موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: نينوى
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6084-13-3
الصفحات: ٣٩٥

فوراً ، وكونه صحيحاً على تقدير المخالفة لا ينفع في صحّة الإجارة خصوصاً على القول بأن الأمر بالشي‌ء نهي عن ضدّه ، لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه وإن كانت الحرمة تبعية ، فإن قلت : ما الفرق بين المقام وبين المخالفة للشرط في ضمن العقد مع قولكم بالصحّة هناك كما إذا باعه عبداً وشرط عليه أن يعتقه فباعه ، حيث تقولون بصحّة البيع ويكون للبائع خيار تخلف الشرط. قلت : الفرق أن في ذلك المقام المعاملة على تقدير صحتها مفوتة لوجوب العمل بالشرط ، فلا يكون العتق واجباً بعد البيع لعدم كونه مملوكاً له ، بخلاف المقام حيث إنّا لو قلنا بصحّة الإجارة لا يسقط وجوب الحجّ عن نفسه فوراً فيلزم اجتماع أمرين متنافيين فعلاً فلا يمكن أن تكون الإجارة صحيحة وإن قلنا إن النهي التبعي لا يوجب البطلان فالبطلان من جهة عدم القدرة على العمل لا لأجل النهي عن الإجارة. نعم ، لو لم يكن متمكناً من الحجّ عن نفسه يجوز له أن يؤجر نفسه للحجّ عن غيره. وإن تمكن بعد الإجارة عن الحجّ (*) عن نفسه لا تبطل إجارته بل لا يبعد صحّتها لو لم يعلم باستطاعته أو لم يعلم بفوريّة الحجّ (**) عن نفسه فآجر نفسه للنيابة ولم يتذكر إلى أن فات محل استدراك الحجّ عن نفسه كما بعد الفراغ أو في أثناء الأعمال. ثمّ لا إشكال في أن حجّه عن الغير لا يكفيه عن نفسه بل إمّا باطل كما عن المشهور أو صحيح عمّن نوى عنه كما قوّيناه ، وكذا لو حجّ تطوّعاً لا يجزئه عن حجّة الإسلام (***) في الصورة المفروضة بل إمّا باطل أو صحيح ويبقى عليه

__________________

فلا يشمله وجوب الوفاء بالعقد ، وأما القدرة على التسليم في فرض العصيان فهي إنما يترتب عليها التكليف لا الوضع ، فإن المنشأ إنما هو التمليك على الإطلاق لا التمليك على تقدير المعصية ، ولو فرض أن المنشأ هو التمليك على تقدير العصيان كان العقد أيضاً باطلاً من جهة التعليق.

(*) هذا إذا كان التمكن متوقفاً على صحّة الإجارة ، وأما لو لم يكن كذلك كما لو حصل له المال من جهة أُخرى بعد الإجارة فيكشف ذلك عن بطلانها.

(**) فيما إذا كان معذوراً.

(***) الأظهر إجزاؤه عن حجّة الإسلام في الصورة المفروضة.

٢٨١

حجّة الإسلام ، فما عن الشيخ من أنه يقع عن حجّة الإسلام لا وجه له ، إذ الانقلاب القهري لا دليل عليه. ودعوى أن حقيقة الحجّ واحدة والمفروض إتيانه بقصد القربة فهو منطبق على ما عليه من حجّة الإسلام ، مدفوعة بأنّ وحدة الحقيقة لا تجدي بعد كون المطلوب هو الإتيان بقصد ما عليه ، وليس المقام من باب التداخل بالإجماع ، كيف وإلّا لزم كفاية الحجّ عن الغير أيضاً عن حجّة الإسلام بل لا بدّ من تعدّد الامتثال مع تعدد الأمر وجوباً وندباً أو مع تعدّد الواجبين وكذا ليس المراد من حجّة الإسلام الحجّ الأوّل بأي عنوان كان كما في صلاة التحيّة وصوم الاعتكاف فلا وجه لما قاله الشيخ (قدس سره) أصلاً. نعم لو نوى الأمر المتوجه إليه فعلاً وتخيل أنه أمر ندبي غفلة عن كونه مستطيعاً أمكن القول بكفايته عن حجّة الإسلام لكنه خارج عما قاله الشيخ ، ثمّ إذا كان الواجب عليه حجاً نذرياً أو غيره وكان وجوبه فورياً فحاله ما ذكرنا في حجّة الإسلام من عدم جواز حجّ غيره وأنه لو حجّ صحّ أو لا وغير ذلك من التفاصيل المذكورة بحسب القاعدة (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام تارة في من يتمكن من أداء حجّ نفسه وأُخرى في من لا يتمكّن وعلى كل تقدير قد يعلم بوجوب الحجّ على نفسه وقد لا يعلم بذلك ، ففي جميع الصور لو حجّ تطوعاً عن نفسه أو حجّ عن الغير نيابة تبرعاً أو إجارة فهل يصحّ الحجّ أم لا؟.

أمّا الصورة الأُولى : وهي ما إذا تمكن من أداء حجّ نفسه وكان عالماً بالوجوب فيقع البحث فيها من حيث الحكم التكليفي ومن حيث الحكم الوضعي ، أما من حيث الحكم التكليفي فلا ريب في كونه عاصياً في ترك ما وجب عليه وأنه فوّت على نفسه اختياراً ما هو من أعظم الواجبات الإلهية الذي هو من مباني الإسلام.

وأمّا من حيث الحكم الوضعي فهل يحكم بصحّة ما أتى به من الحجّ التطوعي أو النيابي أو يحكم بفساده؟ نسب إلى المشهور البطلان وادّعى صاحب الجواهر عدم

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الخلاف في بطلان الحجّ النيابي خاصّة (١) وفصّل بعضهم بين الحجّ النيابي والتطوّعي فذهب إلى البطلان في النيابي وإلى الصحّة فيما إذا حجّ عن نفسه تطوّعاً ، وذهب آخر إلى الصحّة مطلقاً وإن كان عاصياً في ترك حجّ الإسلام كما عن الشيخ في الخلاف (٢).

أمّا القائلون بالتفصيل فيمكن الاستدلال لهم بالوجوه المذكورة للفساد وبعض الوجوه المذكورة للصحة.

وأمّا القائلون بالفساد فاستدلّوا بوجوه :

الأوّل : أن الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه والنهي يدلّ على الفساد. وعن شيخنا البهائي أنه يكفي في الحكم بالفساد عدم الأمر ولا نحتاج إلى النهي (٣) ، وإذا كان أحد الضدّين مأموراً به فالضد الآخر لا أمر به لعدم إمكان الأمر بالضدّين معاً والمفروض في المقام أن الأمر تعلق بالحج عن نفسه ولم يتعلق بضده من سائر أقسام الحجّ من التطوعي أو النيابي.

