موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: نينوى
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6084-13-3
الصفحات: ٣٩٥

[٣١١٥] مسألة ٨ : إذا نذر أن يحج ولم يقيده بزمان فالظاهر جواز التأخير (*) إلى ظن الموت أو الفوت ، فلا تجب عليه المبادرة إلّا إذا كان هناك انصراف ، فلو مات قبل الإتيان به في صورة جواز التأخير لا يكون عاصياً والقول بعصيانه مع تمكنه في بعض تلك الأزمنة وإن جاز التأخير لا وجه له. وإذا قيده بسنة معيّنة لم يجز التأخير مع فرض تمكنه في تلك السنة ، فلو أخّر عصى وعليه القضاء (**) والكفّارة ، وإذا مات وجب قضاؤه عنه ، كما أنّ في صورة الإطلاق إذا مات بعد تمكّنه منه قبل إتيانه وجب القضاء عنه ، والقول بعدم وجوبه بدعوى أنّ القضاء بفرض جديد ضعيف لما يأتي.

وهل الواجب القضاء من أصل التركة أو من الثلث؟ قولان ، فذهب جماعة إلى القول بأنه من الأصل لأنّ الحجّ واجب مالي وإجماعهم قائم على أنّ الواجبات المالية تخرج من الأصل وربما يورد عليه بمنع كونه واجباً مالياً وإنما هو أفعال مخصوصة بدنيّة وإن كان قد يحتاج إلى بذل المال في مقدّماته كما أنّ الصلاة أيضاً قد تحتاج إلى بذل المال في تحصيل الماء والساتر والمكان ونحو ذلك.

وفيه : أنّ الحجّ في الغالب محتاج إلى بذل المال بخلاف الصلاة وسائر العبادات البدنية ، فإن كان هناك إجماع أو غيره على أن الواجبات المالية من الأصل يشمل الحجّ قطعاً. وأجاب صاحب الجواهر (قدس سره) بأن المناط في الخروج من الأصل كون الواجب ديناً والحجّ كذلك فليس تكليفاً صرفاً كما في الصلاة

__________________

(*) الظاهر عدم جواز التأخير ما لم يكن مطمئناً بالوفاء.

(**) وجوب قضاء الحجّ المنذور المؤقت وغير المؤقت مبني على الاحتياط ، والأظهر عدم الوجوب إذ لا دليل عليه ، ودعوى أنه بمنزلة الدّين فيخرج من الأصل لم تثبت فإن التنزيل إنما ورد في نذر الإحجاج وقد صرّح فيه بأنه يخرج من الثلث ، وأمّا ما ورد من إطلاق الدّين على مطلق الواجب كما في رواية الخثعمية فلا يمكن الاستدلال به لضعف الرواية سنداً ودلالة وبذلك يظهر الحال إلى آخر المسألة.

٣٢١

والصوم ، بل للأمر به جهة وضعية فوجوبه على نحو الدينية بخلاف سائر العبادات البدنية فلذا يخرج من الأصل كما يشير إليه بعض الأخبار الناطقة بأنه دين أو بمنزلة الدّين.

قلت : التحقيق أن جميع الواجبات الإلهية ديون لله تعالى سواء كانت مالاً أو عملاً مالياً أو عملاً غير مالي ، فالصلاة والصوم أيضاً ديون لله ولهما جهة وضع فذمة المكلف مشغولة بهما ، ولذا يجب قضاؤهما ، فإنّ القاضي يفرغ ذمّة نفسه أو ذمّة الميت ، وليس القضاء من باب التوبة أو من باب الكفارة بل هو إتيان لما كانت الذمّة مشغولة به ولا فرق بين كون الاشتغال بالمال أو بالعمل ، بل مثل قوله : للهِ عليّ أن أعطي زيداً درهماً دين إلهي لا خلقي فلا يكون الناذر مديوناً لزيد بل هو مديون لله بدفع الدرهم لزيد ، ولا فرق بينه وبين أن يقول : للهِ عليّ أن أحجّ أو أن أُصلِّي ركعتين فالكل دين الله ودين الله أحق أن يقضى كما في بعض الأخبار ، ولازم هذا كون الجميع من الأصل. نعم ، إذا كان الوجوب على وجه لا يقبل بقاء شغل الذمّة به بعد فوته لا يجب قضاؤه لا بالنسبة إلى نفس من وجب عليه ولا بعد موته سواء كان مالاً أو عملاً مثل وجوب إعطاء الطعام لمن يموت من الجوع عام المجاعة ، فإنه لو لم يعطه حتى مات لا يجب عليه ولا على وارثة القضاء لأن الواجب إنما هو حفظ النفس المحترمة ، وهذا لا يقبل البقاء بعد فوته ، وكما في نفقة الأرحام فإنه لو ترك الإنفاق عليهم مع تمكنه لا يصير ديناً عليه لأنّ الواجب سدّ الخَلة وإذا فات لا يتدارك.

فتحصّل أنّ مقتضى القاعدة في الحجّ النذري إذا تمكن وترك حتى مات وجوب قضائه من الأصل لأنه دين إلهي ، إلّا أن يقال بانصراف الدّين عن مثل هذه الواجبات ، وهو محل منع ، بل دين الله أحق أن يقضى. وأما الجماعة القائلون بوجوب قضائه من الثلث فاستدلوا بصحيحة ضريس وصحيحة ابن أبي يعفور الدالتين على أن من نذر الإحجاج ومات قبله يخرج من ثلثه ، وإذا كان نذر

٣٢٢

الإحجاج كذلك مع كونه مالياً قطعاً فنذر الحجّ بنفسه أولى بعدم الخروج من الأصل. وفيه : أن الأصحاب لم يعملوا بهذين الخبرين في موردهما فكيف يعمل بهما في غيره.

وأمّا الجواب عنهما بالحمل على صورة كون النذر في حال المرض بناء على خروج المنجزات من الثلث فلا وجه له بعد كون الأقوى خروجها من الأصل. وربما يجاب عنهما بالحمل على صورة عدم إجراء الصيغة ، أو على صورة عدم التمكّن من الوفاء حتى مات ، وفيهما ما لا يخفى خصوصاً الأوّل (١)

______________________________________________________

(١) ذكر (قدس سره) أنه لو نذر الحجّ ولم يقيده بزمان فله التأخير إلّا إذا ظنّ الموت أو الفوت ، فما لم يظن الموت أو الفوت لا تجب عليه المبادرة إلّا إذا كان هناك انصراف إلى الفورية ، فلو مات في صورة جواز التأخير لا يكون عاصياً لعدم كون التكليف منجزاً عليه والعصيان إنما يتحقق فيما إذا كان التكليف منجزاً ، فإن القول بجواز التأخير له وعصيانه لا يجتمعان ، لأنّ العصيان يدور مدار التنجيز لا الترك الواقعي.

