موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

[٣٢٠٦] مسألة ٣ : الآفاقي إذا صار مقيماً في مكّة فإن كان ذلك بعد استطاعته ووجوب التمتّع عليه فلا إشكال في بقاء حكمه سواء كانت إقامته بقصد التوطّن أو المجاورة ولو بأزيد من سنتين ، وأمّا إذا لم يكن مستطيعاً ثمّ استطاع بعد إقامته في مكّة فلا إشكال في انقلاب فرضه إلى فرض المكي في الجملة

______________________________________________________

ثمّ إنّ المصنف ذكر أنه لا يبعد أن يكون محل كلامهم وحكمهم بالتخيير في صورة حصول الاستطاعة بعد الخروج عن مكّة ، وأمّا إذا حصلت الاستطاعة فيها وخرج منها وأراد الحج من الخارج فيتعين عليه فرض الإفراد ، لأنه إذا وجب عليه الإفراد لا موجب لتبدله إلى التمتّع ، فهذه الصورة خارجة عن محل كلامهم وعن مورد النصوص.

ولكن الظاهر أنه لا فرق بين الصورتين ولا موجب لتخصيص الحكم بالتخيير بمن استطاع في الخارج ، فإن الأدلّة المقتضية للتخيير مشتركة بين الصورتين ، فإنه لو فرضنا أنه استطاع في مكّة وحج منها حج الإفراد فلا كلام ، ولو خرج قبل الحج وأراد الحج من الخارج فلا مانع أيضاً من التبديل إلى التمتّع وجوازه له ، لإطلاق الصحيحين المتقدّمين فإنهما يخصصان ما دلّ على أنه لا متعة لأهل مكّة ، وإذا قلنا بسقوط النصوص بالمعارضة فالمرجع عموم ما دلّ على وجوب طبيعي الحج ، أو يرجع إلى الأصل العملي المقتضي للبراءة عن الخصوصية.

نعم ، تفترق صورة حصول الاستطاعة في مكّة عما إذا حصلت في الخارج بجريان الأصل ، فإنه بناءً على المشهور من جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة يجب عليه الإفراد في صورة حصول الاستطاعة في مكّة ، لأنّ الإفراد قد وجب عليه وهو في مكّة ثمّ بعد الخروج يشك في تبدله إلى التمتّع ومقتضى الأصل بقاؤه على وجوبه وعدم تبدله إلى التمتّع ، فبذلك تمتاز هذه الصورة عما إذا حصلت الاستطاعة في الخارج ، وأمّا بناءً على المختار من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة فلا فرق بين الصورتين كما عرفت.

١٦١

كما لا إشكال في عدم الانقلاب بمجرّد الإقامة (١).

وإنّما الكلام في الحد الذي به يتحقّق الانقلاب (٢) ،

______________________________________________________

(١) الآفاقي إذا سكن مكّة فقد يتوطّن فيها وقد يجاورها ، وعلى كل تقدير فقد يكون مستطيعاً من الأوّل وقد يستطيع في مكّة فهذه صور.

أمّا المجاور الذي استطاع في مكّة فيبحث عنه تارة من حيث ما تقتضيه القاعدة. وأُخرى عما تقتضيه الروايات.

أمّا الأوّل : فمقتضى القاعدة وجوب حج التمتّع عليه ، لأنّ موضوع الحكم من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ومن لم يكن من أهل مكّة ، وذلك صادق على المجاور ، فإنّه لم يكن من أهل مكّة ولم يكن أهله حاضري المسجد فيشمله حكم البعيد وإن استطاع في مكّة ، فلو كنّا نحن والآية المباركة لوجب عليه التمتّع.

وأمّا الثاني : فإن الروايات تقضي بإجراء حكم أهل مكّة عليه وانقلاب فرضه إلى فرض المكي في الجملة ، وسنتعرض إلى الروايات فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(٢) قد وقع الخلاف فيما يتحقق به الانقلاب ، فالمشهور أنه يتحقق بالإقامة في مكّة مدّة سنتين والدخول في السنة الثالثة. ونسب إلى الشيخ (١) وابن إدريس (٢) تحققه بإكمال ثلاث سنين والدخول في الرابعة ، ونسب إلى جماعة كالشهيد في الدروس (٣) بأنّه يتحقّق بإكمال سنة واحدة والدخول في الثانية ، وقواه صاحب الجواهر (٤). وسبب الاختلاف اختلاف الروايات.

أمّا ما نسب إلى الشيخ من اعتبار الدخول في السنة الرابعة فلا دليل عليه إلّا الأصل المقطوع بالروايات.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٣٠٨.

(٢) السرائر ١ : ٥٢٢.

(٣) الدروس ١ : ٣٣١.

(٤) الجواهر ١٨ : ٨٨.

١٦٢

فالأقوى ما هو المشهور من أنّه بعد الدخول في السنة الثالثة لصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) : «من أقام بمكّة سنتين فهو من أهل مكّة ولا متعة له» إلخ ، وصحيحة عمر بن يزيد عن الصادق (عليه السلام) : «المجاور بمكّة يتمتّع بالعمرة إلى الحج إلى سنتين فإذا جاوز سنتين كان قاطناً وليس له أن يتمتّع» وقيل بأنّه بعد الدخول في الثانية لجملة من الأخبار ، وهو ضعيف لضعفها بإعراض المشهور (*) عنها ، مع أن القول الأوّل موافق للأصل ، وأمّا القول بأنه بعد تمام ثلاث سنين فلا دليل عليه إلّا الأصل المقطوع بما ذكر ، مع أن القول به غير محقّق لاحتمال إرجاعه إلى القول المشهور بإرادة الدخول في السنة الثالثة.

______________________________________________________

وأمّا مذهب المشهور فيدل عليه صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «من أقام بمكّة سنتين فهو من أهل مكّة لا متعة له» (١) وصحيح عمر بن يزيد ، قال «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : المجاور بمكّة يتمتّع بالعمرة إلى الحج إلى سنتين فإذا جاوز سنتين كان قاطناً وليس له أن يتمتّع» (٢).

