موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: نينوى
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6084-13-3
الصفحات: ٣٩٥

[٣٠٣٨] مسألة ٤١ : يجوز للباذل الرجوع عن بذله قبل الدخول في الإحرام وفي جواز رجوعه عنه بعده وجهان (*) ، ولو وهبه للحج فقبل فالظاهر جريان حكم الهبة عليه في جواز الرجوع قبل الإقباض وعدمه بعده إذا كانت لذي رحم أو بعد تصرف الموهوب له (١).

______________________________________________________

عوده وإرجاعه إلى الشخصين أي النائب والمبذول له ، ولكن في مورد النائب نلتزم بالحج عليه إذا أيسر لأجل دليل آخر دال على عدم سقوطه عنه.

(١) لا ريب في جواز الرجوع قبل الإحرام سواء كان إعطاء المال له على نحو البذل وإباحة التصرف ، أو كان على نحو الهبة إذا لم تكن لذي رحم أو لم يتصرّف فيها تصرفاً مانعاً عن الرجوع ، لقاعدة سلطنة الناس على أموالهم وجواز الرجوع في الهبة ، إنما الكلام في جواز الرجوع بعد الإحرام ففيه وجهان :

الأوّل : جواز الرجوع ، لأنّ المال باق على ملك مالكه والمفروض أنه لم يملّكه وإنما أباح له التصرف فله الرجوع إلى ماله وملكه ، ولو فرضنا أنه خرج عن ملكه بالهبة فله الرجوع أيضاً إذا لم تكن لذي رحم وكان قبل تصرّف الموهوب له ، ولا موجب لإلزامه بالاستمرار بالبذل. وبعبارة اخرى : المال المبذول يجوز الرجوع إليه وإن خرج عن ملكه بالهبة ما لم تكن هناك جهة ملزمة فضلاً عما إذا لم يخرج.

الثاني : عدم جواز الرجوع ، لوجوب إتمام العمل على المبذول له ، وإذا وجب عليه الإتمام فليس للباذل الرجوع ، لأنه يستلزم تفويت الواجب عليه وعدم تمكّنه من الإتمام الذي يجب عليه ، نظير من أذن لغيره في الصلاة في ملكه فإنه بعد ما شرع في الصلاة ليس للآذن الرجوع عن إذنه ، لأنه يستلزم تفويت الواجب عليه من وجوب إتمام الصلاة وحرمة قطعها ، فلا أثر لمنع المالك.

__________________

(*) الظاهر هو الجواز ، وعلى المبذول له الإتمام إذا كان مستطيعاً فعلاً ، وعلى الباذل ضمان ما يصرفه في الإتمام.

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : الحكم بعدم جواز الرجوع عن الاذن لم يثبت في المقيس عليه لعدم ثبوت حرمة قطع الصلاة ، ولو سلمنا حرمة القطع فلا تشمل المقام ، لأنّ الدليل على وجوب إتمام الصلاة وحرمة قطعها ليس إلّا الإجماع المدعى ، والقدر المتيقن منه غير المقام ، بل إذا رجع المالك عن إذنه فليس للمصلي الإتمام لأنه يستلزم الغصب.

وأمّا عدم جواز الرجوع عن البذل بعد الإحرام ففيه :

أوّلاً : أن عدم جواز الرجوع يتوقف على الالتزام بوجوب الإتمام حتى بعد رجوع الباذل ، ويمكن المناقشة في ذلك بأن الاستطاعة شرط للحج حدوثاً وبقاء ، وإذا لم يستمر الباذل في بذله يكشف عن عدم استطاعته من أوّل الأمر ، نظير ما إذا سرق ماله في الطريق فإن الحجّ مشروط بالاستطاعة حدوثاً وبقاء ، وإذا زالت الاستطاعة بقاء بسرقة أمواله وفقدانها أو برجوع الباذل عن بذله ارتفع وجوب الحجّ ، وإذا لم يكن واجباً لا يجب عليه الإتمام ، والمفروض أنه لم يأت به ندباً حتى يتمه ، وإنما دخل في الإحرام بعنوان أنه مستطيع وأنه حجّ الإسلام الواجب عليه ، ثمّ ينكشف أنه لم يكن واجباً ولم يكن بحج الإسلام فله أن يرفع يده ويذهب إلى بلاده ، وإتمامه بعنوان آخر يحتاج إلى دليل.