أقول : ما ذكروه من عدم دلالة الأمر على وجوب المبادرة صحيح لما حقق في الأُصول من أن الأمر إنما يدلّ على إيجاد الطبيعة من دون دلالته على الفور أو التراخي (*) ، إلّا أنّ الفقهاء (قدس سره) قيدوا جواز التأخير في المقام بظن الموت أو الفوت أي : إذا ظنّ الموت أو الفوت لا يجوز له التأخير وإنما يجوز له التأخير فيما إذا لم يظنّ الموت أو الفوت ، فإن ظنّ الموت أو الفوت تجب عليه المبادرة إن تمكّن من إتيان ما وجب عليه من الواجبات وإلّا فيوصي بذلك ، سواء كان من الواجبات العبادية أم غيرها كالديون.

هذا ولكن لا دليل على اعتبار الظن في المقام ، وعليه لو قلنا بجواز التأخير يجوز له

__________________

(*) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٢١٣.

٣٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التأخير مطلقاً وإن ظن الموت أو الفوت ، ولكن الظاهر عدم جواز التأخير إلّا مع الاطمئنان بإتيان الواجب في آخر الوقت أو يكون التأخير مستنداً إلى العذر ، لا لدلالة الأمر على الفور ، لما عرفت من عدم دلالته إلّا على إيجاد الطبيعة ، بل لأنّ مقتضى حكم العقل بعد اشتغال ذمّة العبد بالواجب إفراغ ذمته عما وجب عليه وخلاص نفسه عن تكليف المولى ، فإن التكليف إذا وصل وتنجز عليه ليس له التأخير عن أدائه ما لم يكن هناك مؤمّن من العذر في التأخير أو حصول الاطمئنان له بالوفاء في آخر الوقت ، وإن لم يحصل أحد الأمرين فليس له التأخير بعد حكم العقل بلزوم تفريغ الذمّة وتسليم ما عليه إلى المولى ، فلا يجوز له التأخير إلى ظن الموت كما لا تجب عليه المبادرة إذا حصل له الاطمئنان بالوفاء.

وممّا ذكرنا يظهر الفرق بين القول بالفورية وبين المختار ، فإنه على الأوّل يجب عليه الإتيان فوراً وإن حصل له الاطمئنان بإتيان الواجب في آخر الوقت لدلالة الأمر على الفور ، وأمّا على ما ذكرنا فلا تجب عليه المبادرة إذا حصل له الاطمئنان بالإتيان ، كما أنه ظهر الفرق بيننا وبين القائلين بجواز التأخير فإنهم جوزوا التأخير في صورة الشك وعدم الاطمئنان بالإتيان ولكنا لم نجوز التأخير في هذه الصورة وإنما نجوزه في صورة الاطمئنان.

وبالجملة : لا بدّ من إحراز الخروج عن عهدة التكليف من حصول المؤمّن إما بالقطع أو الاطمئنان العقلائي أو قيام طريق شرعي كالبيّنة أو كان معذوراً في التأخير ، فلو كان شاكاً في إمكان الامتثال لا يجوز له التأخير وإن لم يظن الموت فالقول بجواز التأخير إلى ظن الموت على إطلاقه لا وجه له.

وربما يقال بقيام طريق معتبر على إمكان الامتثال في آخر الوقت وهو استصحاب حياته أو قدرته إلى آخر الوقت فلا يكون عاصياً إذا مات ، لقيام الطريق في المقام واستناد التأخير إلى العذر.

وفيه : لو صحّ ذلك لصح إجراء الاستصحاب حتى مع الظنّ بالموت فلا وجه لتقييد جواز التأخير بظن الموت. على أن الاستصحاب مثبت ، لأنّ الواجب على المكلف

٣٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

حسب حكم العقل كما عرفت هو إحراز الخروج عن عهدة التكليف والاستصحاب لا يحقق الامتثال وإحرازه فيما بعد ، بل هو لازم عقلي لبقاء الحياة والقدرة.

والحاصل : لا يجوز له التأخير مع الشك بل ولا مع الظن بالإتيان ، وإنما يجوز له التأخير عند قيام طريق معتبر على إمكان الإتيان كالبيّنة والاطمئنان ونحو ذلك من الطرق المعتبرة والجامع حصول المؤمّن له.

وأمّا ثبوت القضاء فقد ذكر في المتن أنه إذا قيد المنذور بسنّة معيّنة لم يجز له التأخير فلو آخر عصى وعليه القضاء والكفّارة ، وإذا مات وجب قضاؤه عنه ، كما أنه في صورة الإطلاق إذا مات وجب القضاء عنه.

أقول : أمّا ثبوت الكفّارة فلا ريب فيه لثبوتها عند المخالفة والحنث ، وأما ثبوت القضاء على نفسه أو على وليه بعد موته فيما إذا كان المنذور مقيداً بزمان خاص أو مطلقاً ففيه كلام. نعم ، وجوب القضاء على نفسه فيما إذا كان المنذور صوم يوم معيّن منصوص بالخصوص (١) ، إنما الكلام في غير الصوم كنذر الحجّ أو نذر صلاة الليل وغير ذلك من العبادات فهل يجب عليه القضاء لو ترك المنذور المؤقت أم فيه تفصيل بحسب الموارد؟ اختار المصنف (قدس سره) وجوب القضاء على نفسه وعلى وليه بعد موته ، وهل الواجب القضاء من أصل التركة أو من الثلث؟ قولان :

اختار الأوّل واستدل على أصل القضاء وعلى أنه من أصل التركة بما حاصله : أنّ جميع الواجبات الإلهية ديون لله تعال سواء كانت مالاً أو عملاً مالياً أو عملاً غير مالي ، فالصلاة والصوم والحجّ والنذر ديون لله ولها جهة وضع توجب اشتغال الذمّة بها وليست أحكاماً تكليفية صرفة ، فذمة المكلف مشغولة بها كالديون المالية ، وما دام لم يمتثل التكليف لم يسقط الدّين ووجب أداؤه بنفسه أو بالإتيان عنه ، فوجوب القضاء من باب تفريغ الذمّة وليس من باب التوبة أو من باب الكفّارة بل هو تفريغ لنفس الواجب الثابت في الذمّة ، والذمّة مشغولة بذلك التكليف إلى أن يؤتى بالواجب سواء بنفسه أو بعد موته بالاستئجار أو بالتبرع عنه ، وليس الواجب مجرّد تكليف

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٣١٠ / كتاب النذر باب ١٠ ح ١.

