موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: نينوى
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6084-13-3
الصفحات: ٣٩٥

[٣٠١٠] مسألة ١٣ : إذا لم يكن عنده من أعيان المستثنيات لكن كان عنده ما يمكن شراؤها به من النقود أو نحوها ، ففي جواز شرائها وترك الحجّ إشكال ، بل الأقوى عدم جوازه إلّا أن يكون عدمها موجباً للحرج عليه ، فالمدار في ذلك هو الحرج وعدمه ، وحينئذٍ فإن كانت موجودة عنده لا يجب بيعها إلّا مع عدم الحاجة ، وإن لم تكن موجودة لا يجوز شراؤها إلّا مع لزوم الحرج في تركه ، ولو كانت موجودة وباعها بقصد التبديل بآخر لم يجب صرف ثمنها في الحجّ ، فحكم ثمنها حكمها ، ولو باعها لا بقصد التبديل وجب بعد البيع صرف ثمنها في الحجّ

______________________________________________________

التفاوت بينهما كثيراً وإلّا فيثبت خيار تخلّف الشرط ، وأمّا إذا كان التفاوت يسيراً فلا يعتني به العقلاء ولا يوجب الخيار.

وأما في المقام فقد عرفت أن الميزان في الاستطاعة هو التمكن من الزاد والراحلة عيناً أو قيمة ، والمفروض أن له زاداً وراحلة بهذه الزيادة المترتبة على التبديل.

نعم ، يشترط أن لا يستلزم التبديل الحرج ، فالتفاوت بالكثير وباليسير لا أثر له في ذلك ، بل لو كان التفاوت بواحد في المائة وجب التبديل ، كما لو فرض أن نفقة الحجّ مائة دينارٍ وعنده بالفعل تسعة وتسعون ديناراً ، يجب عليه بيع داره بمائة ليضيف ديناراً واحداً إلى نفقة حجّه ، ويشتري بالباقي داراً أُخرى مناسبة لشأنه ، وكما لو فرضنا أن داره تسوى عشرة آلاف ديناراً وأن مصرف حجّه يبلغ مائتي دينار يجب عليه بيع داره ويأخذ مصرف حجّه ويشتري بالباقي داراً اخرى ، مع أن نسبة المائتين إلى العشرة آلاف قليلة جدّاً.

فالصحيح عدم الفرق بين الصورتين ، لصدق الاستطاعة في كلتا الصورتين ، إذ العبرة بالتمكن من الزاد والراحلة ، وهو حاصل في المقام سواء كان التفاوت يسيراً أو كثيراً.

٨١

إلّا مع الضرورة إليها (*) على حدِّ الحرج في عدمها (١).

______________________________________________________

(١) قد تقدّمت جملة من المستثنيات التي مما يحتاج إليه في معاشه وحياته ، وأنه لا يجب بيعها وصرف ثمنها في الحجّ ، لاستلزام ذلك العسر والحرج ، هذا بالنسبة إلى الأعيان الموجودة ، وهكذا بالنسبة إلى النقود ، فلو كان عنده مقدار من النقود ولم يكن عنده دار ، ودار الأمر بين صرف النقود في الحجّ ، وبين أن يشتري بها داراً لسكناه فلو كانت الدار ممّا يحتاج إليه ، بحيث لو صرف النقود في الحجّ وترك شراء الدار لوقع في الحرج ، لا يجب عليه الحجّ ، بل يجوز له شراء الدار لسد حاجته وضرروته.

وبعبارة اخرى : استثناء ما يحتاج إليه لا يختص بالأعيان الخارجية بل يشمل ثمنها أيضاً ، فإن كانت الدار المملوكة مما يحتاج إليه ، بحيث لو باعها وقع في الحرج ، لا يجب عليه بيعها وصرف ثمنها في الحجّ ، وكذا من كان له مقدار من المال يكفي لشراء الدار بحيث لو لم يشتر به داراً لوقع في الحرج ، جاز له شراء الدار ، ولا يجب عليه صرف المال في الحجّ ، وكذا لو باع داره بقصد التبديل إلى دار أُخرى ، أو إلى ما يحتاج إليه في حياته ، لا يجب عليه صرف الثمن في الحجّ ، بل يجوز له شراء ما يحتاج إليه بدلاً عن الدار التي باعها.

والحاصل : لا يجب عليه الحجّ في هذه الموارد الثلاثة :

الأوّل : إذا كان ما عنده مما يحتاج إليه عيناً.

الثاني : ما إذا كان مما يحتاج إليه نقداً.

الثالث : ما إذا كان له كلا الأمرين ، كما إذا كان له دار وباعها بقصد التبديل ، فإنه قبل البيع له العين ، وبعده له النقد بالفعل قبل التبديل. وفي جميع هذه الصور لا يجب الحجّ ، إذ لا يجب صرف المال في الحجّ ، لاستلزامه الحرج على الفرض. وأما لو باع

__________________

(*) هذا مع بنائه على صرف الثمن فيها جزماً أو احتمالاً ، وأمّا مع بنائه على العدم فالظاهر هو وجوب الصرف في الحج لعدم كونه حرجياً عندئذ.

٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

داره لا بقصد التبديل بل لغاية من الغايات ، ذكر في المتن أنه يجب عليه صرف ثمنها في الحجّ إلّا إذا كان صرفه فيه مستلزماً للحرج ، كما لو فرضنا أن صرف الثمن في الحجّ يستوجب أن لا يملك داراً أصلاً ، وهذا حرجي عليه.

والحق هو التفصيل ، لأنه تارة يبني على صرف المال فيما يحتاج إليه في حياته ، وإن لم يكن مسانخاً مع العين الاولى ، كمن يبيع داره ليشتري بثمنها ثياباً لنفسه وعياله وغير ذلك مما يحتاج ويضطر إليه. وأُخرى يتردد في صرفه فيما يحتاج إليه من أنواع الحوائج ، فهو غير بانٍ على شي‌ء فعلاً. وثالثة يبني على التحفظ على المال وعدم صرفه في الحوائج ، بل يريد أن يدّخره ، ففي الأوّل والثاني لا يجب عليه الحجّ ، لأن إلزامه بصرفه في الحجّ حرجي عليه ، ومناف لمقاصده ، وأما في الثالث فلا حرج عليه في صرفه في الحجّ بعد فرض أنه عازم على عدم صرفه في حوائجه.

