موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: نينوى
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6084-13-3
الصفحات: ٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فمنها : صحيحة الخثعمي قال : «سأل حفص الكناسي أبا عبد الله (عليه السلام وأنا عنده عن قول الله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحاً في بدنه ، مخلى سربه ، له زاد وراحلة ، فهو ممّن يستطيع الحجّ ، أو قال : ممن كان له مال ، فقال له حفص الكناسي : فإذا كان صحيحاً في بدنه ، مخلى في سربه ، له زاد وراحلة فلم يحج فهو ممّن يستطيع الحجّ؟ ، قال : نعم» (١).

ومنها : معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سأله رجل من أهل القدر فقال : يا ابن رسول الله أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أليس قد جعل الله لهم الاستطاعة؟ فقال : ويحك إنما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة ، ليس استطاعة البدن» (٢). وهذه الرواية كالنص في أنّ الاستطاعة المعتبرة إنما هي من حيث الزاد والراحلة ، وعدم الاكتفاء بمجرد القدرة على المشي.

ولا مناقشة في السند ، إلّا في محمّد بن أبي عبد الله الذي هو من مشايخ الكليني ، فقد قيل : إنه لم يوثق ، ولكن قد ذكرنا في معجم الرجال أن محمّد بن أبي عبد الله الذي تكررت رواية الكافي عنه ، هو محمّد بن جعفر الأسدي الثقة (٣) وأما موسى بن عمران الواقع في السند ، فهو من رجال كامل الزيارات ، وكذلك النوفلي ، وأما السكوني فالأظهر كونه ثقة لتوثيق الشيخ له في العدّة (٤).

ومنها : صحيحة هشام بن الحكم «في قوله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحاً في بدنه ، مخلى سربه

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٤ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٤.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٤ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٥.

(٣) معجم رجال الحديث ١٥ : ٢٧٩ / ١٠٠٢٨.

(٤) لاحظ عدّة الأُصول ١ : ٥٦ السطر ١٣.

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

له زاد وراحلة» (١). هذه جملة من النصوص التي اعتمد عليها المشهور.

وبإزائها روايات قيل : إنها تدل على عدم العبرة بالراحلة.

منها : صحيحة محمّد بن مسلم قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ قال : هو ممّن يستطيع الحجّ ، ولِمَ يستحي ولو على حمار أجدع أبتر؟ قال : فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل» (٢).

ومنها : صحيحة الحلبي قال «قلت له : فإن عرض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك أهو ممّن يستطيع إليه سبيلاً؟ قال : نعم ، ما شأنه يستحي ولو يحجّ على حمار أجدع أبتر ، فإن كان يستطيع (يطيق) أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليحجّ» (٣).

ولا يخفى أن القائل بعدم اعتبار الراحلة في الاستطاعة ، وبالاكتفاء بالتمكّن من المشي ، لا يلتزم بمدلول هاتين الصحيحتين ، لأنه حرجي قطعاً ، وهو منفي في الشريعة المقدّسة ، ولا يلتزم به أحد ، فإن الحرج منفي مطلقاً ، والذي يستفاد من الروايتين أنهما وردا في حكم من ترك الحجّ اختياراً وحياء وقال (عليه السلام) «ولم يستحي» بعد ما بذل له ما يحج به وعرض عليه الحجّ ، فإنه يستقر عليه الحجّ حينئذ ، وليس له الامتناع والحياء بعد عرض الحجّ ، وإذا امتنع من القبول واستحيا ، يستقرّ عليه الحجّ ويجب عليه إتيانه ولو متسكعاً ، لأنه ترك ما يحج اختياراً بعد استقراره ، والمراد من قوله : فإن عرض عليه ما يحجّ به ، هو بذل الزاد والراحلة أو قيمتهما ، ومن المعلوم أنه بعد عرض ذلك عليه وبذله إياه وامتناعه يستقر عليه الحجّ ، فالحكم المذكور في النص

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٣٩ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ١. صورة إسناد هذا الحديث في الوسائل موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب عن صفوان. وفي التهذيب ٥ : ٣ / ٤ والاستبصار ٢ : ١٤٠ / ٤٥٦ موسى بن القاسم عن معاوية بن وهب عن صفوان ، ولصاحب المنتقى [منتقى الجمان ٣ : ٥٣] كلام في السند. والظاهر صحّة نسخة الوسائل ، لأن معاوية بن وهب لا يروي عن صفوان ، لأنه أقدم في الطبقة من صفوان.

(٣) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٥.

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

حكم بعد الاستقرار لا حكم السنة الأُولى ، فمورد الصحيحين أجنبي عن محل الكلام.

ومنها : رواية أبي بصير قال «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : قول الله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ... قال : يخرج ويمشي إن لم يكن عنده ، قلت لا يقدر على المشي ، قال : يمشي ويركب ، قلت : لا يقدر على ذلك أعني المشي ، قال : يخدم القوم ويخرج معهم» (١) ولا يخفى أن مدلول هذه الرواية مقطوع البطلان ، إذ لم يلتزم أحد حتى القائل بكفاية القدرة على المشي بلزوم الخدمة في الطريق ، مضافاً إلى ضعف السند بعلي بن أبي حمزة البطائني.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار ، وهي العمدة في المقام قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل عليه دين أعليه أن يحجّ؟ قال : نعم ، إن حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين ، ولقد كان (أكثر) من حجّ مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) مشاة ، ولقد مرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكراع الغميم (٢) فشكوا إليه الجهد والعناء ، فقال : شدوا أُزرَكم واستبطنوا ، ففعلوا ذلك فذهب عنهم» (٣) ، فإنه (عليه السلام) حكم بوجوب الحجّ على من عليه الدّين ، لأن الحجّ واجب على كل من أطاق المشي ، والمراد من «أطاق» إعمال غاية الجهد والعناء ، كما هو المراد في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) (٤) أي على الذين يتحملون الصوم بجهد وحرج شديد ، كالشيخ والشيخة ، فانّ الطاقة وإن كانت بمعنى القدرة ولكن المراد من أطاق أو يطيق ، الذي هو من باب الإفعال ، إعمال الطاقة والقدرة وبذل آخر مرتبة القدرة ، ولكن لا ريب في عدم وجوب الحجّ في هذا المورد قطعاً ، ولم يلتزم أحد بوجوبه.