وبإزاء ذلك روايات تدل على كفاية مضي سنة واحدة ، وهي مستند القائل بكفاية إكمال سنة واحدة.

منها : صحيحة الحلبي ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) لأهل مكّة أن يتمتّعوا؟ قال : لا ، قلت : فالقاطنين بها؟ قال : إذا قاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكّة» (٣).

__________________

(*) بل لمعارضتها بالصحيحين فالمرجع إطلاق ما دلّ على وجوب التمتّع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٢

(٣) الوسائل ١١ : ٢٦٦ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٣.

١٦٣

وأمّا الأخبار الدالّة على أنه بعد ستّة أشهر أو بعد خمسة أشهر فلا عامل بها (*) ، مع احتمال صدورها تقية وإمكان حملها على محامل أُخر ، والظاهر من الصحيحين اختصاص الحكم بما إذا كانت الإقامة بقصد المجاورة ، فلو كانت بقصد التوطن فينقلب بعد قصده من الأوّل ، فما يظهر من بعضهم من كونها أعم لا وجه له ، ومن الغريب ما عن آخر من الاختصاص بما إذا كانت بقصد التوطن. ثمّ الظاهر أنّ في صورة الانقلاب يلحقه حكم المكي بالنسبة إلى الاستطاعة أيضاً فيكفي في وجوب الحج الاستطاعة من مكّة ولا يشترط فيه حصول الاستطاعة

______________________________________________________

ومنها : خبر محمّد بن مسلم : «من أقام بمكّة سنة فهو بمنزلة أهل مكّة» (١). وربّما يتوهّم صحّة الخبر لأنّ رجال السند كلّهم من الأعيان والثقات ، ولكنه ضعيف لضعف طريق الشيخ إلى العباس بن معروف الذي روى عنه الشيخ في الفهرست (٢) بأبي المفضل ولم يذكر طريقه إليه في المشيخة.

ومنها : خبر حماد ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أهل مكّة أيتمتعون؟ قال : ليس لهم متعة ، قلت : فالقاطن بها ، قال : إذا أقام بها سنة أو سنتين صنع صُنع أهل مكّة» (٣) ولكنّه ضعيف السند لأنّ ابن أبي عمير يرويه عن داود عن حماد ولم يعلم من هو داود ، فإنه مشترك بين الثقة وغيره.

ومنها : معتبرة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «المجاور بمكّة سنة يعمل عمل أهل مكّة يعني يفرد الحج مع أهل مكّة ، وما كان دون السنة فله أن يتمتّع» (٤) والرواية معتبرة لأنّ إسماعيل بن مرار المذكور في السند وإن لم يوثق في

__________________

(*) مع أنها معارضة بالصحيحين فيجري فيها ما تقدّم ، على أن ما دلّ على أنه بعد خمسة أشهر ضعيف.

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحج ب ٨ ح ٤.

(٢) الفهرست ١١٨ : ٥١٨.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٦٧ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٥.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٦٩ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٨.

١٦٤

من بلده (*) فلا وجه لما يظهر من صاحب الجواهر من اعتبار استطاعة النائي في وجوبه لعموم أدلّتها وأنّ الانقلاب إنّما أوجب تغيير نوع الحج وأمّا الشرط فعلى ما عليه فيعتبر بالنسبة إلى التمتّع. هذا ، ولو حصلت الاستطاعة بعد الإقامة في مكّة لكن قبل مضي السنتين فالظاهر أنه كما لو حصلت في بلده فيجب عليه التمتّع ولو بقيت إلى السنة الثالثة أو أزيد ، فالمدار على حصولها بعد الانقلاب ، وأمّا المكي إذا خرج إلى سائر الأمصار مقيماً بها فلا يلحقه حكمها في تعيّن التمتّع عليه لعدم الدليل وبطلان القياس إلّا إذا كانت الإقامة فيها بقصد التوطّن وحصلت الاستطاعة بعده فإنه يتعين عليه التمتّع بمقتضى القاعدة ولو في السنة الأُولى ، وأمّا إذا كانت بقصد المجاورة أو كانت الاستطاعة حاصلة في مكّة فلا ، نعم الظاهر دخوله حينئذٍ في المسألة السابقة ، فعلى القول بالتخيير فيها كما عن المشهور يتخيّر وعلى قول ابن أبي عقيل يتعيّن عليه وظيفة المكي.

______________________________________________________

كتب الرجال ولكنه من رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي ، وذكرنا في محلِّه أن رجاله كلّهم ثقات (١) ، وفي بعض نسخ التفسير إسماعيل بن ضرار وهو غلط.

ومنها : مرسل حريز «من دخل مكّة بحجة عن غيره ثمّ أقام سنة فهو مكي» (٢).

وأجاب المصنف عن هذه الرواية باعراض المشهور عنها ، وهو غير تام عندنا ، على أن بعضهم قد عمل بها كصاحب الجواهر (قدس سره) (٣) مع حمل ما دلّ على اعتبار السنتين على الدخول في الثانية بعد إكمال سنة واحدة ، إلّا أنه لا يمكن فإنه وإن كان محتملاً ولو بعيداً في صحيح زرارة المتقدّم لقوله : «من أقام بمكّة سنتين» ، إذ يمكن حمله على الدخول في السنة الثانية ، ولكن لا يمكن ذلك بالنسبة إلى صحيح عمر بن

__________________

(*) الظاهر هو الاشتراط بالنسبة إلى رجوعه فيما إذا كان عازماً على الرجوع.

(١) معجم رجال الحديث ١ : ٤٩ المدخل.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦٩ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٩.

(٣) الجواهر ١٨ : ٨٨.

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

يزيد للتصريح فيه بالتجاوز عن سنتين.

