موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

.................................................................................................

______________________________________________________

ولبيت كان لك بكل تلبية لبيتها عشر حسنات إلى أن يقول ـ (صلّى الله عليه وآله وسلم) : فإذا سعيت بين الصّفا والمروة كان لك مثل أجر من حج ماشياً» (١) إلخ ورواه الصدوق في الفقيه نحوه (٢) ومن الواضح أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) في مقام بيان الثواب لإعمال الحج ومناسكه ، فلا يستفاد من ذلك ترتب الثواب على كل واحد من الأفعال مستقلا ولو لم يكن في ضمن الحج.

واستدلّ أيضاً لاستحباب السعي لنفسه بخبر أبي بصير ، قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ما من بقعة أحبّ إلى الله من المسعى ، لأنه يذل فيه كل جبّار» (٣).

وفيه : أنه يدل على فضيلة للمسعى وأن المكان مكان شريف مبارك حيث يذل فيه الجبابرة لمشيهم وهرولتهم ونحو ذلك في المسعى ، ولا يدل على فضيلة لنفس السعي.

ثمّ إنّ المذكور في السند على ما في الوسائل محمّد بن الحسين عن محمّد بن مسلم عن يونس عن أبي بصير فتكون الرواية معتبرة ، ولكن الرواية مروية في العلل (٤) وفيه محمّد بن أسلم بدل محمّد بن مسلم وكذا في الكافي (٥) والوافي (٦) وهو الصحيح ، إذ لم تثبت رواية محمّد بن الحسين عن محمّد بن مسلم ولا رواية محمّد بن مسلم عن يونس عن أبي بصير ، فتكون الرواية ضعيفة على مسلك المشهور لأنّ محمّد بن أسلم لم يوثق في الرجال ، ولكن الرواية موثقة على المختار لأنّه من رجال كامل الزيارات ، فالعمدة ضعف الدلالة كما عرفت.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٠ / ٥٧.

(٢) الفقيه ٢ : ١٣١ / ٥٥١.

(٣) الوسائل ١٣ : ٤٦٧ / أبواب السعي ب ١ ح ٢. ٠

(٤) العلل : ٤٣٣ / ٢.

(٥) الكافي ٤ : ٤٣٤ / ٣.

(٦) الوافي ١٣ : ٩٣٢ / ١٣٤٧٦.

١٢١

[٣١٨٥] مسألة ١٧ : لو كان عند شخص وديعة ومات صاحبها وكان عليه حجّة الإسلام وعلم أو ظن (*) أن الورثة لا يؤدون عنه إن ردّها إليهم جاز بل وجب عليه أن يحجّ بها عنه ، وإن زادت عن اجرة الحج ردّ الزيادة إليهم لصحيحة بريد : «عن رجل استودعني مالاً فهلك وليس لوارثه شي‌ء ولم يحجّ حجّة الإسلام قال (عليه السلام) : حجّ عنه وما فضل فأعطهم» ، وهي وإن كانت مطلقة إلّا أنّ الأصحاب قيّدوها بما إذا علم أو ظنّ بعدم تأديتهم لو دفعها إليهم (١).

______________________________________________________

(١) هذا الحكم في الجملة مما لا خلاف فيه ، والصحيحة المذكورة في المتن (١) واضحة الدلالة ، إلّا أنه يقع الكلام في جهات تعرض إليها المصنف.

الاولى : أن الصحيحة مطلقة تشمل حتى صورة احتمال تأدية الوارث الحج ، ولكن الأصحاب قيّدوها بما إذا علم الودعي أو ظن بعدم تأدية الورثة الحج لو دفع المال إليهم ، وأمّا إذا احتمل تأديتهم له فيدفع المال إليهم.

والظاهر أنه لا وجه لهذا التقييد ، فإن الظن لا يعبأ به لأنه لو كان معتبراً فهو ملحق بالعلم وإلّا فحاله حال الشك. وكيف كان ، لا موجب لرفع اليد عن إطلاق الصحيحة بل مقتضى إطلاقها وجوب صرف المال في الحج على الودعي وإن احتمل تأدية الوارث له ، ولا أثر للاحتمال بعد إطلاق الصحيحة ، نعم لو علم بأن الوارث يؤدي الحج فالرواية منصرفة عن هذه الصورة ، فإثبات الولاية للودعي وجواز التصرف له حتى في صورة العلم بالأداء مشكل.

الثانية : هل يحتاج تصرف الودعي في المال وصرفه في الحج إلى الاستئذان من الحاكم الشرعي أم لا؟ وجهان ، الظاهر هو العدم لإطلاق النص ولأنّ الظاهر منه أنه في مقام بيان الحكم الشرعي الكلي لهذه المسألة وأن الولاية ثابتة له بأصل الشريعة لا في مقام بيان الإجازة الشخصية من الامام أو الحاكم ، فلا حاجة إلى الاستئذان بعد

__________________

(*) بل ومع احتماله أيضاً.

(١) الوسائل ١١ : ١٨٣ / أبواب النيابة في الحج ب ١٣ ح ١.

١٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

تجويز الشارع وبيان الحكم الإلهي الكلّي.

الثالثة : هل يختص جواز التصرف للودعي بما إذا لم يكن لوارثه مال كما هو مورد النص لقوله (عليه السلام) : «وليس لولده شي‌ء» أم لا؟

الصحيح هو الثاني كما في المتن ، ولا أثر لوجود المال وعدمه للورثة ، فإن الظاهر من النص أن السؤال إنما هو من جهة احتمال صرف الورثة المال في غير الحج وتضييع الحج وتفويته على صاحب المال ، وهذا لا يفرق فيه بين كون الوارث غنياً أو فقيراً فلو فرض أن الوارث غني ذو مال ولكن لا يؤدي الحج عن والده لا يجوز إعطاء المال له ، وإنما ذكر في النص «وليس لولده شي‌ء» لكون ذلك سبباً عاديا لاحتمال صرف الوارث المال على نفسه ، فالمقصود عدم إعطاء المال في مورد يحتمل فيه إضاعة الحج سواء كان الوارث له شي‌ء أم لا.