والظاهر أن المراد بالطاقة في الرواية القدرة على المشي في داره وبلده ، في مقابل

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ١١ ح ٢.

(٢) اسم واد بينه وبين مكّة نحو ثلاثين ميلاً. مجمع البحرين ٤ : ٣٨٥.

(٣) الوسائل ١١ : ٤٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ١١ ح ١.

(٤) البقرة ٢ : ١٨٤.

٦٣

وهل يكون اشتراط وجود الراحلة مختصاً بصورة الحاجة إليها لعدم قدرته على المشي أو كونه مشقة عليه أو منافياً لشرفه أو يشترط مطلقاً ولو مع عدم

______________________________________________________

المريض والمسجّى الذي لا يقدر على المشي أصلاً حتى في داره وبلده ، وليس المراد به المشي إلى الحجّ.

وبعبارة اخرى : الصحيحة في مقام بيان وجوب الحجّ على كل من كان قادراً على المشي ، وكان متمكناً منه في بلده في مقابل المريض الذي لا يتمكن من المشي ، فالرواية أجنبية عمن يطيق المشي ويتمكّن منه بجهد ومشقة. وأمّا الذين حجّوا مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فلم يعلم أن حجهم كان حجّة الإسلام ، ويحتمل كون حجّهم حجّا ندبيّاً ، وإن فرض أوّل سنتهم ، فإنّ الحجّ يستحبّ للمتسكع ، ولم يكن مسقطاً عن حجّة الإسلام ، وأما ذكر الإمام (عليه السلام) هذه القضية فليس للاستشهاد ، وإنما نقلها لمناسبة ما.

وبالجملة : لو سلمنا ظهور هذه الرواية في عدم اعتبار الراحلة فلا ريب أن ظهورها ليس بأقوى من ظهور تلك الروايات المتقدمة الدالة على اعتبار الراحلة ، بل تلك الروايات أظهر ، فنرفع اليد عن ظهور هذه الصحيحة لأجل أظهرية تلك الروايات.

فتحصل : أن المستفاد من الروايات اعتبار الزاد والراحلة مطلقاً حتى في حق القادر على المشي ، وبها نقيد الآية الشريفة ، وتحمل الآية على ما في الروايات ، ولا سيما أن الروايات واردة في تفسير الاستطاعة المذكورة في الآية ، وأمّا ما دلّ على كفاية التمكّن من المشي ، وعدم الاعتبار بالراحلة ، فلم يعمل بمضمونه أحد من الأصحاب حتى القائل بكفاية التمكن من المشي ، لأن مورد هذه الروايات حرجي وهو منفي في الشريعة المقدّسة.

ويؤيد بل يؤكد ما ذكرنا أن الحجّ لو كان واجباً على من تمكّن من المشي وإن لم يكن له راحلة ، لكان وجوبه حينئذ من جملة الواضحات لكثرة الابتلاء بذلك ، مع أنه

٦٤

الحاجة إليه؟ مقتضى إطلاق الأخبار والإجماعات المنقولة ، الثاني.

وذهب جماعة من المتأخِّرين إلى الأوّل لجملة من الأخبار المصرحة بالوجوب إن أطاق المشي بعضاً أو كلّاً ، بدعوى أن مقتضى الجمع بينها وبين الأخبار الأُول حملها على صورة الحاجة مع أنّها منزلة على الغالب بل انصرافها إليها ، والأقوى هو القول الثّاني لإعراض المشهور (*) عن هذه الأخبار مع كونها بمرأى منهم ومسمع ، فاللّازم طرحها أو حملها على بعض المحامل كالحمل على الحجّ المندوب وإن كان بعيداً عن سياقها ، مع أنها مفسرة للاستطاعة في الآية الشريفة ، وحمل الآية على القدر المشترك بين الوجوب والندب بعيد. أو حملها على من استقرّ عليه حجّة الإسلام سابقاً ، وهو أيضاً بعيد ، أو نحو ذلك ، وكيف كان فالأقوى ما ذكرنا ، وإن كان لا ينبغي ترك الاحتياط بالعمل بالأخبار المزبورة خصوصاً بالنسبة إلى من لا فرق عنده بين المشي والركوب أو يكون المشي أسهل لانصراف الأخبار الأُول عن هذه الصورة ، بل لولا الإجماعات المنقولة والشهرة لكان هذا القول في غاية القوّة.

[٢٩٩٩] مسألة ٢ : لا فرق في اشتراط وجود الراحلة بين القريب والبعيد حتى بالنسبة إلى أهل مكّة ، لإطلاق الأدلة ، فما عن جماعة من عدم اشتراطه بالنسبة إليهم لا وجه له (١).

______________________________________________________

قد ادعي الإجماع على خلافه ، وتسالم القدماء على اعتبار الراحلة.

(١) مقتضى إطلاق ما دل على اعتبار الراحلة عدم الفرق بين المسافة القريبة والبعيدة ، حتى بالنسبة إلى أهل مكّة للمضي إلى عرفات ورجوعه إلى مكّة ، وقطع

__________________

(*) لا لذلك ، بل لأنّ الأخبار بين ما هو ضعيف وما لا دلالة له ، وأما دعوى الانصراف فيما دلّ على وجوب الحجّ بالزاد والراحلة فعهدتها على مدّعيها.

٦٥

[٣٠٠٠] مسألة ٣ : لا يشترط وجودهما عيناً عنده ، بل يكفي وجود ما يمكن صرفه في تحصيلهما من المال ، من غير فرق بين النقود والأملاك من البساتين والدكاكين والخانات ونحوها ولا يشترط إمكان حمل الزاد معه ، بل يكفي إمكان تحصيله في المنازل بمقدار الحاجة ، ومع عدمه فيها يجب حمله مع الإمكان من غير فرق بين علف الدابة وغيره (١)

______________________________________________________

المسافة بينها وبين عرفات التي تبلغ أربعة فراسخ.