فالصحيح أن يقال : إن الروايات متعارضة متكافئة فالمرجع عموم ما دلّ على أن النائي وظيفته التمتّع ، ولم يثبت تخصيصه بالمجاورة مدّة سنة واحدة. وبتعبير آخر : كل من لم يكن مكياً ولم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وظيفته التمتّع وإن كان قاطناً في مكّة أقل من المقدار الخارج عن العموم كالأقل من سنتين.

نعم ، إذا تجاوز عن السنتين فلا كلام في انقلاب فرضه إلى الإفراد لأنه القدر المتيقن من التخصيص ، وفي غير ذلك فالمرجع عموم ما دلّ على أن البعيد وظيفته التمتّع. ولعلّ نظر المصنف في قوله : «إنّ قول المشهور موافق للأصل» إلى ما ذكرناه من مطابقته لما تقتضيه القاعدة في الجمع بين الروايات والرجوع إلى العام بعد التعارض.

وأمّا ما دلّ من الروايات على انقلاب الفرض بعد خمسة أشهر أو ستّة (١) فيرد عليها :

أوّلاً : أنه لا عامل بها.

وثانياً : سقوطها بالمعارضة بالصحيحتين المتقدّمتين ، صحيحة زرارة وعمر بن يزيد.

وثالثاً : أن ما دلّ على خمسة أشهر من الرواية ضعيف بالإرسال.

وقد تلخص مما تقدّم : أن النائي وظيفته التمتّع سواء كان مجاوراً في مكّة أم لا ، فإن العبرة في وجوب الإفراد هو التوطّن وكونه من أهالي مكّة وعدمه ، فمن لم يكن متوطناً فيها ولم يكن أهله حاضري المسجد الحرام يجب عليه التمتّع ، خرجنا عن ذلك بالصحيحين الدالين على انقلاب فرضه إلى الإفراد إذا أقام بمكّة مدّة سنتين.

وبعبارة اخرى : النصوص الدالّة على التحديد بالمجاورة متعارضة فيكون المرجع العموم الدال على وجوب التمتّع على كل أحد ومنه الآية الكريمة بناءً على أن كلمة «من» من أداة العموم كما قيل ، فالعموم هو المحكّم والتخصيص ثابت بالمقدار المتيقن

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحج ب ٨ ح ٣ ، ٥.

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو المجاورة بمضي سنتين ، وفي غير ذلك يقع التعارض ويكون الترجيح لما وافق الكتاب.

فالنتيجة ثبوت التخصيص بمقدار سنتين وفي غيره وظيفته التمتّع لعموم الآية والأخبار ، هذا كله فيما إذا استطاع بعد السنتين.

وأمّا إذا استطاع قبل السنتين سواء استطاع في مكّة مدّة مجاورته أو استطاع في بلده ولم يحج فهل يجب عليه الافراد وينقلب فرضه من التمتّع إلى الافراد أم لا؟ ذكر غير واحد الإجماع على أنه من كان مستطيعاً ووجب عليه التمتّع في بلده ثمّ صار مقيماً في مكّة لا يتبدل فرضه بل هو باق على حكمه ، وإنما يتبدل فرضه وتنقلب وظيفته فيما إذا استطاع بعد السنتين من مجاورته ، ولكن قال السيّد في المدارك : «وفي استفادة ذلك من الروايات نظر» (١) واستجوده في الحدائق (٢).

أقول : الظاهر أن الروايات لا تشمل هذه الصورة أعني ما إذا استطاع المجاور قبل السنتين ، بيان ذلك : أن بعض الآيات الشريفة تدل على أصل وجوب الحج على جميع المكلّفين من دون نظر إلى قسم من أقسامه كقوله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (٣) ، وبعضها كقوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الآية (٤) ، والروايات المفسرة المبينة للآية تدل على أن الحج يختلف باختلاف الأماكن والأشخاص ، وأن النائي وظيفته التمتّع والقريب فرضه الإفراد ، فيكون المكلف على قسمين ، والصحيحتان المتقدِّمتان تنظران إلى هذا الجعل ، وأن من أقام مدّة سنتين في مكّة ينقلب حجّه إلى الإفراد ولا متعة له فهو مكي تنزيلاً ، ولا نظر لهما إلى حصول الاستطاعة سابقاً أو عدمه.

وبتعبير آخر : الصحيحان منصرفان عمن كان مستطيعاً سابقاً ، بمعنى أنهما في مقام

__________________

(١) المدارك ٧ : ٢١٠.

(٢) الحدائق ١٤ : ٤١١.

(٣) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٤) البقرة ٢ : ١٩٦.

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بيان الحج الواجب عليه وتعيين بعض الأقسام عليه ولا نظر لهما إلى من وجب عليه الحج سابقاً ، فلا يستفاد منهما إلّا الإلحاق في قسم خاص ، وأمّا إذا كان مستطيعاً سابقاً وكانت وظيفته التمتّع وترك الحج حتى جاور مكّة فالصحيحان غير ناظرين إلى وظيفته الفعلية وتبدل فرضه إلى فرض آخر ، فهو باق على حكمه السابق.

ولو احتملنا شمول الخبرين لهذه الصورة أيضاً فلا أقل من إجمالهما ، فيدور الأمر بين تخصيص الأقل والأكثر ، والقاعدة تقتضي الاقتصار على الأقل وهو خصوص حصول الاستطاعة بعد السنتين ، فينقلب فرضه إلى الإفراد إذا لم يكن مستطيعاً في بلده أو لم يكن مستطيعاً في ضمن المجاورة قبل السنتين ، فإن التنزيل بهذا المقدار ثابت ، وأمّا في غيره كما إذا كان مستطيعاً في بلده وترك الحج أو حصلت الاستطاعة قبل السنتين ووجب عليه الحج فلم يثبت التنزيل فوظيفته باقية على حالها ، وعليه فلا حاجة إلى التمسك بالإجماع المدعى في المقام ، هذا كلّه في حكم المجاور في مكّة.