الرابعة : هل يختص جواز الصرف بحج الودعي نفسه عن صاحب المال أو يجوز له الاستئجار للحج عنه؟ الظاهر عدم الفرق ، لأنّ الغرض تفريغ ذمّة الميت وإرجاع الباقي إلى الوارث ، ففي كل مورد احتمل عدم عمل الوارث بالوظيفة وعدم صرف المال في الحج يجب على الودعي صرفه في الحج عنه مطلقاً ، سواء حج عنه بنفسه أو استأجر شخصاً آخر للحج عنه.

الخامسة : هل يتعدى عن مورد الوديعة إلى غيرها مما يكون المال عنده كالعارية والعين المستأجرة بل والمغصوبة أم لا؟ الظاهر هو الإلحاق ، إذ لا ريب في أن ذكر الوديعة في الصحيحة من باب المثال ولا نحتمل اختصاص الحكم بالوديعة ، والظهور العرفي يقتضي بأن جهة السؤال في الرواية متمحضة في وجود مال عند أحد لم يحج صاحبه فلا خصوصية للوديعة.

السادسة : هل يلحق بحجّة الإسلام غيرها ممّا يجب على الميت؟ فيه كلام. والصحيح أن يقال : إن هذا ينقسم إلى قسمين :

أحدهما : التكاليف المحضة غير المالية وإن احتاج الإتيان بها إلى بذل المال كالصلاة والصوم ونحوهما.

١٢٣

ومقتضى إطلاقها عدم الحاجة إلى الاستئذان من الحاكم الشرعي ، ودعوى أن ذلك للإذن من الإمام (عليه السلام) كما ترى ، لأنّ الظاهر من كلام الإمام (عليه السلام) بيان الحكم الشرعي ، ففي مورد الصحيحة لا حاجة إلى الإذن من الحاكم والظاهر عدم الاختصاص بما إذا لم يكن للورثة شي‌ء ، وكذا عدم الاختصاص بحج الودعي بنفسه لانفهام الأعم من ذلك منها ، وهل يلحق بحجة الإسلام غيرها (*) من أقسام الحج الواجب أو غير الحج من سائر ما يجب عليه مثل الخمس والزّكاة والمظالم والكفّارات والدّين أو لا؟

وكذا هل يلحق بالوديعة غيرها (**) مثل العارية والعين المستأجرة والمغصوبة والدين في ذمّته أو لا؟ وجهان ، قد يقال بالثاني لأنّ الحكم على خلاف القاعدة إذا قلنا إن التركة مع الدين تنتقل إلى الوارث وإن كانوا مكلفين بأداء الدين ومحجورين عن التصرف قبله ، بل وكذا على القول ببقائها معه على حكم مال الميت ، لأنّ أمر الوفاء إليهم فلعلهم أرادوا الوفاء من غير هذا المال أو أرادوا أن يباشروا العمل الذي على الميت بأنفسهم ،

______________________________________________________

ثانيهما : ما يجب عليه أداؤه من الديون الشخصيّة كديون النّاس أو الشرعيّة كالزكاة والخمس والمظالم.

أمّا الأوّل : فلا ينبغي الشك في عدم إلحاقها بحج الإسلام بناءً على المختار من عدم خروجها من أصل التركة لسقوطها بالموت كسائر التكاليف والواجبات الشرعيّة ولا يبعد أن تكون الكفارات من قبيل ذلك ، فحينئذ لا موضوع للبحث بالنسبة إليها نعم بناءً على ما اختاره المصنف من خروجها من أصل التركة كان الحكم فيها هو الحكم في القسم الثاني.

__________________

(*) الظاهر عدم إلحاق سائر أقسام الحج وكذا الكفارات.

(**) الظاهر هو الإلحاق.

١٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثاني : فقد اختار المصنف جواز الصرف مع العلم أو الظن القوي بعدم تأدية الورثة.

وليعلم أوّلاً أن الحكم بجواز الصرف للودعي على خلاف القاعدة ، لأنّ مقتضاها عدم جواز تصرف أحد في مال الغير ، سواء قلنا بعدم انتقال المال بمقدار الدين إلى الوارث وبقائه على ملك الميت أو قلنا بالانتقال إليه وإن وجب عليه صرفه في دين الميت ، فعلى كل تقدير لا يجوز لأحد أن يتصرف في هذا المال ، أما على القول بأن التركة مع الدين تنتقل إلى الوارث وإن كانوا مكلفين بأداء الدين ومحجورين عن التصرف قبل الأداء فالأمر واضح ، لأنّ المال ملك للورثة فلا يجوز للودعي ولا لغيره التصرف فيه بدون إذنهم ، وإن قلنا بعدم انتقال المال إليهم وبقائه على ملك الميت فلا يجوز له التصرف فيه أيضاً ، لأنّ المال وإن لم ينتقل إلى الورثة ولكن الولاية ثابتة لهم ، لأنّ أمر الوفاء يرجع إليهم فلعلهم أرادوا الوفاء من غير هذا المال ، بل الوارث في صورة عدم الانتقال بمقدار الدين شريك مع الميت إذا كان المال أزيد من الدين ، مثلاً لو كان دينه مائة دينارٍ وكان المال المتروك مائتين فإن الوارث يكون شريكاً مع الميت حينئذ فكيف يجوز لغيره تقسيمه والتصرّف فيه.

وكيف كان ، لا يجوز للودعي التصرّف في المال إمّا لأنّ المال للوارث أو أنه شريك فيه ، وإما أنه للميت ولكن الوارث له الولاية عليه فلا بدّ من الاستئذان منه.

فدعوى صاحب المستند أن وفاء الدّين واجب كفائي على كل من قدر على ذلك (١) ضعيفة جدّاً ، لأنّ مجرد ذلك لا يجدي في جواز التصرف إلّا في مورد الحج ، هذا كلّه ما تقتضيه القاعدة ولكن مع ذلك استدل لجواز التصرف بأُمور :

الأوّل : أن ذكر الحج في الرواية من باب المثال وإلّا فلا خصوصية للحج ، كما أن ذكر الوديعة كان من باب المثال أيضاً.