أقول : قد ذكرنا في بحث الأُصول (٤) مفصّلاً أنّ الدعوى الأُولى مبنيّة على مقدّمتين :

إحداهما : إثبات مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الضد الآخر.

ثانيهما : إثبات الوجوب الشرعي للمقدمة.

وكلتا المقدمتين ممنوعتان فإن الضدين في مرتبة واحدة لا يتصور فيهما المقدمية. على أنه لو ثبتت المقدمية لا نلتزم بوجوب المقدمة شرعاً ، وعلى القول بالوجوب النهي في المقام لا يقتضي الفساد لأنه نهي عرضي تبعي. على أنه لو كان ترك أحد الضدّين واجباً للمقدمية فلا يقتضي حرمة وجود هذا الضد لأن الحكم الشرعي

__________________

(١) الجواهر ١٧ : ٣٢٨.

(٢) الخلاف ٢ : ٢٥٦.

(٣) نقل عنه في الكفاية : ١٣٣.

(٤) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ١٠.

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لا ينحل إلى حكمين ، فإن الواجب ما يكون فعله واجباً ولا يكون تركه بمحرم وكذا الحرام ما يكون فعله مبغوضاً ومنهياً عنه ولا يكون تركه واجباً ، فإن الوجوب ينشأ من مصلحة ملزمة في الفعل والحرمة تنشأ من مفسدة في الفعل. مضافاً إلى ذلك كله أن المتصف بالوجوب إنما هو المقدمة الموصلة لا كل مقدمة فالواجب هو ترك الضد الموصل إلى الواجب.

وأمّا ما ذكره البهائي (رحمه الله) فقد أجاب عنه غير واحد بكفاية المحبوبية في حد نفسه في الحكم بالصحّة وإن لم يؤمر به بالفعل لمانع من الموانع ، وما ذكروه من حيث الكبرى تام ولكن إثبات الصغرى ممنوع ، إذ لا يمكن إحراز المحبوبية إلّا عن طريق الأمر ولا كاشف عن الملاك إلّا الأمر فإن لم يكن أمر في البين كما هو المفروض لا يمكن إثبات المحبوبية ، فكلام البهائي في نفسه صحيح وحاصله أنه لو لم يكن في البين أمر لا يمكن الحكم بالصحّة.

والصحيح في الجواب عنه : أنّ الأمر موجود ، لأنّ الأمر بالضدّين إنما يمتنع جمعاً وعرضاً وأما الأمر الترتبي الطولي فلا مانع منه أصلاً ، لأنّ اعتبار القدرة في التكاليف إنما هو بحكم العقل ويسقط التكليف عند عدم التمكن وعدم القدرة ، والتقييد بالقدرة عقلاً إنما هو بمقدار الضرورة ، وغير المقدور إنما هو الجمع بين الضدّين والأمر بهما عرضاً ، وأما الأمر الطولي في فرض عصيان الأمر الآخر فلا مانع عنه فيأتي به بداعي الأمر المتوجه إليه ، ولا موجب للتقييد ، بل لا مانع من الأخذ بإطلاق هذا الأمر ، وهذا هو الترتب الذي قلنا بأنه من أوضح الممكنات ، ولذا ذكرنا أن الترتّب لا يحتاج إلى دليل بخصوصه بل نفس إطلاق الأمر بالمهم يكفي ، وذكرنا أن إمكانه مساوق لوقوعه ، وينطبق ذلك على المقام تماماً ، ففي فرض عصيان الأمر بإتيان حجّ نفسه يأتي بالحج النيابي بداعي الأمر المتوجه ولا مانع من فعليته في فرض عصيان الأمر بضدّه الأهم.

ولكن شيخنا الأُستاذ (قدس سره) ذكر أن الترتب لا يجري في الحجّ لأن الترتب إنما يجري في الواجبين المقيّدين بالقدرة العقلية ، وأما إذا كان أحد الواجبين مقيداً

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بالقدرة الشرعية فلا يجري فيه الترتب ، لأنه في فرض العصيان لا يبقى موضوع للواجب المقيد بالقدرة الشرعية ولا أمر له أصلاً كما هو الحال في الوضوء فإنه مقيد بالقدرة الشرعية بالتمكّن من استعمال الماء شرعاً ، فلو وجب صرف الماء في واجب آخر أهم وعصاه وتوضأ به لا يحكم بصحة وضوئه بالأمر الترتبي ، لأنه في فرض العصيان لا موضوع لوجوب الوضوء أصلاً والعصيان لا يحقق موضوع الوضوء ، وهكذا الحجّ فإن المأخوذ فيه القدرة الشرعية بمعنى أنه أُخذ في موضوعه عدم عصيان واجب آخر أهم فإذا عصى لا يتحقق موضوع الحجّ أصلاً (١).

وفيه أوّلاً : أن القدرة الشرعية غير مأخوذة في الحجّ وإنما المأخوذ فيه أُمور خاصة مذكورة في النصوص من الزاد والراحلة وخلو السرب وصحّة البدن ، ولذا ذكرنا أنه لو زاحم الحجّ واجباً أهم وتركه وأتى بالحج كان الحجّ صحيحاً ، ولا فرق بين الحجّ وسائر الواجبات المقيدة بالقدرة العقلية.

وثانياً : لو سلمنا أخذ القدرة الشرعية في الحجّ فإنما هي مأخوذة في حجّ الإسلام لا في سائر أقسام الحجّ من التطوعي والنيابي والنذري ، فلا مانع من جريان الأمر الترتبي في الحجّ التطوعي أو النيابي والحكم بصحته.

الوجه الثاني : أن هذا الزمان مختص بحج نفسه وغير قابل لغير حجّ الإسلام نظير شهر رمضان الذي يختص بصوم نفس شهر رمضان وغير قابل لصوم آخر حتى صوم النذر في السفر ، والحاصل : زمان الاستطاعة يختص بحج الإسلام وغير قابل لوقوع حجّ آخر فيه.

وفيه : أن ذلك مجرد دعوى لا شاهد عليها غاية الأمر أن الحجّ فوري وليس له التأخير ، ومجرّد ذلك لا يقتضي عدم قابلية زمان الاستطاعة لحجّ آخر.

الثالث : الأخبار كصحيح سعد بن أبي خلف : «عن الرجل الصرورة يحج عن الميت؟ قال : نعم ، إذا لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه ، فإن كان له ما يحج به عن

__________________

(١) فوائد الأُصول ١ : ٣٦٧ ، لاحظ أجود التقريرات ١ : ٣٠١.