وأمّا إذا توطن في مكّة وصار من أهلها فلم يحدد ذلك بشي‌ء من السنة أو الأشهر ، فيجري عليه حكم أهل مكّة لإطلاق ما دلّ على أنه لا متعة لأهل مكّة ولا مخصّص له ، وأمّا الصحيحان الدالان على الانقلاب بالإقامة مقدار سنتين إنّما هما في المجاور والمقيم بالعرض ، وأمّا المتوطن فغير مشمول لهما ، فلو أقام شهراً واحداً أو أقل وصدق عليه أنه من أهل مكّة فعليه حكمهم ، ولا موجب للتخصيص بالسنة أو السنتين ، فمن الغريب ما عن بعضهم من اختصاص الحكم والتحديد بالسنتين بما إذا كانت الإقامة بقصد التوطن ، وأمّا المجاور فعليه المتعة.

ثمّ الظاهر أن في صورة المجاورة والانقلاب يلحقه حكم المكّي بالنسبة إلى الاستطاعة ، فيكفي في وجوب الحج عليه الاستطاعة من مكّة إلى عرفات ثمّ إلى مكّة. وذكر صاحب الجواهر أنه يشترط فيه حصول الاستطاعة من بلده ، لأنّ الانقلاب إنما يوجب تغيير نوع الحج ، وأمّا الاشتراط بالاستطاعة فيبقى بحاله بالإضافة إلى النائي (١).

__________________

(١) الجواهر ١٨ : ٩١.

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : يقع الكلام في الاستطاعة تارة من حيث المبدأ وأُخرى من حيث المنتهي.

أمّا من حيث المبدأ فلا تعتبر الاستطاعة من بلد خاص ، بل المعتبر حصولها من أي بلد كان ، فلو سافر العراقي إلى المدينة واستطاع فيها وجب عليه الحج وإن لم يكن مستطيعاً في بلده ، إذ لم يدل أي دليل على اعتبار الاستطاعة من بلد خاص.

وأمّا من حيث المنتهي والعود إلى بلاده فإن فرضنا أنه أقام سنتين في مكّة واستطاع وأراد الرجوع والعود إلى بلده ، ولكن لو صرف المال في أعمال الحج ومقدّماته من الذهاب إلى عرفات والعود إلى مكّة لا يتمكّن من العود إلى بلده فحينئذ يقع الكلام في أنه هل يعتبر القدرة على العود إلى بلاده في حصول الاستطاعة أم لا؟.

ولا يخفى أنه لم يتعرض في شي‌ء من الروايات إلى ذلك أصلاً ، وإنما ذلك أمر عرفي مأخوذ في الاستطاعة حسب المتفاهم العرفي المستفاد من القدرة على السفر إلى بلد من البلدان ، فلو قيل : إن شخصاً قادر على السفر إلى كربلاء لزيارة الحسين (عليه السلام) يفهم العرف منه أنه قادر على الذهاب والإياب ، وأمّا من كان قادراً على الذهاب فقط فلا يصدق عليه أنه قادر على ذلك السفر ، فالقدرة على الذهاب والإياب مأخوذة في الاستطاعة بحسب الفهم العرفي المرتكز في الأذهان ، ومجرّد القدرة على الذهاب لا يكفي في صدق الاستطاعة.

وهل يكفي تمكنه من الرجوع إلى محل إقامته وهو مكّة أو يعتبر قدرته على العود إلى بلاده؟. أمّا إذا كان غير عازم على العود إلى بلاده فلا كلام ، وأمّا لو كان عازماً على العود ولا يكفي ماله للعود بحيث لو صرفه في الحج لا يتمكن من العود فمقتضى كلام المصنف وجوب الحج عليه وأن حاله حال أهالي مكّة ، ومقتضى كلام صاحب الجواهر عدم وجوب الحج عليه لاعتبار تمكّنه من العود إلى بلده.

والصحيح ما ذهب إليه في الجواهر ، لأنّ أقصى ما يدل عليه النص هو الانقلاب في فرض الحج لا الانقلاب في الشروط ، وتنزيله منزلة أهالي مكّة إنما هو بلحاظ نفس الأعمال والأفعال لا الشروط ، والانقلاب في الحج لا يوجب الانقلاب في الشروط المعتبرة.

١٦٩

[٣٢٠٧] مسألة ٤ : المقيم في مكّة إذا وجب عليه التمتّع كما إذا كانت استطاعته في بلده أو استطاع في مكّة قبل انقلاب فرضه فالواجب عليه الخروج إلى الميقات لإحرام عمرة التمتّع ، واختلفوا في تعيين ميقاته على أقوال : أحدها : أنّه مهلّ أرضه ، ذهب إليه جماعة ، بل ربّما يسند إلى المشهور كما في الحدائق لخبر سماعة عن أبي الحسن (عليه السلام) «سألته عن المجاور إله أن يتمتّع بالعمرة إلى الحج؟ قال (عليه السلام) : نعم يخرج إلى مهلّ أرضه فليلبّ إن شاء» المعتضد بجملة من الأخبار الواردة في الجاهل والناسي الدالّة على ذلك بدعوى عدم خصوصية للجهل والنسيان وأن ذلك لكونه مقتضى حكم التمتّع ، وبالأخبار الواردة في توقيت المواقيت وتخصيص كل قطر بواحد منها أو من مرّ عليها بعد دعوى أن الرجوع إلى الميقات غير المرور عليه. ثانيها : أنه أحد المواقيت المخصوصة مخيراً بينها ، وإليه ذهب جماعة أُخرى لجملة أُخرى من الأخبار ، مؤيدة بأخبار المواقيت بدعوى عدم استفادة خصوصية كل بقطر معيّن. ثالثها : أنه أدنى الحل ، نقل عن الحلبي وتبعه بعض متأخِّري المتأخِّرين ، لجملة ثالثة من الأخبار والأحوط الأوّل ، وإن كان الأقوى الثاني (*) لعدم فهم الخصوصية من خبر سماعة وأخبار الجاهل والناسي وأن ذكر المهلّ من باب أحد الأفراد ، ومنع خصوصية

______________________________________________________

ثمّ تعرّض المصنف لعكس المسألة السابقة وهو ما إذا صار المكّي مقيماً في بلد آخر ، فإن توطن في الخارج فلا كلام في انقلاب فرضه إلى التمتّع ، وإن لم يتوطن بل قصد المجاورة في الخارج فلا موجب لانقلاب فرضه إلى فرض النائي لعدم الدليل ولا نقول بالقياس. نعم ، من كان من أهل مكّة وخرج إلى بعض الأمصار وأراد الحج ، له التمتّع وإن كان الإهلال بالحج أي الإفراد أفضل كما في النص (٢) ولكنّ انقلاب الفرض غير ثابت وقد تقدّم البحث عن ذلك.