وعن جماعة منهم المحقق عدم اعتبار الراحلة بالنسبة إلى أهل مكّة وما قاربها وإنما تعتبر الراحلة لمن يفتقر إلى قطع المسافة البعيدة ، وأجابوا عن إطلاق الروايات الدالة على اعتبار الراحلة بأنها وردت في تفسير الآية الشريفة المختصة بحج البيت والسفر إليه ، فلا تشمل السفر إلى عرفات.

وبعبارة اخرى : الآية الشريفة بضميمة الروايات المفسرة لها ، تدل على اعتبار الراحلة لمن يسافر إلى البيت ويقصده ، كحج النائي الذي وظيفته حجّ التمتع ، وأما أهل مكّة وما قاربها فوظيفتهم حجّ الإفراد الّذي يسافرون فيه إلى عرفات لا إلى البيت ولا دليل على اعتبار الراحلة في السفر إلى عرفات (١).

ويرد عليهم : أنه لا ريب في أن البيت الشريف مقصود في جميع أقسام الحجّ ، ولا يختص بحجّ التمتّع ، فإن كل من يقصد الحجّ بأقسامه يقصد البيت وسائر المناسك غاية الأمر قد يقصده متقدماً كحج التمتع ، وقد يقصده متأخراً عن المناسك كحجّ القرآن والإفراد ، وقد يقصد البيت خاصّة كالعمرة المفردة.

(١) كما هو واضح ، فإن بعض الروايات وإن ذكر فيه الزاد والراحلة بخصوصهما ومقتضى الجمود على ذلك هو الاقتصار بوجودهما عيناً ، وعدم الاكتفاء بوجود ما يمكن صرفه في تحصيلهما ، فإن ذلك من تحصيل الاستطاعة ، وهو غير واجب ، ولكن

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٠٠.

٦٦

ومع عدمه يسقط الوجوب (١).

______________________________________________________

يظهر من جملة أُخرى من النصوص عدم الفرق بين وجود الزاد والراحلة عيناً ووجود بدلهما وقيمتهما.

ففي صحيحة معاوية بن عمار الواردة في تفسير الآية الشريفة «هذه لمن كان عنده مال» (١).

وفي صحيحته الأُخرى عن رجل له مال ولم يحج قط قال : «هو مَن قال الله تعالى (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)» (٢).

وفي صحيحة الحلبي «إذا قدر الرجل على ما يحج به» (٣) وما يحج به أعم من عين الزاد والراحلة وقيمتهما ، لصدق عنوان ما يحج به على ذلك جميعاً.

(١) الزاد من الطعام والماء بل وعلف الدابة ونحو ذلك من الحوائج إن كانت موجودة في كل منزل ينزله في الطريق فلا يجب الحمل ، وإن لم تكن موجودة في الطريق واحتاج إلى الحمل كالسفر في البر والبحر ، فذهب جماعة إلى عدم وجوب الحمل ، لأنه من تحصيل الاستطاعة ، ويسقط وجوب الحجّ حينئذ ، وذهب آخرون إلى وجوب الحمل ، إلّا إذا كان حرجياً زائداً على ما يقتضيه الحجّ ، وهذا القول هو الصحيح ، لصدق أن له زاداً على ما إذا تمكن من حمله ، وإن لم يكن موجوداً في الطريق ، ولا يختص بوجوده في الطريق بل عليه أن يحمله ، ولو بأن يستأجر دابّة لحملة.

والحاصل : لو استطاع أن يحمل الزاد ولو بأن تحمّله الدابة ، وجب عليه ذلك ومجرّد عدم وجدان الزاد في الطريق لا يوجب سقوط الحجّ.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ٢.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ٣.

٦٧

[٣٠٠١] مسألة ٤ : المراد بالزاد هنا المأكول والمشروب وسائر ما يحتاج إليه المسافر من الأوعية التي يتوقف عليها حمل المحتاج إليه وجميع ضروريات ذلك السفر بحسب حاله قوّة وضعفاً وزمانه : حرّا وبرداً وشأنه : شرفاً وضعة ، والمراد بالراحلة : مطلق ما يركب ولو مثل سفينة في طريق البحر ، واللّازم وجود ما يناسب حاله بحسب القوّة والضعف ، بل الظاهر اعتباره من حيث الضعة والشرف كماً وكيفاً (١) ، فإذا كان من شأنه ركوب المحمل أو الكنيسة بحيث يعد ما دونهما نقصاً عليه

______________________________________________________

(١) اختلف الأصحاب في اعتبار الراحلة من حيث الضعة والشرف ، فذهب جماعة إلى مراعاة شأن المكلف وحاله ضعة وشرفاً بالنسبة إلى الراحلة ، وذهب آخرون إلى عدم اعتبار ذلك.

واستدل الأوّل بنفي الحرج ، فإن الدليل وإن كان مطلقاً من هذه الجهة ، إلّا أن قاعدة نفي الحرج حاكمة على الإطلاقات.

وربما يشكل التمسك بنفي الحرج ، من جهة أن مقتضى حكومة نفي الحرج هو نفي الوجوب لا نفي المشروعية ، والكلام في الثاني ، وعليه لو تحمل الحرج يحكم بصحة حجّه وإجزائه عن حجّ الإسلام ، فعدم الإجزاء يحتاج إلى الدليل ولا دليل.

والحاصل : أن أقصى ما تدل عليه قاعدة نفي الحرج ، هو نفي الوجوب لا نفي المشروعية ، فلو تحمل الحرج فمقتضى القاعدة هو الحكم بالصحّة والإجزاء ، إذ لا منافاة بين كون الشي‌ء غير واجب في الشريعة ، وبين الحكم بالإجزاء بمقتضى الجمع بين الأدلّة أدلّة نفي الحرج والإطلاقات.

ونظير ذلك ما لو توضأ الصبي ثمّ بلغ ، فإنه لا حاجة إلى إعادة وضوئه ، بناء على مشروعية عباداته وعدم كونها تمرينية ، فإن الوضوء الصادر منه وإن كان غير واجب ، لكنه يجزئ عن الواجب ، وهكذا المقام.