وبعبارة اخرى : إنما يجب الإتمام فيما إذا أتى به من أوّل الأمر بعنوان المستحب وأمّا إذا أتى به بعنوان الوجوب ثمّ انكشف عدمه فلا دليل على وجوب الإتمام.

وثانياً : لو فرضنا وجوب الإتمام على المبذول له ، إلّا أنّ ذلك لا يوجب استمرار البذل على الباذل ، والمفروض أن المال ماله ولم يصدر منه ما يوجب خروجه عن ملكه فيجوز له التصرّف في ماله متى شاء. نعم ، إذا قلنا بوجوب الإتمام على المبذول له يكون الباذل ضامناً ، لأنّ الباذل أذن له في الإحرام والإذن في الشروع إذن في الإتمام قهراً ، لأنّ الاذن في الشي‌ء إذن في لوازمه ، وكل عمل يقع بأمر الغير يقع مضموناً عليه ، وثبوت الضمان عليه لا ينافي جواز رجوعه عن البذل واسترداد المال الموجود ، غاية الأمر يضمن له مصاريفه ، لقيام السيرة على ضمان العمل الذي صدر بأمر الآمر.

١٤٢

[٣٠٣٩] مسألة ٤٢ : إذا رجع الباذل في أثناء الطريق ففي وجوب نفقة العود عليه أو لا وجهان (*) (١).

______________________________________________________

وبالجملة : مقتضى القواعد ضمان الباذل لمصاريف العمل لا عدم جواز رجوعه إلى المال المبذول ، وضمان العمل شي‌ء وعدم جواز رجوعه أمر آخر ، ومن هنا يظهر أنه لا يمكن التمسك بقاعدة الغرور لعدم جواز الرجوع ، لأن أقصى ما تدل عليه القاعدة ضمان الغار لمصاريف العمل الذي وقع بأمره فيضمن ما يصرفه المبذول له في سبيل إتمام الحجّ لأنه مغرور من هذه الجهة ، لا عدم جواز رجوع الباذل عن بذله ، كما أن القاعدة المزبورة لا تقتضي جواز تصرّف المبذول له في المال المبذول بعد رجوع الباذل هذا مضافاً إلى أن قاعدة الغرور لم تثبت على إطلاقها ، وإنما وردت في موارد خاصة ولا دليل عليها سوى النبوي المرسل في الكتب الفقهية.

نعم ، وردت في بعض روايات التدليس لفظ الغرور كما في رواية محمّد بن سنان الواردة في من نظر إلى امرأة فأعجبته إلى أن قال : «وعلى الذي زوجه قيمة ثمن الولد يعطيه موالي الوليدة كما غرّ الرجل وخدعه» (١) ولكنها ضعيفة بمحمّد بن سنان. على أن صدق الغرور يتوقف على علم الغار وجهل المغرور وكون الغار قاصداً لإيقاع المغرور في خلاف الواقع ، وأما إذا لم يكن عالماً بذلك وإنما يرجع عن البذل من باب الاتفاق ، كما لو علم الباذل بأن ماله لا يفي للبذل فلا يصدق عليه أنه غرّه وخدعه.

فتلخص : أنّ مقتضى القواعد جواز الرجوع إلى ماله ولكنّه ضامن لما يصرفه في سبيل الإتمام للسيرة العقلائية.

(١) الظاهر ضمان الباذل لمصارف العود لأنه وقع بأمره وإذنه ، حيث إنّ السفر وقع بإذنه والاذن في الشي‌ء إذن في لوازمه ، ويدلُّ على ذلك السيرة العقلائية ، وإن كان له

__________________

(*) أظهرهما الوجوب.

(١) الوسائل ٢١ : ٢٢٠ / أبواب العيوب من كتاب النكاح ب ٧ ح ١.

١٤٣

[٣٠٤٠] مسألة ٤٣ : إذا بذل لأحد اثنين أو ثلاثة فالظاهر الوجوب عليهم كفاية ، فلو ترك الجميع استقر عليهم الحجّ فيجب على الكل ، لصدق الاستطاعة بالنسبة إلى الكل ، نظير ما إذا وجد المتيممون ماء يكفي لواحد منهم فإن تيمم الجميع يبطل (١).