__________________

(*) بل الأقوى التخيير بين الجميع.

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٢ / أبواب أقسام الحج ب ٧ ح ١ ، ٢.

١٧٠

للمرور في الأخبار العامّة الدالّة على المواقيت ، وأمّا أخبار القول الثالث فمع ندرة العامل بها مقيّدة بأخبار المواقيت أو محمولة على صورة التعذّر (١).

______________________________________________________

(١) البحث في هذه المسألة يقع في مرحلتين :

الاولى : فيما تقتضيه القاعدة.

الثانية : فيما تقتضيه الروايات الخاصّة.

أمّا القاعدة فمقتضاها تعين الإحرام عليه من مواقيت خاصّة عيّنها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، كما يستفاد من الروايات (١) العامّة الدالّة على توقيته (صلّى الله عليه وآله وسلم) مواقيت للآفاق ، وأن لكل قطر ميقاتاً خاصّاً كما يظهر ذلك من الروايات الآتية ، وأنه ليس لأحد أن يحرم إلّا من ميقاته الذي عيّنه له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، فالعراقي يحرم من بطن العقيق والطائفي من قرن المنازل واليمني من يلملم وهكذا.

وبإزائها روايات أُخر تدل على أنه يحرم من الميقات الذي يمرّ به (٢) ، وقد وقع الكلام في ان هذه الروايات هل تشمل الشخص الذي يريد الحج من مكّة أو تختص بمن يريد الحج من الخارج؟

ربّما يدعى انصراف الروايات عمن يريد الحج من مكّة واختصاصها بمن يريد الحج من خارجها ، ولكن الظاهر أنه لا موجب لدعوى الانصراف ، لصدق المرور على الميقات على من يقصد الحج من مكّة بأن يخرج من مكّة إلى أي ميقات أراد من غير تعيين ، فلا يختص بمن يقصد الحج من الخارج ، فإن المرور على المكان هو الاجتياز عليه ، وهذا المعنى يصدق على من يقصد التمتّع من مكّة ، فيجوز له الخروج إلى أي ميقات شاء فإنه عند ما يصل ذلك المكان ويجتازه يصدق عليه أنه مرّ عليه

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٠٧ / أبواب المواقيت ب ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦٢ / أبواب أقسام الحج ب ٧.

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

من غير فرق بين أن يريد التمتّع من مكّة أو من خارجها ، ولا يجب عليه أن يرجع إلى ميقات بلده.

فلو كنّا نحن وهذه الروايات ولم ترد رواية في حكم المقيم لالتزمنا بالقول الثاني وهو جواز الإحرام من أي ميقات شاء وأراد ، لدخوله في عنوان المار بالميقات ، ولا موجب للانصراف المذكور. هذا ما تقتضيه القاعدة المستفادة من الروايات العامّة.

وأمّا الروايات الخاصّة فبعضها تدل على أنه يرجع إلى ميقات بلده كموثق سماعة عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : «سألته عن المجاور إله أن يتمتّع بالعمرة إلى الحج؟ قال : نعم يخرج إلى مهلّ أرضه فيلبي إن شاء» (١) ولو تمّ هذا الخبر لكان مخصصاً لتلك الروايات الدالّة على كفاية المرور ببعض المواقيت ، لإطلاقها من حيث حج المقيم في مكّة أو حج الخارج.

واستشكل في الرياض في الخبر بضعف السند بمعلى بن محمّد استظهاراً من عبارة النجاشي في حقه ، ولم يكن الخبر منجبراً بعمل المشهور (٢).

ولكن الرجل ثقة لأنه من رجال كامل الزيارات ، وعبارة النجاشي (٣) لا تدل على ضعفه وإنما تدل على أنه مضطرب الحديث والمذهب ، والاضطراب في الحديث معناه أنه يروي الغرائب ، وأمّا الاضطراب في المذهب فغير ضائر إذا كان الشخص ثقة في نفسه.

والعمدة ضعف الدلالة لتعليق الخروج إلى مهلّ أرضه على مشيئته ، وذلك ظاهر في عدم الوجوب ، وإلّا فلا معنى للتعليق على مشيئته وإرادته ، وأمّا إرجاع قوله (عليه السلام) «إن شاء» إلى التمتّع فبعيد جدّاً.

ولو فرضنا دلالته على الوجوب فمعارض بروايات أُخر تدل على عدم تعيين ميقات خاص له وجواز الاكتفاء بأي ميقات شاء ، كموثق آخر لسماعة في حديث

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٤ / أبواب أقسام الحج ب ٨ ح ١.

(٢) رياض المسائل ٦ : ١٦٨.

(٣) رجال النجاشي : ٤١٨ / ١١١٧.

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

قال (عليه السلام) : «فإن هو أحب أن يتمتّع في أشهر الحج بالعمرة إلى الحج فليخرج منها حتى يجاوز ذات عرق أو يجاوز عُسفان فيدخل متمتعاً بالعمرة إلى الحج ، فإن هو أحب أن يفرد الحج فليخرج إلى الجعرانة فيلبي منها» (١).

