موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

.................................................................................................

______________________________________________________

شهراً يعتمر لكل شهر عمرة» (١) فإن المراد بذلك اثنا عشر شهراً هلالياً ، فإذا قيل بعد ذلك : «لكل شهر عمرة» معناه أن العمرة تقع في كل شهر هلالي وأن كل شهر هلالي قابل لوقوع العمرة فيه وليس معناه اعتبار الفصل بثلاثين يوما. وعلى ما ذكرنا يجوز الإتيان بالعمرة في آخر شهر وبعمرة أُخرى في أوّل الشهر الذي يليه وإن كان الفصل بيوم واحد.

ويؤكد ذلك بأمرين :

أحدهما : ما في صحيح حماد الدال على عدم جواز الخروج من مكّة قبل الإحرام بالحج : «قلت : فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام ثمّ رجع في أبان الحج في أشهر الحج يريد الحج فيدخلها محرماً أو بغير إحرام؟ قال : إن رجع في شهره دخل بغير إحرام ، وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً» (٢) فإنه من الظاهر أن المراد بالشهر فيه هو الشهر الهلالي لا مضي ثلاثين يوماً.

ثانيهما : ما في صحيح بريد الوارد في من أفسد عمرته ، قال : «وعليه أن يقيم إلى الشهر الآخر فيخرج إلى بعض المواقيت فيحرم بعمرة» (٣) فإن المراد بالشهر الآخر هو الذي يحل برؤية الهلال لا مضي ثلاثين يوماً.

وبالجملة : المستفاد من النصوص أن كل شهر له عمرة وأمّا الفصل بمقدار الشهر أي مضي ثلاثين يوماً فلم يقدر في النصوص ، فإذا اعتمر في آخر يوم من شهر رجب له أن يعتمر في أوّل يوم من شهر شعبان ، وأمّا إذا اعتمر في أوّل يوم من رجب فليس له أن يعتمر في آخر يوم من رجب ، نعم لا بأس بالإتيان بها متكرراً في شهر واحد رجاءً وباحتمال المطلوبيّة الواقعيّة.

ثمّ إنّ المستفاد من النصوص إنّما هو عدم مشروعية إتيان العمرتين لشخص واحد

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٠٩ / أبواب العمرة ب ٦ ح ٨.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٠٣ / أبواب أقسام الحج ب ٢٢ ح ٦.

(٣) الوسائل ١٣ : ١٢٨ / أبواب كفارات الاستمتاع ب ١٢ ح ١.

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

في الشهر ، فإنّ الحكم بعدم جواز الإتيان بها متكرراً في شهر واحد ينحل بالنسبة إلى كل مكلف لا بالنسبة إلى جميع النّاس. وبتعبير آخر : أنّ كل شخص مكلّف بعمرة واحدة في الشهر ونتيجة ذلك جواز الإتيان بعمرة اخرى لشخص آخر ، كما لا مانع من الإتيان بعمرتين لشخصين أو أزيد.

والحاصل : أن الممنوع هو إتيان العمرتين عن نفسه أو عن شخص واحد ، وأمّا إذا كانت إحدى العمرتين عن نفسه والأُخرى عن غيره أو كانت كلتاهما عن شخصين فلا مانع من ذلك ، ولذا لا مانع من جواز النيابة عن اثنين أو أكثر في يوم واحد.

بل الظاهر عدم اعتبار الفصل بين العمرة المفردة وعمرة التمتّع ، فمن اعتمر عمرة مفردة جاز له الإتيان بعمرة التمتّع بعدها ولو كانت في نفس الشهر ، وكذا يجوز له الإتيان بالعمرة المفردة بعد الفراغ من أعمال الحج ، فإن الروايات المانعة عن إتيان العمرتين ناظرة إلى تكرار العمرة المفردة في شهر واحد ، فإن قوله (عليه السلام) : «يعتمر لكل شهر عمرة» في موثق إسحاق المتقدّم (١) منصرف إلى العمرة المفردة ولا يشمل عمرة التمتّع ، لأنّ عمرة التمتّع لا يجوز الإتيان بها إلّا في أشهر الحج ولا تشرع إلّا مرّة واحدة في السنة ، نعم لا يجوز الإتيان بالعمرة المفردة بين عمرة التمتّع والحج وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه.

__________________

(١) في ص ١٤١.

١٤٢

فصل

في أقسام الحج

وهي ثلاثة بالإجماع والأخبار : تمتع وقران وإفراد ، والأوّل فرض من كان بعيداً عن مكّة ، والآخران فرض من كان حاضراً أي غير بعيد (١) ،

______________________________________________________

(١) هذا مما لا ينبغي الريب فيه ، ويدلُّ عليه الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فقوله تعالى (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١) فإنه كما يدل على أن التمتّع فرض النائي ومن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام كذلك يدل بالدلالة الالتزامية على أن القرآن أو الإفراد ليس وظيفة له.

بيان ذلك : أن الواجب على كل مكلف حج واحد ، فإذا كان الواجب على النائي التمتّع فلا يجزئ غيره. وبتعبير آخر : الآية في مقام بيان الوظيفة العملية الأولية ، فإذا كان التمتّع وظيفة النائي والمفروض وجوب حج واحد عليه فقط فلازم ذلك عدم جواز الاجتزاء بهما في مقام أداء الوظيفة. وبما ذكرنا يندفع ما يقال من أن ظاهر الآية حصر التمتّع بالنائي لا حصر النائي به.

وأمّا الحاضر فوظيفته إما القرآن أو الإفراد ، وتدل على ذلك نفس الآية الكريمة لظهورها في أن التمتّع ليس وظيفة له فوظيفته القرآن أو الإفراد.

وأمّا السنّة فمستفيضة أو متواترة (٢).

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٦.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٣٩ / أبواب أقسام الحج ب ٣.

١٤٣

وحدّ البعد الموجب للأوّل ثمانية وأربعون ميلاً من كل جانب على المشهور الأقوى لصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قلت له : قول الله عزّ وجلّ في كتابه (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة ٢ : ١٩٦] فقال (عليه السلام) : يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة ، كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ذات عِرق وعُسْفان كما يدور حول مكّة فهو ممّن دخل في هذه الآية ، وكل من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة (١).