وفيه : أن ظاهر النص هو الاختصاص بالحج ، وكونه من باب المثال يحتاج إلى قرينة وهي مفقودة.

__________________

(١) مستند الشيعة ١١ : ١٤٧.

١٢٥

والأقوى مع العلم بأنّ الورثة لا يؤدون بل مع الظن القوي أيضاً جواز الصرف فيما عليه ، لا لما ذكره في المستند من أن وفاء ما على الميت من الدّين أو نحوه واجب كفائي على كل من قدر على ذلك ، وأولوية الورثة بالتركة إنما هي ما دامت موجودة ، وأمّا إذا بادر أحد إلى صرف المال فيما عليه لا يبقى مال حتى تكون الورثة أولى به ، إذ هذه الدعوى فاسدة جدّاً ، بل لإمكان فهم المثال من الصحيحة ، أو دعوى تنقيح المناط ، أو أن المال إذا كان بحكم مال الميت (*) فيجب صرفه عليه ولا يجوز دفعه إلى من لا يصرفه عليه ، بل وكذا على القول بالانتقال

______________________________________________________

الثاني : تنقيح المناط ، واستدل به غير المصنف أيضاً.

ويرد بأنه قياس لا نقول به ، على أن الأولوية غير ثابتة لأنّ الحج أهم من سائر الديون حتى الديون المتعارفة ، فلا مجال للتعدي بتنقيح المناط.

الثالث : أنا إذا قلنا ببقاء المال على ملك الميت وعدم انتقاله إلى الوارث فيجب على من عنده المال صرفه على الميت ولا يجوز دفعه إلى من لا يصرفه عليه لأنه دفع إلى غير المستحق ، وإذا قلنا بالانتقال إلى الوارث وإن وجب عليه صرفه في دين الميت فيجوز للودعي صرفه فيما على الميت من باب الحسبة ، غاية الأمر أن الصرف يكون بإجازة الحاكم الشرعي لأنه ولي من لا ولي له ، ولو دفعه إلى الوارث ضمن لتفويته على الميت. نعم ، لو لم يعلم ولم يظن عدم تأدية الوارث يجب الدفع إليه ، بل لو كان الوارث منكراً أو ممتنعاً وأمكن إثبات ذلك عند الحاكم أو أمكن إجباره عليه لا يجوز له التصرّف في المال ، وإنما يجوز له التصرف في صورة واحدة وهي ما لو علم

__________________

(*) هذا الوجه هو الصحيح لكنه يختص بما إذا كان الميت لا يملك مالاً آخر يفي بأُجرة الحج فإنه مع الملك لا يتعيّن صرف خصوص ما عند الودعي ونحوه في الدين ، بل الواجب صرف الجامع بينه وبين مال آخر ، والباقي في ملك الميت حينئذ هو الكلّي وأمّا شخص المال فهو للوارث فيجري فيه ما يجري في الوجه الآخر ، ثمّ إنه في فرض وجوب الصرف في الدين ونحوه وعدم جواز دفعه إلى الوارث لم تثبت ولاية لمن عنده المال على الصرف فلا بدّ من الاستجازة من الحاكم الشرعي.

١٢٦

إلى الورثة حيث إنّه يجب صرفه في دينه ، فمن باب الحِسبة (*) يجب على من عنده صرفه عليه ويضمن لو دفعه (**) إلى الوارث لتفويته على الميت ، نعم يجب الاستئذان من الحاكم لأنّه ولي من لا ولي له ، ويكفي الإذن الإجمالي فلا يحتاج إلى إثبات وجوب ذلك الواجب عليه كما قد يتخيل ، نعم لو لم يعلم ولم يظنّ عدم تأدية الوارث يجب الدّفع إليه ، بل لو كان الوارث منكراً أو ممتنعاً وأمكن إثبات ذلك عند الحاكم أو أمكن إجباره عليه لم يجز لمن عنده أن يصرفه بنفسه.

______________________________________________________

أو ظنّ بأنّ الورثة لا يؤدّون ما على الميت.

أقول : إذا بنينا على أن المال لم ينتقل إلى الوارث بل هو للميت أو أنه مشترك بين الميت والوارث وإن كان الوارث له الولاية فلا يجوز للودعي تسليم المال إلى الوارث جزماً في صورة العلم بعدم الأداء أو الظن أو الشك فيه ، ولو سلمه إياه يكون مفوتاً على الميت ، ولكن كما لا يجوز له تسليم المال إلى الوارث لا يجوز له التصرف بنفسه لعدم الولاية له على ذلك ، نعم في خصوص الحج ثبتت له الولاية وجوز الشارع له التصرف ، وأمّا في غير الحج مما وجب على الميت فلا ولاية لمن عنده المال فلا بدّ من الاستئذان من الحاكم الشرعي.

وإن قلنا بأن المال ينتقل إلى الوارث وإن وجب عليه صرفه في دين الميت فالمال ماله وملكه ولو سلمه إياه سلم المال إلى مالكه وصاحبه ، فلا وجه لضمان الودعي لو دفعه إليه كما في المتن بدعوى أنه فوّت المال على الميت وأتلفه ، إذ كيف يكون متلفاً ومفوتاً مع تسليم المال إلى مالكه ، وأمّا القول بجواز تصرف الودعي في أداء دين الميت من باب الحسبة فغير صحيح ، لأنّ وجوب الصرف متوجه إلى الوارث فقط فكيف يجوز الصرف للودعي من باب الحسبة.

__________________

(*) وجوب الصرف متوجه إلى الوارث فقط ، فكيف يكون ذلك من باب الحِسبة.

(**) لا وجه للضمان بعد ما لم يكن المال ملكاً للميت.

١٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : لو قلنا بأن المال ملك للميت أو أنه مشترك فيه فلا يجوز للودعي تسليم المال إلى الوارث لأنه يدفعه إلى غير المستحق ، وولايته على المال ساقطة ، كما لا ولاية للودعي أيضاً في التصرف في المال ويجب عليه الاستئذان من الحاكم الشرعي. وهذا الوجه هو المعتمد عندنا لما ذكرنا غير مرّة أن المال بمقدار الدين لا ينتقل إلى الوارث ، فغير حج الإسلام من الواجبات المالية والديون حكمه حكم حج الإسلام في جواز التصرف للودعي في المال لكن يعتبر فيه الاستجازة من الحاكم.

ولو قيل بالانتقال إلى الوارث وكان منكراً للدين ، وكان إنكاره عن عذر كعدم العلم ونحوه ، فلا يجوز للودعي التصرف في المال من باب الحسبة لفرض وجود المالك ، ولا دليل على جواز تصرف غيره حسبة في هذا الفرض ، فلا يدخل المقام في كبرى مسألة الأُمور الحسبية ، بل لو علمنا أنه معترف بالدين ولكنه ممتنع من الأداء لا يجوز التصرف للودعي أيضاً ، وإنما ذلك وظيفة الحاكم الشرعي فيأخذه منه أو يتقاص منه الدائن ، وأمّا لو كان منكراً معذوراً فليس لأحد أخذ المال حتى الحاكم.

ثمّ إن كل مورد قلنا بجواز التصرف للودعي لا بدّ من تقييده بما إذا كان المال المتروك منحصراً بما في يده ولا يملك الميت مالاً آخر أو كان له مال آخر لكنه أقل من الدين ، ففي هذين الفرضين لا يجوز لمن عنده المال إعطاؤه إلى الوارث ، لأنّ إعطاء المال إلى غير من يستحقه غير جائز ، غاية الأمر قد عرفت ثبوت الولاية للوارث ولكن لا تثبت له الولاية فيما إذا كان الحق في معرض الإضاعة والتلف.

وأمّا إذا كان الميت يملك مالاً آخر يفي بأداء الدين كما إذا ترك مائتي دينار أو أكثر وكان دينه مائة دينار ، وكان المال المودع مائة دينار أو أقل ، فإن الميت حينئذ لا يملك شيئاً من الوديعة استقلالاً أو اشتراكاً وإنما حقه كما عرفت كلّي في تمام تركته وثابت في جميع المال المتروك ، وليس المال المودع ملكاً للميت وإنما هو كغيره من المال المتروك ملك للوارث ، ولا بدّ من إخراج الدين من مجموع المال المتروك الجامع بين المال المودع وغيره ، فلو أعطى المال إلى الوارث فقد أعطاه إلى أهله ومالكه ، ولا يضمن الودعي ولو لم يؤد الوارث الدين ، فالقاعدة تقتضي جواز إعطاء المال إلى الوارث.

١٢٨

[٣١٨٦] مسألة ١٨ : يجوز للنائب بعد الفراغ عن الأعمال للمنوب عنه أن يطوف عن نفسه وعن غيره ، وكذا يجوز له أن يأتي بالعمرة المفردة عن نفسه وعن غيره (١).

[٣١٨٧] مسألة ١٩ : يجوز لمن أعطاه رجل مالاً لاستئجار الحج أن يحج بنفسه ما لم يعلم أنّه أراد الاستئجار من الغير ، والأحوط عدم مباشرته (*) إلّا مع العلم بأنّ مراد المعطي حصول الحج في الخارج ، وإذا عيّن شخصاً تعيّن إلّا إذا علم عدم أهليّته وأن المعطي مشتبه (**) في تعيينه أو أن ذكره من باب أحد الأفراد (٢).

______________________________________________________

نعم إذا كان الوارث منكراً أو ممتنعاً يجبره الحاكم ، وإذا كان معذوراً في إنكاره فليس لأحد إجباره حتى الحاكم ، فلا بدّ من التفصيل بين ما إذا كان الميت لا يملك مالاً آخر يفي بالدين وبين ما يملكه.

(١) لإطلاق الروايات الدالّة على رجحان الطّواف (١) وخصوص بعض الروايات الدالّة على جواز طواف النائب عن نفسه أو عن غيره (٢). كما يجوز له أن يأتي بعمرة مفردة لنفسه أو عن غيره ، وأمّا اعتبار الفصل بين العمرتين فيختص بعمرتين مفردتين عن نفسه لا العمرة المفردة وعمرة التمتّع ، كما لا يعتبر الفصل فيما إذا كانت إحدى العمرتين عن نفسه والأُخرى عن غيره ، وسيأتي التعرض لتفصيل ذلك في البحث عن العمرة إن شاء الله تعالى.

(٢) إذا أعطى شخص مالاً لأحد لاستئجار الحج فهل يجوز لمن أخذ المال أن يحج بنفسه أو يجب عليه الاستئجار؟ في المسألة ثلاث صور :

__________________

(*) لا يترك.

(**) هذا إذا علم رضاه باستئجار من هو أهل لذلك.

(١) الوسائل ١٣ : ١٩٣ / أبواب الطواف ب ٤.

(٢) الوسائل ١١ : ١٩٣ / أبواب النيابة في الحج ب ٢١.

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولى : ما إذا علمنا بأن نظر المعطي وقوع الحج خارجاً من أي شخص كان فحينئذ لا ينبغي الشك في جواز أن يحج بنفسه ، نظير ما لو أعطى له مالاً ليدفعه إلى الفقراء وأحرزنا أن غرض المعطي إيصال المال إلى من يستحقه فلا ريب في جواز أخذه منه إذا كان فقيراً.

الثانية : ما إذا أحرز خلاف ذلك وأن غرضه استئجار شخص آخر وكان الآخذ واسطة في الإيصال ، فلا ريب في عدم جواز الحج بنفسه.

الثالثة : ما إذا شكّ في ذلك ولم يعلم أنه أراد الأعم أو خصوص الغير ، ظاهر المتن جواز الحج له بنفسه لأنه خص عدم الجواز بصورة العلم بإرادة الغير ، ثمّ احتاط في عدم المباشرة.