والمتفاهم منه جواز الإحرام من أي ميقات شاء ، لعدم خصوصية لذات عِرق أو عُسفان ، فإنّ المستفاد منه بحسب الفهم العرفي جواز الخرج إلى ميقات من المواقيت وإن لم يكن ميقات بلده وأهله ، والرواية قد اشتملت على التجاوز عن ذات عرق (٢) والتجاوز عن عُسفان ولم يعلم لنا إلى الآن أن عُسفان واقع في أي مكان وبأي مقدار يبعد عن مكّة ، وكيف يحرم منه مع أنه ليس من حدود الحرم ولا من المواقيت ، ولكن ذلك غير ضائر في دلالة الرواية على التخيير. وقد روي أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) اعتمر ثلاث عمر أحدها من عُسفان (٣).

وأمّا القول الآخر وهو الإحرام من أدنى الحل فتدل عليه جملة من الأخبار أهمّها صحيح الحلبي ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) لأهل مكّة أن يتمتّعوا؟ قال (عليه السلام) : لا ، ليس لأهل مكّة أن يتمتعوا ، قلت : فالقاطنون بها؟ قال : إذا أقاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكّة ، فإذا أقاموا فإنّ لهم أن يتمتّعوا ، قلت : من أين؟ قال : يخرجون من الحرم ، قلت : من أين يهلون بالحج؟ فقال : من مكّة نحواً ممّا يقول النّاس» (٤).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٧٠ / أبواب أقسام الحج ب ١٠ ح ٢.

(٢) ذات عرق : مُهَلّ أهل العراق وهو الحد بين نجد وتهامة. وقيل : عرق جبل بطريق مكّة ومنه ذات عرق. عسفان : منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكّة ، وقيل : عسفان بين المسجدين وهي من مكّة على مرحلتين ، وقيل : قرية بها نخيل ومزارع على ستّة وثلاثين ميلاً من مكّة وهي حد تهامة ، وقد غزا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بني لحيان بعسفان. الجعرانة : مكان فيه ماء بين الطائف ومكّة ، وهي إلى مكّة أقرب ، نزلها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عند رجوعه من غزاة حنين وأحرم منها. معجم البلدان ٤ : ١٠٧.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٤١ / أبواب المواقيت ب ٢٢ ح ٢.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٦٦ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٣.

١٧٣

ثمّ الظاهر أنّ ما ذكرنا حكم كل من كان في مكّة وأراد الإتيان بالتمتّع ولو مستحبّاً ، هذا كله مع إمكان الرجوع إلى المواقيت ، وأمّا إذا تعذّر فيكفي الرجوع إلى أدنى الحل ، بل الأحوط الرجوع (*) إلى ما يتمكّن من خارج الحرم ممّا هو دون الميقات وإن لم يتمكّن من الخروج إلى أدنى الحل أحرم من موضعه ، والأحوط الخروج إلى ما يتمكّن.

______________________________________________________

وأوضح منه دلالة موثقة سماعة «من دخلها بعمرة في غير أشهر الحج ثمّ أراد أن يحرم فليخرج إلى الجِعرانة فيحرم منها» (١) فإنها صريحة الدلالة في الخروج إلى أدنى الحل وهو الجِعرانة والإحرام منه.

واستدلوا أيضاً بصحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال (عليه السلام) : من أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر أحرم من الجِعرانة أو الحديبية وما أشبهها» (٢).

ويشكل بأن مورده العمرة المفردة لا الحج للمقيم في مكّة ، فالعمدة صحيح الحلبي ، فيقع الكلام في الجمع بين الروايات.

إن قلنا بسقوط حجية الخبر بالاعراض عنه فصحيحة الحلبي ساقطة ، وإن لم نقل بذلك كما هو الصحيح عندنا مضافاً إلى أنه قد عمل جماعة بالصحيحة فهي صريحة في جواز الإحرام من أدنى الحل.

وأمّا موثق سماعة الأوّل الدال على الخروج إلى ميقات بلده ومهلّ أرضه فظاهره الوجوب ، ومقتضى القاعدة رفع اليد عن ظاهر هذا بصراحة صحيحة الحلبي الدالّة على كفاية أدنى الحل فيحمل الموثق على الاستحباب ، وكذلك الحال بالنسبة إلى

__________________

(*) فيه إشكال.

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٤ / أبواب أقسام الحج ب ٨ ح ٢.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٤١ / أبواب المواقيت ب ٢٢ ح ١.

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

موثق سماعة الدال على جواز الاكتفاء بالخروج إلى الجِعرانة وهو أدنى الحل.

وكذلك موثقه الثاني بناءً على دلالته على وجوب الإحرام من الأماكن المذكورة فيه كذات عرق وعسفان ، ولكن قد عرفت دلالته على جواز الإحرام من أي ميقات شاء ولا خصوصية للأماكن المذكورة.

فالنتيجة هي التخيير وجواز الإحرام من أدنى الحل ، والأفضل الإحرام من أحد المواقيت المؤقتة ، وأفضل منه الإحرام من ميقات بلده.

ثمّ إن المصنف (رحمه الله) بعد ما اختار الإحرام من أحد المواقيت رتب على ذلك أنه إن لم يكن متمكناً من الإحرام من أحد المواقيت يحرم من خارج الحرم ، كما أنّه احتاط احتياطاً وجوبيّاً في الخروج من الحرم بأن يرجع إلى ما يتمكّن من قطع المسافة ، وإن لم يتمكّن من ذلك أيضاً فيحرم من مكانه ، وقد احتاط أيضاً بالخروج بالمقدار الممكن وإن كان داخل الحرم. والحاصل : غرضه (قدس سره) عدم الإحرام من مكانه ، بل الواجب عليه أوّلاً الخروج إلى ميقات من المواقيت وإلّا فيخرج من مكّة بالمقدار الممكن فيحرم هناك ولو كان ذلك المكان بين الميقات والحرم بل ولو كان بين الحرم وأبعاضه ومكّة.

ولا يخفى أنّ ما ذكره مبني على مختاره من وجوب الإحرام من أحد المواقيت المعيّنة ، وأمّا بناءً على مختارنا من التخيير بين الموارد الثلاثة المذكورة فلا موجب لهذا الاحتياط ، بل قد لا يجوز لعدم الدليل على جواز الإحرام من مكان أبعد من أدنى الحل ، فإن العبادة توقيفية ولا دليل على جواز ذلك في غير الموارد المنصوصة فضلاً عن أن يكون أحوط.