______________________________________________________

الرجوع في المال المبذول ، وهذا لا ينافي ضمان مصارف العود كما عرفت ذلك بما لا مزيد عليه.

(١) ما ذكره هو الصحيح ، وإن كان بين المقام وباب التيمم فرق ما ، وربما يقال بأنّ الاستطاعة إما ملكيّة أو بذلية ، وشي‌ء منهما غير متحقق في المقام ، أما انتفاء الملكية فواضح ، وأما البذلية فلعدم شمول نصوص البذل للمقام ، لأنّ البذل أو عرض الحجّ إنما يتحقق بالنسبة إلى الشخص الخاص ، وأما العرض لواحد لا بعينه فغير مشمول للروايات ، ولا يقاس المقام بباب التيمم لأن وجدان الماء موجب للبطلان وكل واحد واجد للماء على تقدير عدم أخذ الآخر ، والاستطاعة في باب الحجّ ليست كذلك فالتنظير في غير محله.

وفيه : أن البذل للجامع بما هو جامع وإن كان لا معنى له لعدم إمكان تصرف الجامع في المال وإنما التصرف يتحقق بالنسبة إلى الشخص ، إلّا أن البذل في المقام يرجع في الحقيقة إلى البذل إلى كل شخص منهما أو منهم ، غاية الأمر مشروطاً بعدم أخذ الآخر ، لعدم الترجيح في الفردين المتساويين ، كما إذا بذل الوالد مالاً لأحد أولاده وقال لهم : يحج به أحدكم ، فإن معنى ذلك أن من أخذه منكم يجب عليه الحجّ ولا يجب على الآخر ، وأما إذا لم يأخذه واحد منهم فالشرط حاصل في كل منهم ويستقر عليهم الحجّ نظير مسألة التيمم.

نعم ، يبقى بيان الفرق بين مسألة التيمم والمقام ، وحاصله : أنه في باب التيمم يجب السبق إلى أخذ الماء إذا كان أحدهم متمكناً من الغلبة وأخذ الماء وطرد الباقي ، لكونه

١٤٤

[٣٠٤١] مسألة ٤٤ : الظاهر أن ثمن الهدي على الباذل ، وأما الكفّارات فإن أتى بموجبها عمداً اختياراً فعليه ، وإن أتى بها اضطراراً أو مع الجهل أو النسيان فيما لا فرق فيه بين العمد وغيره ففي كونه عليه أو على الباذل وجهان (١) (*).

______________________________________________________

واجداً للماء لقدرته على الماء وتمكنه منه ، بخلاف الآخر فإنه غير قادر وغير متمكن من الماء ، وأما في المقام فلا يجب التسابق لأخذ المال ، لأن المفروض أن البذل على نحو الواجب المشروط وتحصيل الشرط غير واجب.

والحاصل : أن البذل في المقام يرجع إلى الشخصي ، فإن الأُمور الاعتبارية كالملكية وإن كانت قابلة للتعلق بالكلي كالصاع من الصبرة ، كما أن موضوعها يعني المالك قد يكون شخصياً كزيد وعمرو وقد يكون كلياً كالجهات ، بل قد يكون ميتاً كثلث الميت وقد يكون جامداً كالوقف على المسجد ، وأما الأمر الخارجي التكويني كالبذل وعرض الحجّ فلا يمكن تعلقه بالكلي الجامع ، فلا بدّ من إرجاع ذلك إلى الشخصي غاية الأمر مشروطاً بعدم صرف الآخر ولو بنحو الشرط المتأخر ، بمعنى أنه لو لم يأخذه الآخر أو لم يصرفه الآخر وجب عليه الصرف ، فإن سبق أحدهم وأخذه وصرفه في الحجّ يسقط الحجّ عن الآخر ، وأمّا لو لم يصرفه لم يسقط عن الآخر بل يجب عليه الأخذ منه والصرف في الحجّ ، لأنّ الشرط وهو عدم الصرف حاصل فيجب عليه الحجّ بالفعل لفعلية الشرط ، فما ذكره المصنف هو الصحيح وإن مال إلى خلافه صاحب الجواهر (١).