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

نفسه فليس يجزئ عنه حتى يحج من ماله وهي تجزئ عن الميت ، إن كان للصرورة مال وإن لم يكن له مال» (١) ، وصحيح سعيد الأعرج : «عن الصرورة أيحج عن الميت؟ فقال : نعم ، إذا لم يجد الصرورة ما يحج به فإن كان له مال فليس له ذلك حتى يحج من ماله ، وهو يجزئ عن الميت ، كان له مال أو لم يكن له مال» (٢).

ومحل الاستشهاد في الصحيح الأوّل قوله : «فإن كان له ما يحج به عن نفسه فليس يجزئ عنه» بدعوى إرجاع الضمير في قوله «فليس يجزئ عنه» إلى الميت المنوب عنه والمستفاد من ذلك أن من كان له مال ولم يحج يجب الحجّ عن نفسه ، وليس له أن يحج عن غيره ولا يجزئ عن غيره إن حجّ عنه.

وفيه : أن الظاهر من الصحيحة صحّة الحجّ الذي حجّ به عن الغير ، وإنما المستفاد منها مجرّد الحكم التكليفي وعدم جواز الحجّ عن الغير لأنه يوجب تفويت الحجّ عن نفسه ، ولا دلالة فيها على فساد ما حجّ به عن الغير كما هو المدعى ، فإن الضمائر في قوله (عليه السلام) «عنه» و«له» و«ماله» كلها راجعة إلى شخص واحد وهو النائب ، ومقتضى ذلك كله أن ما حجّ به عن الغير لا يجزئ عن النائب ولا يقع عن نفسه ، لا أنه لا يقع عن المنوب عنه ، بل مقتضى ذيل الصحيحة صحّة العمل الذي أتى به عن الميت وأنه يقع عنه وتبرأ ذمته وإنما النائب لا تبرأ ذمته عن الحجّ الواجب على نفسه ، فالصحيحة على خلاف المطلوب أدل.

وأوضح من ذلك الصحيحة الثانية فإنها واضحة في الحكم التكليفي وأنه لا يجوز للمستطيع أن يحج عن الغير وأما فساد الحجّ فلا يستفاد منها.

وبالجملة : المستفاد من الصحيحين أن ما حجّ به عن الغير لا يجزئ عن نفسه وأما بالنسبة إلى الميت فيجزئ عنه ، ولا دلالة فيهما على فساد الحجّ بالمرة أصلاً.

ثمّ إنه لو كان مدرك عدم الصحة وعدم الإجزاء عن الميت هو الوجه الأوّل أي اقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده أو الوجه الثالث وهو الأخبار فيختص الحكم

__________________

(١) ٢) الوسائل ١١ : ١٧٢ / أبواب النيابة ب ٥ ح ١ ، ٣.

٢٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بالفساد بالمتمكن من إتيان حجّ نفسه ، وأما العاجز عنه ولو كان مستقرّاً عليه وكان متمكِّناً في الأزمنة السابقة فيصح الحجّ النيابي الصادر منه لعدم وجود المانع عن الحكم بالصحة ، لأن المانع على الوجه الأوّل هو فعلية الأمر بالأهم وهو حجّ نفسه والمفروض عدم فعليته للعجز عنه فلا أمر به ليكون مقتضياً للنهي عن ضده ، وهكذا لو كان جاهلاً بالوجوب جهلاً عذريا لعدم فعلية الأمر حينئذ وعدم تنجزه ، لأنّ الذي يوجب العجز في باب التزاحم بين التكليفين هو الحكم الواصل لا الحكم الواقعي وكذلك النص المتقدِّم فإنه يدل على أن المانع هو التكليف الفعلي الواصل ، وفي فرض الجهل عذراً أو عدم تمكنه من أداء حجّ نفسه لم يكن التكليف واصلاً فلا مانع وأمّا إذا كان الجهل غير عذري كالجهل بفورية وجوب الحجّ عن نفسه فذكر في المتن أنه يحكم بالصحّة وهو مشكل ، لأن الجهل بالفورية جهل في الشبهة الحكمية وليس بعذر على الإطلاق ، بل لا بدّ من التفصيل بين كونه مع التقصير فهو في حكم العمد وبين كونه عذريا فلا مانع من الحكم بالصحّة.

وأمّا إذا كان مدرك الفساد هو الوجه الثاني وهو اختصاص زمان الاستطاعة بحجّته عن نفسه وعدم قابليته لغيرها نظير عدم قابلية شهر رمضان لصوم آخر فلا يفرق في الحكم بالفساد بين جميع الصور ، ولا يؤثر الجهل بالحكم في الصحّة كما إذا صام في شهر رمضان بصوم آخر جهلاً فإنه يحكم بالفساد ، لأن المفروض عدم قابلية هذا الزمان لواجب آخر.

ثمّ على فرض صحّة الحجّ عن الغير ولو مع التمكن والعلم بوجوب الفورية إذا آجر نفسه لذلك ، فهل الإجارة أيضاً صحيحة أو باطلة فيستحق اجرة المثل لا المسمّى؟ اختار المصنف البطلان وإن كان حجّه عن الغير صحيحاً واستدلّ بوجهين :

الأوّل : أن متعلق الإجارة بل كل عقد لا بدّ من أن يكون مقدور التسليم ، ولا قدرة له شرعاً على المستأجر عليه في المقام ، لأنه يجب عليه صرف قدرته في الواجب عن نفسه فالعمل المستأجر عليه غير مقدور له.

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : أن الضد منهي عنه ولو بالنهي التبعي وإن حكمنا بصحته من جهة المحبوبية الذاتية إلّا أنه لا منافاة بين المحبوبية الذاتية والمبغوضية الفعلية الناشئة عن النهي التبعي ، فإذا كان العمل مبغوضاً شرعاً لا يصح تعلق الإجارة به ، لأنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه وإن كانت الحرمة تبعية.

ويرد على الأوّل : أنّ القدرة التكوينية حاصلة وجداناً والنهي الشرعي لا ينفي القدرة التكوينية ، وإن أُريد من عدم القدرة عدم القدرة الشرعية باعتبار تعلق النهي به وأن الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ففيه : أن القدرة الشرعية حاصلة أيضاً بالأمر الطولي الترتبي ، ولو لم يكن مقدوراً أصلاً لما تعلق به الأمر ، فالعمل بنفسه ليس بمنهي عنه وإنما وجب تركه مقدمة لواجب أهم.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني ، لما عرفت من أن الله لم يحرم هذا الشي‌ء أي الضد وإنما أوجب تركه من باب وجوب المقدمة الموصلة ، وأما الرواية : «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» فقد ذكرنا في بحث المكاسب أنها ضعيفة السند وإن كان مضمونها صحيحاً ومطابقاً للقواعد ، لأن الشي‌ء إذا كان محرّماً شرعاً لا تصح المعاملة عليه لعدم إمضاء الشارع المعاملة الواقعة على الحرام.