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

محض بحيث لا يقبل بقاء شغل الذمة به بعد فوته ، نظير نفقة الأقارب فإنه لو ترك الإنفاق عليهم مع تمكنه لا يصير ديناً عليه ، لأن الواجب سدّ الخَلة وإذا فات لا يتدارك ، فالحج النذري دين إلهي ، ومقتضى القاعدة في الدّين هو القضاء من أصل المال ، وقد أُطلق الدّين على الواجبات الإلهية في الروايات ، وأن دين الله أحق أن يقضى كما في رواية الخثعمية المعروفة (١) ، وانصراف الدّين عن مثل هذه الواجبات محل منع.

ويرد عليه : أن رواية الخثعمية ضعيفة سنداً ودلالة وقد تقدمت في بعض المسائل السابقة (٢) ، وإطلاق الدّين على الواجبات الإلهية ليس على نحو الحقيقة حتى تشمله الآية الكريمة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (٣) ، فإن الإطلاق والاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، فالخروج من أصل التركة لا يمكن إثباته ، وأما وجوب أصل القضاء فيتوقف على اشتغال الذمة ، والكلام في تحقق الصغرى ، فإن ثبت اشتغال الذمة بذلك بدليل معتبر كما ورد في الصوم والصلاة والحجّ لا بدّ من التفريغ إما بنفسه أو بالاستئجار عنه بعد موته أو بالتبرع عنه.

والحاصل : متى ثبت اشتغال الذمة يجب التفريغ عنه بإتيانه بنفسه أو بالإتيان عنه ولو من الأجنبي ، وأما إذا لم يثبت الاشتغال كما في المقام أعني الواجبات النذرية فلا دليل على وجوب القضاء لعدم ثبوت اشتغال الذمّة على نحو الديون وبعض الواجبات المنصوصة ، وليس القضاء نفس العمل الواجب سابقاً حتى قال بعدم الحاجة إلى أمر جديد بل العمل الواجب سابقاً قد فات وهذا العمل الواقع في خارج الوقت عمل آخر مغاير له حقيقة وإنما هو مشابه له صورة ، ولو كان واجباً لكان بدليل مستقل غير الدليل الأوّل ، فوجوب الحجّ المنذور المقيّد بسنة خاصّة في غير ذلك الزمان يحتاج إلى دليل مستقل آخر ، وكذلك وجوب الصلاة المقيّدة بوقت خاص في غير ذلك الوقت يحتاج إلى الدليل. وبالجملة : إذا خرج الوقت فقد فات الواجب ، فكيف

__________________

(١) المستدرك ٨ : ٢٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٨ ح ٣.

(٢) في المسألة ٨٣ ص ٢٩٩.

(٣) النساء ٤ : ١١.

٣٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

يمكن أن يقال باشتغال الذمّة بذلك بمجرّد الوجوب الأوّل ، بل لا بدّ في وجوبه في الوقت الثاني من دليل آخر.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أن الواجبات الإلهية ليست حالها حال الدّين ، فإذا مات المكلف يقضى عنه من الثلث إن أوصى به وإلّا فلا. نعم ، الحجّ يقضى من أصل التركة سواء أوصى به أم لا للنص ، وقد ذكرنا تفصيل هذا البحث في قضاء الصلاة (١).

والحاصل : أن الأقوال في المسألة ثلاثة :

الأوّل : ما اختاره المصنف (قدس سره) من وجوب القضاء في مطلق الواجبات سواء كانت متعلقة للنذر أم لا ، وسواء كان المنذور الحجّ أم غيره.

الثاني : ما ذهب إليه بعضهم من التفصيل من وجوب القضاء في متعلق النذر سواء كان الحجّ أم غيره ، وأمّا إذا لم يكن الواجب متعلقاً للنذر فلا يجب القضاء.

الثالث : ما ذهب إليه الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره) من التفصيل بين نذر الحجّ وغيره ، وأن المنذور لو كان الحجّ يجب القضاء ولو كان غيره لا يجب ، فالقضاء ثابت في نذر الحجّ سواء كان نذر الحجّ مطلقاً أو مقيداً بسنة خاصّة (٢).

ولا يخفى : أنه لم يرد أي نص في المقام يدلّ على وجوب القضاء لا بالنسبة إلى الناذر ولا بالنسبة إلى وليّه حال موت الناذر ، فلا بدّ من البحث على ما تقتضيه القاعدة.

فنقول : أمّا ما اختاره المصنف (قدس سره) فقد عرفت أنه مبني على أن جميع الواجبات الإلهية ديون لله تعالى ولها جهة وضع وذمّة المكلّف مشغولة بها ، ولا يسقط ما في ذمّته إلّا بتفريغ الذمّة وتسليم العمل إلى المولى ، إمّا بالإتيان بنفسه أو بالقضاء عنه نظير الديون الشخصية للناس.

وفيه : ما تقدّم أنّ ما ذكره من حيث الكبرى مسلم ، فإنّ الإيجاب والتكليف يقتضيان اشتغال ذمّة المكلف ، بل ذكرنا في الأُصول (٣) أن الوجوب ليس إلّا اعتبار

__________________

(١) في المسألة [١٨١٥].

(٢) الجواهر ١٧ : ٣٤٦.

(٣) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٣١.

٣٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

شي‌ء على ذمة المكلف وإبرازه بمبرز كما هو الحال في سائر الاعتبارات الملزمة ، إلّا أن الكلام في الصغرى أعني بقاء اشتغال الذمة بعد الوقت وأن الاعتبار بعد الوقت موجود أم لا ، ومجرد حدوث الاعتبار والتكليف في الوقت لا يكفي لبقاء ذلك بعد الوقت ، فإنّ الحدوث بدليل والبقاء بدليل آخر ، فإن البقاء أيضاً يحتاج إلى دليل مستقل كالحدوث ، والدليل الأوّل الدال على إتيانه في الوقت والاشتغال به لا يتكفل إتيانه والاشتغال به خارج الوقت بل لا بدّ من أمر جديد.

وبالجملة : لا دليل على وجوب القضاء على نفسه فضلاً على وليه من تركته ، لأن القضاء بأمر جديد ولا دليل عليه في الموردين ، وأما إطلاق الدّين على بعض الواجبات لا يجعل الواجب ديناً حقيقياً وإنما هو من باب الاستعمال وهو أعم من الحقيقة والمجاز.