(١) أمّا الكفّارات العمدية فليس شي‌ء منها على الباذل ، لأنّ الباذل لم يلتزم بشي‌ء من ذلك ، وإنما صدر موجبها من المبذول له باختياره فهي عليه ، وأما غير العمدية وإن كانت قليلة جدّاً ، لأنّ كفّارات الحجّ أكثرها في صورة العمد ولكن بعضها أعم

__________________

(*) الظاهر عدم وجوبه على الباذل.

(١) الجواهر ١٧ : ٢٦٩.

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

من العمد والخطأ كالصيد فقد توقف المصنف (قدس سره) فيها في كونها عليه أو على الباذل ، والظاهر أنه لا موجب للتوقف بل حالها حال الكفّارات العمدية ، لأن الباذل إنما بذل مصارف الحجّ وتعهده بنفقاته ، والكفّارات ليست من أجزاء الحجّ وأعماله ، ولم يلتزم الباذل بشي‌ء من الكفّارات ولم يصدر موجبها بأمره وإذنه. وبالجملة : الباذل إنما هو ملتزم بمصارف الحجّ لا بهذه الأُمور الخارجة عن أعماله.

وأما ثمن الهدي فلا بدّ أوّلاً من تحقيق أن بذل الحجّ دون الهدي هل يوجب الحجّ عليه وهل يجب عليه القبول ولو بأن يلتزم المبذول له بثمن الهدي أو يأتي ببدله وهو الصوم ، أو لا يجب إلّا مع بذل ثمن الهدي؟

الظاهر أنه لا بدّ من بذل ثمن الهدي ، لأنّ عرض الحجّ وبذله إنما يتحقق ببذل تمام أجزائه وواجباته ، وإلّا فلم يعرض عليه الحجّ بل عرض بعض الحجّ. نعم ، إذا كانت الاستطاعة ملفقة من الملكية والبذلية يجب عليه صرف ماله في الهدي ، وأما الاستطاعة المتمحضة في البذل فلا بدّ من بذل الهدى أيضاً ، لأن الظاهر من عرض الحجّ كما عرفت عرض تمام الحجّ لا بعضه ، ولا ينتقل الأمر إلى البدل وهو الصوم لأنه في مورد العذر.

وبالجملة : نلتزم في الاستطاعة البذلية ببذل ثمن الهدي أيضاً لأنه من الحجّ ، كما نلتزم بوجدان ثمنه في الاستطاعة الملكية ، فإنه لا يصدق عنوان الاستطاعة إلّا بالتمكن من الهدي ، ومن لم يكن متمكناً من ثمن الهدي من أوّل الأمر لا يكون مستطيعاً ولا ينتقل الأمر إلى البدل ، فإن قوله : ما يحج به أو يقدر على مال يحج به أو يجد ما يحج به وغير ذلك من التعابير الواردة في النصوص إنما يختص بما إذا حصل المال بمقدار جميع مصارف الحجّ ، فإذا كان المال لا يفي بتمام المصارف يسقط وجوب الحجّ ، وكذلك الحال في البذل ، فإذا بذل الباذل دون ثمن الهدي فلم يبذل له الحجّ ولا يجب عليه القبول ، ولا يكون حجّه حجّ الإسلام إذا قبل ، لعدم حصول الاستطاعة للحج بالبذل الناقص.

١٤٦

[٣٠٤٢] مسألة ٤٥ : إنما يجب بالبذل الحجّ الذي هو وظيفته على تقدير الاستطاعة فلو بذل للآفاقي بحجّ القرآن أو الإفراد أو لعمرة مفردة لا يجب عليه وكذا لو بذل للمكي لحج التمتع لا يجب عليه ، ولو بذل لمن حجّ حجّة الإسلام لم يجب عليه ثانياً ، ولو بذل لمن استقر عليه حجّة الإسلام وصار معسراً وجب عليه ، ولو كان عليه حجّة النذر أو نحوه ولم يتمكن فبذل له باذل وجب عليه (١).

