حمل الروايات على التخيير.

وبعبارة اخرى : لو كانت الروايات مشتملة على الإثبات ووجوب شي‌ء فقط أمكن حملها على التخيير بالبيان المتقدّم ، وأمّا إذا كانت مشتملة على الإثبات والنفي معاً فلا يمكن حملها على التخيير ، ونصوص المقام (٢) كذلك ، لقوله في بعضها : «إذا قدمت مكّة يوم التروية وقد غربت الشمس فليس لك متعة» ، وفي بعضها : «يقدم

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٤٢٣.

(٢) المتقدّمة في ص ٢٣٥.

٢٣٧

بل لا يبعد دخول من اعتقد سعة الوقت فأتم عمرته ثمّ بان كون الوقت مضيقاً في تلك الأخبار (١).

ثمّ إنّ الظاهر عموم حكم المقام بالنسبة إلى الحج المندوب وشمول الأخبار له (٢) فلو نوى التمتّع ندباً وضاق وقته عن إتمام العمرة وإدراك الحج جاز له العدول إلى الإفراد ، وفي وجوب العمرة بعده إشكال ، والأقوى عدم وجوبها.

______________________________________________________

مكّة ليلة عرفة ، قال : لا متعة له» ، وفي بعضها : «إذا دخل يوم عرفة ، قال : لا متعة له» ، فهذه الروايات تنفي المتعة في هذا الحد وروايات أُخر تدل على بقاء المتعة إلى زوال يوم عرفة كصحيحي جميل والحلبي وكيف يمكن حملها على التخيير.

فالمتحصل : أن الميزان في العدول إنما هو بخوف فوت الموقف الركني.

(١) لو اعتقد سعة الوقت فدخل مكّة متمتِّعاً ثمّ بان كون الوقت مضيقاً وأن هذه الليلة ليلة العيد مثلاً وفاته الموقف ، فهل تصح عمرته ثمّ يأتي بالحج أو يعدل إلى الإفراد؟

الظاهر صحّة عمرته وحجّه فيأتي بالموقف الاضطراري لعرفة وهو الوقوف ليلة العيد في عرفات ، للاكتفاء في صحّة الحج بالوقوف الاضطراري ، والمفروض أنه لم يترك الوقوف الاختياري عن غير عذر ليفسد حجّه وإنما تركه عن عذر لاعتقاده سعة الوقت.

وأمّا عدم جواز العدول فلان موضوعه الخشية وخوف فوت الموقف والمفروض أن هذا الشخص لم يكن خائفاً بل كان معتقداً سعة الوقت. ويمكن أن يقرب ما ذكرنا بأن العدول إنما جاز لدرك الموقف الاختياري لأهميّته ، والمفروض أنه قد فاته على كل تقدير عدل أو لم يعدل ، فأدلّة العدول لا تشمل المقام فيكون حجّه صحيحاً لدرك الموقف الاضطراري ، وأمّا ترك الاختياري فهو غير ضائر إذا كان عن عذر.

(٢) لإطلاقها وعدم تقييدها بالواجب.

وهل تجب عليه العمرة المفردة بعد العدول إلى حج الإفراد وإتيان مناسكه أم لا؟

٢٣٨

ولو علم من وظيفته التمتّع ضيق الوقت عن إتمام العمرة وإدراك الحج قبل أن يدخل في العمرة هل يجوز له العدول من الأوّل إلى الإفراد؟ فيه إشكال ، وإن كان غير بعيد (*) (١).

______________________________________________________

اختار المصنف عدم الوجوب وهو الصحيح ، وذلك لأنّ الأمر بإتيان العمرة المفردة بعد الإتيان بحج الإفراد الذي عدل إليه وإن ورد في عدّة من الروايات الآمرة بالعدول وأنه يصنع كما صنعت عائشة كما في صحيح الحلبي (١) ، ولكنّها ليست في مقام الوجوب وإنما هي في مقام بيان ما هو عدل التمتّع وأن العمرة المفردة تقوم مقام عمرة التمتّع ، وأن المعدول إليه أي الواجب البدلي يقوم مقام الواجب الأصلي المبدل منه فالبدل يتبع الأصل ، فإن كان الأصل واجباً فكذلك البدل وإلّا فلا ، فالأمر بإتيان المفردة ليس في مقام بيان الوجوب التعبّدي وإنما هو في مقام بيان عدم فوات الوظيفة ، وأمّا الوجوب أو الاستحباب فالأخبار ساكتة عنهما ، فحينئذ يجوز له الاقتصار على إتيان أعمال الحج فقط وترك العمرة المفردة ، لعدم ارتباط أحدهما بالآخر ، فإن كلّاً من الحج والعمرة في حج الإفراد عمل مستقل في نفسه.