وأمّا القول الثاني : فقد ادعى أن النذر بخصوصه يوجب كون المنذور ديناً على الناذر ، لأنّ مفاد صيغة النذر جعل المنذور لله تعالى وتمليكه إياه ، ولا فرق بين أن يقول : لزيد عليّ درهم أو للهِ عليّ كذا ، فإنّ هذه الصيغة توجب كون متعلقها ديناً ثابتاً في الذمة فيجري عليه أحكام الدّين ، كما هو الحال في خصوص الحجّ الواجب بالأصل من معاملة الدّين الحقيقي معه.

وفيه : أن النذر لا يدل إلّا على التزام المكلف بالمنذور وقوله للهِ عليّ معناه أنه ألتزم على نفسي بكذا لله تعالى ، وهذا لا يوجب إطلاق الدّين عليه إلّا على سبيل التجوز ، فالدين المتعارف الحقيقي غير ثابت وهو غير مقصود للناذر ، لأنّ مقصوده حسب مفاد الصيغة ليس إلّا التزامه بذلك الشي‌ء المنذور لا ملكية الشي‌ء المنذور لله تعالى ، بل لا يمكن التمليك المتعارف بالنسبة إلى الله تعالى ، فإنّ الملكية الاعتبارية لا معنى لها بالنسبة إليه سبحانه إلّا بمعنى التكليف والإلزام والإيجاب ، ووجوب الوفاء بالشي‌ء بمعنى لزوم إنهائه ونحو ذلك ، وإلّا فالملكية الاعتبارية الثابتة للأشياء الخارجية غير ثابتة لله تعالى ، وإنما هو مالك الملوك والأكوان ، وجميع الأُمور طُرّاً بيده وتحت سلطانه وقدرته ومشيئته من دون اعتبار أي جاعل ، وملكه تعالى وسلطانه ليس بالاعتبار فإن إحاطته إحاطة وجودية ، لارتباط جميع الموجودات بنفس ذواتها

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

به بنفس وجودها ، فهي ثابتة له بذواتها من دون حاجة إلى اعتبار ثبوتها له ، وهي محاطة له تعالى بنفس وجودها الارتباطي به ومقهورة تحت قهره وسلطانه والاعتبار في مورد الثبوت الحقيقي لغو واضح.

وبالجملة : النذر بل كل واجب لا يوجب إلّا الالتزام بإتيان متعلقه ولزوم أدائه في الخارج ، وأمّا كون متعلقه ديناً حقيقياً ثابتاً في الذمة يجب تفريغها عنه في الوقت أو خارجه فغير ثابت. نعم ، ورد القضاء في خصوص الصوم المنذور المقيّد بيوم خاص إذا صادف يوم العيد أو أيام مرضه أو سفره كما في صحيح ابن مهزيار (١) ، ولو لا النص لكان النذر باطلاً لعدم الرجحان في متعلقه حين العمل ، والرواية على خلاف القاعدة ويجب الاقتصار على موردها ولا يمكن التعدي عنه إلى سائر الموارد.

وأمّا ما ذكره في الجواهر من الفرق بين نذر الحجّ وبين تعلق النذر بغيره بوجوب القضاء في الأوّل دون الثاني بدعوى أن الحجّ يمتاز عن سائر الواجبات الإلهية ، لأن المستفاد من النصوص أن الحجّ سبيله سبيل الدّين أو هو بمنزلته فوجوبه على نحو الدينية بخلاف سائر العبادات البدنية ، فلا بدّ من القضاء إما بنفسه أو يقضي عنه وليه بعد موته من أصل المال (٢).

ففيه : أنا لا نرى فرقاً بين الأمرين إلّا ما قيل من أن الحجّ واجب مالي وإجماعهم قائم على خروج الواجبات المالية من الأصل بخلاف سائر الواجبات كالصلاة والصوم ونحوهما من الواجبات البدنية ، ولكن من الواضح أن الحجّ أيضاً ليس بواجب مالي وإنما المال يصرف في مقدّماته وإلّا فأفعال الحجّ كالطواف والسعي والوقوف ليست بواجبات مالية إلّا الهدي فإنه واجب مالي.

وبالجملة : حال الحجّ كسائر الواجبات الإلهية البدنية ، والواجب المالي ما وجب فيه صرف المال أوّلاً وبنفسه كالديون ، ومجرد صرف المال في تحصيل الواجب وصرفه في المقدّمات لا يجعل الواجب واجباً مالياً. على أنه لو كان الحجّ واجباً مالياً

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٣١٠ / كتاب النذر ب ١٠ ح ١.

(٢) الجواهر ١٧ : ٣٤٦.

٣٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا بدّ من التفصيل بين الحجّ وغيره من الواجبات ، لا التفصيل بين نذر الحجّ ونذر غير الحجّ إذ لا خصوصية للنذر حينئذ ، بل لو كان الحجّ في ضمن عقد لازم مثلاً أو صار واجباً بسبب آخر غير النذر يلزم خروجه من أصل المال لامتياز الحجّ عن سائر الواجبات ، مع أنه لم يلتزم أحد من الفقهاء بذلك ولم يتعرضوا لذلك أصلاً.

وأمّا بحسب الروايات فقد ورد تنزيل الحجّ منزلة الدّين في موردين :

أحدهما : حجّة الإسلام ، فإن النصوص دلت على أنها دين أو بمنزلته بل المستفاد منها تقديم حج الإسلام على الديون الشخصية (١) وهذا ممّا لا كلام فيه.

ثانيهما : نذر إحجاج الغير لا نذر الحجّ عن نفسه كما في صحيحة ضريس قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل عليه حجّة الإسلام نذر نذراً في شكر ليحجّنّ به رجلاً إلى مكّة فمات الذي نذر قبل أن يحج حجّة الإسلام ومن قبل أن يفي بنذره الذي نذر ، قال : إن ترك مالاً يحج عنه حجّة الإسلام من جميع المال وأُخرج من ثلثه ما يحجّ به رجلاً لنذره وقد وفى بالنذر ، وإن لم يكن ترك مالاً إلّا بقدر ما يحج به حجّة الإسلام حج عنه بما ترك ، ويحج عنه وليه حجّة النذر ، إنما هو مثل دين عليه» (٢).