والظاهر عدم الجواز ، لأنّ التصرّف في مال الغير يحتاج إلى إحراز الرضا والاذن ومع الشك لا يجوز التصرّف ، فلا بدّ من إحراز مراده وأنه أراد الأعم منه ومن غيره وإلّا فلا يجوز كما هو الحال في الصدقات والتبرعات.

وأمّا إذا أعطاه مالاً ليستأجر شخصاً معيّناً تعين إلّا إذا علم أن ذكره من باب المثال وبيان المورد.

ولو علم أنّ المعطي اشتبه في تعيينه لعدم أهليته وقابليته لنيابة الحج ذكر في المتن أنه يجوز إعطاء المال لغيره ، ولكن الظاهر عدم الجواز لعدم إحراز الرضا بإعطاء المال له واستئجاره ، نعم إذا علم رضاه باستئجار من هو أهل لذلك جاز له ذلك.

١٣٠

فصل

في الحج المندوب

[٣١٨٨] مسألة ١ : يستحب لفاقد الشرائط من البلوغ والاستطاعة وغيرهما أن يحج مهما أمكن ، بل وكذا من أتى بوظيفته من الحج الواجب ، ويستحب تكرار الحج بل يستحب تكراره في كل سنة ، بل يكره تركه خمس سنين متوالية وفي بعض الأخبار : من حج ثلاث حجات لم يصبه فقر أبدا.

[٣١٨٩] مسألة ٢ : يستحب نيّة العود إلى الحج عند الخروج من مكّة ، وفي الخبر أنها توجب الزيادة في العمر ، ويكره نيّة عدم العود ، وفيه أنها توجب النقص في العمر.

[٣١٩٠] مسألة ٣ : يستحب التبرع بالحج عن الأقارب وغيرهم أحياءً وأمواتاً ، وكذا عن المعصومين (عليهم السلام) أحياءً وأمواتاً ، وكذا يستحب الطواف عن الغير وعن المعصومين (عليهم السلام) أمواتاً وأحياءً مع عدم حضورهم في مكّة أو كونهم معذورين.

[٣١٩١] مسألة ٤ : يستحب لمن ليس له زاد وراحلة أن يستقرض ويحج إذا كان واثقاً بالوفاء بعد ذلك.

[٣١٩٢] مسألة ٥ : يستحب إحجاج من لا استطاعة له.

[٣١٩٣] مسألة ٦ : يجوز إعطاء الزكاة لمن لا يستطيع الحج ليحج بها.

[٣١٩٤] مسألة ٧ : الحج أفضل من الصدقة بنفقته.

[٣١٩٥] مسألة ٨ : يستحب كثرة الإنفاق في الحج ، وفي بعض الأخبار : إن الله يبغض الإسراف إلّا بالحج والعمرة.

١٣١

[٣١٩٦] مسألة ٩ : يجوز الحج بالمال المشتبه كجوائز الظلمة مع عدم العلم بحرمتها.

[٣١٩٧] مسألة ١٠ : لا يجوز الحج بالمال الحرام لكن لا يبطل الحج إذا كان لباس إحرامه (*) وطوافه وثمن هديه من حلال.

[٣١٩٨] مسألة ١١ : يشترط في الحج الندبي إذن الزوج والمولى بل الأبوين في بعض الصور ، ويشترط أيضاً أن لا يكون عليه حج واجب مضيق ، لكن لو عصى وحج صح.

[٣١٩٩] مسألة ١٢ : يجوز إهداء ثواب الحج إلى الغير بعد الفراغ عنه ، كما يجوز أن يكون ذلك من نيّته قبل الشروع فيه.

[٣٢٠٠] مسألة ١٣ : يستحب لمن لا مال له يحج به أن يأتي به ولو بإجارة نفسه عن غيره ، وفي بعض الأخبار : إن للأجير من الثواب تسعاً وللمنوب عنه واحد.

فصل

في أقسام العمرة

[٣٢٠١] مسألة ١ : تنقسم العمرة كالحج إلى واجب أصلي وعرضي ومندوب فتجب بأصل الشرع على كل مكلّف بالشرائط المعتبرة في الحج في العمر مرّة بالكتاب والسنّة والإجماع ، ففي صحيحة زرارة : العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج فإنّ الله تعالى يقول (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة ٢ : ١٩٦] ، وفي صحيحة الفضيل في قول الله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) قال (عليه السلام) :

__________________

(*) لا يبطل الحج إذا لم يكن لباس إحرامه من حلال.

١٣٢

هما مفروضان. ووجوبها بعد تحقق الشرائط فوري كالحج ، ولا يشترط في وجوبها استطاعة الحج ، بل تكفي استطاعتها في وجوبها وإن لم تتحقق استطاعة الحج ، كما أن العكس كذلك فلو استطاع للحج دونها وجب دونها ، والقول باعتبار الاستطاعتين في وجوب كل منهما وأنهما مرتبطان ضعيف ، كالقول باستقلال الحج في الوجوب دون العمرة (١).

______________________________________________________

(١) تنقسم العمرة إلى أقسام فقد تكون واجبة بالأصل كالحج ، وقد تجب بالعرض بنذر وشبهه أو بإجارة ونحوها ، وقد تكون مندوبة ، وقد تكون غير مشروعة كالعمرة الثانية إذا أتى بها قبل انقضاء الشهر من العمرة الأُولى بناءً على اعتبار الفصل بشهر بين العمرتين وكالعمرة المفردة بين عمرة التمتّع والحج ، هذه هي أقسامها.

وأمّا حكمها فإنه كما يجب الحج على كل مكلّف مستطيع مرّة واحدة كذلك العمرة تجب على كل أحد أيضاً. وقد استدل على وجوبها بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فقوله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (١) لشموله للحج والعمرة ، لأنّ المراد من حج البيت زيارة البيت والقصد إليه وذلك يشمل الحج والعمرة ، لأنّ كلّاً منهما زيارة إلى البيت وقصد إليه ويشتمل على طواف البيت. هذا مضافاً إلى الصحيحة المفسرة للآية الدالّة على أن المراد بها هو الحج والعمرة كصحيحة عمر بن أذينة ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) يعني به الحج دون العمرة؟ قال : لا ، ولكنه يعني الحج والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان» (٢).