وبعبارة اخرى : إلزامه بالحج حينئذ غير حرجي عليه ، إذ لو صرف المال أو لم يصرفه يعيش عيشة حرجية ، فإنه لو لم يحج أيضاً لا يعيش إلّا نكداً. نعم ، صرف المال مناف لعزمه وتصميمه بادّخار المال ، وإلّا فلا حرج عليه من ناحية الحجّ ، وإنما الحرج نشأ من عزمه على ادّخار المال وعدم صرفه في حوائجه ، لا من الحكم الشرعي بوجوب الحجّ ، كمن يقنع بأن يسكن في الخربة ويعيش عيشة الفقراء من حيث المسكن والمأكل والثياب ، ويدّخر الأموال ، فمجرد الضرورة والحاجة لا يوجب سقوط الحجّ ، بل صرف المال في الحوائج أو بناؤه أو التحفظ على الأموال حتى يتروى في كيفية الصرف ونحو ذلك مما لو مُنع عن ذلك لوقع في الحرج ، كل ذلك يوجب سقوط الحجّ ، وأما مجرد تصميمه على التحفظ على المال وادّخاره وعدم صرفه في حوائجه ، فلا يوجب سقوط الحجّ ، فإن صرفه في الحجّ لا يؤثر في حاله لأنه لو صرف أو لم يصرف لعاش عيشة حرجية ، فالحرج لم ينشأ من إلزامه بالحج والمفروض وجود ما يحج به عنده فيجب عليه الحجّ.

٨٣

[٣٠١١] مسألة ١٤ : إذا كان عنده مقدار ما يكفيه للحج ونازعته نفسه إلى النكاح ، صرح جماعة بوجوب الحجّ وتقديمه على التزويج ، بل قال بعضهم : وإن شق عليه ترك التزويج ، والأقوى وفاقاً لجماعة أُخرى عدم وجوبه مع كون ترك التزويج حرجاً عليه أو موجباً لحدوث مرض أو للوقوع في الزنا (*) ونحوه (١) نعم لو كانت عنده زوجة واجبة النفقة ولم يكن له حاجة فيها لا يجب أن يطلقها ويصرف مقدار نفقتها في تتميم مصرف الحجّ ، لعدم صدق الاستطاعة عرفاً (٢).

______________________________________________________

(١) الأمر كما ذكره بالنسبة إلى ترك التزويج وحدوث المرض ، فإن الحجّ إذا استلزم الحرج والمشقة يرتفع وجوبه ، سواء قلنا بأن الإضرار بالنفس محرم أم لا فإن الميزان في سقوط الحجّ أن يكون الإلزام به حرجياً ، وإن كان إيقاع النفس في الحرج والمشقة غير محرم ، لحكومة دليل نفي الحرج على الحجّ.

وأما بالنسبة إلى الوقوع في الزنا فليس الأمر كذلك ، لأن مجرّد العلم بالوقوع في الزنا ليس مجوزاً لترك الحجّ ، لعدم استناده إلى الحجّ ، وإنما يرتكبه بسوء اختياره واللازم عليه تركه ، ولا ينافي ذلك كونه مكلفاً بإتيان الحجّ.

وبعبارة اخرى : يلزم عليه أمران : ترك الزنا والحجّ ، ومجرد العلم بإتيان الزنا اختياراً لا يوجب سقوط الحجّ ، بل يجب عليه الحجّ كما يحرم عليه الزنا. ونظير المقام ما لو علم الحاج أنه لو صرف ماله في طريق الحجّ لسرق من أموال المسلمين ليتدارك ما صرفه من أمواله ، ولا يتوهم أحد سقوط الحجّ في مثل ذلك ، وبالجملة : العلم بارتكاب المحرم اختياراً لا يوجب سقوط الحجّ.

(٢) ويكون طلاقها لصرف مقدار نفقتها في الحجّ من باب تحصيل الاستطاعة وهو غير واجب.

__________________

(١) العلم بالوقوع في الزنا اختياراً لا يجوّز ترك الحجّ.

٨٤

[٣٠١٢] مسألة ١٥ : إذا لم يكن عنده ما يحج به ولكن كان له دين على شخص بمقدار مئونته أو بما تتم به مئونته ، فاللّازم اقتضاؤه وصرفه في الحجّ إذا كان الدّين حالّا وكان المديون باذلاً ، لصدق الاستطاعة حينئذٍ ، وكذا إذا كان مماطلاً وأمكن إجباره بإعانة متسلط أو كان منكراً وأمكن إثباته عند الحاكم الشرعي وأخذه بلا كلفة ولا حرج ، بل وكذا إذا توقف استيفاؤه على الرجوع إلى حاكم الجور بناء على ما هو الأقوى من جواز الرجوع إليه مع توقف استيفاء الحق عليه لأنّه حينئذٍ يكون واجباً بعد صدق الاستطاعة لكونه مقدّمة للواجب المطلق (١).

______________________________________________________

(١) إذا لم يكن له مال خارجي يكفيه للحج ، ولكن كان له دين على شخص آخر يفي للحج ، ففي حصول الاستطاعة وعدمه بذلك ، تفصيل يتوقف على بيان صور المسألة :

الأُولى : ما إذا كان الدّين حالاً ، وكان المديون باذلاً ، فاللازم مطالبته واقتضاؤه وصرفه في الحجّ ، لصدق الاستطاعة بذلك ، لعدم اختصاص عنوان الاستطاعة بالعين الخارجية ، بل يشمل ملكية ذمة الغير أيضاً ، لأن الميزان في الاستطاعة المعتبرة كما عرفت غير مرّة هو التمكن من الزاد والراحلة ولو قيمة وبدلاً ووجود ما يحجّ به عنده ، وكل ذلك صادق في المقام.

الصورة الثانية : ما إذا كان الدّين حالاً ، ولكن المديون غير باذل لمماطلته ، أو كان غير معترف به وأمكن إجباره بإعانة متسلط ، أو إثباته بالرجوع إلى الحاكم حتى حاكم الجور بناء على جواز الرجوع إليه إذا توقف إثبات الحق واستيفاؤه عليه فهل يجب الرجوع إلى الحاكم لإجباره وإنقاذ حقه منه أم لا؟.

اختار المصنف الوجوب ، لأن الواجب واجب مطلق فتجب مقدمته ، وهو الصحيح ، لأن المفروض صدق الاستطاعة ، وأن له المال ، ويتمكّن من التصرّف فيه

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وصرفه في الحجّ ولو بمقدمة كالرجوع إلى متسلط أو الحاكم لإنقاذ ماله وحقه منه.