وبالجملة : مقتضى ما ذكره المصنف من ثبوت المحبوبية الذاتية للضد صحّة الإجارة الواقعة عليه.

ولكن الظاهر مع ذلك فساد الإجارة ، بيان ذلك : أن دليل نفوذ الإجارة بل كل عقد تابع لما ينشئه المُنشئ إن مطلقاً فمطلق وإن مشروطاً فمشروط ، فإن الحكم الصادر في المعاملات المستفاد من قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) إنما هو إمضاء لما صدر من المنشئ في الخارج ولا يخالفه إلّا في بعض الموارد كبيع السلم والصرف ، فإنّ المنشئ أنشأ على الإطلاق والشارع يقيده بلزوم القبض ، وكذلك الهبة فإنّ التمليك فيها يحصل بعد القبض ، وبالجملة : أدلّة نفوذ المعاملات حيث إنها أحكام إمضائية تابعة

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

للمُنشإ من حيث الإطلاق والتقييد.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن الإجارة في المقام إمّا تتعلّق بالحجّ مطلقاً أو تتعلّق به على فرض العصيان للحجّ الواجب على نفسه.

أمّا الأوّل فغير قابل للإمضاء ، لأنّ المفروض أن الأمر بالحجّ عن نفسه غير ساقط والتكليف به باق على حاله فكيف يأمره بإتيان الحجّ المستأجر عليه ، وكيف تنفذ الإجارة في عرض ذلك الواجب الأهم الذي لم يسقط الأمر به ، والحكم بنفوذ الإجارة وصحّتها يستلزم الأمر بالضدّين في عرض واحد.

وأمّا الثاني وهو تعلّق الإجارة على نحو التقييد بفرض العصيان فأمر ممكن في نفسه ، ولكنه يبطل العقد من جهة التعليق.

والحاصل : الإنشاء المطلق غير قابل للإمضاء وما هو قابل له وهو الإنشاء في فرض العصيان غير صحيح لأنه من التعليق الباطل. هذا تمام الكلام في المتمكن العالم بالحكم.

وأمّا غير المتمكن من أداء الحجّ عن نفسه ولو استقرّ عليه من السابق كما إذا فقد المال بالمرّة بحيث لا يتمكن من الحجّ متسكعاً أيضاً ، فلا مانع من استئجاره على الحجّ عن غيره ، لأن الأمر الأوّل المتعلق بالحج عن نفسه ساقط على الفرض لعدم القدرة فلا مانع حينئذ من تعلق الإجارة بالحج عن الغير. وبعبارة اخرى : المعجز هو الأمر بالحج عن نفسه فإذا زال فلم يبق في البين مانع. نعم ، لو قلنا بأن الزمان غير قابل لوقوع حجّ الغير ، لاختصاص هذا الزمان ، بالحجّ عن نفسه ولو متسكعاً فلا تصحّ الإجارة أيضاً لعدم قابلية الزمان ، ولكن هذه الدعوى غير تامة.

ثمّ إن المصنف (قدس سره) بعد ما اختار صحّة الحجّ عن الغير واختار فساد الإجارة الواقعة عليه أشكل على نفسه بأنه ما الفرق بين المقام وبين تخلف الشرط في ضمن العقد مع قولكم بالصحة هناك ، غاية الأمر يثبت للمشروط له الخيار عند التخلّف كما إذا باعه عبداً وشرط عليه أن يعتقه فباعه ، وأجاب بأنّ البيع هناك

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مفوّت للشرط ورافع لموضوعه فلا يكون العتق واجباً بعد البيع لعدم كونه مملوكاً له بخلاف المقام ، فإنه لو قلنا بصحّة الإجارة فلا يرتفع موضوع وجوب الحجّ عن نفسه لبقاء وجوب الحجّ عن نفسه حتى بعد الإجارة ، فيلزم حينئذ اجتماع أمرين متنافيين فلا بدّ من رفع اليد عن صحّة الإجارة إذ لا يمكن الحكم بصحّتها.

وتوضيح ما ذكره : أن الشرط في ضمن العقد لو قلنا بأنه يوجب قصر سلطنة المشروط عليه كما عن شيخنا النائيني (١) بمعنى أن المالك المشروط عليه له ملكية خاصة تقتصر على مورد العمل بالشرط وتقصر سلطنته عن سائر أنحاء التصرّفات فلا ريب في فساد التصرفات المنافية للشرط لعدم السلطنة عليها فيقع البيع الصادر منه باطلاً إذا اشترط عليه عتق العبد ، وهكذا الإجارة في المقام لعدم السلطنة على العمل المستأجر عليه ، وأمّا إذا قلنا بعدم قصر السلطنة المطلقة الثابتة للمشروط عليه غاية الأمر يجب عليه الوفاء بالشرط ، لأنّ الشرط في ضمن العقد يرجع حقيقة إلى التعليق في الالتزام لا إلى أصل الإنشاء ، فإن الإنشاء مطلق والملكية المنشأة الثابتة للمشروط عليه ملكية مطلقة غير محدودة ، والشرط يوجب تعليقاً في الالتزام لا في أصل البيع فلا موجب للفساد.

وإن شئت قلت : إن الشرط في ضمن العقد يوجب انحلال البيع مثلاً إلى أمرين :

أحدهما : تمليك المال له.

ثانيهما : التزامه بالبيع ، والشرط يرجع إلى الثاني ويجعل التزامه معلقاً على شي‌ء سواء كان فعلاً من الأفعال كالخياطة أو وصفاً ككتابة العبد ، فالشرط لا يرجع إلى التعليق في الإنشاء وإنما يرجع إلى التعليق في الالتزام ، بمعنى أنه يلتزم بمضمون العقد على تقدير وجود الشرط وإلّا فلا التزام منه بالوفاء ، ومرجع ذلك إلى جعل الخيار لنفسه عند التخلّف. ولو خالف المشروط عليه كما إذا باع العبد ولم يعتقه صح البيع وإن ارتكب أمراً محرّماً لعدم الوفاء بالتزامه. نعم ، لو كانت السلطنة مقصورة يفسد

__________________

(١) منية الطالب ٢ : ١٤٠.