٦٨

يشترط في الوجوب القدرة عليه ولا يكفي ما دونه وإن كانت الآية والأخبار مطلقة ، وذلك لحكومة قاعدة نفي العسر والحرج على الإطلاقات ، نعم إذا لم يكن بحد الحرج وجب معه الحجّ ، وعليه يحمل ما في بعض الأخبار : من وجوبه ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب.

______________________________________________________

وفيه : أن قياس المقام وتنظيره بالوضوء الصادر من الصبي باطل ، لأن الوضوء هو الطهور وهو حقيقة واحدة غير مختلفة ، وهي حاصلة على الفرض لصحة عبادات الصبي ، فلا وجه لإتيان الوضوء مرة ثانية بعد فرض حصول الطهارة ، وهذا بخلاف الحجّ ، فإن له حقائق مختلفة كما تقدّم ، فإن الحجّ الذي افترضه الله على العباد وجعله مما بني عليه الإسلام ، المسمّى بحجّ الإسلام في الروايات ، مشروط بعدم العسر بمقتضى قاعدة نفي الحرج ، فما يصدر منه حال العسر والحرج ، ليس بحجة الإسلام ، إذ اليسر بمقتضى القاعدة مأخوذ في حجّة الإسلام ، فإذا تحمل الحرج والعسر في أعمال الحجّ ، لم يكن حجّة بحجة الإسلام ، ولا دليل على إجزائه عن حجّة الإسلام فالإجزاء يحتاج إلى الدليل لا عدمه.

وبعبارة اخرى : الحجّ الذي افترضه الله على العباد مرة واحدة في العمر ، وجعله مما بني عليه الإسلام ، مشروط بعدم العسر بمقتضى نفي الحرج ، فإذا أتى بالحج حرجاً ومعسراً ، لم يكن حجّة بحجة الإسلام ، فإن حجّة الإسلام تمتاز من بين أقسامه بأخذ اليسار في موضوعه ، ولا تتصف حجّة الإسلام بالجواز وعدم الوجوب ، فالإجزاء يحتاج إلى الدليل. وممّا يدل على اعتبار اليسار في حجّة الإسلام وعدم وجوبه عند العسر والحرج موثق أبي بصير «من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عزّ وجلّ (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١) فإن المستفاد منه أنه لو كان معسراً لا يشمله قوله تعالى (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).

نعم ، وردت روايات أُخر في إتيان الحجّ وإن كان عسراً وحرجياً كصحيحة أبي

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ٧.

٦٩

[٣٠٠٢] مسألة ٥ : إذا لم يكن عنده الزاد ولكن كان كسوباً يمكنه تحصيله بالكسب في الطريق لأكله وشربه وغيرهما من بعض حوائجه هل يجب عليه أو لا؟ الأقوى عدمه وإن كان أحوط (١).

______________________________________________________

بصير «من عُرض عليه الحجّ ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع للحجّ» (١) ، ورواها الصدوق عن هشام بن سالم مثله (٢) ، فإنّ موردها وإن كان البذل ولكن لا خصوصية له ، والمستفاد من الصحيحة بعد إلغاء خصوصيّة المورد وجوب الحجّ مطلقاً ولو على حمار أجدع ، إلّا أنها مطلقة من حيث المبذول له ، بمعنى أنّ المستفاد من إطلاق الصحيحة وجوب الحجّ على كل مكلف ولو على حمار أجدع يناسب شأنه أم لا ، فإنّ المكلّفين يختلف شأنهم وحالهم من حيث الشرف والضعة فيقيد إطلاق ذلك بأدلّة نفي الحرج ، فإنها حاكمة على الأدلّة ، فمقتضى الجمع بين الأدلّة وجوب الحجّ ولو على حمار أجدع فيما إذا لم يستلزم الحرج ، ولم يكن منافياً لشأنه ، ولم يستلزم مهانة وذلة.

(١) ذهب بعضهم إلى أنه لو لم يجد الزاد بالفعل ، ولكن كان كسوباً يتمكّن من الاكتساب في الطريق لكل يوم قدر ما يكفيه ، كالحلاق وجب عليه الحجّ لصدق الاستطاعة.

ولكن الظاهر عدم الوجوب ، لأن العبرة في التمكّن من الزاد بالوجدان الفعلي والاستطاعة إنما تصدق في صورة التمكّن من الزاد فعلاً أو قيمة ، والتمكّن من الاكتساب في الطريق من قبيل تحصيل الاستطاعة ، ويصدق عليه أنه ليس له زاد فإنّ الظاهر من قوله (عليه السلام) «له زاد وراحلة» أن يكون مستولياً عليهما بالفعل بملك ونحوه ، ولا يصدق الاستيلاء على الزاد بالفعل ، بمجرّد التمكّن من اكتساب الزاد في الطريق.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٢ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٧.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٥٩ / ١٢٥٦.

٧٠

[٣٠٠٣] مسألة ٦ : إنما يعتبر الاستطاعة من مكانه لا من بلده ، فالعراقي إذا استطاع وهو في الشام وجب عليه وإن لم يكن عنده بقدر الاستطاعة من العراق بل لو مشى إلى ما قبل الميقات متسكعاً أو لحاجة أُخرى من تجارة أو غيرها وكان له هناك ما يمكن أن يحج به وجب عليه (١) ، بل لو أحرم متسكعاً فاستطاع وكان أمامه ميقات آخر أمكن أن يقال (*) بالوجوب عليه ، وإن كان لا يخلو عن إشكال (٢).

______________________________________________________

(١) لأنه لم تقيد الاستطاعة أو من له زاد وراحلة في النصوص بحصول ذلك في بلده ، إذ لا خصوصية لبلد دون بلد ، ولا دليل على لزوم حصول الاستطاعة من بلده ، بل اللّازم إتيان الحجّ والمناسك عن استطاعة ، فلو ذهب إلى بلد آخر ، بل إلى المدينة المنورة ، وقبل أن يصل إلى الميقات حصلت له الاستطاعة ، وجب عليه الحجّ. وبالجملة : لا كلام في وجوب الحجّ إذا استطاع قبل الميقات.