وهذا نظير ما إذا كان له مال مدفون في الأرض ، أو كان محروزاً في صندوق وتوقف التصرف فيه على حفر الأرض وفتح الصندوق بعلاج ونحوه ، فإنه لا ريب في الوجوب ، فإن القدرة التكوينية إذا كانت متوقفة على مقدمات ، لا يوجب ذلك سقوط الواجب ، بل يجب عقلاً تحصيل المقدمات. نعم ، لا بدّ أن لا يكون فيه حرج وكلفة زائدة ، وإلّا فيسقط لأجل الحرج.

الصورة الثالثة : ما إذا كان الدّين مؤجلاً ، ولكن المديون يبذله لو طالبه قبل الأجل ، فالظاهر أيضاً هو الوجوب ، لصدق الاستطاعة ، وأن له ما يحج به بالفعل وهو متمكن من صرفه فيه ولو بالمطالبة ، ومجرد توقف التصرف على المطالبة لا يوجب عدم صدق الاستطاعة ، فإن ذلك كالموجود في الصندوق المحتاج فتحه إلى العلاج ، أو المدفون في الأرض المحتاج إخراجه إلى الحفر ونحوه ، فإن مقدمة الواجب المطلق واجبة بحكم العقل. نعم ، لو فرض أنه لو طالبه لا يبذل ، لا يجب عليه الحجّ كما لا يجب عليه المطالبة والسؤال.

الصورة الرابعة : ما لو شك في البذل له لو طالبه. ذكر المصنف (قدس سره) في آخر المسألة أن الظاهر عدم الوجوب ، وهو الصحيح ، لأنه يشك في الاستطاعة وهو مساوق للشك في التكليف ، ومقتضى الأصل البراءة.

نعم ، يستثني من ذلك ما لو شك في القدرة العقلية المأخوذة في سائر الواجبات المطلقة ، وليس له الرجوع إلى أصالة البراءة بمجرّد الشك في القدرة ، بل عليه الفحص ، فإن القدرة العقلية غير دخيلة في الملاك ، وإذا ترك الواجب مع الشك في القدرة ، وكان الوجوب ثابتاً في الواقع فقد فوّت على نفسه الملاك الثابت للواجب ولعل هذا هو المرتكز في أذهان العقلاء ، فإن المولى إذا أمر عبده بشراء اللحم مثلاً ليس للعبد تركه معتذراً باحتمال عدم وجود اللّحم في السوق ، بل عليه الفحص وهذا ممّا لا كلام فيه.

وأمّا لو شكّ في القدرة الشرعية المأخوذة في الملاك ، فيجوز له الرجوع إلى أصالة

٨٦

وكذا لو كان الدّين مؤجّلاً وكان المديون باذلاً قبل الأجل لو طالبه (*) ، ومنعُ صاحب الجواهر الوجوب حينئذٍ بدعوى عدم صدق الاستطاعة محلُ منع ، وأمّا لو كان المديون معسراً أو مماطلاً لا يمكن إجباره أو منكراً للدّين ولم يمكن إثباته أو كان الترافع مستلزماً للحرج أو كان الدّين مؤجلاً مع عدم كون المديون باذلاً فلا يجب (**) ، بل الظاهر عدم الوجوب لو لم يكن واثقاً ببذله مع المطالبة.

______________________________________________________

البراءة ، لأنّ المورد بعد فرض دخل القدرة في الملاك من موارد الشك في التكليف والقدرة المأخوذة في الحجّ المفسرة في الروايات بالزاد والراحلة قدرة شرعية ، بمعنى دخلها في الملاك ، وهي قدرة خاصة مأخوذة في الحجّ ، والقدرة الشرعية بهذا المعنى تغاير القدرة الشرعية المصطلحة التي يزاحمها جميع الواجبات المأخوذة فيها القدرة العقلية ، فإن القدرة المأخوذة في الحجّ بمعناها الخاص وسط بين القدرة الشرعية المصطلحة وبين القدرة العقلية المحضة ، وليس حالها حال القدرة العقلية المأخوذة في سائر الواجبات.

الصورة الخامسة : ما إذا كان المديون معسراً أو مماطلاً لا يمكن إجباره ، أو منكراً للدين ولم يمكن إثباته ، فقد حكم في المتن بعدم الوجوب في جميع هذه الصور ، لعدم كونه مستطيعاً.

أقول : ما ذكره على إطلاقه غير تام ، وإنما يتم في بعض الصور ، فإن الدّين في مفروض المقام لو تمكن من بيعه نقداً بأقل منه كما هو المتعارف يجب عليه بيعه لصدق الاستطاعة ، وأن عنده ما يحج به ، وقد عرفت أن المناط في صدق الاستطاعة وجود ما يحج به عيناً أو بدلاً وقيمة ، بل حتى إذا كان الدّين مؤجّلاً ولم يبلغ أجله وأمكن بيعه نقداً بمقدار يفي للحج على ما هو المتعارف ، يجب عليه ذلك لصدق الاستطاعة.

__________________

(*) فإن له ما يحج به بالفعل وهو متمكن من صرفه فيه ولو بالمطالبة.

(**) هذا إذا لم يمكن بيع الدّين بما يفي بمصارف الحجّ ولو بتتميم ما عنده فيما إذا لم يكن فيه حرج أو ضرر.

٨٧

[٣٠١٣] مسألة ١٦ : لا يجب الاقتراض للحج إذا لم يكن له مال وإن كان قادراً على وفائه بعد ذلك بسهولة ، لأنّه تحصيل للاستطاعة وهو غير واجب نعم لو كان له مال غائب لا يمكن صرفه في الحجّ فعلاً ، أو مال حاضر لا راغب في شرائه ، أو دين مؤجل لا يكون المديون باذلاً له قبل الأجل ، وأمكنه الاستقراض والصرف في الحجّ ثمّ وفاؤه بعد ذلك فالظاهر وجوبه (*) لصدق الاستطاعة حينئذ عرفاً ، إلّا إذا لم يكن واثقاً بوصول الغائب أو حصول الدّين بعد ذلك فحينئذٍ لا يجب الاستقراض لعدم صدق الاستطاعة في هذه الصورة (١).

______________________________________________________

ويجري ذلك في الإعسار أيضاً إذا أمكن بيعه لمن وجب عليه الزكاة فيشتريه ويدفع المال إلى الدائن ، ويحسب الدّين على المديون من باب الزكاة.