______________________________________________________

ثمّ إنّ المشهور تعين القرآن أو الإفراد على الحاضر وعدم إجزاء التمتّع عنهما كما هو المستفاد من الآية الشريفة والنصوص المتضافرة خصوصاً المفسرة منها للآية للدلالة على أنّ التمتّع ليس وظيفة للحاضر (١) ، بل لم ينقل الخلاف من أحد إلّا عن الشيخ (٢) وابن سعيد (٣) فقد نسب إليهما جواز التمتّع للحاضر أيضا.

وربّما يستدل لهما بأن التمتّع لا ينقص عن القرآن والإفراد بل المتمتع يأتي بصورة الإفراد وزيادة ، ولا ينافيه زيادة العمرة قبله.

ولا يخفى غرابة هذا الاستدلال ، لأنّ حج التمتّع مغاير ومباين للقسمين الآخرين وإن كان التمتّع مشتركاً معهما في جملة من الأحكام ، ولا دليل على إجزاء التمتّع عنهما بعد ما كانت وظيفة الحاضر القرآن أو الإفراد وعدم مشروعية التمتّع في حقّه ، فما نسب إليهما من جواز التمتّع للحاضر اختياراً لا يمكن المساعدة عليه بوجه.

(١) قد اختلف الفقهاء في حدّ البعد الموجب للتمتّع على قولين :

أحدهما : وهو المشهور أنه عبارة عن ثمانية وأربعين ميلاً من كل ناحية ، أي ستّة عشر فرسخاً المعبر عن ذلك بمرحلتين أو مسير يومين.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٥٨ / أبواب أقسام الحج ب ٦ ح ١.

(٢) المبسوط ١ : ٣٠٦.

(٣) الجامع للشرائع : ١٧٩.

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : أنّه عبارة عن اثني عشر ميلاً من كل جانب ، ذهب إليه المحقق (١) وصاحب الجواهر (٢) ، هذا بحسب الأقوال.

وأمّا الروايات فلم يرد فيها التحديد باثني عشر ميلاً إلّا أن تحمل ثمانية وأربعون ميلاً على التوزيع والتقسيط على الجوانب الأربعة ، فيكون الحد من كل جانب اثني عشر ميلاً. وهذا بعيد جدّاً وإن حاول ابن إدريس (٣) رفع النزاع والخلاف بين الأصحاب بذلك.

والمعتمد هو القول المشهور لصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : قول الله عزّ وجلّ في كتابه (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال : يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة ، كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ذات عِرق وعُسفان كما يدور حول مكّة فهو ممن دخل في هذه الآية ، وكل من كان أهله وراء ذلك فعليهم المتعة». (٤) وهذه الرواية كما تراها واضحة الدلالة على ما ذهب إليه المشهور ، ولا يمكن تأويلها أو حملها على ما ذهب إليه ابن إدريس من تقسيط ثمانية وأربعين ميلاً على الجوانب الأربعة ، وأمّا ذكر ذات عرق وعُسْفان (٥) في الصحيحة فهو من باب تطبيق الحد المذكور عليهما تقريباً.

ونحوها رواية أُخرى لزرارة ، قال «قلت : فما حد ذلك؟ قال : ثمانية وأربعين ميلاً من جميع نواحي مكّة دون عسفان ودون ذات عرق» (٦).

ولكنّها ضعيفة بجهالة طريق الشيخ إلى علي بن السندي المذكور في السند ، فإن الشيخ كثيراً ما يروي عن علي بن السندي وغيره من الرواة من دون ذكر الواسطة

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٦٧.

(٢) الجواهر ١٨ : ٦.

(٣) السرائر ١ : ٥١٩.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٥٩ / أبواب أقسام الحج ب ٦ ح ٣.

(٥) عُسْفان بضم أوّله وسكون ثانيه بين الجحفة ومكّة وهي من مكّة على مرحلتين. وذات عرق مهلّ أهل العراق وهو الحد بين نجد وتهامة. معجم البلدان ٤ : ١٢١ ، ١٠٧.

(٦) الوسائل ١١ : ٢٦٠ / أبواب أقسام الحج ب ٦ ح ٧.

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بينه وبين الراوي ، ولكن يذكر في آخر كتاب التهذيب طرقه إلى الرواة ليخرج الخبر من الإرسال إلى الاسناد ، ولكن لم يذكر طريقه إلى علي بن السندي بل لم يتعرض الشيخ لترجمته لا في المشيخة ولا في الفهرست ولا في رجاله ، وكذا النجاشي مع أن كتابه موضوع لذكر المصنفين والمؤلفين ، ولو فرضنا عدم ثبوت كتاب لعلي بن السندي فلا عذر للشيخ في عدم ذكره في كتاب الرجال ، لأنّ كتاب الرجال موضوع لذكر الرواة والأصحاب وإن لم يكونوا من المصنفين.

هذا مضافاً إلى أن علي بن السندي لم يوثق ، ولا عبرة بتوثيق نصر بن الصباح له لأنّ نصر بنفسه لم يوثق أيضاً ، وقد حاول جماعة منهم الوحيد البهبهاني توثيق علي بن السندي بدعوى اتحاده مع علي بن إسماعيل الميثمي الثقة ، إلّا أنه لا يمكن الجزم بالاتحاد ، وتفصيل ذلك موكول إلى كتابنا معجم الرجال (١) ، وتكفينا الصحيحة الأُولى.

وفي المقام صحيحة أُخرى دلّت على أن حدّ البعد ثمانية عشر ميلاً عن جهاتها الأربع (٢) ، وذكر صاحب الوسائل في ذيل الحديث أنه لا تنافي بين هذه الصحيحة والصحيحة المتقدّمة ، لأنّ هذه الصحيحة غير صريحة في حكم ما زاد عن ثمانية عشر ميلاً ، وإنما بينت حكم ثمانية عشر ميلاً وهي ساكتة عن حكم ما زاد عن ثمانية عشر ميلاً فتكون موافقة لغيرها فيها وفيما دونها.