٢٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

البيع لعدم السلطنة عليه ، فالفرق بين المقامين واضح لثبوت السلطنة في المعاملة المشروطة ، فإنّ الشرط كما عرفت لا ينفي السلطة ، والتصرّف المنافي للشرط يقع صحيحاً وإن يثبت الخيار للمشروط له ، وهذا بخلاف المقام فإن السلطنة غير ثابتة لأنّ وجوب الأمر بالحج عن نفسه باق على حاله فلا يمكن الحكم بصحة الإجارة للحج الآخر ، لاستلزامه الأمر بالضدين أو لعدم قدرته على العمل المستأجر عليه كما في المتن.

ولو آجر نفسه للحج ثمّ تمكن بعد الإجارة من الحجّ عن نفسه ذكر في المتن أن الإجارة صحيحة والتمكن المتأخر لا يكشف عن بطلان الإجارة.

وفيه : أن عدم التمكن إنما يوجب سقوط التكليف ما دام العجز باقياً لا إلى الأبد ولو عاد التمكن عاد التكليف ، وتجدد القدرة يكشف عن البطلان من الأوّل ، والعبرة في صحّة الإجارة بمشروعية العمل حال العمل وزمانه لا حال الإجارة ، فإن كان العمل حال الإيجار جائزاً وعند العمل غير جائز بطلت الإجارة من الأوّل. نعم ، إذا حصل التمكّن بعد الفراغ من العمل بحيث لا يتمكّن من التدارك لا مانع من الحكم بصحّة الإجارة.

ثمّ ذكر المصنف (رحمه الله) أنه لا إشكال في أن حجّه عن الغير لا يكفيه عن نفسه بل إما باطل كما عن المشهور أو صحيح عمن نوى عنه ، وكذا لو حجّ تطوعاً لا يجزئه عن حجّة الإسلام.

يقع الكلام تارة في الحجّ عن الغير وأُخرى في الحجّ التطوعي.

أمّا الأوّل : فلا ينبغي الريب في عدم إجزاء حجّه عن الغير عن حجّ نفسه ، لأنّ هنا أمرين مستقلّين لا وجه لإجزاء أحدهما عن الآخر أصلاً ، ولا بدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة من تقديم الأهم وامتثاله وهو الحجّ عن نفسه ، ولو خالف وترك الأهم وأتى بالمهم وهو الحجّ عن الغير عصى ولكن صحّ حجّه عن الغير بناء على الأمر الترتبي ، وما ذكرناه لا يختص بباب الحجّ بل يجري في جميع الواجبات

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

والتكاليف كالصلاة فإنّ الصلاة قضاء عن الغير لا تجزئ عن صلاة نفسه قطعاً ، وليس المقام من باب التداخل بلا شك ، من دون حاجة إلى الإجماع ونحوه ، لاختلاف الحقيقة واستقلال كل منهما بالأمر ، ومجرد التشابه صورة في الأفراد لا يجدي في وحدة يختلف حقيقته عن حجّ الغير ، ومجرد الاشتراك في الأعمال والمناسك لا يوجب وحدة الحقيقة ، فلا ريب أنه لو صلّى عن الغير أو حجّ عنه لا معنى لإجزاء ذلك عن عمل نفسه.

وأمّا الثاني : وهو الحجّ التطوعي فاختار المصنف (قدس سره) عدم إجزائه عن حجّ الإسلام كالحج عن الغير ، ونسب إلى الشيخ أنه يقع عن حجّة الإسلام (١) وأورد عليه المصنف (قدس سره) بأن المطلوب هو الإتيان بالواجب بقصد ما عليه ، ومجرّد الإتيان بذات الأعمال الواجبة لا يجدي في سقوط الواجب ما لم يقترن بذلك القصد.

ولكن الظاهر أن ما ذكره الشيخ من الإجزاء عن حجّة الإسلام هو الصحيح ، بيان ذلك : أن المستفاد من الروايات أن المكلف يقسم إلى قسمين : البالغ وغير البالغ والحر والعبد وكل منهما له الأمر بالحج ، أحد الأمرين وجوبي والآخر ندبي ، والأمر الندبي متوجه إلى شخص والوجوبي إلى شخص آخر ، وليس شخص واحد يتوجه إليه الأمران ، وكذلك المستطيع وغير المستطيع فإن المستطيع يتوجه إليه الأمر الوجوبي بحجة الإسلام وغير المستطيع يتوجه إليه الأمر الندبي ، فالمستطيع له أمر واحد وهو الأمر بحجّ الإسلام ، ولا يعتبر علمه بذلك كما لا يضر عدم علمه به ، ولذا لو كان مستطيعاً وعلم بوجوب الحجّ ولكن لا يعلم بأنه حجّة الإسلام التي تختص بالمستطيع لا ريب في الإجزاء.

وعلى ما ذكرنا لو أتى المستطيع بالحج التطوعي تشريعاً بطل حجّه بالمرّة حتى بعنوان التطوّع ، ولا يقع عن حجّة الإسلام كما لا يقع تطوعاً ، لأن العمل مبغوض لا يمكن التقرّب به ، ولا إضافته إليه تعالى ، وأما إذا أتى به لا تشريعاً بل مشتبهاً كما قد

__________________

(١) المبسوط ١ : ٣٠٢.

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يتّفق ذلك لبعض العوام كما لو فرض أنه لا يعلم بوجوب إتيان حجّ الإسلام فوراً ويحجّ في هذه السنة بقصد التطوع بداع من الدواعي العقلائية ، بأن يتعلم كيفية إتيان الأعمال حتى يأتي بها عن بصيرة في السنة التي يحج حجّ الإسلام فلا مانع من الحكم بالصحة وإجزائه عن حجّة الإسلام ، لأن الأمر المتوجه إلى المستطيع إنما هو أمر واحد متعلق بحجّ الإسلام وليس في البين أمر آخر بفرد آخر مغاير للأمر بحجّ الإسلام ، والمفروض إتيان المكلف بذات المأمور به وقصد القربة وأضاف العمل إلى المولى ، وليس حجّ الإسلام إلّا الحجّ الأوّل الصادر من المستطيع وليس المقام من باب التداخل ، لأنّ التداخل إنما يتحقق في مورد تعدّد الأمر ، وأمّا إذا لم يكن إلّا أمر واحد وطبيعة واحدة وهو الأمر الوجوبي المسمّى بحجّة الإسلام فلا معنى للتداخل ، غاية الأمر أن المكلف يتخيل أن ما أتى به أمر ندبي إلّا أنه لا أثر لخياله ووهمه ، وذكرنا في محله أن قصد الوجوب والندب غير لازم وإنما المعتبر في صحّة العبادة قابلية الفعل في نفسه للإضافة إليه تعالى والمفروض تحقق ذلك فلا موجب للبطلان ، ولذا لو حجّ وتخيل أنه غير مستطيع أو تخيل أنه غير بالغ ثمّ انكشف الخلاف لا إشكال في الإجزاء لأنه ليس في البين إلّا أمر واحد وقد أتى بجميع الأعمال والمناسك وأضافها إلى المولى ، غاية الأمر يتخيل أنه أمر ندبي وهو غير ضائر ، بل التعبير بالإجزاء فيه مسامحة ، لأنّ ما أتى به هو ذات الواجب بنفسه لا أنه مغاير للحجّ الاستطاعتي حتى يقال بالإجزاء أو عدمه.