١٧٥

فصل

[في صورة حج التمتّع وشرائطه]

صورة حج التمتّع على الإجمال أن يحرم في أشهر الحج من الميقات بالعمرة المتمتّع بها إلى الحج ، ثمّ يدخل مكّة فيطوف فيها بالبيت سبعاً ويصلِّي ركعتين في المقام ، ثمّ يسعى لها بين الصّفا والمروة سبعاً ، ثمّ يطوف للنِّساء احتياطاً (*) وإن كان الأصح عدم وجوبه (١) ، ويقصِّر ، ثمّ ينشئ إحراماً للحج من مكّة في وقت يعلم أنّه يدرك الوقوف بعرفة ، والأفضل إيقاعه يوم التروية ، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها من الزوال (**) إلى الغروب ، ثمّ يفيض ويمضي منها إلى المشعر فيبيت فيه ويقف به بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، ثمّ يمضي إلى منى فيرمي جمرة العقبة ، ثمّ ينحر أو يذبح هديه ويأكل منه ، ثمّ يحلق أو يقصِّر ، فيحل من كل شي‌ءٍ إلّا النِّساء والطِّيب ، والأحوط اجتناب الصيد أيضاً ، وإن كان الأقوى عدم حرمته عليه من حيث الإحرام ، ثمّ هو مخير بين أن يأتي إلى مكّة ليومه فيطوف طواف الحج ويصلِّي ركعتيه ويسعى سعيه فيحل له الطِّيب ، ثمّ يطوف طواف النِّساء ويصلِّي ركعتيه فتحل له النِّساء ، ثمّ يعود إلى منى لرمي الجمار فيبيت بها ليالي التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر (***) ويرمي في أيّامها الجمار

______________________________________________________

(١) ذكر المصنف (رحمه الله) في هذا الفصل صورة إجمالية لحج التمتّع ، ونحن نتعرّض لذلك كلّه في محاله إن شاء الله تعالى ، وإنما نذكر هنا إتيان طواف النّساء في

__________________

(*) هذا الاحتياط ضعيف ولا بأس به رجاء.

(**) ولا بأس بالتأخير من الزوال بمقدار ساعة.

(***) هذا من سهو القلم فإن حكم من يأتي إلى مكّة ليومه من جهة وجوب البيتوتة والرمي حكم من يقيم بمنى بلا فرق بينهما.

١٧٦

الثّلاث ، وأن لا يأتي إلى مكّة ليومه بل يقيم بمنى حتى يرمي جماره الثّلاث يوم الحادي عشر ومثله يوم الثاني عشر ، ثمّ ينفر بعد الزوال إذا كان قد اتقى النِّساء والصّيد ، وإن أقام إلى النفر الثاني وهو الثالث عشر ولو قبل الزوال لكن بعد الرّمي جاز أيضاً ، ثمّ عاد إلى مكّة للطّوافين والسّعي ، ولا إثم عليه في شي‌ء من ذلك على الأصح ، كما أنّ الأصح الاجتزاء بالطّواف والسّعي تمام ذي الحجّة والأفضل الأحوط هو اختيار الأوّل بأن يمضي إلى مكّة يوم النّحر بل لا ينبغي التأخير لغده فضلاً عن أيّام التشريق إلّا لعذر.

______________________________________________________

عمرة التمتّع ، فنقول :

لا ريب في وجوب طواف النّساء في الحج ، وكذلك في العمرة المفردة للنصوص المستفيضة (١) ، وأمّا عمرة التمتّع فالمعروف بل المتسالم عليه عدم وجوب طواف النّساء فيها ، ولكن الشهيد نقل عن بعض الأصحاب الوجوب (٢) ولم يعين القائل ولم نظفر به ، وقد صرح في النصوص بعدم الوجوب.

منها : ما رواه في الوسائل عن الكليني عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن أحمد عن محمّد بن عيسى ، قال : «كتب أبو القاسم مخلد بن موسى الرازي إلى الرجل يسأله عن العمرة المبتولة (٣) هل على صاحبها طواف النّساء والعمرة التي يتمتّع بها إلى الحج؟ فكتب : أمّا العمرة المبتولة فعلى صاحبها طواف النّساء ، وأمّا التي يتمتّع بها إلى الحج فليس على صاحبها طواف النّساء» (٤) ، وفي بعض نسخ الوسائل أحمد بن محمّد بدل محمّد بن أحمد.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢١٢ / أبواب أقسام الحج ب ٢ ، ١٣ : ٤٤٢ / أبواب الطواف ب ٨٢.

(٢) الدروس ١ : ٣٢٩.

(٣) بتل الشي‌ء قطعه ، وسميت العمرة المفردة بالمبتولة لعدم ارتباطها بالحج واستقلالها بنفسها ، أقرب الموارد ١ : ٢٩.

(٤) الوسائل ١٣ : ٤٤٢ / أبواب الطواف ب ٨٢ ح ١.

١٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وذكر الشيخ هذه الرواية في موردين من التهذيب أحدهما عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن محمّد بن عيسى ، ثانيهما عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن أحمد عن محمّد بن عيسى (١) ، ورواها في الاستبصار عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن عيسى (٢). والصحيح ما في الكافي لأنّ الرواية مروية عنه فهو المرجع ، وعلى كل تقدير تكون الرواية معتبرة (٣).

ومنها : صحيحة صفوان بن يحيى ، قال : «سأله أبو حارث عن رجل تمتّع بالعمرة إلى الحج فطاف وسعى وقصر هل عليه طواف النّساء؟ قال : لا ، إنما طواف النّساء بعد الرجوع من منى» (٤).