(٢) مقتضى إطلاق الأدلة وجوب الحجّ عليه ، والذي يمنع عن القول بالوجوب عليه حينئذ إحرامه لغير حجّة الإسلام ، إذ ليس له إبطاله والإحرام ثانياً لحج الإسلام. والحاصل : من أحرم من الميقات إحراماً صحيحاً ولو ندباً ، ليس له رفع اليد عن الإحرام ، بل يجب عليه إتمام هذا العمل ، فليس له الإحرام الثاني في ضمن الإحرام الأوّل.

ولكن الظاهر وجوب الحجّ عليه ، وإحرامه الأوّل لا يمنع عنه ، لأنه بعد فرض شمول إطلاق الأدلة لمثل المقام يكشف عن بطلان الإحرام الأوّل ، وأنه لم يكن له أمر ندبي بالحج ، وإنما هو مجرد تخيل ووهم ، ففي الواقع هو مأمور بحجّ الإسلام ، ولكن لم يكن يعلم به ، فحصول الاستطاعة ولو بعد الميقات يكشف عن بطلان إحرامه الأوّل

__________________

(*) بل هو المتعين لكشف الاستطاعة عن عدم الأمر الندبي حين الإحرام ، فيجب عليه الإحرام للحج ثانياً سواء أكان أمامه ميقات آخر أم لم يكن.

٧١

[٣٠٠٤] مسألة ٧ : إذا كان من شأنه ركوب المحمل أو الكنيسة ولم يوجد سقط الوجوب (١) ، ولو وجد ولم يوجد شريك للشق الآخر فإن لم يتمكن من اجرة الشقين سقط أيضاً ، وإن تمكن فالظاهر الوجوب (*) لصدق الاستطاعة ، فلا وجه لما عن العلامة من التوقف فيه لأن بذل المال له خسران لا مقابل له ، نعم لو كان بذلُه مجحفاً ومضرّاً بحاله لم يجب كما هو الحال في شراء ماء الوضوء (٢).

______________________________________________________

وعن عدم الأمر الندبي حين الإحرام ، ولذا لو انكشف أنه كان مستطيعاً من بلده وكان لا يعلم بذلك ، فلم يجب عليه إلّا حجّة الإسلام ، ويجري عليه أحكام من تجاوز الميقات بغير إحرام ، فوظيفته حينئذ الرجوع إلى الميقات والإحرام منه لحجّة الإسلام إن تمكن من الرجوع ، وإلّا ففيه تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى. ولا فرق في وجوب الإحرام للحجّ ثانياً بين ما إذا كان أمامه ميقات آخر أم لا ، فإنه يجب عليه الرجوع إلى الميقات والإحرام منه لحج الإسلام.

(١) لعدم حصول الاستطاعة حسب حاله وشأنه ، وكذا لو وجد ولم يوجد شريك للشق الآخر ، ولا مال له لُاجرة الشقين ، وكذا لو كان له مال ، وكان بذله للشق الآخر حرجياً وإجحافاً بالنسبة إليه ومضراً بحاله ، ففي جميع هذه الصور يسقط وجوب الحجّ ، لعدم حصول الاستطاعة.

(٢) وقع الكلام فيما إذا كان بذل المال لُاجرة الشق الآخر ضرراً عليه ولكن لا يصل إلى حد الحرج ، فهل يجب بذل المال الزائد بإزاء الشق الآخر؟ وهل يجب عليه تحمل الضرر الزائد أم لا؟ فعن العلامة التوقف فيه (١) ، وذهب في المتن إلى الوجوب لصدق الاستطاعة.

__________________

(١) فيه إشكال ، لأنه لا يجب تحمل الضرر الزائد على مصارف الحجّ ، ومنه يظهر الحال في المسألة الآتية.

(٢) التذكرة ٧ : ٥٢.

٧٢

[٣٠٠٥] مسألة ٨ : غلاء أسعار ما يحتاج إليه أو اجرة المركوب في تلك السنة لا يوجب السقوط ، ولا يجوز التأخير عن تلك السنة مع تمكنه من القيمة بل وكذا لو توقف على الشراء بأزيد من ثمن المثل والقيمة المتعارفة ، بل وكذا لو توقف على بيع أملاكه بأقل من ثمن المثل لعدم وجود راغب في القيمة المتعارفة

______________________________________________________

وقد يقال بأن بذل المال بإزاء العدل الآخر ضرر عليه فهو مرفوع ، لحديث لا ضرر.

وأُجيب بأن الحجّ تكليف ضرري ، وحديث لا ضرر لا يجري في الأحكام الضررية ، ولا نظر له إليها ، وإنما يجري في الأحكام التي لها فردان ، ضرري وغير ضرري ، والحديث يرفع الضرري ، وأما إذا كان متمحضاً في الضرر ، فلا يجري فيه حديث لا ضرر ، وأدلة وجوب الحجّ على المستطيع لما كانت متضمنة للضرر وصرف المال ، تكون أخص من نفي الضرر ، فأدلة وجوب الحجّ مخصصة لنفي الضرر.

وبالجملة : أدلة نفي الضرر لا نظر لها إلى الأحكام الضررية كالزكاة والخمس والجهاد والحجّ ، ويجب تحمل الضرر في هذه الموارد ما لم يصل إلى حد الحرج والإجحاف.

وفيه : أن الحجّ وإن كان ضرريّاً ، ولكن المجعول من الضرر ما يقتضيه طبعه مما يحتاج إليه المسافر إلى الحجّ ، وأما الزائد على ما يقتضيه طبع الحجّ ، فهو ضرر آخر أجنبي عن الضرر اللازم من طبع الحجّ ، والمرفوع بحديث لا ضرر إنما هو الضرر الزائد عما يقتضيه طبع الواجب ، والذي لا يرتفع بلا ضرر إنما هو الضرر اللازم منه مما يقتضيه طبعه.