______________________________________________________

فرع : لو بذل ثمن الهدي والتزم به ثمّ رجع وعدل عنه فلا ريب في وجوب إتمام الحجّ على المبذول له ، وليس حاله كما إذا رجع الباذل عن بذله بعد الإحرام في عدم وجوب الإتمام وجواز رفع اليد عن الإحرام ، لما عرفت من أن الإتمام إنما يجب بالعنوان الذي أوقعه وأتى به أوّلاً فهناك ينقلب ندباً ، ولا دليل على وجوب الإتمام حينئذ ، فإن ما بدأ به أتى به بعنوان حجّة الإسلام وبقاء ليس بحج الإسلام ، بخلاف المقام فإنه متمكن من إتمام حجّة الإسلام ولو بشراء الهدي أو الصوم ، ولو عجز عنهما يجري عليه حكم العاجز عنهما.

والحاصل : لا يسقط عنه الحجّ لأنه متمكن من الإتمام ، فإنّ ما أتى به من الأعمال السابقة فقد أتى به بعنوان حجّ الإسلام فهو متمكن من إتمام الحجّ بالعنوان الذي أوقعه أوّلاً وعليه الهدي أو بدله ، وإذا أتمّه بشراء الهدي فله الرجوع إلى الباذل ، لأنه ضامن لأنه هو الذي أوقعه في هذه الأعمال وكان إتيانها بأمره وإذنه وإن كان له الرجوع فيما بذله بمقدار الهدي ، لما عرفت من أن ضمان المصارف لا ينافي جواز الرجوع فيما بذله.

(١) ذكر في هذه المسألة أُموراً :

الأوّل : يجب بالبذل الحجّ الذي هو وظيفته على تقدير الاستطاعة ، فلو بذل للآفاقي حجّ القرآن أو الإفراد ولأهل مكّة حجّ التمتع لا يجب ، كما لو كان له مال لا يفي للحجّ الذي هو وظيفته وبذل له باذل مصارف الحجّ الذي ليس من وظيفته ، فما هو

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

واجب عليه غير مستطيع له وما هو مستطيع له غير واجب عليه.

وبالجملة : البذل لا يغيِّر وظيفته من وجوب حجّ التمتع أو القرآن والإفراد وإنما البذل يوجب دخوله في موضوع الاستطاعة ، وببركة الروايات التزمنا بأن الاستطاعة ليست منحصرة بالمالية بل هي أوسع من ذلك وأعم من المالية والبذلية فلا فرق بين المستطيع المالي والبذلي في الوظائف المقررة له إلّا من حيث توسعة الاستطاعة ، وأما من حيث الوظيفة المقررة له فلا فرق بين حصول الاستطاعة بالمال أو بالبذل.

الثاني : لو بذل له مصرف العمرة المفردة لا يجب عليه القبول ، لأنه لو كان له مال لا يجب عليه العمرة فكيف بالبذل ، والسر ما ذكرنا من أن البذل لا يغيِّر وظيفة المبذول له ، ولذا لا يجب بالبذل الحجّ على من حجّ حجّة الإسلام.

الثالث : لو استقر عليه الحجّ ووجب عليه الإتيان ولو معسراً متسكعاً وجب عليه قبول البذل ، لا لأجل شمول أخبار البذل للمقام ، فإن تلك الأدلة في مقام بيان اعتبار الاستطاعة الخاصة في الحجّ وأما وجوب الحجّ في المقام فلم يعتبر فيه الاستطاعة الخاصة المفسرة في الروايات ، بل حاله حال سائر الواجبات الإلهية من اعتبار القدرة العقلية فيها ، فيفترق وجوب الحجّ على من استقر عليه عن وجوب حجّة الإسلام ولذا لو وهب له مال على نحو الإطلاق يجب عليه القبول ، وكذا لو فرض أنه يتمكن من بيع ماله من شخص بأزيد من قيمته المتعارفة ويتمكن بذلك من أن يذهب إلى الحجّ وجب عليه البيع منه ولو بالاستدعاء منه ، لأن المفروض أن هذا الحجّ ليس حجاً استطاعياً حتى يقال بعدم وجوب البيع لأنه تحصيل للاستطاعة ، وإنما وجب عليه الإتيان به لاشتغال ذمته ولزوم تفريغها بحكم العقل كوجوب الإتيان بسائر الواجبات الإلهية ، بل يجب عليه الحجّ ولو بتحصيل الاستطاعة بالكسب في الطريق ولذا لو وجب عليه الحجّ بنذر وشبهه ولم يتمكن من أدائه وجب عليه التحصيل بالكسب أو بقبول الهدية ، والسر ما ذكرنا من أن الاستطاعة الخاصة إنما هي معتبرة

١٤٨

وإن قلنا (*) (١) بعدم الوجوب لو وهبه لا للحجّ ، لشمول الأخبار ٩ من حيث التعليل فيها بأنه بالبذل صار مستطيعاً ، ولصدق الاستطاعة عرفاً.