والحاصل : حجّ الإسلام ليس إلّا الحجّ الذي يصدر من المستطيع بقصد نفسه في سنة الاستطاعة وهذا العنوان ينطبق على الحجّ الذي أتى به في سنة الاستطاعة ، وجميع ما ذكرنا في حجّ الإسلام يجري في الحجّ النذري أو غيره من الحجّ الواجب عليه الذي كان وجوبه فورياً ، فإن حاله حال حجّ الإسلام من عدم إجزاء الحجّ عن الغير عن حجّ نفسه ولو خالف وحجّ عن الغير صحّ أم لا ، على التفصيل المتقدِّم. هذا تمام الكلام في شرائط وجوب حجّة الإسلام.

٢٩٣

فصل

في الحجّ الواجب بالنّذر والعهد واليمين

ويشترط في انعقادها البلوغ والعقل والقصد والاختيار (١) ، فلا تنعقد من الصبي وإن بلغ عشراً وقلنا بصحة عباداته وشرعيتها ، لرفع قلم الوجوب عنه ، وكذا لا تصحّ من المجنون والغافل والساهي والسكران والمكره ، والأقوى صحتها من الكافر وفاقاً للمشهور في اليمين خلافاً لبعض وخلافاً للمشهور في النذر وفاقاً لبعض ، وذكروا في وجه الفرق عدم اعتبار قصد القربة في اليمين واعتباره في النذر ولا تتحقق القربة في الكافر ، وفيه أوّلاً : أن القربة لا تعتبر في النذر بل هو مكروه وإنما تعتبر في متعلقه حيث إن اللازم كونه راجحاً شرعاً. وثانياً : أن متعلق اليمين أيضاً قد يكون من العبادات. وثالثاً : أنه يمكن قصد القربة من الكافر أيضاً. ودعوى عدم إمكان إتيانه بالعبادات لاشتراطها بالإسلام مدفوعة

______________________________________________________

(١) لا يخفى أن اعتبار هذه الأُمور من الواضحات ، أما اعتبار القصد فلأن النذر وأخويه هو الالتزام بشي‌ء لله تعالى ، وهو تابع للقصد وإلّا لا يتحقق الالتزام ، فما يصدر من الساهي والنائم والسكران والخاطئ لا عبرة به ، وكذا يعتبر البلوغ والعقل فلا عبرة بما يصدر من الصبي والمجنون للنصوص الدالة على أن الصبي لا يؤخذ بأفعاله ولحديث رفع القلم عنهما (١) ، وكذا يعتبر الاختيار ولا ينعقد من المكره ، لأنّ الإكراه يرفع الحكم المتعلق به الإكراه.

إنما الكلام في انعقاد ذلك من الكافر ، فقد نسب إلى المشهور صحّة اليمين الصادرة منه وبطلان النذر ، وقال بعضهم بالبطلان مطلقاً ، وقال آخرون بالصحة مطلقاً ومنهم المصنف (قدس سره) ، وجميع ذلك مبني على تكليف الكافر بالفروع كما هو المشهور

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥ / أبواب العبادات ب ٤ ح ١١ ، ١٢.

٢٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا بناء على اختصاص الأحكام بالمسلمين وعدم تكليف الكافر بها كما قويناه فلا مجال لهذا الاختلاف كما هو واضح.

ثمّ إنه لو قلنا بتكليف الكافر بالفروع كما عليه المشهور فقد يقال بعدم انعقاد النذر من الكافر ، لاعتبار التقرب في النذر لأنه بنفسه قربي وعبادي ، ولا تتحقق القربة من الكافر. وفيه : أنه لا دليل على كون النذر قربياً ، بل يظهر من بعض الروايات أنه مكروه لقوله (عليه السلام) في جواب من جعل على نفسه شكراً لله ركعتين : «إني لأكره الإيجاب أن يوجب الرجل على نفسه» (١) ، ولو قلنا بحمل الرواية على الإرشاد وأن المكلف لا يكلف نفسه أزيد مما كلفه الله تعالى يستفاد منها كون النذر مباحاً وغير راجح. وبالجملة : لا دليل على كون النذر أمراً عباديا قربياً نظير الصلاة والصيام ونحوهما من الأفعال العبادية ، وإذا لم يكن عباديا فلا مانع من صدوره من الكافر.

وأما متعلقه فلا دليل أيضاً على كونه قربياً وإنما غاية ما يستفاد من الأدلة أن يكون متعلقه صالحاً لذلك وقابلاً للإضافة إليه تعالى ، ولا يستفاد منها أن يكون عباديا حين العمل بحيث لا يتحقق العمل به إلّا بقصد العبادة ، بل المستفاد منها قابلية الفعل للإضافة إليه تعالى وراجحاً في نفسه كإعطاء الدرهم إلى الفقير ، فإنه يمكن إيقاعه على وجه العبادة بأن يعطيه قربة

إلى الله تعالى ويمكن أن يقع لا على وجه القربة ، فلو أعطى الدرهم للفقير ولم يقصد به القربة فقد وفى بنذره لأنّ الأمر بالوفاء توصلي. نعم ، قد يتعلّق النذر بالأمر العبادي كما قد يتّفق في اليمين ويتعذر صدوره من الكافر لعدم تحقق القربة منه ، ولكن المعتبر هو إمكان صدوره منه حين العمل لا حين النذر ، فلو نذر الكافر أمراً عباديا يجب عليه الإتيان ، لأنه عند ما كان كافراً وإن لم يكن متمكِّناً من الإتيان ولكن يتمكن منه حين العمل وفي ظرفه لتمكّنه من الإسلام ، فيكون العمل المنذور مقدوراً له غاية الأمر بواسطة التمكّن من الإسلام والمقدور بالواسطة مقدور ، وإن أسلم صحّ إن أتى به ويجب عليه الكفّارة لو خالف

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٣٠٣ كتاب النذر ب ٦ ح ١.