ويبعِّده أن الصحيحة في مقام التحديد ويظهر منها قصر الحكم بهذا الحد خاصّة فتكون منافية للصحيحة المتقدّمة. والذي يهوّن الخطب أن هذه الصحيحة لا قائل ولا عامل بها من الأصحاب أبداً. على أنها معارضة بصحيحة زرارة المتقدّمة المشهورة فلا بدّ من طرح هذه الصحيحة المهجورة ، ولصاحب الجواهر كلام (٣) سنتعرّض إليه عن قريب إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٣ : ٥٠.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦١ / أبواب أقسام الحج ب ٦ ح ١٠.

(٣) الجواهر ١٨ : ٦.

١٤٦

وخبره عنه (عليه السلام) : سألته عن قول الله عزّ وجلّ (ذلِكَ) إلخ ، قال : لأهل مكّة ليس لهم متعة ولا عليهم عمرة ، قلت : فما حدّ ذلك؟ قال ثمانية وأربعون ميلاً من جميع نواحي مكّة دون عُسْفان وذات عِرق. ويستفاد أيضاً من جملة من أخبار أُخر ، والقول بأن حدّه اثنا عشر ميلاً من كل جانب كما عليه جماعة ضعيف لا دليل عليه إلّا الأصل ، فإن مقتضى جملة من الأخبار وجوب التمتّع على كل أحد والقدر المتيقن الخارج منها من كان دون الحد المذكور ، وهو مقطوع بما مرّ

______________________________________________________

ثمّ إنه قد ورد في الحاضر خبران يدلان على أن العبرة في الحضور إنما هو بدون الميقات لا بالمقدار المذكور وأن الحاضر من كان منزله دون الميقات.

الخبر الأوّل : ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : «في حاضري المسجد الحرام ، قال : ما دون المواقيت إلى مكّة فهو حاضري المسجد الحرام ، وليس لهم متعة» (١).

الثاني : صحيح حماد «في حاضري المسجد الحرام ، قال : ما دون الأوقات إلى مكّة» (٢). ولكن لا يمكن العمل بهاتين الروايتين لعدم القائل بهما منا ومخالفتهما للمتسالم عليه بين أصحابنا فلا بدّ من طرحهما أو حملهما على ما دون المواقيت كلّها. هذا مضافاً إلى ضعف الخبر الأوّل سنداً ، لأنّ الموجود في السند على ما في الوسائل أبو الحسن النخعي وهكذا في التهذيب المطبوع حديثاً (٣) ، وفي بعض نسخ التهذيب أبو الحسين النخعي وهو لقب أيوب بن نوح بن دراج الثقة ، أمّا أبو الحسن فهو مجهول ، فيدور الراوي بين الموثق وغيره وتسقط الرواية بذلك عن الاعتبار.

وقد استدلّ على أنّ حدّ البعد الموجب للتمتع اثنا عشر ميلاً من كل جانب بوجوه.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٠ / أبواب أقسام الحج ب ٦ ح ٤.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦٠ / أبواب أقسام الحج ب ٦ ح ٥.

(٣) التهذيب ٥ : ٣٣ / ٩٩.

١٤٧

أو دعوى أنّ الحاضر مقابل للمسافر والسفر أربعة فراسخ وهو كما ترى ، أو دعوى أنّ الحاضر المعلق عليه وجوب غير التمتّع أمر عرفي والعرف لا يساعد على أزيد من اثني عشر ميلاً ، وهذا أيضاً كما ترى ، كما أنّ دعوى أنّ المراد من ثمانية وأربعين التوزيع على الجهات الأربع فيكون من كل جهة اثنى عشر ميلاً منافية لظاهر تلك الأخبار ، وأمّا صحيحة حريز الدالّة على أن حدّ البعد ثمانية عشر ميلاً فلا عامل بها ، كما لا عامل بصحيحتي حمّاد بن عثمان والحلبي الدالّتين على أنّ الحاضر من كان دون المواقيت إلى مكّة.

______________________________________________________

الأوّل : العمومات الدالّة على وجوب التمتّع على كل مكلف كصحيحة الحلبي : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لأنّ الله تعالى يقول (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فليس لأحد إلّا أن يتمتّع ، لأنّ الله أنزل ذلك في كتابه وجرت به السنّة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)» (١). والقدر المتيقن الخارج منها من كان دون الحد المذكور ، فمن كان فوق الحد يشمله العمومات.

وفيه أوّلاً : أن العمومات تخصص بما دلّ على التحديد بثمانية وأربعين ميلاً كصحيحة زرارة المتقدّمة.

وثانياً : أنّ العمومات لا إطلاق لها من هذه الجهة أي ثبوت المتعة على كل مكلف وإنما هي ناظرة إلى حكم النائي في قبال العامّة القائلين بجواز الإفراد أو القرآن للنائي وهذه الروايات في مقام الرد عليهم وأن النائي لا يجوز له إلّا التمتّع.

الثاني : ما استدل به صاحب الجواهر (٢) بالآية وحاصله : أن موضوع التمتّع من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وموضوع الإفراد والقران هو الحاضر ، ومقابل الحاضر هو المسافر ، فمعنى الآية أن من أراد زيارة البيت الحرام ولم يكن حاضراً وصدق عليه المسافر فوظيفته التمتّع ، وإذا كان حاضراً ولم يصدق عليه عنوان المسافر

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٤٠ / أبواب أقسام الحج ب ٣ ح ٢.

(٢) الجواهر ١٨ : ٦.

١٤٨

وهل يعتبر الحدّ المذكور من مكّة أو من المسجد؟ وجهان ، أقربهما الأوّل (*) ومن كان على نفس الحد فالظاهر أن وظيفته التمتّع ، لتعليق حكم الإفراد والقران على ما دون الحد ، ولو شكّ في كون منزله في الحد أو خارجه وجب عليه الفحص ومع عدم تمكّنه يراعي الاحتياط وإن كان لا يبعد القول (**) بأنّه يجري عليه حكم الخارج فيجب عليه التمتّع ، لأنّ غيره معلق على عنوان الحاضر وهو

______________________________________________________

فالواجب عليه الإفراد أو القرآن ، فلا بدّ من ملاحظة حدّ السفر الموجب للقصر ، وقد حقق في محلّه أن حدّ السفر أربعة فراسخ أي مقدار اثني عشر ميلا.