وبإزائهما معتبرة سليمان المروزي : «إذا حج الرجل فدخل مكّة متمتِّعاً فطاف بالبيت وصلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) وسعى بين الصفا والمروة وقصر فقد حلّ له كل شي‌ء ما خلا النّساء ، لأنّ عليه لتحلة النّساء طوافان وصلاة» (٥) والتعبير بقوله «طوافان» جاء هكذا في الوسائل في الطبعة الجديدة ، وهو غلط جزماً لأنّ اسم «أن» منصوب فلا بدّ أن يكون طوافين بدل «طوافان» ، والصحيح ما في التهذيب «طوافاً وصلاة».

وقد يستدل بهذه المعتبرة على وجوب طواف النّساء في عمرة التمتّع ، بدعوى أن الرواية في مقام بيان أعمال العمرة ويشهد لذلك قوله «وقصر» ، فإن التقصير بعد الطواف والسعي إنما يكون في العمرة ، وأمّا الحج فلا تقصير فيه بعد الطواف والسعي.

لكن الظاهر أن كلمة «قصر» زيادة من قلمه الشريف في التهذيب (٦) ، فإنّ الشيخ

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٥٤ / ٨٦١ ، ١٦٣ / ٥٤٥.

(٢) الاستبصار ٢ : ٢٣٢ / ٨٠٤.

(٣) الكافي ٤ : ٥٣٨ / ٩.

(٤) الوسائل ١٣ : ٤٤٤ / أبواب الطواف ب ٨٢ ح ٦.

(٥) الوسائل ١٣ : ٤٤٤ / أبواب الطواف ب ٨٢ ح ٧.

(٦) التهذيب ٥ : ١٦٢ / ٥٤٤.

١٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

روى عين هذه الرواية سنداً ومتناً في الاستبصار (١) وترك كلمة «قصر» ، فالاشتباه نشأ من كلمة (قصر) ، فإن كانت ثابتة في الرواية يمكن الاستدلال بها لطواف النّساء في عمرة التمتّع ، ولكنها غير ثابتة كما في الاستبصار فتكون الرواية في مقام بيان أعمال الحج فهي أجنبية عن المقام ، ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بثبوت كلمة «قصر» فتسقط الرواية بالمعارضة بما تقدّم من صراحة الصحيحين المتقدّمين بعدم الوجوب.

وربّما يتخيل أن قوله : «فقد حلّ له كل شي‌ء ما خلا النّساء» قرينة على ثبوت كلمة «قصر» ، لأنّ الحلية في العمرة متوقفة على التقصير وأمّا الحلية في الحج فثابتة بالحلق في منى قبل الطواف والسعي ، فلو لم تكن كلمة «قصر» ثابتة لكان المعنى أنه حل له كل شي‌ء بعد الطواف والصلاة والسعي مع أن الحلية في الحج ثابتة بالحلق قبل الطواف والسعي ، فلا بدّ من إثبات كلمة «قصر» حتى يصح التعبير بقوله : «فقد حل له كل شي‌ء» ، فإذا ثبتت الكلمة يكون مورد الرواية العمرة التي يتمتّع بها ويثبت المطلوب وهو وجوب طواف النّساء في عمرة التمتّع.

ويرده : أن الحلية في الحج وإن كانت تثبت بالحلق في كثير من محرمات الإحرام إلّا أن حلية كلها ما عدا النّساء إنما تكون بالطواف والسعي ، ففي صحيحة معاوية بن عمّار : «فإذا زار البيت وطاف وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل من كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء» (٢) مع أن الحلية في الجملة ثابتة قبل ذلك بالحلق. وفي صحيحة منصور بن حازم : «عن رجل رمى وحلق أيأكل شيئاً فيه صفرة؟ قال : لا ، حتى يطوف بالبيت وبين الصّفا والمروة ثمّ قد حلّ له كل شي‌ء» (٣).

وبالجملة : يكفينا في الحكم بعدم الوجوب مع الغض عن النصوص المتقدّمة الشك لأصالة البراءة. هذا مضافاً إلى التسالم

على عدم الوجوب ، ولم ينسب القول بالوجوب إلّا إلى شخص مجهول.

__________________

(١) الاستبصار ٢ : ٢٤٤ / ٨٥.

(٢) ٣) الوسائل ١٤ : ٢٣٢ / أبواب الحلق والتقصير ب ١٣ ح ١ ، ٢.

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

تنبيه

لا ريب في أنّ محل إتيان طواف النّساء في العمرة المفردة بعد التقصير ، ولكن المصنف (قدس سره) ذكر في عمرة التمتّع أن محل إتيانه بعد السعي وقبل التقصير ، فيقع الكلام في وجه ذلك فنقول :

إن كان مدرك الإتيان بطواف النّساء في عمرة التمتّع معتبرة سليمان المروزي المتقدّمة (١) وأغمضنا عمّا ذكرنا من عدم ثبوت كلمة «فقصر» فالأمر بالعكس ، لأنّ المذكور فيها طواف النّساء بعد التقصير.

وإن كان مدرك الإتيان بطواف النّساء مجرّد الخروج عن خلاف بعض العلماء فلتقديم طواف النّساء على التقصير وجه ، وهو أنه قد وردت روايات كثيرة (٢) في عمرة التمتّع أنه لو قصر فقد حلّ له كلّ شي‌ء ، فلو كان طواف النّساء واجباً واقعاً لوجب قبل التقصير بلحاظ هذه الروايات ، إذ لو وجب إتيانه بعد التقصير لم يحل له كل شي‌ء بالتقصير ، فلأجل التحفظ على هذا العموم المستفاد من المستفيضة نلتزم بتقديم طواف النّساء على التقصير.

وبتعبير آخر : ما دلّ من المستفيضة على أنه يحل له كل شي‌ء بالتقصير يدل بالدلالة الالتزامية على تقديم طواف النّساء على التقصير وإلّا فلا يحل له كل شي‌ء بالتقصير.

__________________

(١) تقدّمت في ص ١٧٨.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٣٢ / أبواب الحلق والتقصير ب ١٣.

١٨٠