والظاهر أن إطلاق لفظ الدّين على نذر إحجاج الغير إنما هو بلحاظ تشبيهه بالدين من حيث قيام الولي بذلك ، يعني : كما أنّ وليّ الميت له التصدِّي لأداء ديونه كذلك له أن يقوم بالحج عنه في مورد نذر الإحجاج إذا لم يتمكن هو من ذلك ، ولو كان ديناً حقيقياً لزم خروجه من الأصل لا من الثلث. وبالجملة : لم يطلق الدّين على مطلق الحجّ إلّا على هذين الموردين فحال الحجّ حال سائر الواجبات فلا فرق بين الحجّ وغيره ، والقضاء غير ثابت على نفسه فضلاً على الولي بعد موته.

ثمّ إنه ذهب جماعة إلى وجوب القضاء من الثلث واستدلوا بصحيحة ضريس

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٦٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٥ ح ٤ ، ٥.

(٢) الوسائل ١١ : ٧٤ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٩ ح ١.

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

المتقدِّمة وصحيحة ابن أبي يعفور (١) الدالتين على أن من نذر الإحجاج ومات قبله يخرج من ثلثه ، ولو كان نذر الإحجاج كذلك مع كونه مالياً محضاً فنذر الحجّ بنفسه أولى بعدم الخروج من الأصل.

وفيه أوّلاً : أنّ الأصحاب أعرضوا عن هذين الخبرين ولم يفتِ أحد بالحكم المذكور في موردهما ، فحينئذ إن قلنا بعدم وجوب القضاء أصلاً كما هو المختار فلا كلام ، ولو قيل بالقضاء فلا بدّ من الخروج من الأصل لأنه واجب مالي ، وحاله حال سائر الديون كما اختاره جماعة أُخرى.

وثانياً : لو لم نقل بسقوط الخبر المعتبر عن الحجية بالإعراض كما هو الصحيح عندنا نلتزم بالخروج من الثلث في خصوص مورد الخبرين وهو نذر الإحجاج ، ولا وجه للتعدي من موردهما إلى الحجّ المنذور بنفسه ، والأولوية المدعاة ممنوعة ، لأن الحجّ المنذور النفسي يمتاز عن سائر الواجبات لكونه واجباً مالياً وحاله حال الدّين في الخروج من الأصل ، وأمّا نذر الإحجاج فهو مجرد تسبيب إلى العمل وإلى إتيان أفعال الحجّ ، ولا يصح إطلاق الدّين عليه في نفسه.

ودعوى إن الإحجاج واجب مالي محض واضحة الدفع لإمكان إحجاج الغير بدون بذل المال له أصلاً ، كما إذا التمس من أحد أن يحج أو يلتمس من شخص آخر أن يُحج الغير ونحو ذلك من التسبيبات إلى حج الغير من دون بذل المال.

وبالجملة : لو كنا نحن والقاعدة لقلنا بعدم وجوب قضاء نذر الإحجاج لا من الأصل ولا من الثلث كسائر الواجبات المنذورة التي لا يجب قضاؤها لا من الأصل ولا من الثلث ، والحكم المذكور في الخبرين حكم على خلاف القاعدة ويقتصر على موردهما ، والأولوية المذكورة ممنوعة كما عرفت لأن الحجّ النذري يمتاز عن سائر الواجبات ، فإنه كالدين فيخرج من الأصل ، ولا يقاس بنذر الإحجاج الذي يمكن عدم صرف المال فيه أصلاً ، فالتعدِّي بلا موجب.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٧٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٩ ح ٣.

٣٣١

[٣١١٦] مسألة ٩ : إذا نذر الحجّ مطلقاً أو مقيداً بسنة معيّنة ولم يتمكن من الإتيان به حتى مات لم يجب القضاء عنه لعدم وجوب الأداء عليه حتى يجب القضاء عنه ، فيكشف ذلك عن عدم انعقاد نذره (١).

[٣١١٧] مسألة ١٠ : إذا نذر الحجّ معلقاً على أمر كشفاء مريضة أو مجي‌ء مسافرة فمات قبل حصول المعلّق عليه هل يجب القضاء عنه أم لا (*)؟ المسألة مبنيّة على أن التعليق من باب الشرط أو من قبيل الوجوب المعلق ، فعلى الأوّل لا يجب لعدم الوجوب عليه بعد فرض موته قبل حصول الشرط وإن كان متمكِّناً

______________________________________________________

والحاصل : لو كان الميزان في الواجب بالمالية فنذر الحجّ النفسي أولى في كونه مالياً وديناً من نذر الإحجاج الذي يمكن أن يؤتى به من دون صرف المال فيه أصلاً فيدور الأمر بين القولين المتقدِّمين من خروج الحجّ النذري النفسي من الأصل ومن عدم وجوب القضاء أصلاً لا من الأصل ولا من الثلث كما هو المختار عندنا.

ثمّ إنه قد أجاب بعضهم عن الخبرين بالحمل على صورة كون النذر في حال المرض بناء على خروج المنجزات من الثلث. وفيه : أن هذا تقييد لا موجب له على أن الأقوى خروج المنجزات من الأصل.

وربّما يحملان على النذر بدون إجراء الصيغة أو على صورة عدم التمكن من الوفاء حتى مات. وفيه : مضافاً إلى أن ذلك تقييد لا موجب له أنه على ذلك لا يجب الخروج لا من الأصل ولا من الثلث لفرض البطلان فينحصر الجواب إما بسقوطهما عن الحجية بالإعراض كما التزم به المشهور ، أو بالعمل بهما في خصوص موردهما وهو نذر الإحجاج لعدم العبرة بالإعراض كما هو الصحيح عندنا.

(١) فإن القضاء فرع ثبوت الأداء ، فإذا لم يجب الأداء لعدم القدرة في وقته لا يجب القضاء ، والنذر ليس إلّا التزام نفساني لله تعالى في الأُمور المقدورة فالالتزام بنفسه

__________________

(*) لا يجب القضاء جزماً ، وذلك لأنّ الوجوب على التقديرين مشروط بالقدرة في ظرف العمل وبالموت ينكشف عدم الوجوب.

٣٣٢

من حيث المال وسائر الشرائط ، وعلى الثاني يمكن أن يقال بالوجوب لكشف حصول الشرط عن كونه واجباً عليه من الأوّل إلّا أن يكون نذره منصرفاً إلى بقاء حياته حين حصول الشرط (١).

[٣١١٨] مسألة ١١ : إذا نذر الحجّ وهو متمكِّن منه فاستقرّ عليه ثمّ صار معضوباً لمرض أو نحوه أو مصدوداً بعدوّ أو نحوه فالظاهر وجوب استنابته حال حياته لما مرّ من الأخبار (*) سابقاً في وجوبها ، ودعوى اختصاصها بحجة الإسلام ممنوعة كما مرّ سابقاً (**) ، وإذا مات وجب القضاء (***) عنه ، وإذا صار معضوباً أو

______________________________________________________

يقتضي ذلك مع قطع النظر عن اشتراط التكاليف بالقدرة.