وبتعبير آخر : كل من كان دون الحد كما يجب عليه التمام لعدم صدق المسافر عليه كذلك يجب عليه الإفراد أو القرآن لصدق الحاضر عليه ، ومن كان فوق الحد يصدق عليه المسافر فيجب عليه التمتّع ، فالعبرة بصدق عنوان المسافر والحاضر.

ويرد عليه أوّلاً : أن التحديد بأربعة فراسخ ليس من جهة دخل ذلك في صدق عنوان السفر ، فإن موضوع السفر لم يحدد بأربعة فراسخ لا لغة ولا عرفاً ، وإنما التحديد راجع إلى تخصيص الحكم بالنسبة إلى قصر الصلاة وتمامها.

وثانياً : أنّ الآية الكريمة غير ناظرة إلى الحضور مقابل السفر وإنما تنظر إلى الحضور في البلد الحرام في قبال الغياب عنه والحضور في غيره ، فالمراد من قوله تعالى (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١) من لم يكن من أهل مكّة وسكنتها ، وذلك يصدق على من كان يسكن غير بلدة مكّة سواء كان قريباً أو بعيدا.

وإن شئت قلت : إن المكلفين على قسمين ، قسم يسكن مكّة المكرّمة وقسم يسكن غير بلدة مكّة ، والآية ناظرة إلى تقسيم المكلفين إلى قسمين من حيث مسكنهم وأوجب الله تعالى التمتّع على من لم يكن من سكنة مكّة المعظمة.

__________________

(*) بل الثاني.

(**) هذا هو الصحيح ، وعليه فلا يجب الفحص مع الشك ، كما لا يجب الاحتياط مع عدم التمكن منه.

(١) البقرة ٢ : ١٩٦.

١٤٩

مشكوك ، فيكون كما لو شكّ في أن المسافة ثمانية فراسخ أو لا فإنه يصلي تماماً لأنّ القصر معلق على السفر وهو مشكوك. ثمّ ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى حجّة الإسلام حيث لا يجزئ للبعيد إلّا التمتّع ولا للحاضر إلّا الإفراد أو القرآن ، وأمّا بالنسبة إلى الحج الندبي فيجوز لكل من البعيد والحاضر كل من الأقسام الثلاثة بلا إشكال وإن كان الأفضل اختيار التمتّع ، وكذا بالنسبة إلى الواجب غير حجّة الإسلام كالحج النذري وغيره.

______________________________________________________

ولو كنّا نحن والآية المباركة لكان مقتضاها وجوب التمتّع على من لم يكن من سكنة مكّة المكرّمة ، سواء كان ساكناً في بلد قريب دون الحد المذكور أو كان ساكناً في البلاد البعيدة ، ولكن النصوص حددت البعد بثمانية وأربعين ميلاً وألحقت الساكنين في هذا الحد بالساكن في نفس مكّة. ويؤكد ما ذكرناه أن عدم الحضور في المسجد الحرام لم يلاحظ في الآية المباركة بالنسبة إلى الحاج نفسه وأنه إذا كان حاضراً وكانت وظيفته إتمام الصلاة كانت وظيفته التمتّع ، وإنما لوحظ بالنسبة إلى أهله الساكنين في بلاد آخر غير مكّة وليسوا بحاضرين في المسجد الحرام.

الثالث : أن عنوان الحضور المأخوذ في الآية الكريمة عنوان عرفي ولا يصدق على من كان بعيداً عن مكّة باثني عشر ميلاً ، بل يصدق عليه أنه ممن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فيجب عليه التمتّع.

وفيه : أن عدم صدقه عليه عرفاً وإن كان صحيحاً ولكنه لا يختص به بل يعم من بعد عن مكّة بأقل من ذلك أيضاً ، ومن هنا قلنا بأنه لو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا باختصاص فريضة التمتّع بمن لم يكن من سكنة مكّة المكرّمة ، سواء كان ساكناً في بلد قريب أو بلد بعيد ، وإنما تعدينا عن ذلك من جهة صحيح زرارة المتقدِّم (١).

ثمّ إنّه لو أغمضنا النظر عن الصحيح المتقدّم لأمكن الاستدلال للقول المذكور

__________________

(١) في ص ١٤٥.

١٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بوجه آخر أولى من الوجوه المتقدّمة وهو أن المستفاد من الآية الشريفة وجوب التمتّع على من لم يكن من سكنة مكّة المعظمة ووجوب الإفراد على من كان منهم ، إلّا أن الإجماع القطعي قام على إلحاق جماعة من المكلفين ممّن بعد عن مكّة بسكنة مكّة إلحاقاً حكمياً كأهالي مر وأهالي سرف (١) كما في النص (٢) ، فمقتضى القاعدة هو الاقتصار على القدر المتيقن في غير الموارد المنصوصة ، فالنتيجة وجوب الإفراد على أهالي مكّة وعلى من كان الفاصل بينه وبين مكّة أقل من اثني عشر ميلاً ووجوب التمتّع على من كان بعيداً من مكّة بمقدار اثني عشر ميلاً أو أكثر.

وهذا الوجه وإن كان أوجه من الوجوه المتقدّمة ولكن مع ذلك لا يمكن الالتزام به أيضاً بالنظر إلى صحيح زرارة المتقدّم الدال على أن الحد الموجب للتمتع هو ثمانية وأربعون ميلاً ، ولا موجب بل ولا مجوز لرفع اليد عنه بعد تماميته سنداً ودلالة ، وأمّا حمله على الجوانب الأربعة فقد عرفت أنه من أضعف المحامل.

ثمّ إنه ينبغي التكلم في جهات تعرض لها المصنف (قدس سره) :

الاولى : هل يعتبر الحد المذكور من بلدة مكّة أو من المسجد؟ وجهان بل قولان. الظاهر أن العبرة بنفس المسجد لا البلد ، وذلك لأنّ عمدة ما استدلّ به للتحديد المذكور إنما هو صحيح زرارة المتقدّم الذي فسّر قوله تعالى (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وبيّن المراد منه ، وحيث إن الآية مشتملة على ذكر المسجد الحرام فالتحديد بثمانية وأربعين ميلاً بعد ذكر الآية وبيان المراد منها ظاهر في كون التحديد بالنسبة إلى المسجد ، ولو احتمل كون التحديد بالنسبة إلى البلد باعتبار وجود المسجد الحرام فيه تكون الآية مجملة لعدم ظهورها في كون التحديد بالنسبة إلى البلد أو المسجد ، فلا بدّ حينئذ من الاقتصار على القدر المتيقن في الخروج عن العمومات المقتضية لوجوب التمتّع على كل أحد وهو كون الاعتبار بنفس المسجد.