(١) في هذه المسألة فرعان :

الأوّل : أنه لا يجب الاقتراض للحج إذا لم يكن له مال بقدر ما يحج به ، وإن كان متمكناً من أدائه بسهولة وبغير مشقة ، لأنه تحصيل للاستطاعة ، وهو غير واجب ومجرد التمكن من وفائه لا يوجب صدق الاستطاعة بالفعل. نعم ، لو استقرض يجب عليه الحجّ ، لأنه استطاع وصار واجداً للزاد والراحلة ، بناء على أن الدّين بنفسه لا يمنع عن الاستطاعة.

وبعبارة اخرى : إيجاد الموضوع غير واجب عليه ، ولكن لو أوجده يترتب عليه حكمه ، لفعلية الحكم بوجود موضوعه ، كما أنه لا يجب الاستيهاب قطعاً ، ولكن لو استوهب يجب ، لأنه يكون واجداً ومستطيعاً بالفعل.

الثاني : أنه إذا كان له مال غائب لا يمكن صرفه في الحجّ فعلاً ، أو مال حاضر لا راغب في شرائه ، أو دين مؤجل لا يبذله المديون قبل الأجل ، وتمكن من الاستقراض والصرف في الحج ثمّ أدائه بعد ذلك ، ففي وجوب الاستقراض وعدمه وجهان ، اختار

__________________

(١) بل الظاهر عدمه ، نعم إذا أمكن بيع المال الغائب بلا ضرر مترتب عليه وجب البيع أو الاستقراض.

٨٨

[٣٠١٤] مسألة ١٧ : إذا كان عنده ما يكفيه للحج وكان عليه دين ففي كونه مانعاً عن وجوب الحجّ مطلقاً سواء كان حالّا مطالباً به أو لا ، أو كونه مؤجّلاً أو عدم كونه مانعاً إلّا مع الحلول والمطالبة ، أو كونه مانعاً إلّا مع التأجيل أو الحلول مع عدم المطالبة ، أو كونه مانعاً إلّا مع التأجيل وسعة الأجل للحج والعود أقوال (١)

______________________________________________________

المصنف (قدس سره) الوجوب ، لصدق الاستطاعة حينئذ عرفاً.

وفيه : أن الموضوع في الروايات مَنْ كان له زاد وراحلة ، ومَنْ كان عنده ما يحج به ، وإذا فرض أن المال الغائب لا يمكن صرفه في الحجّ ، أو لم يكن له مشترٍ ، فليس عنده زاد وراحلة ، ولا عنده ما يحج به ، ويكون الاستقراض حينئذ تحصيلاً للاستطاعة.

نعم ، إذا أمكن بيع الدّين المؤجل بالنقد فعلاً كما هو المتعارف ، أو بيع المال الغائب بلا ضرر عليه ، وجب الاستقراض أو البيع لصدق الاستطاعة حينئذ ، لما عرفت أن الاستطاعة لا تختص بالزاد والراحلة عيناً ، بل يكفي وجودهما قيمة وبدلاً. فلا بدّ من التفصيل بين ما لا يتمكن من تبديله وصرفه في الحجّ ، وبين ما يتمكن ، ويجب الاستقراض في الثاني دون الأوّل ، لأن العبرة بتحقق ما يحج به عنده عيناً أو قيمة وبدلاً حتى بالاستقراض ، فوجوب الاستقراض مطلقاً كما في المتن محل منع.

(١) إذا كان عليه دين ، وكان له مال لا يفي إلّا للدين أو الحجّ ، فهل يقدم الحجّ أو الدّين فقد اختلف العلماء في ذلك ، ذهب جماعة منهم كالمحقق (١) والعلّامة (٢) والشهيد (٣) إلى أن الدّين مطلقاً بجميع أقسامه يمنع عن وجوب الحجّ ، سواء كان الدّين حالّا مع المطالبة وعدمها أو مؤجّلاً ، سواء كان واثقاً من الأداء بعد الحجّ أم لا.

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٠١.

(٢) المنتهي ٢ : ٦٥٣ السطر ٤.

(٣) الدروس ١ : ٣١٠ ، الروضة البهية ٢ : ١٦٦.

٨٩

والأقوى كونه مانعاً إلّا مع التأجيل والوثوق بالتمكن من أداء الدّين إذا صرف ما عنده في الحجّ ، وذلك لعدم صدق الاستطاعة (*) في غير هذه الصورة ، وهي المناط في الوجوب لا مجرد كونه مالكاً للمال وجواز التصرف فيه بأي وجه أراد وعدم المطالبة في صورة الحلول أو الرضا بالتأخير لا ينفع في صدق الاستطاعة ، نعم لا يبعد الصدق إذا كان واثقاً بالتمكن من الأداء مع فعلية

______________________________________________________

ويستدلّ لهم بأن الموضوع في وجوب الحجّ هو الموسر ، ومن كان مديوناً ليس بموسر ، وفي الصحيح «من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عزّ وجلّ (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)» (١) وكذا فُسرت الاستطاعة في بعض الأخبار كرواية عبد الرحيم القصير باليسار ، قال (عليه السلام) «ذلك القوّة في المال واليسار ، قال : فإن كانوا موسرين فهم ممن يستطيع؟ قال : نعم» (٢).

وفيه : أن اليسار المأخوذ في موضوع الحجّ مقابل العسر ، ومن يتمكن من أداء دينه بعد الحجّ بسهولة ومن دون مشقة فهو موسر. وبعبارة اخرى : من كان متمكناً من أداء الدّين وترك الحجّ ، فهو ممن ترك الحجّ وهو موسر ، ومجرد اشتغال الذمة بالدين لا يمنع من صدق اليسار.

ومنهم من ذهب كالسيد في المدارك إلى أن المانع عن وجوب الحجّ هو الدّين الحالّ المطالب به ، وأما غير الحال أو غير المطالب به فغير مانع لتحقق الاستطاعة المقتضية

__________________

(*) الاستطاعة قد فسرت في الروايات بالتمكن من الزاد والراحلة ، والمفروض في المقام تحققها فيقع التزاحم بين وجوب الحجّ ووجوب أداء الدّين ، لكن وجوب أداء الدّين أهم فيقدم فيما إذا كان صرف المال في الحجّ منافياً للأداء ولو في المستقبل ، وبذلك يظهر الحال في بقية المسألة.