(١) جواز العدول هل يختص بمن كان جاهلاً بضيق الوقت ودخل في عمرة التمتّع ثمّ ضاق وقته عن إتمامها ، أو أنه يعم من لا يتمكن من الدخول في عمرة التمتّع من الأوّل ، كما لو علم بضيق الوقت عن إتمام العمرة وإدراك الحج قبل أن يدخل في العمرة؟ استشكل المصنف (قدس سره) في التعميم ثمّ لم يستبعد الجواز ، لكن الظاهر هو الاختصاص ، إذ لا دليل على العدول فيما لو علم بضيق الوقت عن إتمام عمرة التمتّع قبل الدخول فيها ، وروايات العدول كلّها واردة في جواز العدول في الأثناء وبعد الدخول في العمرة.

وقد يقال : إن الروايات وإن كان موردها ذلك ولكن يمكن استفادة الجواز قبل

__________________

(*) بل هو بعيد.

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٧ / أبواب أقسام الحج ب ٢١ ح ٦.

٢٣٩

ولو دخل في العمرة بنية التمتّع في سعة الوقت وأخّر الطّواف والسعي متعمداً إلى ضيق الوقت ففي جواز العدول وكفايته إشكال ، والأحوط العدول (*) وعدم الاكتفاء إذا كان الحج واجباً عليه (١).

______________________________________________________

الدخول أيضاً بالأولوية ، لأنّ عدم العدول حينئذ يستلزم ترك الواجب وسقوط الحج عنه بالمرّة ، لعدم تمكنه من حج التمتّع ولا يجزئه غيره على الفرض.

وفيه : أنه لا أولوية للتعميم ، لأنه لو أحرم ودخل في عمرة التمتّع ثمّ ضاق وقته عن إتمامه يكون إحرامه بقاءً إحراماً لحج الإفراد حسب النصوص الخاصّة. وأمّا إذا علم بالضيق قبل أن يدخل في العمرة وقبل أن يحرم لها ، فإن كان قد أخره عمداً وعصياناً حتى ضاق الوقت فقد استقر عليه حج التمتّع ، فلا بدّ له من الإتيان بحج التمتّع في السنة القادمة ، وأمّا إذا لم يكن التأخير مستنداً إلى اختياره ولم يكن متمكِّناً من حج التمتّع من أوّل الأمر فلا يجب عليه الحج أصلاً ، لأنّ النائي إنما يجب عليه التمتّع خاصّة فإذا لم يكن متمكناً منه سقط عنه.

وبعبارة اخرى : المكلف على قسمين النائي والقريب ، ووظيفة الأوّل هي التمتّع ووظيفة الثاني الإفراد ، ويجب على كل واحد منهما أداء وظيفته المتعيّنة له ، كالمسافر والحاضر بالنسبة إلى القصر والتمام ، فإن لم يكن النائي متمكناً من حج التمتّع من أوّل الأمر لا يجب عليه التمتّع كما لا يجب عليه الإتيان بغيره من القسمين الآخرين ، وما دلّ على جواز العدول إنما ورد في من دخل متمتعاً وضاق وقته عن الإتمام ، ولا يشمل من لم يدخل في العمرة مع ضيق الوقت عن إتمامها.

(١) الوجوه المحتملة في المسألة أربعة :

الأوّل : جواز العدول بدعوى أن نصوص المقام لا تختص بالتأخير غير الاختياري ، بل مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين التأخير الاختياري وغيره وشمولها

__________________

(*) بقصد الأعم من إتمامها حج إفراد أو عمرة مفردة وإن كان بطلان حجّه وإحرامه هو الأظهر.

٢٤٠