__________________

(١) مر : اسم موضع على مرحلة من مكّة. سرف : مثال كتف موضع قريب من التنعيم وهو عن مكّة عشرة أو تسعة أو سبعة أميال. معجم البلدان ٤ : ٦٣ ، ٣ : ٢١٢.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٥٨ / أبواب أقسام الحج ب ٦ ح ١.

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : أنه لا ريب في أن مقتضى العمومات وجوب التمتّع على جميع المكلفين ففي صحيحة الحلبي : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لأنّ الله تعالى يقول (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فليس لأحد إلّا أن يتمتّع» (١). وقد دلّت الآية المباركة على اختصاص ذلك بغير سكنة مكّة ، فكلما دلّ الدليل على إلحاق غير من يسكن مكّة بالساكن فيها فهو وإلّا كان حكمه وجوب التمتّع لا محالة وبما أن من بعد عن المسجد الحرام بأكثر من ثمانية وأربعين ميلاً وإن كان الفصل بينه وبين مكّة بأقل من هذا الحد وجب عليه التمتّع لعدم الدليل على خروجه من العموم فإن المخصص مجمل مردد بين الأقل والأكثر فلا بدّ من الاقتصار في التخصيص على الأقل المتيقن ، فالنتيجة تحديد البعد بالنسبة إلى المسجد.

الثانية : من كان منزله على نفس الحد فهل يجب عليه التمتّع أو الإفراد؟ الظاهر هو الأوّل ، وذلك لأنّ المستفاد من صحيح زرارة أن موضوع الحكم لوجوب الإفراد من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ، وأمّا إذا كان على نفس الحد فلا يصدق عليه أنه دون الحد المذكور فيشمله حكم العام وهو وجوب التمتّع على كل أحد ، ولو شك يجري ما تقدّم من الأخذ بالقدر المتيقن ، لأنّ المخصص مجمل مردد بين الأقل والأكثر ولا دليل على إلحاق من كان على نفس الحد بأهالي مكّة ، فالمرجع نفس الآية الدالّة على وجوب التمتّع على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

الثالثة : الظاهر أن العبرة في التحديد بمبدإ بلده لا بمنزله وبيته الذي يسكنه ، فحكم ساكن الدار الواقعة في أوّل البلد حكم ساكن الدار الواقعة في آخر البلد ، فلا يختلف حكم سكان بلدة واحدة باعتبار اختلاف منازلهم قرباً أو بعداً ، وذلك لأنه الظاهر من جعل الحد بين المكلف الذي يختلف في أرجاء بلده وبين المسجد الحرام ، ولا خصوصية للدار أو الدكان وما شاكلهما.

الرابعة : لو شكّ في كون منزله في الحد أو في خارجه سواء كان ساكناً في البلاد أو البادية ، ذكر في المتن أنه يجب عليه الفحص ومع عدم تمكنه يراعي الاحتياط ثمّ قال :

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٤٠ / أبواب أقسام الحج ب ٣ ح ٢.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان لا يبعد القول بإجراء حكم الخارج عليه فيجب عليه التمتّع ، لأنّ غيره معلق على عنوان الحاضر وهو مشكوك ، فيكون المقام نظير ما لو شكّ في أن المسافة ثمانية فراسخ أو لا ، فإنه يصلي تماماً لأنّ القصر معلق على السفر وهو مشكوك.

أقول : ما ذكره أخيراً من وجوب التمتّع عليه وعدم وجوب الفحص هو الصحيح لإحراز موضوع التمتّع وهو عدم كونه حاضراً ، بالأصل ولو بالعدم الأزلي بناءً على ما اخترناه في محلّه (١) من إمكان جريان الأصل في الأعدام الأزلية ، لأنّ كل شي‌ء مسبوق بالعدم ولو أزلاً فلا مانع حينئذ من إجراء أصل العدم ، نظير أصالة عدم القرشية التي تثبت عدم كون المرأة متصفة بالقرشية وإن لم تثبت الانتساب إلى غير قريش ، وتفصيل الكلام موكول إلى محله ، وعليه فلا موجب للفحص ، لإحراز الموضوع بالأصل ، على أنه لا دليل على الفحص في الشبهات الموضوعية.

هذا مع أنه يمكن إحراز الموضوع بالأصل النعتي وتقريبه : أن صفة الحضور والوطنية للشخص قد تتحقّق باتخاذ نفسه بلداً وطناً له ، وقد تتحقّق بمرور زمان على سكناه في بلد كما إذا سكن فيه مدّة خمسين سنة فإن البلد يكون وطناً له قهراً ، وقد تتحقق باتخاذ متبوعه التوطن في البلد الفلاني كوالده أو جدّه أو مولاه ، فليست الوطنية من الصفات الذاتيّة كالقرشية وإنما هي من الصفات العرضية ، بمعنى أن الشي‌ء يوجد أوّلاً ثمّ يعرض عليه صفة الوطنية ، وهذا بخلاف القرشية فإن الشخص يوجد أوّلاً أما قرشياً أو غير قرشي وليست عارضة بالمعنى المتقدّم ، فالوطنية تنشأ إما باختيار نفسه أو باختيار متبوعه وتكون من الصفات العارضة المسبوقة بالعدم فنقول : إن الحد المتقدّم لم يكن وطناً له باتخاذ نفسه ولا بتبع أبيه أو مولاه في زمان والآن كذلك ، فلا موجب للفحص بعد إحراز الموضوع بأصل العدم الأزلي أو النعتي نعم لو فرضنا عدم جريان الأصل أصلاً يجب الفحص للعلم الإجمالي ، فإن تبيّن الأمر وتعينت الوظيفة فهو وإلّا فالاحتياط.