(١) قد ذكرنا في الأُصول (١) أن الواجب المشروط يفترق عن الواجب المعلق بعدم فعلية الوجوب قبل حصول الشرط في الواجب المشروط ، بخلاف الواجب المعلق فإنّ الوجوب فيه فعلي قبل حصول المعلق عليه ولكن الواجب استقبالي كما في وجوب الصوم من اللّيل ، فإن قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢) يدل على وجوب الصوم بمشاهدة الهلال وحلول الشهر وإن كان زمان الواجب النهار الآتي ، فالواجب المشروط يمتاز عن الواجب المعلق من هذه الجهة ، وأما من حيث اشتراط الوجوب في كلا الواجبين بالقدرة في ظرف العمل فمما لا كلام فيه ، وبالموت ينكشف عدم الوجوب ، إذ لا معنى للوجوب الفعلي مع عدم القدرة على الواجب في ظرف العمل ، فإن التكليف بغير المقدور غير ممكن سواء كان من الآن أو فيما بعد والمفروض في المقام عدم القدرة على الواجب في ظرفه لحصول الموت ، فلا معنى لجعل الوجوب عليه حتى على نحو التعليق فلا يجب القضاء جزماً.

__________________

(*) لا يمكن استفادة وجوب الاستنابة منها في غير حجّة الإسلام.

(**) وقد مرّ منه خلافه في المسألة (٧٢) [٣٠٦٩] من الفصل السابق.

(***) تقدم عدم وجوبه.

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٤٨.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

٣٣٣

مصدوداً قبل تمكنه واستقرار الحجّ عليه أو نذر وهو معضوب أو مصدود حال النذر مع فرض تمكنه من حيث المال ففي وجوب الاستنابة وعدمه حال حياته ووجوب القضاء عنه بعد موته قولان ، أقواهما العدم وإن قلنا بالوجوب بالنسبة إلى حجّة الإسلام إلّا أن يكون قصده من قوله للهِ عليّ أن أحجّ الاستنابة (١).

______________________________________________________

(١) ذكر في هذه المسألة فرعين :

الأوّل : إذا نذر الحجّ وهو متمكن منه فاستقر عليه ثمّ عرض له عارض ومانع عن إتيانه كالمرض ونحوه حكم (قدس سره) بوجوب استنابته حال حياته ، كما هو الحال في حجّة الإسلام من وجوب الاستنابة حال الحياة إذا استقر عليه الحجّ وتمكن منه مالاً ، ولكن لا يتمكّن من الإتيان به لمرض أو هرم ونحوهما من الموانع ، لإطلاق الأخبار المتقدِّمة (١) الآمرة بالاستنابة وعدم اختصاصها بحجّة الإسلام ، وإذا مات ولم يستنب وجب القضاء عنه من تركته.

وفيه : أن المستفاد من تلك الأخبار وجوب الاستنابة في خصوص حج الإسلام ولا يستفاد منها وجوب الاستنابة في غير حجّة الإسلام من الحجّ النذري والإفسادي ، وقد تقدم من المصنف في المسألة ٧٢ من الفصل السابق خلاف ما ذكره هنا ، وبين المسألتين تهافت. وبالجملة : لا دليل على وجوب الاستنابة في غير حجّة الإسلام ، كما لا دليل على القضاء وإن قلنا بوجوب الاستنابة ولم يستنب حتى مات لما عرفت من عدم الدليل على وجوب القضاء إلّا في موارد خاصة منصوصة كحج الإسلام ونذر الإحجاج.

الفرع الثاني : ما لو نذر في حال المرض مع فرض تمكنه من حيث المال ، أو نذر فصار مريضاً أو مصدوداً قبل تمكنه واستطاعته المالية واستقرار الحجّ عليه ، ففي وجوب الاستنابة وعدمه قولان.

__________________

(١) في ص ١٩٦.

٣٣٤

[٣١١٩] مسألة ١٢ : لو نذر أن يُحج رجلاً في سنة معيّنة فخالف مع تمكنه وجب عليه القضاء (*) والكفارة ، وإن مات قبل إتيانهما يقضيان من أصل التركة لأنّهما واجبان ماليان بلا إشكال ، والصحيحتان المشار إليهما سابقاً الدالّتان على الخروج من الثلث معرض عنهما كما قيل أو محمولتان على بعض المحامل ، وكذا إذا نذر الإحجاج من غير تقييد بسنة معيّنة مطلقاً أو معلقاً على شرط وقد حصل وتمكّن منه وترك حتى مات فإنّه يقضى عنه من أصل التركة (**) ، وأمّا لو نذر الإحجاج بأحد الوجوه ولم يتمكّن منه حتى مات ففي وجوب قضائه وعدمه وجهان ، أوجههما ذلك (١)

______________________________________________________

اختار العدم وهو الصحيح ، لأنّ عدم التمكّن فيما بعد يكشف عن بطلان النذر وعدم انعقاده ، فإنه يعتبر في انعقاد النذر التمكّن من المنذور في ظرفه وإلّا فلا ينعقد ولا يصح الالتزام به ، وأمّا وجوب الاستنابة في حج الإسلام فيما إذا منعه مانع فللنص ولا نص في المقام ، وأمّا نذر الإحجاج والاستنابة فهو خارج عن محل البحث وسنذكره في المسألة الآتية إن شاء الله.

(١) ذكر في هذه المسألة فروعاً ، لأنّه تارة ينذر أن يُحجّ الغير في سنة معيّنة وأُخرى ينذر إحجاج الغير مطلقاً من غير تقييد بسنة معيّنة ، وفي كل منهما قد يتمكن من ذلك وقد لا يتمكّن فيقع الكلام في موارد :

المورد الأوّل : لو نذر أن يُحج الغير في سنة معيّنة فخالف مع تمكنه ، ذهب في المتن إلى وجوب القضاء والكفارة وإن مات قبل إتيانهما يقضيان من أصل المال ، لأنّهما واجبان ماليان والواجب المالي يخرج من الأصل بلا إشكال.

__________________

(*) الظاهر عدم وجوب القضاء لا عليه ولا بعد موته ، وأما الكفارة فلا إشكال في وجوبها عليه ، وأما بعد موته فالمشهور وإن كان على وجوب إخراجها من أصل التركة إلّا أنه لا يخلو من إشكال ، والاحتياط لا ينبغي تركه.

(**) بل يخرج من الثلث ، وكذا الحال فيما بعده.