وأمّا السنّة فهي كثيرة وفي بعضها أنها بمنزلة الحج (٣) ، فلا إشكال في أصل

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٩٧ / أبواب العمرة ب ١ ح ٧.

(٣) الوسائل ١٤ : ٢٩٥ / أبواب العمرة ب ١ ح ٢.

١٣٣

[٣٢٠٢] مسألة ٢ : تجزئ العمرة المتمتع بها عن العمرة المفردة بالإجماع والأخبار (١) ، وهل تجب على من وظيفته حج التمتّع إذا استطاع لها ولم يكن مستطيعاً للحج؟ المشهور عدمه بل أرسله بعضهم إرسال المسلمات ، وهو الأقوى وعلى هذا فلا تجب على الأجير بعد فراغه عن عمل النيابة وإن كان مستطيعاً لها وهو في مكّة ، وكذا لا تجب على من تمكّن منها ولم يتمكّن من الحج لمانع ، ولكن الأحوط الإتيان بها (٢).

______________________________________________________

الوجوب ، كما لا إشكال في أن وجوبها فوري كالحج لأنها بمنزلته فيجري فيها ما يجري في الحج.

ثمّ إنّ مقتضى الآية والروايات أن كلّاً من الحج والعمرة واجب مستقل لا يرتبط أحدهما بالآخر خرج من ذلك خصوص عمرة التمتّع فإنّها مرتبطة بالحج ، وأمّا في غيرها فلا دليل على الارتباط فيمكن الإتيان بأحدهما في سنة وبالآخر في سنة أُخرى ، فالقول باعتبار الاستطاعتين في وجوب كل منهما وأنهما مرتبطان ضعيف كالقول باستقلال الحج دون العمرة كما عن الدروس (١).

(١) لا خلاف ولا إشكال في أن من كانت وظيفته التمتّع لا تجب عليه عمرة أُخرى غير عمرة التمتّع ، فتكفي عمرة واحدة وإن كانت في ضمن الحج ، والنصوص الدالّة على سقوط العمرة المفردة بعمرة التمتّع كثيرة ، وقد عقد في الوسائل باباً لذلك (٢) ، ففي صحيح الحلبي «إذا استمتع الرجل بالعمرة فقد قضى ما عليه من فريضة العمرة» (٣).

(٢) وقع الكلام في أنه هل تجب العمرة المفردة فقط على من وظيفته حج التمتّع إذا استطاع للمفردة ولم يكن مستطيعاً للحج ، فلو استطاع في شهر رجب مثلاً للعمرة ولم

__________________

(١) الدروس ١ : ٣٣٨ الدرس ٨٨.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣٠٥ / أبواب العمرة ب ٥.

(٣) الوسائل ١٤ : ٣٠٥ / أبواب العمرة ب ٥ ح ١.

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يكن مستطيعاً لحج التمتّع فهل تجب عليه العمرة؟ أو من كان أجيراً وبعد الفراغ عن أعماله هل تجب عليه العمرة لتمكنه منها حينئذ أم لا؟.

المشهور عدم الوجوب بل أرسله بعضهم إرسال المسلمات وهو الصحيح ، وذلك لأنّ ما دلّ على وجوب العمرة لا إطلاق

له بحيث يشمل المقام. والحاصل : بعد ما كانت العمرة على قسمين متمتع بها ومفردة ، ولم يذكر في الآية المباركة ولا في الرواية أن خصوص المفردة واجبة ، بل المستفاد من الأدلّة أن طبيعي العمرة في الجملة واجب على المسلمين كالحج ، وقد عرفنا من الخارج أن عمرة التمتّع فرض النائي والمفردة فرض حاضري مكّة ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بإطلاق الروايات على وجوب العمرة المفردة بعنوانها وبخصوصها ، ولو شكّ في الوجوب فالأصل البراءة.

ولو فرضنا إطلاق الأدلّة بالنسبة إلى المفردة والمتمتع بها وفرضنا شمولها للنائي والقريب وتمكن النائي من المفردة ، فإنه يمكن رفع اليد عن هذا الإطلاق بما دلّ على أنّ العمرة مرتبطة بالحج إلى يوم القيامة ، ومعنى ذلك أن العمرة بنفسها غير واجبة والعمرة الواجبة إنما هي المرتبطة بالحج خرج من ذلك غير النائي أي حاضري مكّة فإنّ العمرة الثابتة في حقهم غير مرتبطة بالحج ، فيبقى النائي تحت إطلاق ما دلّ على أنّ العمرة مرتبطة بالحج.

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال «وقال : إذا استمتع الرجل بالعمرة فقد قضى ما عليه من فريضة المتعة ، وقال ابن عباس : دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» (١) وما نقله عن ابن عباس إمضاء له ، وفي صحيحته الأُخرى «قال : دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» (٢) والمستفاد منهما أن العمرة الواجبة هي العمرة المرتبطة بالحج أي المتمتع بها ، ففي كل مورد ثبت الاستقلال فهو وإلّا فلا ، نعم العمرة المستحبة غير مرتبطة بالحج ، ويستحب الإتيان بها مطلقاً من

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٠٦ / أبواب العمرة ب ٥ ح ٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٤٠ / أبواب أقسام الحج ب ٣ ح ٢.

١٣٥

[٣٢٠٣] مسألة ٣ : قد تجب العمرة بالنذر والحلف والعهد والشرط في ضمن العقد والإجارة والإفساد (١) ، وتجب أيضاً لدخول مكّة (٢) بمعنى حرمته بدونها ، فإنه لا يجوز دخولها إلّا محرماً إلّا بالنسبة إلى من يتكرّر دخوله وخروجه كالحَطّاب والحَشّاش (*).

______________________________________________________

البعيد والقريب كما في النصوص (١).