(١) الوسائل ١١ : ٢٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٩ ح ٣.

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

للوجوب (١).

وفيه : أنه لو تمّ هذا التفصيل فلا بدّ من التعميم للحالّ الذي لم يأذن له الدائن بالتأخير وإن لم يكن مطالباً ، لأن العبرة بوجوب الأداء ، وهو غير متوقّف على المطالبة ، بل لو حلّ الدّين ولم يأذن الدائن بالتأخير وجب الأداء وإن لم يطالب ، فالمانع هو وجوب الأداء ، ولا يختص ذلك بالحالّ المطالَب به ، بل يشمل ما حلّ ولم يأذن له الدائن بالتأخير وإن لم يطالب.

ومنهم من ذهب إلى أن الدّين يمنع عن وجوب الحجّ ، إلّا المؤجل الذي وسع وقته للحج والعود ، واختاره كاشف اللثام (٢). ولو تم ما ذكره لكان عليه أن يزيد قيداً آخر وهو الحالّ الذي أذن له بالتأخير ، لعدم الفرق بينه وبين الموسّع ، فلا يختص عدم المنع بالمؤجل الذي وسع وقته.

وذهب صاحب المستند إلى التخيير في بعض الصور وتقديم الحجّ في بعضها الآخر (٣) وحاصل ما ذكره : أن كلا من أداء الدّين والحجّ واجب ، وهو مطالب بامتثال الأمرين ، لأنهما واجبان في عرض واحد ، وحيث لا يتمكّن من الجمع بينهما يقع التزاحم بين الأمرين ، فلا بدّ من إعمال قواعد باب التزاحم ، هذا إذا كان الدّين حالّا مطالباً ، وأما إذا كان مؤجّلاً فلا تزاحم في البين أصلاً ، ويجب الحجّ بلا إشكال سواء كان واثقاً بالأداء بعد الحجّ أم لا ، لأنّ وجوب الحج فعلي ولا يزاحمه واجب آخر ، وانّما يتحقق التزاحم فيما إذا كان الدّين حالّا ، واللّازم حينئذ بعد عدم الترجيح التخيير بينهما في صورة المطالبة ، أو التأجيل مع عدم سعة الأجل للذهاب والعود وأمّا في صورة الحلول مع الرضا بالتأخير أو التأجيل مع سعة الأجل للحج والعود يقدم الحجّ ، إذ لا مزاحم له بالفعل ، ويكون خطاب الحجّ خالياً عن المعارض.

__________________

(١) المدارك ٧ : ٤٣.

(٢) لاحظ كشف اللثام ٥ : ٩٨.

(٣) المستند ١١ : ٤٣.

٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه : أن ما ذكره لا يتم فيما إذا لم يكن واثقاً بأداء الدّين بعد أعمال الحجّ ، لأن أداء الدّين واجب ، ويجب عليه حفظ القدرة لأدائه ، فإن الدّين وإن كان مؤجلاً لكن ليس له تفويت المال بحيث لا يتمكن من الأداء ، بل عليه التحفّظ على قدرته ، فيقع التزاحم في هذه الصورة بين وجوب حفظ القدرة لأداء الدّين ووجوب الحجّ ، فمجرد التأجيل لا يكفي لعدم التزاحم. فكلامه (عليه الرحمة) على إطلاقه غير تام ، بل يقيّد بالوثوق بالأداء بعد الحجّ ، بمعنى أنه لو وثق بالأداء بعد الحجّ يتقدم الحجّ ، وإلّا يقع التزاحم.

واختار المصنف (قدس سره) وجهاً آخر وهو : أن أداء الدّين إذا كان واجباً عليه بالفعل كالحالّ ، أو كان الدّين مؤجلاً لا يثق بالأداء بعد الحجّ ، فيسقط الحجّ لعدم صدق الاستطاعة ، وأما إذا كان مؤجلاً يتمكن من الأداء بعد الحجّ ، أو كان حالّا وأذن له بالتأخير ، يجب الحجّ لصدق الاستطاعة.

وما ذكره هو الصحيح لا لما ذكره من صدق الاستطاعة وعدمه ، فإنّ الاستطاعة فُسرت في النصوص بالتمكّن من الزاد والراحلة وتخلية السرب ، وهي قدرة خاصة والمفروض في المقام تحققها حتى في صورة الدّين الحالّ المطالَب ، فإن الدّين بنفسه لا يكون مانعاً من تحقق الاستطاعة المفسرة في الروايات ، بل لأن الإطلاقات الدالة على وجوب الحجّ تشمل المقام ، فيقع التزاحم بين وجوب الحجّ ووجوب أداء الدّين لأن المفروض أنه لا يمكن الجمع بين امتثال الحكمين ، فلا بدّ من التخيير أو الترجيح. ولكن المتعين سقوط الحجّ وتقديم أداء الدّين ، ولا مجال للتخيير فيما إذا كان الدّين حالّا مطالباً به ، أو مؤجلاً مع عدم الوثوق بالأداء بعد الحجّ ، وذلك للجزم بأهميّة الدّين ، فإن الخروج عن عهدة حقوق الناس أهم من حق الله تعالى ، بل لو كان محتمل الأهميّة لتقدم ، لأن محتمل الأهميّة من جملة المرجحات في باب التزاحم.

والحاصل : أنّ الاستطاعة بالمعنى المفسر في النصوص في المقام متحققة ، ولكن الدّين لأهميّته معجّز ومانع عن صرف المال في الحجّ ، لا أنه غير مستطيع كما ذكر في المتن ، والحجّ وإن كان من مباني الإسلام ومن الواجبات المهمّة ، لكنّه كذلك بالنسبة

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى من يجب عليه ، وعند فعلية الوجوب لا مطلقاً ، ومن ثمّ لا يجب عند توقفه على ارتكاب بعض المحرمات المهمّة كالزنا واللواط وقتل النفس وشرب الخمر.

فتحصل : أن الدّين بما هو دين لا يكون مزاحماً للحج ، وإنما يزاحمه فيما إذا كان أداء الدّين واجباً بالفعل ، كما إذا كان حالّا ، أو كان صرف المال في الحجّ منافياً للأداء في المستقبل ، وحينئذ يقدم الدّين لأهميّته جزماً أو احتمالاً ، وأما إذا كان متمكناً من أدائه في وقته ، أو كان حالّا وأذن له بالتأخير ، فلا مزاحمة أصلاً ، ولا ينبغي الإشكال في تقديم الحجّ.