٢٩٥

بإمكان إسلامه ثمّ إتيانه فهو مقدور لمقدورية مقدّمته فيجب عليه حال كفره كسائر الواجبات ، ويعاقب على مخالفته ويترتب عليها وجوب الكفّارة فيعاقب على تركها أيضاً ، وإن أسلم صح إن أتى به ويجب عليه الكفّارة لو خالف ولا تجري فيه قاعدة جبّ الإسلام لانصرافها عن المقام. نعم ، لو خالف وهو كافر وتعلق به الكفّارة فأسلم لا يبعد دعوى سقوطها عنه كما قيل.

______________________________________________________

وحديث الجبّ المشهور لا يجري في المقام لانصرافه عنه ، وأما لو قلنا بأنه لا مانع من جريان حديث الجبّ في المقام ودعوى الانصراف غير تامة فلا يمكن الحكم بالصحة لأنه حين كفره لا يصحّ منه العمل وحين إسلامه يسقط وجوبه لحديث الجب.

وبعبارة اخرى : تكليفه بالوفاء بالنذر غير معقول ، لأنه حين الكفر لا يتمكّن من الامتثال وبعد إسلامه يسقط عنه على الفرض ، وقد مر تفصيل هذا الإشكال في باب قضاء الصلاة على الكافر (١).

والذي ينبغي أن يُقال : إن حديث الجبّ غير ثابت فلا يمكن الاعتماد عليه في شي‌ء من الأحكام ، ولكن الثابت قطعاً من السيرة النبوية والأئمة (عليهم السلام) عدم مؤاخذة الكافر بمخالفته للأحكام الإسلامية حال كفره وعدم مطالبته بقضائها ، ولم يؤمر أحد ممن اختار الإسلام بقضاء الصلوات والصيام وغير ذلك من الواجبات فنتيجة الجبّ حاصلة.

وممّا ذكرنا عرفت أنه لا مجال لدعوى انصراف الجب أو عدمه عن المقام ، لأنّ الانصراف أو عدمه من شؤون الدليل اللفظي والمفروض أن الجبّ ثبت بالسيرة القطعية ، ولكنها مختصة بالأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية وأما غير ذلك من الأحكام العقلائية الثابتة مع قطع النظر عن الإسلام كالديون فلا يشملها الجبّ ولا السيرة ، فلو كان الكافر مديوناً حال كفره ثمّ أسلم يجب عليه وفاء دينه ولا يسقط ذلك عنه بالإسلام ، وأما الالتزام بالوفاء بالنذر فإن كان ثابتاً في كل شريعة

__________________

(١) بعد المسألة [١٧٧٧].

٢٩٦

[٣١٠٨] مسألة ١ : ذهب جماعة (*) إلى أنه يشترط في انعقاد اليمين من المملوك إذن المولى ، وفي انعقاده من الزوجة إذن الزوج ، وفي انعقاده من الولد إذن الوالد ، لقوله (عليه السلام) : «لا يمين لولد مع والده ولا للزوجة مع زوجها ولا للمملوك مع مولاه» فلو حلف أحد هؤلاء بدون الإذن لم ينعقد (١)

______________________________________________________

ولم يكن من مختصّات الإسلام فحاله حال الدّين ، وإن لم يكن كذلك كما هو الصحيح ، إذ لم يثبت ذلك في الشرائع السابقة فيكون من الأحكام المختصة بالإسلام ويرفعه الجب المستفاد من السيرة ويسقط وجوبه بعد اختيار الإسلام. ومما ذكرنا يظهر الحال في ثبوت الكفّارة ، فإنها من الأحكام المختصة بالإسلام قطعاً فيسقط وجوبها بالإسلام فلا يجب عليه الكفّارة لو خالف النذر وهو كافر.

(١) ذكر جماعة أنه لا ينعقد اليمين من الولد مع والده إلّا بإذنه وكذا الزوجة مع زوجها والمملوك مع مولاه واعتبروا إذنهم في انعقاد اليمين ، إمّا خصوص الإذن السابق أو الأعم منه ومن اللّاحق ، وذهب آخرون إلى عدم اعتبار إذنهم في انعقاده وإنما لهم حلّ اليمين ولهم الحق في فسخه وحلّه ومنهم المصنف (قدس سره). وتظهر الثمرة بين القولين فيما إذا حلف الولد من دون إذن الوالد وإجازته فإنه ينعقد اليمين على القول الثاني وإن كان له حلّه ، وأما على القول الأوّل فلا ينعقد أصلاً.

ومنشأ الاختلاف اختلاف ما يستفاد من صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : لا يمين للولد مع والده ولا لمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها» (١) وادعى المصنف (قدس سره) أن المنساق والمنصرف من الصحيح المذكور أنه ليس للجماعة المذكورة يمين مع معارضة المولى أو الأب أو الزوج ، ولازمه جواز حلهم له وعدم وجوب العمل به مع عدم رضاهم به ، ولا يستفاد منه عدم الانعقاد من الأوّل.

__________________

(*) هذا القول هو الصحيح.

(١) الوسائل ٢٣ : ٢١٧ / كتاب الأيمان ب ١٠ ح ٢.

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وذكر أيضاً وجهاً آخر تبعاً لصاحب الجواهر (١) لدلالة النص على مجرد جواز حلهم لليمين ، وحاصله : أنه لا بدّ من تقدير كلمة الموجود أو المنع والمعارضة في هذه الجملات : لا يمين للولد مع والده ولا يمين لمملوك مع مولاه كما هو الحال في نظائرها كقولنا : لا إله إلّا الله ، ولا رجل في الدار ، فقد ذكروا أن المقدر في تلك الجمل كلمة الموجود ، وقولنا : لا إله إلّا الله تقديره لا إله موجود إلّا الله ، وقولنا : لا رجل تقديره لا رجل موجود في الدار ، وأما في هذه الجملات فيمكن تقدير الوجود أو المنع والمعارضة فيدور الأمر بين التقديرين ، فإن قلنا : إن المقدر هو الوجود فمعناه : عدم انعقاد اليمين مع الوالد إلّا بإذنه ، وإن قلنا : بأن المقدر هو المنع والمعارضة فمعناه : لا يمين مع منع المولى ومزاحمته ومعارضته فلا تدل هذه الجملات إلّا على جواز حل اليمين لا اعتبار إذنهم فيه ، وليس تقدير كلمة الوجود أولى من تقدير كلمة المعارضة بل تقديرها أولى لانصراف النص المذكور إلى عدم جواز المزاحمة للوالد والمولى.