هذا ويضاف إلى ذلك كلّه استمرار السيرة القطعية على عدم الإتيان بها من النائي ولم يتعارف إتيانها من المسلمين حتى من النائب في سنة النيابة مع استطاعته لها ، ولو كانت واجبة لكان وجوبها من أوضح الواجبات لأنّها بمنزلة الحج.

(١) لا ريب في وجوب العمرة بالنذر وشبهه وبالإجارة وبالشرط في ضمن العقد وقد تجب بإفساد العمرة ، فإن من يفسد عمرته بالجماع قبل الفراغ من طوافه وسعيه وجبت عليه الإعادة بأن يبقى في مكّة إلى الشهر القادم فيعيدها فيه وعليه بدنة لفساد عمرته كما في النصوص ، منها صحيح بريد العجلي (٢) ، وألحقوا بها عمرة التمتّع ، وفيه كلام سيأتي في محلّه إن شاء الله.

(٢) وجوباً شرطياً بمعنى عدم جواز الدخول إلى مكّة إلّا محرماً ، وإذا كان الدخول إلى مكّة واجباً بسبب من الأسباب فالإحرام أيضاً يجب وجوباً مقدمياً عقليّاً لتوقّف الواجب عليه ، وأمّا إذا لم يكن الدخول واجباً فلزوم الإحرام حينئذ نظير لزوم الطّهارة في الصلاة المندوبة ، فالمراد بالوجوب الوجوب الشرطي.

واستثني من ذلك من يكثر دخوله وخروجه كالحطّاب والحشّاش. ويدلُّ عليه صحيح رفاعة : «إنّ الحطابة والمجتلبة أتوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) فسألوه

__________________

(*) وكذلك من خرج وعاد إلى مكّة قبل مضي الشهر الذي أدّى فيه نسكه.

(١) الوسائل ١٤ : ٣٠٧ / أبواب العمرة ب ٦.

(٢) الوسائل ١٣ : ١٢٨ / أبواب كفارات الاستمتاع ب ١٢ ح ١.

١٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فأذن لهم أن يدخلوا حلالا» (١) والمجتلبة هو الذي يجلب الشي‌ء مما يحتاج إليه أهل البلد من خارج البلد ، ولا يختص ذلك بالأرزاق والأطعمة بل يشمل مثل الجصاص الذي يأتي بالجص من الخارج ونحو ذلك من حوائج النّاس.

ثمّ إن ظاهر المشهور حمل ما في الصحيحة على المثال وذكروا أن المراد به كل من يتكرّر دخوله وإن لم يكن من المجتلبة والحطّابة ومن يجلب الحشيش والراعي وناقل الميرة. وعن كشف اللثام التصريح بجواز الدخول حلالاً للمتكرر دخوله في شهر واحد بحيث يدخل في الشهر الذي خرج (٢). وفي الجواهر أن الظاهر عدم اعتبار تكرر دخولهم قبل انقضاء شهر ، فلو فرض أن بعض المجتلبة يحتاج إلى فصل أزيد من شهر ويأتي بالعمل في شهر دون شهر دخل حلالاً ولا شي‌ء عليه (٣).

والظاهر أن تجويز الدخول حلالاً لم يكن بعنوان المتكرر مطلقاً ، ولا نجزم بشمول النص لكل من يتكرر منه الدخول لعيادة المريض مثلاً ، أو كان هو مريضاً يكثر الدخول للمعالجة أو لغرض آخر. أو كان له ضيعة يأتي إليها متكرراً ، أو كان مدرساً يتكرر دخوله ونحو ذلك ويحتاج التعميم إلى كل من يتكرر منه الدخول إلى القرينة ولا قرينة ، بل المستفاد من النص جواز الدخول حلالاً لكل من يأتي بحوائج البلد من ناقل الميرة والأطعمة وغيرها كالحطّاب والجصّاص والحشّاش وغير ذلك من حوائج النّاس ، وأمّا من كان له ضيعة يتكرّر لها دخوله وخروجه ، أو كان مريضاً ونحو ذلك ممّن يتكرّر له الدخول لأغراض شخصيّة أو غيرها فلا يشمله النص.

واستدلّ كاشف اللثام لتعميم الحكم لكل من يتكرّر منه الدخول بالحرج.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الإتيان بالعمرة في كل شهر مرّة واحدة لا حرج فيه ، نعم لو قلنا بوجوب العمرة لكل مرّة من الدخول وإن تكرر منه ذلك في اليوم الواحد فهو

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٤٠٧ / أبواب الإحرام ب ٥١ ح ٢.

(٢) كشف اللثام ٦ : ٢٩٥.

(٣) الجواهر ١٨ : ٤٤٩.

١٣٧

وما عدا ما ذكر مندوب ، ويستحب تكرارها كالحج ، واختلفوا في مقدار الفصل بين العمرتين ، فقيل : يعتبر شهر ، وقيل : عشرة أيّام (*) ، والأقوى عدم اعتبار فصل فيجوز إتيانها كل يوم ، وتفصيل المطلب موكول إلى محلّه (١).

______________________________________________________

حرجي في بعض الموارد لا في كل مورد ، فلو فرضنا أن المتكرر شاب قوي فلا حرج عليه ، وإنما يستلزم الحرج فيما إذا كان شيخاً كبيراً أو كان ضعيفاً أو كان الجو لا يساعده لشدّة الحر أو البرد ونحو ذلك من العوارض ، وإذن فالحكم يختلف باختلاف الموارد.

وبالجملة : إذا كان الدليل للدخول حلالاً منحصراً بصحيح رفاعة فالتعدي من مورده لا وجه له لعدم القرينة على ذلك ، نعم الجصاص أو الحشاش أو نحوهما ممن ينقل الحوائج إلى البلد داخل في عنوان المجتلبة ، والميزان صدق هذا العنوان ولا يعتبر تكرر دخوله في شهر واحد ، بل لو أتى بحوائج البلد في كل شهرين يشمله النص لصدق عنوان المجتلبة عليه.