ويدلّ على ما ذكرنا أيضاً صحيح معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل عليه دين أعليه أن يحجّ؟ قال : نعم ، إن حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين» (١) فإن المستفاد منه أن الدّين بنفسه لا يكون مانعاً عن الحجّ ، فما ذهب إليه المحقق وجماعة من أن الدّين مطلقاً مانع عن الحجّ (٢) لا وجه له.

وأمّا إنكار المصنف (قدس سره) أهميّة الدّين من الحجّ مستشهداً بتوزيع التركة على الحجّ والدّين وعدم تقديم دين الناس ، فإن ذلك يدل على عدم أهميّة الدّين ، وإلّا لزم تقديم الدّين على الحجّ ، ففيه :

أوّلاً : أن مورد التوزيع هو حال الوفاة ، وذلك لا يكشف عن عدم الأهميّة للدّين حال الحيوة ، فإن الميت لا تكليف عليه ، وإنما يكون ضامناً ومديوناً ، وهذا بخلاف الحي ، فإنه مكلف بأداء الدّين والحجّ ، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

وبعبارة اخرى : حكم الدّين حال الوفاة وضعي محض ، وأما حال الحياة فالحكم تكليفي أيضاً ، فلا يقاس الحكم التكليفي بالوضعي ، فأحد البابين أجنبي عن الآخر.

وثانياً : أن المصرّح به في الروايات (٣) كون الحجّ ديناً وأنه يخرج من صلب المال

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ١١ ح ١.

(٢) الشرائع ١ : ٢٠١.

(٣) الوسائل ١١ : ٦٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٥ ، ٢٨.

٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فهما سيّان من هذه الجهة ، غاية الأمر أحدهما دين الله والآخر دين الناس ، فهو كأنه مدين لشخصين لا يفي المال إلّا لأحدهما ويوزع المال بينهما قهراً ، فلا يكون التوزيع حينئذ شاهداً على عدم أهميّة دين الناس.

وثالثاً : أن التوزيع الذي استشهد به لم يدل عليه أيّ دليل ، وإنما ذكره العلماء في كلماتهم ، بل يظهر من صحيح بريد العجلي (١) الوارد في من مات قبل أن يحرم ، أنه يصرف جمله وزاده ونفقته وما معه في حجّة الإسلام ، فإن فضل من ذلك شي‌ء فهو للدين ثمّ للورثة عدم التوزيع وتقديم الحجّ على الدّين ، ولكن إنما نلتزم بتقديم الحجّ على الدّين في مورد الوفاة للنص ، وأين هذا من تكليف نفس الشخص حال حياته وكان عليه دين غير واثق بأدائه في وقته أو أنه حالّ مطالب به.

ويدلُّ أيضاً على تقديم الحجّ على الدّين حال الوفاة صحيح معاوية بن عمار «رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجّة الإسلام وترك ثلاثمائة درهم ، فأوصى بحجّة الإسلام ، وأن يقضى عنه دين الزكاة ، قال : يحجّ عنه من أقرب ما يكون ، ويخرج البقية في الزكاة» (٢) ومورده وإن كان عنوان الزكاة إلّا أنه لا خصوصية له لأنّ الزكاة دين أيضاً ، ومع الغض عن الصحيحين لا بدّ من صرف المال في الدّين لكونه أهم كما عرفت.

وبعبارة أُخرى : إذا كان المال وافياً للأمرين فلا كلام في التوزيع ، وإلّا فيقع التزاحم بينهما حياً كان صاحب المال أو ميتاً. ولو كنا نحن ومقتضى القاعدة ، فلا بدّ من صرف المال في الدّين لأهميّته ، ولكن في مورد الوفاة يصرف المال في الحجّ بمقتضى النص ، فالتوزيع الذي ذكره المصنف (قدس سره) لا يجري في المقام أصلاً ، بل يدور الأمر بين تقديم الدّين حسب ما تقتضيه القاعدة ، أو تقديم الحجّ كما يقتضيه النص.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٦٨ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٦ ح ٢.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٥٥ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٢١ ح ٢.

٩٤

الرضا بالتأخير من الدائن ، والأخبار الدالّة على جواز الحجّ لمن عليه دين لا تنفع في الوجوب وفي كونه حجّة الإسلام. وأما صحيح معاوية بن عمّار عن الصادق (عليه السلام) «عن رجل عليه دين ، أعليه أن يحج؟ قال : نعم ، إن حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين». وخبر عبد الرحمن عنه (عليه السلام) أنه قال : «الحجّ واجب على الرجل وإن كان عليه دين» فمحمولان على الصورة

______________________________________________________

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أن الدّين بنفسه لا يكون مانعاً عن الحجّ ، وإذا كان عنده مال يفي بنفقات الحجّ وكان عليه دين ، ولم يكن صرف المال في الحجّ منافياً لأداء الدّين ، وجب عليه الحجّ ، وإلّا فيقدم الدّين لأهميّته. وأما إذا مات وعليه الدّين وحجّة الإسلام يتقدم الحجّ للنص.

ثمّ إن الفارق بين ما ذكرنا وما ذكره المصنف (قدس سره) بعد اشتراكنا معه في تقديم الدّين فيما إذا كان صرف المال في الحجّ منافياً لأداء الدّين ، لعدم صدق الاستطاعة في هذه الصورة كما ذهب إليه المصنف ، أو للتزاحم وتقديم الدّين لكونه أهم كما هو المختار هو عدم سقوط حجّ الإسلام عنه لو عصى ولم يؤد الدّين وحجّ لأنه غير مستطيع على مختاره ، وسقوطه عنه بناء على التزاحم ، لأنّه مستطيع على الفرض غاية الأمر يجب عليه صرف المال في الدّين ، فلو عصى وحجّ بالمال صحّ حجّه على القول بالترتب.

وأمّا ما ذكره جماعة من أن الحجّ مشروط بالقدرة الشرعية فيزاحمه أيّ واجب كان ، ويسقط الحجّ حينئذ ، ففيه : ما عرفت ، من أن المعتبر في الحجّ حسب النصوص هو التمكن من الزاد والراحلة وتخلية السرب ، والزائد على ذلك غير معتبر في الحجّ فإذا زاحمه واجب آخر لا يرتفع موضوع الاستطاعة ، بل لا بدّ من إعمال قاعدة التزاحم من التخيير إذا فرض كون الحجّ والواجب الآخر متساويين أو التعيين إذا كان أحدهما أهم ، فما ذكره المصنف من أن الدّين مانع ورافع لموضوع الاستطاعة لا أساس له.