وبعبارة اخرى : أن حديث لا ضرر وإن كان لا نظر له إلى الأحكام الضررية ، ولكن بمقدار الضرر الذي يقتضيه طبع الحكم ، وأما الضرر الزائد على ذلك فلا مانع من رفعه بحديث لا ضرر ، وأدلة الحجّ بالنسبة إلى هذا الضرر الزائد مطلقة ، ولا مانع

٧٣

فما عن الشيخ من سقوط الوجوب ضعيف ، نعم لو كان الضّرر مجحفاً بماله مضراً بحاله لم يجب ، وإلّا فمطلق الضرر لا يرفع الوجوب بعد صدق الاستطاعة وشمول الأدلة ، فالمناط هو الإجحاف والوصول إلى حد الحرج الرافع للتكليف (١).

[٣٠٠٦] مسألة ٩ : لا يكفي في وجوب الحجّ وجود نفقة الذهاب فقط ، بل يشترط وجود نفقة العود إلى وطنه إن أراده وإن لم يكن له فيه أهل ولا مسكن مملوك ولو بالإجارة ، للحرج في التكليف بالإقامة في غير وطنه المألوف له ، نعم إذا لم يرد العود أو كان وحيداً لا تعلق له بوطن لم يعتبر وجود نفقة العود لإطلاق الآية والأخبار في كفاية وجود نفقة الذهاب ، وإذا أراد السكنى في بلد آخر غير وطنه لا بدّ من وجود النفقة إليه إذا لم يكن أبعد من وطنه ، وإلّا فالظاهر كفاية مقدار العود إلى وطنه (٢).

______________________________________________________

من شمول الحديث لهذه الزيادة ، والقدر المسلّم من تحمل الضرر في زاده وراحلته ما كان مما يقتضيه العادة وطبع الحجّ في نفسه ، وأما الزائد فلا دليل على تحمله إلّا المطلقات ، وهي محكومة بلا ضرر.

(١) قد ظهر حال هذه المسألة مما ذكرنا في المسألة السابقة ، فإن غلاء أسعار ما يحتاج إليه أو الشراء بأزيد من ثمن المثل والقيمة المتعارفة وبيع أملاكه بأقل من ثمن المثل ونحو ذلك ولو لم يستلزم الحرج والإجحاف يوجب سقوط الوجوب ، لأن الضرر الزائد على المقدار المتعارف منفي بلا ضرر ، إلّا إذا كان الضرر يسيراً فإنه لا عبرة به.

(٢) إذا لم يكن له نفقة العودة ، وكان متمكناً من الذهاب فقط ، فإن كان بقاؤه في مكّة المكرمة حرجياً ، فلا ريب في عدم وجوب الذهاب ، وأما إذا لم يكن بقاؤه في مكّة حرجياً ، ويتمكّن من أن يعيش هناك كما يعيش في بلده ، لعدم وجود علاقة له بوطنه ، فلا يعتبر تمكّنه من نفقة العود ، بل تكفي نفقة الذهاب ، ويجب عليه الحجّ لأنه

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مستطيع من الحجّ والسفر إلى البيت ، ولا دليل على اعتبار التمكن من نفقة العود في هذه الصورة.

وأمّا إذا لم يرد الرجوع إلى بلده الذي سافر منه ، بل أراد الرجوع إلى بلد آخر كمن يسافر من العراق إلى مكّة ويريد العود إلى خراسان أو الشام ، فهل يعتبر التمكّن من نفقة العود إلى ذلك البلد الذي يريد الذهاب إليه أم لا؟

فصّل في المتن بين ما إذا كان ذلك البلد الذي يريد المقام فيه أبعد من وطنه الذي سافر منه كخراسان وبين ما لم يكن أبعد كالشام ، ففي الصورة الأُولى اكتفى بمقدار العود إلى وطنه ، وفي الصورة الثانية اعتبر مقدار العود إلى البلد الذي يريد أن يقيم فيه.

أقول : للمسألة صورتان :

الاولى : ما إذا لم يتمكن من الرجوع إلى وطنه ، بل لا بدّ له أن يذهب إلى بلد آخر ، فحينئذ لا بدّ من وجود نفقة الذهاب إلى ذلك البلد الذي يريد أن يقيم فيه وإن كان أبعد ، هذا إذا لم يكن ذهابه إلى ذلك البلد حرجياً ، وإلّا فلا يجب عليه الخروج إلى الحجّ.

الصورة الثانية : ما إذا أراد الرجوع إلى بلد آخر حسب رغبته الشخصية وميله الخاص ، ذكر في المتن أن العبرة في نفقة العود بالقرب والبعد ، والظاهر أن العبرة بكثرة القيمة وعدمها ، ولا عبرة بالبعد والقرب ، فإن كان الذهاب إلى بلد آخر يريد المقام فيه اختياراً يحتاج إلى صرف المال أقل من العود إلى وطنه تجب مراعاة ذلك ولو فرض أن طريقه أبعد ، وإن كان يحتاج إلى صرف المال أكثر من الرجوع إلى وطنه فالعبرة بالمقدار المحتاج إليه في العود إلى وطنه ، ولا عبرة بكثرة القيمة اللّازم صرفها في الذهاب إلى بلد آخر ، فكان الأولى أن يعبّر في المتن بزيادة القيمة والنفقة لا القرب والبعد ، إذ لا عبرة بهما كما عرفت ، وإنما العبرة بما ذكرنا.