وقد وقع الكلام في المقام في إمكان الاحتياط ، وربّما قيل بعدم إمكانه لأنّ

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٢٠٧.

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجوب فوري ولا يمكن الجمع بين المحتملين التمتّع والإفراد في سنة واحدة.

وقد ذكر سيّدنا الأُستاذ (دام ظلّه الشّريف) طرقاً للاحتياط :

الأوّل : أن يحرم من الميقات قاصداً للجامع بين العمرة والحج فيدخل مكّة ويأتي بأعمال العمرة ثمّ يحرم للحج احتياطاً ، فإن كان حجّه التمتّع فقد أتى بأعماله ، وإن كان حجّه الأفراد فقد أتى بالإحرام الأوّل ويكون الإحرام الثاني للحج ملغى ، ثمّ يأتي بعمرة مفردة بعد الحج ، فحينئذ تفرغ ذمّته سواء كان عليه التمتّع أو الإفراد.

يبقى الكلام في التقصير لعدم جوازه له بناءً على الإفراد ووجوبه عليه بناءً على التمتّع ، فالتقصير أمره دائر بين المحذورين لأنه إمّا واجب أو حرام ، والحكم فيه التخيير ولكن لأجل الاحتياط في المقام يختار التقصير ، فلو كان حجّه تمتّعاً فقد أتى بما وجب عليه وإن كان إفراداً فلا يترتب على تقصيره سوى الكفّارة لا فساد الحج.

الطريق الثاني : أن ينوي بإحرامه من الميقات عمرة التمتّع التي تتقدّم على الحج فيأتي بأعمال العمرة وبعد الفراغ يحرم لحج التمتّع من مكّة ثمّ يخرج من مكّة إلى أحد المواقيت ، فإن الخروج من مكّة وإن لم يكن جائزاً لأنه محتبس ومرتهن بالحج لكن يجوز له الخروج لحاجة ، ولا ريب أن الخروج لأجل تحصيل الجزم بالإتيان وتفريغ الذمّة على وجه اليقين من أوضح الحاجات ، فيحرم ثانياً للحج ، فإن كانت وظيفته التمتّع فقد أتى بجميع ما يعتبر فيه ويكون الإحرام الثاني للحج ملغى ، وإن كانت الإفراد فقد أتى بالإحرام الثاني للحج وتكون عمرته للتمتّع لغواً ثمّ يأتي بعمرة مفردة ، وبذلك يحصل الجزم بالفراغ ، وهذا الوجه أوجه من الأوّل ولعله متعيّن.

الطريق الثالث : أنّه بناءً على جواز تقديم العمرة على الحج حتى في الحج الأفرادي يمكن الاحتياط بوجه آخر ، وهو أن يأتي بالعمرة أوّلاً بقصد الجامع بين عمرة التمتّع والإفراد ، ويأتي بطواف النساء بعد أعمال العمرة لاحتمال كون عمرته عمرة مفردة ثمّ يأتي بإحرام الحج ، فإن كانت وظيفته التمتّع فقد أتى بأعماله من العمرة والحج ، وإن كانت وظيفته الإفراد فقد أتى بعمرة مفردة وطواف النساء وبأعمال الحج لأنّ المفروض جواز تقديم العمرة على الحج الأفرادي ، فلا حاجة إلى إتيان العمرة المفردة بعد الفراغ

١٥٤

[٣٢٠٤] مسألة ١ : من كان له وطنان أحدهما في الحد والآخر في خارجه لزمه فرض أغلبهما (١) لصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «من أقام بمكّة سنتين فهو من أهل مكّة ولا متعة له ، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أرأيت إن كان له أهل بالعراق وأهل بمكّة ، فقال (عليه السلام) : فلينظر أيّهما الغالب» فإن تساويا فإن كان مستطيعاً من كل منهما تخيّر بين الوظيفتين (*) وإن كان الأفضل اختيار التمتّع ، وإن كان مستطيعاً من أحدهما دون الآخر لزمه فرض وطن الاستطاعة (٢).

______________________________________________________

من أعمال الحج كما ذكرنا في الطريق الثاني.

ثمّ إن تقسيم المكلف إلى قسمين قسم يتعيّن عليه التمتّع وقسم آخر يتعيّن عليه الإفراد أو القرآن إنما هو بالنسبة إلى حج الإسلام ، وأمّا الحج الندبي فيجوز لكل من البعيد والحاضر الأقسام الثلاثة بلا إشكال وقد عقد في الوسائل باباً مستقلا لذلك والروايات في ذلك متضافرة (١) وإن كان اختيار التمتّع أفضل ، وكذلك الحج الواجب بالنذر ونحوه إذا لم يكن مقيّداً بقسم خاص ، نعم الحج الواجب بالإفساد كالأصلي وتابع له وحكمه حكمه فاللازم مطابقته له.

(١) هذا ممّا لا إشكال فيه للصحيحة المذكورة في المتن (٢).

(٢) من كان له منزلان أحدهما بمكّة والآخر في غيرها من البلاد البعيدة وتساوت الإقامة فيهما ، سواء أقام في بلد ستّة أشهر وفي بلد آخر ستّة أشهر أُخرى ، أو أقام في بلد أربعة أشهر وفي بلد آخر أربعة أشهر أُخرى مثلاً وفي بقيّة الأشهر تجوّل في البلاد ولم يستقر في بلد خاص ، فقد حكم المصنف بالتخيير بين الأقسام الثلاثة إذا كان مستطيعاً من البلدين وإلّا لزمه فرض وطن الاستطاعة.

__________________

(١) بل الأحوط الإتيان بالإفراد أو القرآن فيه وفيما بعده.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٤٦ / أبواب أقسام الحج ب ٤.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٦٥ / أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ١.