٩٥

التي ذكرنا أو على من استقرّ عليه الحجّ سابقاً وإن كان لا يخلو من إشكال كما سيظهر ، فالأولى الحمل الأوّل.

وأمّا ما يظهر من صاحب المستند من أن كُلّاً من أداء الدّين والحجّ واجب فاللّازم بعد عدم الترجيح التخيير بينهما في صورة الحلول مع المطالبة ، أو التأجيل مع عدم سعة الأجل للذهاب والعود وتقديم الحجّ في صورة الحلول مع الرضا بالتأخير ، أو التأجيل مع سعة الأجل للحج والعود ولو مع عدم الوثوق بالتمكن من أداء الدّين بعد ذلك حيث لا تجب المبادرة إلى الأداء فيهما ، فيبقى وجوب الحجّ بلا مزاحم.

ففيه : أنه لا وجه للتخيير في الصورتين الأُوليين ولا لتعيين تقديم الحجّ في الأخيرتين بعد كون الوجوب تخييراً أو تعييناً مشروطاً بالاستطاعة غير الصادقة في المقام خصوصاً مع المطالبة وعدم الرّضا بالتأخير ، مع أنّ التخيير فرع كون الواجبين مطلقين وفي عرض واحد ، والمفروض أن وجوب أداء الدّين مطلق بخلاف وجوب الحجّ فإنه مشروط بالاستطاعة الشرعية ، نعم لو استقرّ عليه وجوب الحجّ سابقاً فالظاهر التخيير لأنهما حينئذ في عرض واحد ، وإن كان يحتمل تقديم الدّين إذا كان حالّا مع المطالبة أو مع عدم الرضا بالتأخير لأهميّة حق الناس من حق الله ، لكنّه ممنوع ولذا لو فرض كونهما عليه بعد الموت يوزع المال عليهما (١) ولا يقدم دين الناس ، ويحتمل تقديم الأسبق منهما في الوجوب ، لكنّه أيضاً لا وجه له كما لا يخفى.

[٣١٠٥] مسألة ١٨ : لا فرق في كون الدّين مانعاً (٢) من وجوب الحجّ ـ

__________________

(١) التوزيع إنما هو في فرض كفاية المال لهما ، وإلّا فلا بدّ من صرفه في الحجّ بمقتضى النص ، ولولاه كان المتعين الصرف في الدّين.

(٢) على ما عرفت [في المسألة السابقة].

٩٦

بين أن يكون سابقاً على حصول المال بقدر الاستطاعة أو لا ، كما إذا استطاع للحج ثمّ عرض عليه دين بأن أتلف مال الغير مثلاً ، على وجه الضمان من دون تعمد قبل خروج الرفقة أو بعده ، قبل أن يخرج هو أو بعد خروجه قبل الشروع في الأعمال ، فحاله حال تلف المال من دون دين فإنّه يكشف عن عدم كونه مستطيعاً (١).

[٣٠١٦] مسألة ١٩ : إذا كان عليه خمس أو زكاة وكان عنده مقدار ما يكفيه للحج لولاهما فحالهما حال الدّين مع المطالبة (٢) ، لأنّ المستحقين لهما مطالبون فيجب صرفه فيهما ولا يكون مستطيعاً (*) ، وإن كان الحجّ مستقراً عليه سابقاً تجي‌ء الوجوه المذكورة من التخيير أو تقديم حق الناس (**) أو تقدّم الأسبق ، هذا إذا كان الخمس أو الزكاة في ذمّته ، وأمّا إذا كانا في عين ماله فلا إشكال في تقديمهما على الحجّ سواء كان مستقرّاً عليه أو لا ، كما أنهما يقدّمان على ديون الناس

______________________________________________________

(١) الأمر كما ذكره سواء قلنا بالتزاحم كما هو المختار عندنا ، أو بعدم صدق الاستطاعة كما هو مختار المصنف (قدس سره). وبالجملة : بناء على ما ذكرنا يقع التزاحم بقاء فإن العبرة بالفعلية ، فإذا عرض عليه دين بعد حصول الاستطاعة زاحمه بقاء ويجري ما تقدّم ، من دون فرق بين كون الموجب للضمان والدّين عمدياً أو خطئياً ، وإنما قيّد في المتن بالعمد لعلّه لنكتة وهي : أن الإتلاف إذا كان عن عمد يستقر الحجّ في ذمّته لأنه تفويت عمدي ، وأمّا الخطأ فلا يوجب الاستقرار ، فالفرق إنما هو من جهة الاستقرار وعدمه ، وأما من جهة التكليف الفعلي فلا فرق بين العمد وغيره.

(٢) لعدم الفرق بين الدّين الشخصي وغيره كالجهة ، فيجب عليه صرف المال فيهما وبالصرف تزول الاستطاعة كما هو الحال في سائر الديون على ما عرفت. هذا إذا

__________________

(*) بل هو مستطيع كما مر ، لكنه مع ذلك يجب صرف المال فيهما وبالصرف تزول الاستطاعة.

(**) تقدم أنه المتعيّن.

٩٧

أيضاً ، ولو حصلت الاستطاعة والدّين والخمس والزكاة معاً فكما لو سبق الدّين.

[٣١٠٧] مسألة ٢٠ : إذا كان عليه دين مؤجل بأجل طويل جدّاً كما بعد خمسين سنة فالظاهر عدم منعه عن الاستطاعة ، وكذا إذا كان الديّان مسامحاً في أصله كما في مهور نساء أهل الهند ، فإنهم يجعلون المهر ما لا يقدر الزوج على أدائه كمائة ألف روبية أو خمسين ألف لإظهار الجلالة ، وليسوا مقيّدين بالإعطاء والأخذ ، فمثل ذلك لا يمنع من الاستطاعة ووجوب الحجّ ، وكالدّين ممّن بناؤه على الإبراء إذا لم يتمكن المديون من الأداء أو واعده بالإبراء بعد ذلك (١).

______________________________________________________

كان الخمس أو الزكاة في ذمّته.