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : أمّا الكفّارة فلا ريب في ثبوتها لتحقق الحنث بالمخالفة ، وأمّا وجوب القضاء فلم يرد أي نص في المقام يدل على وجوبه ، وأمّا الصحيحتان المتقدِّمتان (١) صحيحة ضريس وصحيحة ابن أبي يعفور فموردهما نذر إحجاج الغير من غير تقييد بسنة معيّنة ، ومحل الكلام نذر الإحجاج المقيّد بسنة معيّنة فلا يكون مشمولاً للخبرين فلا بدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة ، ومقتضاها عدم وجوب القضاء لا عليه ولا بعد موته لأنّ الواجب يفوت بفوات وقته ، ووجوبه في خارج الوقت يحتاج إلى دليل آخر وأمر جديد ، نظير نذر حجّه نفسه المؤقت فإنه لا يجب قضاؤه أيضاً إذا فات وقته ، لأنّ الذي التزم به لا يمكن وقوعه في الخارج لخروج وقته ، وما يمكن وقوعه في الخارج لم يلتزم به ولا دليل على إتيانه ، ثمّ إنه على فرض وجوب القضاء لا دليل على خروجه من أصل المال ، لأنّ الذي يجب خروجه من الأصل الديون ولو كانت ديوناً شرعية ، وأمّا مطلق الواجب المالي فلا دليل على خروجه من الأصل حتى الكفّارات ، فإنّ الواجب في الكفّارات هو إطعام الفقراء أو عتق العبد ، وإذا خالف وترك الإطعام لا يكون مديناً لأحد وإنما ترك واجباً من الواجبات ، فليس حال الكفّارة حال الديون والمظالم والزكاة والخمس ، وهكذا الحجّ فإنه بحكم الدّين وبمنزلته شرعاً للنصوص.

وبالجملة : الإجماع قائم على خروج الدّين من الأصل سواء كان ديناً خَلقياً وإنسانياً كالدين الشخصي والمظالم فإنها أيضاً دين ولا فرق بينها وبين الدّين الشخصي المعيّن ، غاية الأمر أن الدائن غير معلوم في المظالم ، أم كان ديناً إلهياً كالزكاة والخمس ويلحق بهما الحجّ حسب النص ، فموارد الديون المستخرجة من الأصل منحصرة بهذه الأُمور ، وأما غير ذلك من الواجبات فلا يخرج من الأصل وإن كان يحتاج إلى صرف المال.

المورد الثاني : إذا نذر الإحجاج من غير تقييد بسنة معيّنة ، مطلقاً أو معلّقاً على شرط وقد حصل ، وتمكن منه فمات اتفاقاً قبل الوفاء بالنذر ، أمّا الكفّارة فغير ثابتة

__________________

(١) في ص ٣٣٠ ، ٣٣١.

٣٣٦

لأنّه واجب مالي أوجبه على نفسه فصار ديناً ، غاية الأمر أنّه ما لم يتمكّن معذور ، والفرق بينه وبين نذر الحجّ بنفسه أنه لا يعدّ ديناً مع عدم التمكّن منه واعتبار المباشرة بخلاف الإحجاج فإنه كنذر بذل المال (*) كما إذا قال : للهِ عليّ أن أعطي الفقراء مائة درهم ومات قبل تمكّنه ، ودعوى كشف عدم التمكّن عن عدم الانعقاد ممنوعة ، ففرق بين إيجاب مال على نفسه أو إيجاب عمل مباشري وإن استلزم صرف المال فإنّه لا يعدّ ديناً عليه بخلاف الأوّل.

______________________________________________________

لعدم حصول الحنث ، وهل يقضى عنه من أصل التركة أم لا؟ المعروف بينهم القضاء عنه من الأصل واختاره المصنف للإجماع على الخروج من الأصل ، وأمّا الصحيحتان المتقدِّمتان الدالّتان على الخروج من الثلث فمعرض عنهما.

وفيه : أن الإجماع لم يتم ، نعم قامت الشهرة على الخروج من الأصل وهي ليست بحجة ، فلو قلنا بمقالة المشهور من سقوط الرواية عن الحجية بالاعراض عنها لا يجب الخروج من الثلث لسقوط الروايتين عن الحجية بالاعراض ، ولا من الأصل لعدم الدليل وعدم تمامية الإجماع ، وإن لم نقل بذلك كما هو الصحيح عندنا فمقتضى الصحيحتين الخروج من الثلث وعدّ ذلك من جملة خيرات الميت ومبرّاته التي تصرف للميت كما هو صريح صحيح ابن أبي يعفور المتقدِّم (١).

المورد الثالث : ما لو نذر الإحجاج مطلقاً أو مقيّداً بسنة معيّنة ولم يتمكن منه من الأوّل حتى مات ، فهل يجب القضاء عنه من أصل المال أم لا؟ وجهان ، اختار المصنف الوجوب بدعوى أن الواجب واجب مالي وهو دين عليه ، بخلاف نذر الحجّ بنفسه فإنه لم يكن واجباً مالياً وديناً عليه لأن متعلقه إتيان عمل من الأعمال ، ولو لم يتمكّن منه لا يجب قضاؤه.

__________________

(١) الظاهر عدم الوجوب فيه أيضاً لأن المال لا يكون ديناً عليه بالنذر.

(٢) في ص ٣٣١.

٣٣٧

[٣١٢٠] مسألة ١٣ : لو نذر الإحجاج معلقاً على شرط كمجي‌ء المسافر أو شفاء المريض فمات قبل حصول الشرط مع فرض حصوله بعد ذلك وتمكنه منه قبله فالظاهر وجوب القضاء عنه (*) إلّا أن يكون مراده التعليق على ذلك الشرط مع كونه حياً حينه ، ويدلُّ على ما ذكرنا خبر مسمع بن عبد الملك في من كان له جارية حبلى فنذر إن هي ولدت غلاماً أن يُحجه أو يحج عنه ، حيث قال الصادق (عليه السلام) بعد ما سُئل عن هذا : «إن رجلاً نذر في ابن له إن هو أدرك أن

______________________________________________________

والحاصل : نذر الإحجاج يفترق عن نذر الحجّ بنفسه فإن الأوّل واجب مالي ويعدّ من الدّين بخلاف الثاني ، لأن متعلقه عمل مباشري ولا يعدّ ذلك من الدّين مع عدم التمكّن منه وإن كان مستلزماً لصرف المال.