١٥٥

[٣٢٠٥] مسألة ٢ : من كان من أهل مكّة وخرج إلى بعض الأمصار ثمّ رجع إليها فالمشهور جواز حج التمتّع له وكونه مخيراً بين الوظيفتين (١) واستدلوا بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «عن رجل من أهل مكّة يخرج إلى بعض الأمصار ثمّ يرجع إلى مكّة فيمرّ ببعض المواقيت إله

______________________________________________________

ويستدل له بأنّ أدلّة تعيين قسم خاص من الحج لا تشمل مثل هذا الشخص ومنصرفة عنه من جهة عدم استقراره في بلد خاص فيشمله حينئذ إطلاق ما دلّ على وجوب الحج ونتيجته التخيير ، إلّا أنه لو تمّ ذلك لكان مقتضاه التخيير مطلقاً من دون فرق بين حصول الاستطاعة في البلدين أو في أحدهما ، فلو كان له منزل في العراق مثلاً وآخر بمكّة واستطاع فيها يجوز له التمتّع وكذلك العكس ، فلا يبتني التخيير على الاستطاعة في البلدين ، هذا.

ولكن الالتزام بالتخيير لا يخلو من إشكال بل منع ، وذلك لأنّ مقتضى الأدلّة وجوب التمتّع على من لم يكن حاضر المسجد ولم يكن من أهالي مكّة ووجوب الإفراد والقران على من كان حاضراً وكان من أهالي مكّة ، فموضوع أحد الواجبين إيجابي وموضوع الآخر سلبي ، ولا يمكن التخيير في مثل ذلك.

نعم ، إذا كان موضوع كل واحد منهما إيجابياً وكان المورد مجمعاً بين العنوانين لأمكن التخيير بينهما ، بخلاف ما إذا كان موضوع أحدهما سلبياً وموضوع الآخر إيجابياً فحينئذ لا يمكن الجمع بينهما فلا مورد للتخيير بين الأمرين ، والمفروض أن موضوع حج التمتّع من لم يكن حاضراً وهو العنوان السلبي وموضوع الإفراد من كان حاضراً وهو العنوان الإيجابي ، وكل من الدليلين مطلق من حيث اتخاذ وطن آخر أم لا ، فمن كان من أهالي مكّة وصدق عليه الحاضر لا يصدق عليه العنوان السلبي لاستحالة الجمع بين النقيضين فلا يتحقق موضوع حج التمتّع ، وحيث يصدق عليه العنوان الإيجابي وهو الحضور يتعين عليه القرآن أو الإفراد ، ولا أقل من أن الإتيان بالإفراد أو القرآن بالنسبة إليه أحوط.

(١) من كان من أهل مكّة وبعد عنها ثمّ أراد الحج فهل يحج متعة أو إفراداً؟

١٥٦

أن يتمتّع؟ قال (عليه السلام) : ما أزعم أن ذلك ليس له لو فعل ، وكان الإهلال أحبّ إلى» ، ونحوها صحيحة أُخرى عنه وعن عبد الرحمن بن أعين عن أبي الحسن (عليه السلام) ، وعن ابن أبي عقيل عدم جواز ذلك وأنه يتعين عليه فرض المكي إذا كان الحج واجباً عليه وتبعه جماعة لما دلّ من الأخبار على أنه لا متعة لأهل مكّة ، وحملوا الخبرين على الحج الندبي بقرينة ذيل الخبر الثاني ، ولا يبعد قوّة هذا القول (*) ، مع أنّه أحوط لأنّ الأمر دائر بين التخيير والتعيين ومقتضى الاشتغال هو الثاني (**) خصوصاً إذا كان مستطيعاً حال كونه في مكّة فخرج قبل الإتيان بالحج ، بل يمكن أن يقال : إنّ محل كلامهم صورة حصول الاستطاعة بعد الخروج عنها ، وأمّا إذا كان مستطيعاً فيها قبل خروجه منها فيتعيّن عليه فرض (***) أهلها.

______________________________________________________

قولان ، فعن المشهور جواز حج التمتّع له أيضاً وإمكان إجراء حكم النائي عليه ، فإنّ النائي كما يلحق بالحاضر أحياناً كالمقيم سنتين في مكّة كذلك الحاضر قد يلحق بالنائي ، وذهب ابن أبي عقيل إلى عدم جواز ذلك له وأنه يتعيّن عليه فرض المكي (١) وتبعه جماعة بدعوى أن التمتّع فرض النائي وهذا الشخص ليس بالنائي.

وقد استدلّ المشهور بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : «سألته عن رجل من أهل مكّة يخرج إلى بعض الأمصار ثمّ يرجع إلى مكّة فيمر ببعض المواقيت إله أن يتمتّع؟ قال : ما أزعم أن ذلك ليس له لو فعل ، وكان الإهلال أحبّ إليّ» (٢) وبصحيحة اخرى عنه وعن عبد الرحمن بن أعين ، قالا :

__________________

(١) بل الأقوى ما عليه المشهور.

(٢) بل مقتضى الأصل هو الأوّل لأنه من صغريات دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

(٣) الظاهر عدم التعيّن.

(٤) المختلف ٤ : ٥٩.

(٥) الوسائل ١١ : ٢٦٣ / أبواب أقسام الحج ب ٧ ، ح ٢.

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

«سألنا أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل من أهل مكّة خرج إلى بعض الأمصار ثمّ رجع فمر ببعض المواقيت التي وقت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) له أن يتمتّع؟ فقال : ما أزعم أن ذلك ليس له ، والإهلال بالحج أحبّ إليّ» (١) فما ورد من أنّه لا متعة للحاضر وليس لأهل مكّة متعة (٢) يخصص بهاتين الصحيحتين.

وقد أجاب المصنف وغيره عن الخبرين بحملهما على الحج الندبي بقرينة ذيل الخبر الثاني ، فإنّ مورده الندب ، وذكر بعضهم أن الخبرين مطلقان من حيث قصد الحج من البعيد والقريب فيعارض إطلاقهما بإطلاق ما دلّ على أنه ليس لأهل مكّة متعة ، فإنه أيضاً مطلق من حيث الحج الواجب والندب ، والنسبة عموم من وجه ويقع التعارض بينهما في الحج الواجب إذا قصده من البعيد ، ومقتضى الصحيحين جواز التمتّع له ومقتضى إطلاق ما دلّ على المنع من المتعة لأهل مكّة عدم جوازه له فيتساقط الإطلاقان ، ولكن ذكر في الرياض انتصاراً لابن أبي عقيل بأنه يرجّح التصرّف في المعارض وهو «لا متعة لأهل مكّة» لموافقته للكتاب والسنّة (٣).