٧٥

[٣٠٠٧] مسألة ١٠ : قد عرفت أنه لا يشترط وجود أعيان ما يحتاج إليه في نفقة الحجّ من الزاد والراحلة ولا وجود أثمانها من النقود ، بل يجب عليه بيع ما عنده من الأموال لشرائها ، لكن يستثني من ذلك ما يحتاج إليه في ضروريات معاشه ، فلا تباع دار سكناه اللّائقة بحاله ولا خادمه المحتاج إليه ولا ثياب تجمّله اللّائقة بحاله فضلاً عن ثياب مهنته ، ولا أثاث بيته من الفراش والأواني (١)

______________________________________________________

(١) قد عرفت أن العبرة في الاستطاعة بوجود الزاد والراحلة عيناً أو ثمناً ، وأنه يكفي في تحققها وجود ما يمكن صرفه في تحصيلهما ، سواء كان من النقود أو الأملاك فالميزان وجود ما يحجّ به. نعم ، يستثني من ذلك ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه ومعاش عياله ، من الدار والأثاث والثياب والفرش والأواني وفرس ركوبه وغير ذلك ممّا ذكر في المتن مما يحتاج إليه ، بحيث لو باع أحد هذه الأُمور وصرف ثمنه في الحجّ وقع في الحرج ، فالعبرة في جميع ذلك بالحرج ، فإذا كان فقدان شي‌ء من ذلك موجباً للحرج ، لا يجب بيعه وتبديله بالزاد والراحلة ، لأن دليل نفي الحرج حاكم على جميع الأدلة ، ويرفع الإلزام بالفعل أو الترك ، فكل شي‌ء إذا كان فقده موجباً لوقوعه في الحرج ، لا يجب بيعه وصرفه في الحجّ ، لاستلزام التكليف بصرف ذلك في الحجّ الحرج والعسر ، ومن ذلك الكتب مطلقاً دينية كانت أو غيرها ، ككتب الطب ونحو ذلك مما يحتاج إليه في معاشه ، بحيث لو باعها وبدّلها بما يحج به لوقع في الحرج ، فلا وجه لاختصاص الاستثناء بالكتب الدينية كما في المتن ، ومنه الفرس المعدّ لركوبه في حوائجه وأغراضه ، فإن كان بيع الفرس أو فقدانه مستلزماً لوقوع الشخص في الحرج والمشقة يسقط وجوب الحجّ ولا يجب بيعه.

فلا وجه لما عن كشف اللثام من التفصيل بين ما إذا كان الفرس صالحاً لركوبه في طريق الحجّ فهو من الراحلة ، وإلّا فهو أمر زائد يجب بيعه وتبديله بالزاد والراحلة (١)

__________________

(١) كشف اللثام ٥ : ٩٤.

٧٦

وغيرهما مما هو محل حاجته ، بل ولا حلي المرأة مع حاجتها بالمقدار اللائق بها بحسب حالها في زمانها ومكانها ، ولا كتب العلم لأهله التي لا بدّ له منها فيما يجب تحصيله لأن الضرورة الدينية أعظم من الدنيوية ، ولا آلات الصنائع المحتاج إليها في معاشه ، ولا فرس ركوبه مع الحاجة إليه ، ولا سلاحه ولا سائر ما يحتاج إليه ، لاستلزام التكليف بصرفها في الحجّ العسر والحرج ، ولا يعتبر فيها الحاجة الفعلية.

______________________________________________________

لما عرفت أن الميزان هو الحرج وأنه إذا استلزم فقد الفرس حرجاً عليه لعدم إمكان استيفاء أغراضه وسد حوائجه به ، فلا يجب بيعه سواء كان صالحاً للسفر إلى الحجّ أم لا.

كما لا وجه لما عن الشهيد من التوقف والتردد في استثناء ما يضطر إليه من أمتعة المنزل والسلاح وآلات الصنائع (١) ، لما عرفت من أن مجرد التمكن من الزاد والراحلة وتحصيلهما لا يجدي في ثبوت الوجوب ، بل الميزان مضافاً إلى التمكن والاستطاعة من حيث الزاد والراحلة عدم استلزام الحرج في بيع ما يحتاج إليه في أُمور معاشه ودنياه.

ثمّ لا فرق بين استلزام الحرج بالفعل ، وبين حصوله في الزمان اللاحق ، كثياب الشتاء بالنسبة إلى موسم الصيف ، فإن تبديل ما يحتاج إليه في الشتاء وإن لم يستلزم الحرج بالفعل لكون الزمان حارّاً على الفرض ، ولكنه يقع في الحرج في موسم الشتاء ، وأدلة نفي الحرج لا قصور فيها عن شمولها لمطلق ما يستلزم منه الحرج ، فعلياً كان أو استقبالياً ، لأن الميزان هو حصول الحرج سواء كان بالفعل أو في الزمان اللّاحق.

وممّا ذكرنا يظهر الحال في حلي المرأة ، فإنه مع حاجتها إلى لبسها كما إذا كانت شابّة ، لا يجب بيعها وتبديلها بالزاد والراحلة ، لأنّ صرفها في الحجّ حرجي عليها

__________________

(١) الدروس ١ : ٣١١.

٧٧

فلا وجه لما عن كشف اللثام من أن فرسه إن كان صالحاً لركوبه في طريق الحجّ فهو من الراحلة ، وإلّا فهو في مسيره إلى الحجّ لا يفتقر إليه بل يفتقر إلى غيره ولا دليل على عدم وجوب بيعه حينئذ ، كما لا وجه لما عن الدروس من التوقف في استثناء ما يضطر إليه من أمتعة المنزل والسلاح وآلات الصنائع. فالأقوى استثناء جميع ما يحتاج إليه في معاشه مما يكون إيجاب بيعه مستلزماً للعسر والحرج ، نعم لو زادت أعيان المذكورات عن مقدار الحاجة وجب بيع الزائد في نفقة الحجّ ، وكذا لو استغنى عنها بعد الحاجة كما في حلي المرأة إذا كبرت عنه ونحوه.

[٣٠٠٨] مسألة ١١ : لو كان بيده دار موقوفة تكفيه لسكناه وكان عنده دار مملوكة فالظاهر وجوب بيع المملوكة (١) إذا كانت وافية لمصارف الحجّ أو متممة لها

______________________________________________________

وأما إذا كبرت وتقدم بها السن بحيث لا يناسب لها لبسها ، ففي هذه الصورة يجب عليها بيعها وتبديلها بالزاد والراحلة ، لعدم الحاجة إليها وعدم استلزام الحرج من صرفها في الحجّ.