وفيه : أن النذر المتعلق بالمال إذا كان على نحو نذر النتيجة كما إذا نذر أن يكون مديناً لزيد أو كون هذا المال له بنفس النذر فالأمر كما ذكره ، فإن النذر حينئذ يوجب كون المال ديناً عليه ، والتمكن غير دخيل في كونه ديناً غاية الأمر ما لم يتمكّن معذور ، فحاله حال سائر الديون المستخرجة من الأصل ، ولكن لا نقول بصحة نذر النتيجة لعدم الدليل عليها أصلاً ، ويرجع النذر في الحقيقة إلى نذر الفعل والمنذور هو الإعطاء والبذل ، فإذا فرضنا أنه لم يتمكّن منه يكشف ذلك عن عدم انعقاد النذر في ظرفه ، لاعتبار القدرة في ظرف العمل بالنذر.

وبالجملة : لا فرق بين النذرين فإن النذر في أمثال المقام يرجع إلى تعلقه بالفعل وإلى الإعطاء والبذل ، فمتعلق النذر في كلا التقديرين فعل من الأفعال ، غاية الأمر في القسم الثاني يحتاج إلى صرف المال غالباً بخلاف الأوّل ، هذا على ما يقتضيه القاعدة وأمّا مقتضى خبر مسمع الآتي فيجب القضاء من الثلث ، وسيأتي توضيح ذلك في المسألة الآتية.

__________________

(*) لكنه يخرج من الثلث.

٣٣٨

يُحجّه أو يحج عنه فمات الأب وأدرك الغلام بعد فأتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فسأله عن ذلك فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يحج عنه مما ترك أبوه» وقد عمل به جماعة ، وعلى ما ذكرنا لا يكون مخالفاً للقاعدة (*) كما تخيله سيّد الرياض وقرره عليه صاحب الجواهر وقال : إن الحكم فيه تعبدي على خلاف القاعدة (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت مما تقدم أن مقتضى القاعدة بطلان النذر مطلقاً سواء تعلق بالحج مباشرة أو بالإحجاج مطلقاً أو معلقاً ، لأنّ الموت يكشف عن عدم القدرة فلا ينعقد النذر من أصله ، وقد عرفت أيضاً أن نذر الإحجاج لا يجعله مديناً ، بل لو تعلّق النذر بنفس إعطاء المال وبذله لا يكون مديناً ، غاية الأمر يجب عليه إعطاء المال كما يجب عليه الإحجاج. وبالجملة : متعلق النذر في كلا الموردين عمل وفعل من الأفعال ، ولا يصير مديناً حتى يجب قضاؤه من الأصل ، وبالموت ينكشف البطلان وعدم الانعقاد. نعم ، مقتضى صحيح مسمع (١) المذكور في المتن وجوب القضاء في نذر الإحجاج وقد عمل به المشهور ، فوجوب القضاء مما لا كلام فيه.

إنما الكلام في أنه يخرج من الأصل أو من الثلث ، ولم يصرح في خبر مسمع بشي‌ء منهما وإنما المذكور فيه أنه يخرج مما ترك أبوه ، ومقتضى إطلاقه جواز الخروج من الأصل ، ويعارضه ما تقدم من الصحيحتين صحيحة ضريس وصحيحة ابن أبي يعفور الدالّتين على الخروج من الثلث ، ومقتضى الجمع بينهما وجوب القضاء من الثلث ، وقد ذكرنا غير مرة أن الصحيحتين وإن أعرض عنهما الأصحاب ولم يعملوا بهما في موردهما إلّا أنه لا عبرة بالاعراض ولا يوجب سقوط الخبر عن الحجِّيّة.

فتلخص من جميع ما ذكرنا أن نذر الحجّ المباشري لا يجب القضاء عنه لا من

__________________

(*) بل هو على خلاف القاعدة ، لكنه مع ذلك لا مناص من العمل به وحمله على لزوم الإخراج من الثلث جمعاً بينه وبين صحيحتي ضريس وابن أبي يعفور.

(١) الوسائل ٢٣ : ٣١٦ / كتاب النذر ب ١٦ ح ١.

٣٣٩

[٣١٢١] مسألة ١٤ : إذا كان مستطيعاً ونذر أن يحجّ حجّة الإسلام انعقد على الأقوى وكفاه حجّ واحد (١) ، وإذا ترك حتى مات وجب القضاء عنه (*) والكفّارة من تركته ، وإذا قيده بسنة معيّنة فأخر عنها وجب عليه الكفّارة ، وإذا نذره في حال عدم الاستطاعة انعقد أيضاً ووجب عليه تحصيل الاستطاعة مقدّمة إلّا أن يكون مراده الحجّ بعد الاستطاعة.

______________________________________________________

الأصل ولا من الثلث لعدم الدليل ، وأما نذر الإحجاج يجب قضاؤه من الثلث ولو كان بالتعليق ومات قبل حصول الشرط مع فرض حصوله بعد ذلك كما هو مورد صحيح مسمع ، وإذا وجب القضاء في مورد نذر الإحجاج المعلق وجب قضاؤه في نذر الإحجاج المطلق بطريق أولى ، بل يمكن أن يقال بشمول خبر مسمع لنذر الإحجاج المطلق أيضاً ، لأنّ المستفاد من الخبر صدراً وذيلاً ومن تطبيق الإمام (عليه السلام) ما نقله عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) على ما سأله السائل أن نذر الإحجاج مما يجب قضاؤه بعد الموت ، سواء كان مطلقاً أو معلقاً وسواء مما تمكن منه أم لا.

(١) لتأكّد الواجبات الأصلية بتعلّق النذر بها ، نظير اشتراط إتيان الواجب أو ترك الحرام في ضمن عقد لازم ، فإنه لا ريب في صحّة هذا الاشتراط وانعقاده ، فإذا أتى بحجّ الإسلام فقد أتى بالوظيفتين وإذا ترك يجب القضاء من الأصل ، وأمّا كفّارة الحنث فإن تمّ إجماع على الخروج من الأصل فهو وإلّا فلا وجه لخروجها لا من الأصل ولا من الثلث ، لأنّها من جملة الواجبات التي تسقط بموت صاحبها كما عرفت ، وأمّا نذر حجّ الإسلام في حال عدم الاستطاعة فيتصوّر على وجهين :

أحدهما : التعليق على تقدير الاستطاعة ، بمعنى أن يكون مراده من النذر إتيان الحجّ بعد الاستطاعة ، والأمر فيه واضح لوجوب الحجّ بعد حصول الاستطاعة أصالة ونذراً.

__________________

(*) تقدم الكلام فيه [في المسألة ٣١١٥ التعليقة ٣].

٣٤٠