أقول : الظاهر عدم إمكان حمل الصحيحين على الحج الندبي لوجهين :

الأوّل : أن قوله (عليه السلام) : «ما أزعم أن ذلك ليس له لو فعل» لا يلائم المندوب ، إذ لو كان السؤال في الخبرين عن الحج الندبي فلا ريب في جواز التمتّع له فهذا التعبير ظاهر في أن مورد السؤال هو الحج الواجب. على أن جواز التمتّع فيما إذا كان الحج ندبياً أمر مسلم يعرفه كل أحد ولا حاجة إلى السؤال خصوصاً من مثل عبد الرحمن الذي هو من أكابر الرواة.

الثاني : أن قوله (عليه السلام) : «وكان الإهلال أحب إلى» لا ينسجم مع الندبي إذ لو كان مورد السؤال الحج الندبي فلا ريب في أفضلية التمتّع عن الإفراد لا الإهلال بالحج الذي أُريد به الإفراد.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦٣ / أبواب أقسام الحج ب ٧ ، ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٥٨ / أبواب أقسام الحج ب ٦.

(٣) رياض المسائل ٦ : ١٧١.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا ذيل الخبر الثاني فلا إشكال في أن مورده الندب ولكن قوله : «ورأيت من سأل أبا جعفر (عليه السلام) وذلك أوّل ليلة من شهر رمضان إلخ» ليس من تتمة الخبر ولا يرتبط بصدره ولا يصح أن يكون قرينة له ، بل هو خبر مستقل آخر وذلك لأنّ هذا الكلام «ورأيت من سأل أبا جعفر (عليه السلام)» لا يمكن أن يكون من كلام أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، فإنه (عليه السلام) ولد بعد أربعة عشر عامّاً من وفاة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) (١) ، فالظاهر أن قائل هذا الكلام هو الراوي وهو عبد الرحمن فيكون خبراً مستقلا مروياً عن أبي جعفر (عليه السلام) وارداً في الندب اندمج أحدهما بالآخر ولا يرتبط بصدره فلا يصلح لكونه قرينة له.

وبالجملة : ظاهر الخبرين الصحيحين هو الحج الواجب ، وبهما نقيد العمومات المانعة عن المتعة لأهل مكّة ، فالنتيجة جواز التمتّع له وإن كان الإفراد أفضل وأحب.

ثمّ إنّه لو سلمنا عدم ظهور الصحيحين في الحج الواجب فلا أقل من إطلاقهما للواجب والمندوب خصوصاً الصحيحة التي رواها الكليني (٢) مع اختصاصهما بإرادة الحج من الخارج ، كما لا ريب في إطلاق ما دلّ على المنع من التمتّع الواجب لأهل مكّة من جهة إرادة الحج من مكّة أو من خارجها ، فمقتضى إطلاق الصحيحين جواز التمتّع له حتى في الحج الواجب من الخارج ، كما أن مقتضى إطلاق ما دلّ على أنه لا متعة لأهل مكّة عدم جواز التمتّع له وإن حج من الخارج ، ويتعارض الإطلاقان من الطرفين ويتساقطان ، ولا يمكن الرجوع إلى إطلاق الآية الكريمة (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لأنها في جانب الأخبار المعارضة ، وحينئذ لا يكون إطلاق الآية مرجعاً ولا مرجحاً لأحد الطرفين كما توهّمه السيّد في الرياض ، وقد ذكرنا تفصيل الأمر في الترجيح بالكتاب في مبحث التعادل والترجيح في علم الأُصول (٣).

__________________

(١) توفي الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) سنة ١١٤.

(٢) في الكافي ٤ : ٣٠٠ / ٥.

(٣) لاحظ مصباح الأُصول ٣ : ٤٠٨.

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وملخّصه : أن الترجيح بالكتاب إنما هو فيما إذا كانت دلالة الكتاب دلالة لفظيّة وأمّا إذا كانت الدلالة بالإطلاق فقاعدة الترجيح بالكتاب غير جارية ، إذ ليس ذلك مدلولاً لفظياً للكتاب ، لأنّ الإطلاق مستفاد من قيد عدمي ، والعدمي ليس من القرآن ليكون مرجعاً أو مرجحاً لأحد الطرفين.

وبتعبير آخر : مورد الرجوع إلى القرآن والترجيح به إنما هو فيما إذا كان عدم العمل بالقرآن منافياً للظهور اللفظي بحيث يصدق أنه قال الله تعالى كذا في الكتاب وهذا المعنى لا يصدق على مجرّد الإطلاق المستفاد من مقدّمات الحكمة.

وعليه فلا مجال للرجوع إلى إطلاق الكتاب لسقوطه بالتعارض ، فالمرجع إطلاق ما دلّ على أصل وجوب الحج المقتضي للتخيير بين الأقسام الثلاثة ، فإن الواجب إنما هو طبيعي الحج ، والتقييد ببعض الأقسام قد سقط بالمعارضة على الفرض.

ولو أغمضنا عما ذكرنا وقلنا بعدم إمكان الرجوع إلى الآيات الدالّة على وجوب أصل الحج بدعوى أنها في مقام التشريع ولا إطلاق لها من ناحية ثبوت الأحكام فتصل النوبة إلى الأصل العملي ، وقد قيل إن مقتضاه الاشتغال لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فيتعيّن عليه الإفراد لأنّه موجب للفراغ قطعاً بخلاف التمتّع ، ولكن قد ذكرنا في محلّه (١) أنّ الشك في التعيين والتخيير إنما يقتضي الاشتغال في مورد التزاحم وفي موارد الشك في الحجية ، وأمّا في موارد الشك في التكليف كالقصر والإتمام التي يدور أمر الواجب بين التعيين والتخيير فمقتضى الأصل هو البراءة عن التعيين ، لأنّ المورد من صغريات دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فإن الطبيعي الجامع معلوم الوجوب وتقييده بخصوص أحدهما مشكوك فيه وهو أمر زائد والأصل يقتضي البراءة عنه ، فما ذكروه من أن الشك في التعيين والتخيير يقتضي الاشتغال لا أساس له.

فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من جواز التمتّع له أيضاً إمّا للإطلاقات وإمّا لأصالة البراءة عن الخصوصية.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٥٧.

١٦٠