(١) لو كان له دار مملوكة ، ولكن يمكنه السكنى في الدار الموقوفة ، فهل يجب عليه بيع المملوكة وصرف ثمنه في الحجّ أم لا؟ وجهان :

أحدهما : عدم وجوب البيع ، لأن الدار محل الحاجة ، ومما يمكن الاحتياج إليه والأصل عدم وجوب البيع.

ثانيهما : وجوب البيع وصرف ثمنه في الحجّ ، أو تتميمه لمصارف الحجّ ، وذلك لصدق الاستطاعة حينئذ إذا لم تكن السكنى في الدار الموقوفة منافية لشأنه ، ولم يكن عليه حرج في ذلك ، فلا حاجة إلى الدار المملوكة حينئذ ، لسد حاجته بالوقف ، فلا حرج في بيع المملوك ، وعليه لا مجال للرجوع إلى أصالة عدم وجوب البيع. وقد استثنى المصنف (رحمه الله) من ذلك ما إذا لم تكن الدار الموقوفة موجودة بالفعل

٧٨

وكذا في الكتب المحتاج إليها إذا كان عنده من الموقوفة مقدار كفايته فيجب بيع المملوكة منها. وكذا الحال في سائر المستثنيات إذا ارتفعت حاجته فيها بغير المملوكة ، لصدق الاستطاعة حينئذ إذا لم يكن ذلك منافياً لشأنه ولم يكن عليه حرج في ذلك ، نعم لو لم تكن موجودة وأمكنه تحصيلها لم يجب عليه ذلك (١) ، فلا يجب بيع ما عنده وفي ملكه ، والفرق : عدم صدق الاستطاعة في هذه الصورة بخلاف الصورة الأُولى إلّا إذا حصلت بلا سعي منه ، أو حصّلها مع عدم وجوبه فإنه بعد التحصيل يكون كالحاصل أوّلاً.

______________________________________________________

وأمكنه تحصيلها والسكنى فيها ، لم يجب عليه بيع المملوكة لعدم صدق الاستطاعة في هذه الصورة ، بل ذلك من تحصيل الاستطاعة وهو غير واجب.

والحاصل : فرّق في المتن بين ما إذا كان بيده دار موقوفة يسكن فيها مثلاً ، وكان له دار مملوكة أيضاً ، وبين ما إذا لم تكن الدار الموقوفة موجودة بالفعل ، ولم تكن تحت اختياره فعلاً ، ولكن يمكنه تحصيلها والسكنى فيها ، فاختار وجوب البيع في الصورة الأُولى لصدق الاستطاعة ، وعدم الوجوب في الصورة الثانية ، لأن تحصيل الدار الموقوفة لأجل السكنى فيها من قبيل تحصيل الاستطاعة ، وهو غير واجب.

ولكن الظاهر عدم الفرق بين الصورتين ، لصدق الاستطاعة في الصورة الثانية أيضاً ، لأن المراد بالاستطاعة كما عرفت غير مرة وجود ما يحج به عنده ، وهو حاصل في المقام ، والذي يمنع عن صرفه في الحج العسرُ والحرج ، والمفروض أنْ لا حرج عليه في صرفه في الحجّ بعد قدرته على تحصيل الدار الموقوفة ، كما لو فرضنا أنه وحيد لا عائلة له ، وليس ذلك من تحصيل الاستطاعة حتى يقال بعدم وجوبه ، فإن المفروض أن عنده ما يحج به بالفعل ، ويتمكن من ترك البيت والسكنى في

__________________

(١) فيه إشكال فإن المفروض أن عنده ما يحج به ولا حرج عليه في صرفه في الحجّ بعد قدرته على تحصيل الدار وغيرها مما يحتاج إليه ، والفرق بين المقام وتحصيل ما يحج به ظاهر.

٧٩

[٣٠٠٩] مسألة ١٢ : لو لم تكن المستثنيات زائدة عن اللّائق بحاله بحسب عينها لكن كانت زائدة بحسب القيمة وأمكن تبديلها بما يكون أقل قيمة مع كونه لائقاً بحاله أيضاً ، فهل يجب التبديل للصرف في نفقة الحجّ أو لتتميمها؟ قولان من صدق الاستطاعة ، ومن عدم زيادة العين عن مقدار الحاجة والأصل عدم وجوب التبديل. والأقوى الأوّل إذا لم يكن فيه حرج أو نقص عليه وكانت الزيادة معتداً بها ، كما إذا كانت له دار تسوى مائة وأمكن تبديلها بما يسوى خمسين مع كونه لائقاً بحاله من غير عسر فإنه يصدق الاستطاعة ، نعم لو كانت الزيادة قليلة جدّاً بحيث لا يعتنى بها أمكن دعوى عدم الوجوب (*) وإن كان الأحوط التبديل أيضاً (١).

______________________________________________________

المدرسة بدون استلزام مهانة عليه ، وإنما يحصّل أمراً آخر يسد حاجته به ، ومثله يجري في سائر الأشياء من الأثاث كالفرش والكتب ، فإذا تمكن من تحصيل الكتب الموقوفة بلا حرج ، ولم يكن استعمال الوقف له حرجاً ولم يكن منافياً لشأنه ومهانة عليه ، يجب عليه بيع كتبه المملوكة ، لصدق الاستطاعة بالزاد والراحلة قيمة ، فلا يختص الحكم بالدار.

والحاصل : تحصيل الاستطاعة وإن لم يكن واجباً قطعاً ، ولكن المقام ليس من باب تحصيل الاستطاعة ، بل الاستطاعة بالزاد والراحلة قيمة حاصلة بالفعل ، فلا بدّ من النظر إلى أن صرفها في الحجّ يوجب الحرج فلا يجب ، وإلّا فهو واجب لصدق الاستطاعة.

(١) لم يظهر لنا وجه لهذا التفصيل ، فإن الفرق بالتفاوت الكثير واليسير إنما يؤثر في مثل ثبوت خيار الغبن وعدمه ، لما ذكرنا في محله أن عمدة دليل خيار الغبن هو الاشتراط الضمني وبناء العقلاء على تساوي العوضين من حيث المالية ، وعدم

__________________

(*) لكنّها بعيدة جدّاً.

٨٠