وأمّا إذا كانا في عين ماله فلا ريب في تقديمهما على الحجّ لعدم صدق الاستطاعة حينئذ ، ولكن عدم الاستطاعة غير مستند إلى وجوب الأداء وحرمة التصرف ، وإنما يستند إلى عدم وجدان المال للحج وعدم الموضوع له ، فإنه ليس بمالك للزاد والراحلة لأنّ المال ملك لشخص آخر على الفرض فالموضوع منفي ، ولذا لو عزل الزكاة لم يجب عليه الأداء فعلاً ويجوز له التأخير ، ومع ذلك لا يجب عليه الحجّ ، فيتبين أن عدم وجوب الحجّ غير مستند إلى الحكم التكليفي كوجوب الأداء وحرمة التصرّف بل هو مستند إلى عدم تحقق الموضوع.

(١) ما ذكره وإن كان صحيحاً في الجملة ولكنه لا يختص الحكم بالموارد المذكورة ، فإن العبرة كما عرفت في تقديم أحد الواجبين المتزاحمين على الآخر بأهميّته ، فكل مورد تحقق التزاحم وكان الدّين أهم يمنع عن الحجّ وإلّا فلا ، وقد يتحقّق التزاحم في الموارد المذكورة في المتن ويمنع الدّين عن الحجّ ، كما لو علم بعدم تمكنه من أداء الدّين ولو بعد خمسين سنة لو حجّ فعلاً ، أو يحتمل أن الزوجة تطالبه بالمهر أو ورثتها يطالبونها بعد الوفاة ، كما قد يحتمل عدم وفاء من وعده بالإبراء. وبالجملة : العبرة بالتزاحم وعدمه لا بطول المدّة وقلّتها.

٩٨

[٣٠١٨] مسألة ٢١ : إذا شك في مقدار ماله وأنه وصل إلى حدّ الاستطاعة أو لا ، هل يجب عليه الفحص أو لا؟ وجهان (*) ، أحوطهما ذلك ، وكذا إذا علم مقداره وشك في مقدار مصرف الحجّ وأنه يكفيه أو لا (١).

______________________________________________________

(١) الشك في الاستطاعة يتصور على وجهين :

الأوّل : ما إذا شك في وجدانه لمقدار مصارف الحجّ ، بمعنى أنه يعلم أن مصارف الحجّ خمسمائة دينار مثلاً ولكن لا يعلم بلوغ ماله هذا المقدار.

الثاني : ما إذا علم مقدار المال ولكن لا يعلم مقدار نفقة الحجّ فيشك في أن ما عنده يكفيه للحج أم لا ، ذكر المصنف (قدس سره) أن الأحوط لزوم الفحص في الصورتين حتى يكشف الأمر ، وتقدم نظير ذلك في باب الزكاة عند ما يشك في بلوغ النصاب وعدمه ، وهكذا في الخمس عند الشك في مقدار المئونة.

ولا يخفى أن الشبهة في المقام موضوعية ويجري فيها الأصل العقلي والنقلي والفحص يحتاج إلى دليل ، بل في جملة من الموارد يجري استصحاب عدم الزيادة وعدم بلوغ المال النصاب.

ولكن شيخنا الأُستاذ وجماعة ذهبوا إلى وجوب الفحص بدعوى أن أمثال ذلك من الفحص لا يعد من الفحص عرفاً ، كالمراجعة إلى دفتر الحساب أو كالنظر إلى الأُفق لتبيّن الفجر ونحو ذلك ، ولا مجال للرجوع إلى الأصل في أمثال ذلك (١).

وفيه : أنه لا يهمنا صدق عنوان الفحص وعدمه ، وذلك لأنّ الحكم لم يعلق على عنوان الفحص ، ولم يؤخذ الفحص في حكم من الأحكام حتى يقال بأن هذا المقدار من الفحص ليس بفحص عرفاً أو هو فحص عرفاً ، وإنما المهم صدق عنوان العالم والجاهل ولا واسطة بينهما ، فإن كان عالماً لا يجري في حقه الأصل بخلاف ما إذا كان

__________________

(*) أظهرهما عدم الوجوب وكذلك فيما بعده.

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٠١.

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

جاهلاً. نعم ، إنما يجب الفحص في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، والشبهات الحكمية ، وفيما إذا ثبت وجوبه بدليل خاص في الشبهات الموضوعية.

وبالجملة : متى صدق عنوان الجاهل لا يجب عليه الفحص ويجوز له الرجوع إلى الأصل حتى في مثل مراجعة الدفتر والنظر إلى الفجر ، لإطلاق أدلة الأُصول. نعم ، قد لا يصدق الجاهل في بعض موارد الفحص اليسير كالذي يتمكن من النظر إلى الأُفق بفتح عينيه ليرى الفجر ، فلا يجري استصحاب بقاء الليل.

وقد يستدل لوجوب الفحص بأنه لولا الفحص لزمت المخالفة القطعية كثيراً.

وفيه أوّلاً : النقض بموارد الشك في الطهارة والنجاسة فإنه يعلم بمخالفة الأُصول الجارية في موارده للواقع كثيراً.

وثانياً : بالحل ، وحاصله : أن المكلف بالنسبة إلى نفسه لا يعلم بوقوعه في الخلاف ، وإلّا لكان من العلم الإجمالي الجاري في التدريجيات ويجب الفحص حينئذ. نعم ، قد يعلم بتحقق المخالفة بالنسبة إلى سائر الناس ، يعني قد يعلم بأن الأُصول التي يجريها الناس كثير منها مخالفة للواقع ، ولكن لا أثر لذلك بالنسبة إلى نفسه.

والحاصل : استلزام إجراء الأُصول المخالفة العملية كثيراً بالنسبة إلى نفسه ممنوع لعدم حصول العلم له بالمخالفة ، وأما بالنسبة إلى الناس فالمخالفة معلومة كثيراً ولكن لا أثر لذلك.

وقد يستدل عليه برواية زيد الصائغ الواردة في تصفية الدراهم المغشوشة مع الشك في مقدارها (١) ، فإن تصفية الدراهم المغشوشة لا تكون إلّا لأجل اعتبار الفحص. ولكن الرواية ضعيفة سنداً ودلالة ، أمّا ضعف السند فبزيد الصائغ ، وأما ضعف الدلالة فلأنه لا موجب للتصفية والتمييز بين المس والرصاص والفضة ، إذ يمكن إعطاء الزكاة بنسبة المال الموجود فيخلص من الزكاة ولا حاجة إلى تخليص الدراهم وعلاجها وتصفيتها ، والظاهر أن الرواية في مقام بيان كيفية التخليص وتعليمها.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ١٥٣ / أبواب زكاة النقدين ب ٧ ح ١.

١٠٠