ثمّ إن المصنف لم يتعرض لاستثناء من أتى بعمرة وخرج ثمّ رجع قبل انقضاء الشهر فإنه لا يجب عليه الإتيان بالعمرة ويجوز له الدخول بلا عمرة ، ونتعرض لذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

(١) قد اختلف الفقهاء في مقدار الفصل بين العمرتين ، فالمشهور أن الفصل بينهما بشهر واحد. وعن جماعة أنه عشرة أيّام ، واختار جماعة عدم اعتبار الفصل بينهما فيجوز إتيانها في كل يوم منهم المصنف وصاحب الجواهر (١) ، ونسب إلى العماني اعتبار الفصل بسنة بين العمرتين (٢). ومنشأ الاختلاف اختلاف الروايات فإنّها على طوائف :

__________________

(*) الظاهر هو اختصاص كل شهر بعمرة فلا تصح عمرتان مفردتان عن شخص واحد في شهر هلالي ، نعم لا بأس بالإتيان بغير العمرة الاولى رجاء.

(١) الجواهر ٢٠ : ٤٦٢.

(٢) مختلف الشيعة ٤ : ٣٦٨.

١٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : ما دلّ على اعتبار الفصل بعشرة أيّام كرواية الكليني والشيخ عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام) : «ولكل شهر عمرة ، فقلت : يكون أقل؟ فقال : في كل عشرة أيّام عمرة» (١) والرواية ضعيفة بعلي ابن أبي حمزة وهو البطائني المشهور بالكذب.

وروى الصدوق بسند آخر عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) «قال : لكل شهر عمرة ، قال وقلت له : يكون أقل من ذلك؟ قال : لكل عشرة أيّام عمرة» (٢) وهي كالأُولى ضعيفة بالبطائني.

وربّما يحتمل اعتبار رواية الصدوق لأنّ علي بن أبي حمزة الذي روى عنه الصدوق هو الثمالي الموثق ، لأنه (قدس سره) يروي عنه في كتابه ، ولكن يبعده أن الثمالي لا رواية له في باب الأحكام. على أن الصدوق ذكر في مشيخة الفقيه أن ما رويته عن علي بن أبي حمزة فقد رويته عن محمّد بن علي ماجيلويه عن محمّد بن يحيى العطّار عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي عن علي بن أبي حمزة (٣) ، ولا يمكن رواية البزنطي عن الثمالي لأنّ الثمالي من أصحاب الباقر (عليه السلام) والبزنطي من أصحاب الرضا والجواد (عليهما السلام). هذا مضافاً إلى ضعف طريق الصدوق إلى علي بن أبي حمزة لأنه (قدس سره) يروي ذلك عن شيخه ابن ماجيلويه وهو ممّن لم يوثق ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ مجرّد كون الشخص من مشايخ الصدوق لا يوجب الوثاقة فإنّ بعض مشايخه من الضعفاء.

وأمّا ما رواه في الجواهر (٤) وعبر عنه بالموثق «السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة ، قال : فقلت : أيكون أقل من ذلك؟ قال : لكل عشرة أيّام عمرة» فلا

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٠٨ / أبواب العمرة ب ٦ ح ٣ ، التهذيب ٥ : ٤٣٤ / ١٥٠٨ ، الكافي ٤ : ٥٣٤ / ٣.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٣٩ / ١١٤١.

(٣) الفقيه (المشيخة) ٤ : ٨٧.

(٤) الجواهر ٢٠ : ٤٦٣.

١٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وجود له وإنما هو ضم رواية إلى رواية أُخرى ، فإن الصدر من موثقة إسحاق بن عمّار (١) والذيل من خبر علي بن أبي حمزة المتقدّم ، فما صدر منه (قدس سره) اشتباه من قلمه الشريف فلا دليل على اعتبار الفصل بعشرة أيّام.

ومنها : ما دلّ على الفصل بسنة كما في صحيح الحلبي وحريز وزرارة ، ففي الأوّل قال (عليه السلام) : «العمرة في كلّ سنة مرّة» (٢) وفي غيره «لا تكون عمرتان في سنة» (٣).

ولكن لا يمكن الالتزام بمضمونها فإنه مقطوع البطلان ، للسيرة القطعية والروايات المتضافرة بل المتواترة الدالّة على استحباب العمرة في كل شهر ، فلا بدّ من طرح الروايات الثلاث أو حملها على عمرة التمتّع فإنها في كل سنة مرّة كما حملها الشيخ على ذلك (٤) ولا بأس به.

ومنها : ما دلّ على الفصل بشهر واحد ، وقد دلّت عليه الروايات الكثيرة (٥) ، وقد حمل بعضهم الروايات المتقدّمة المختلفة على اختلاف مراتب الفضل ، ومن ثمّ اختار صاحب الجواهر عدم اعتبار الفصل بين العمرتين وجواز الإتيان بها في كل يوم (٦) ولكن قد عرفت أن الأقوى بحسب المستند هو اعتبار الفصل بشهر واحد.

ثمّ إن المراد بالشهر هو ما بين الهلالين ، أي من أوّل رؤية الهلال السابق إلى رؤية الهلال الثاني إلّا إذا قامت قرينة على أن المراد به مقدار ثلاثين يوماً ، كما في عدّة الوفاة والطّلاق ونحوهما مما يكفي فيه التلفيق ويلزم فيه مضي مقدار الشهر.

ويدلُّ على كون المراد بالشهر في المقام ما ذكرناه موثق إسحاق : «السنة اثنا عشر

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٠٩ / أبواب العمرة ب ٦ ح ٩.

(٢) الوسائل ١٤ : ٣٠٩ / أبواب العمرة ب ٦ ح ٦.

(٣) الوسائل ١٤ : ٣٠٩ / أبواب العمرة ب ٦ ح ٧.

(٤) التهذيب ٥ : ٤٣٥ / ١٥١٢.

(٥) الوسائل ١٤ : ٣٠٩ / أبواب العمرة ب ٦.

(٦) الجواهر ٢٠ : ٤٦٦.

١٤٠