فإن ثبت دعوى الظهور في تقدير كلمة المعارضة والانصراف إليها فلا كلام وإلّا تصبح هذه الفقرات مجملة للترديد بين تقدير الموجود أو المعارضة ، فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقن وهو عدم الصحّة مع المعارضة والنهي ، نظير دوران الأمر بين التخصيص بالأقل والأكثر فيما إذا كان الخاص مجملاً مردّداً بينهما فإنه يؤخذ بالأقل المتيقن ويرجع في الأكثر إلى العمومات. وبالجملة : لا دليل على تخصيص المطلقات الدالّة على الوفاء باليمين إلّا بالمقدار المتيقن وهو صورة المزاحمة.

ويرده : أن ما ذكره من تقدير الموجود في «لا» النافية للجنس فيه مسامحة واضحة وذلك لأنّ الوجود والعدم إنما يعرضان لنفس الماهية ، والماهية بنفسها قد تكون موجودة وقد تكون بنفسها معدومة من دون أي واسطة في البين ، والماهية بنفسها هي المعروضة عروضاً ذاتياً أوّلياً ، وقولنا : الإنسان موجود والعنقاء معدوم ، معناه أن هذه الماهية بنفسها موجودة وتلك بنفسها معدومة ، ولا يعرض الوجود للموجود

__________________

(١) الجواهر ٣٥ : ٢٦١.

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا العدم للمعدوم بل الخارج ظرف لنفس العدم ، فكلمة «لا» النافية كليس التامّة فاليمين في هذه الفقرات بنفسها معروضة للنفي ولا حاجة إلى التقدير حتى يقال بالدوران بين التقديرين فإن المستفاد من كلمة «لا» أنّ نفس الماهية منفية ومعدومة لا الوجود.

ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بأن النفي لا يرد على الماهية وإنما يرد على الوجود وأن قولنا : لا رجل في الدار تقديره لا رجل موجود في الدار فالتقدير لازم ، إلّا أنه بناء على تقدير كلمة المعارضة في هذه الفقرات لا بدّ من تقدير الوجود أيضاً ، وقولنا : لا يمين مع المعارضة تقديره لا وجود لليمين مع معارضة الوالد ، بل لو فرضنا أن كلمة المعارضة كانت مصرحة لاحتاج إلى تقدير كلمة الوجود ، فليس المقام دائراً بين التقديرين بل على كلا التقديرين لا بدّ من تقدير كلمة الوجود هذا. مضافاً إلى أن كلمة «مع» تدلّ على المقارنة الزمانية كما يقال : صاحبت مع زيد في سفره فيكون النفي في هذه الفقرات وارداً على المعية واقتران طبيعي اليمين للوالد والوجود مستفاد من نفس كلمة «مع» ، فمعية اليمين الصادرة من الولد للوالد منتفية ، والمعنى أن يمين الولد لا تجتمع مع الوالد ، ولا حاجة إلى التقدير حتى يتردد الأمر بين التقديرين فيكون النص ظاهراً في إلغاء اليمين ما دام الوالد حياً ، ولكن المتفاهم منه عرفاً أن إلغاء اليمين من جهة رعاية الوالد فلو أذن أو أجاز تنعقد اليمين ، لا أنه لا تنعقد له يمين بالمرّة مع وجود الوالد.

وقد يقال : إن قوله «مع والده» وكذا قوله «مع زوجها ومع مولاه» قرينة على تقدير كلمة المعارضة ، إذ لو كان المراد نفي الوجود وأن وجود الوالد مانع كان قوله «مع والده» زائداً لا حاجة إليه ، لأن الولد طبعاً يكون له والد وكذا الزوجة والعبد لا بدّ أن يكون لهما زوج وسيِّد ، فذكر الوالد والزوج والسيّد بملاحظة المعارضة والممانعة.

وفيه : أنه لو لم تقدّر هذه الكلمات كانت اليمين الصادرة من الولد باطلة بالمرّة ويكون المعنى عدم انعقاد يمين الولد دائماً حتى يموت والده ، ويفقده مع أن الأمر ليس

٢٩٩

وظاهرهم اعتبار الإذن السابق ، فلا تكفي الإجازة بعده مع أنه من الإيقاعات وادّعي الاتفاق على عدم جريان الفضولية فيها ، وإن كان يمكن دعوى أنّ القدر المتيقن من الاتفاق ما إذا وقع الإيقاع على مال الغير مثل الطلاق والعتق ونحوهما لا مثل المقام مما كان في مال نفسه غاية الأمر اعتبار رضا الغير فيه ، ولا فرق فيه بين الرضا السابق واللاحق خصوصاً إذا قلنا إنّ الفضولي على القاعدة ، وذهب جماعة إلى أنه لا يشترط الإذن في الانعقاد لكن للمذكورين حلّ يمين الجماعة إذا لم يكن مسبوقاً بنهي أو إذن ، بدعوى أنّ المنساق من الخبر المذكور ونحوه أنه ليس للجماعة المذكورة يمين مع معارضة المولى أو الأب أو الزوج ، ولازمه جواز حلّهم له وعدم وجوب العمل به مع عدم رضاهم به ، وعلى هذا فمع النهي السابق

______________________________________________________

كذلك قطعاً ، لأن غاية ما يستفاد من النص توقف انعقاد يمين الولد على إذن الوالد أو إجازته. والحاصل : أن المستفاد من النص أن أمر اليمين الصادرة من الولد أو الزوجة أو العبد راجع إلى الوالد والزوج والسيّد وأنه يعتبر في انعقاد اليمين إذنهم ، ولا موجب لرفع اليد عن ظهور النص في عدم الانعقاد بدون الاذن.

ثمّ إنه هل المعتبر خصوص الاذن السابق كما استظهره المصنف (قدس سره) من كلماتهم أو الأعم منه ومن اللاحق؟ مقتضى إطلاق النص عدم الفرق ، فإن المستفاد منه أن الأمر راجع إليهم وذلك لا يفرق بين الاذن السابق أو الإجازة اللاحقة ، إذ المقصود عدم استقلال الولد في يمينه واللازم عليه مراجعة أبيه في الالتزام باليمين سواء استأذن منه أو استجاز.

ودعوى أن اليمين إيقاع ولا تجري الفضولية فيه إجماعاً فلا تؤثر الإجازة اللّاحقة مدفوعة بأن الإجماع دليل لبي يؤخذ بالقدر المتيقن منه وهو الإيقاع الواقع على مال الغير وأمره كطلاق زوجة الغير وعتق عبده ونحو ذلك من الأُمور الأجنبية عن نفسه فإن الإجازة اللاحقة لا تؤثر ، وأما إذا كان الإيقاع متعلقاً بفعل نفسه مالاً كان أو غيره غاية الأمر قد يفرض فيه حق للغير وقد يكون منوطاً برضا الآخر ، فلا دليل

٣٠٠