[٣٠٤٣] مسألة ٤٦ : إذا قال له : بذلت لك هذا المال مخيّراً بين أن تحجّ به أو تزور الحسين (عليه السلام) وجب عليه الحجّ (**) (٢).

[٣٠٤٤] مسألة ٤٧ : لو بذل له مالاً ليحج بقدر ما يكفيه فسرق في أثناء الطريق سقط الوجوب (٣).

[٣٠٤٥] مسألة ٤٨ : لو رجع عن بذله في الأثناء وكان في ذلك المكان يتمكّن من أن يأتي ببقية الأعمال من مال نفسه أو حدث له مال بقدر كفايته

______________________________________________________

في حجّ الإسلام ، وأمّا سائر أقسام الحجّ الواجبة فلا يعتبر فيها إلّا القدرة العقلية المعتبرة في سائر الواجبات.

(١) هذه العبارة إلى آخرها لا ترتبط بهذه المسألة أصلاً ، وإنما هي من ذيل المسألة الآتية ويناسب ضبطها في ذيل تلك المسألة ، وذكرها هنا من اشتباه النساخ ، وقد اشتبه الأمر على كثير من الأعلام ولذا أشكلوا عليه بأن التعليل بشمول الأخبار وصدق الاستطاعة لا يرتبط بما ذكره في هذه المسألة ، بل ذكر بعضهم بأنه ما كان يؤمل من المصنف (قدس سره) صدور مثل ذلك منه ، فالتعليل بشمول الأخبار وصدق الاستطاعة يرجع إلى وجوب الحجّ إذا خيّره بينه وبين زيارة الحسين (عليه السلام).

(٢) تقدّم الكلام في ذلك في المسألة السابعة والثلاثين فلا نعيد.

(٣) لأنه ينكشف عدم ثبوت الاستطاعة من أوّل الأمر. نعم ، إذا استطاع بمال آخر أو بذل آخر في الأثناء وجب الحجّ.

__________________

(*) هذه العبارة إلى آخرها متممة للمسألة الآتية ، وقد وضعت هنا اشتباهاً.

(**) تقدّم أنّ للقول بعدم الوجوب وجهاً وجيهاً.

١٤٩

وجب عليه الإتمام وأجزأه عن حجّة الإسلام (١).

[٣٠٤٦] مسألة ٤٩ : لا فرق في الباذل بين أن يكون واحداً أو متعدِّداً ، فلو قالا له : حجّ وعلينا نفقتك وجب (*) عليه (٢).

______________________________________________________

(١) لو رجع عن بذله في الأثناء وتمكن المبذول له من الإتمام من مكان الرجوع كما إذا كان له مال من الأوّل كما في الاستطاعة الملفقة أو تجدد له المال في الأثناء يجب عليه الإتمام ، وظاهر عبارة المصنف (قدس سره) جواز رجوع الباذل عن بذله حتى بعد الإحرام لقوله : «من أن يأتي ببقية الأعمال» وقد أشكل سابقاً في جواز الرجوع بعد الإحرام وذكر أن فيه وجهين في المسألة ٤١ ولم يرجّح أحد الوجهين على الآخر وفي المقام جزم بجواز الرجوع.

وكيف كان ، لو رجع قبل الإحرام فلا إشكال فيه أصلاً ، فإن كان المبذول له متمكناً من الحجّ كما إذا كان له المال من الأوّل أو تجدد له المال يجب عليه الحجّ وإلّا فلا ، وإن كان الرجوع بعد الإحرام سواء كان الرجوع له جائزاً أم لا فالأمر كذلك ، بناء على أن الاستطاعة التدريجية كافية في ثبوت الحجّ ، وقد عرفت أن الباذل وإن جاز له الرجوع فيما بذله حتى بعد الإحرام ولكنه يضمن ما صرفه المبذول له في الأعمال ، لأنها وقعت بأمره وإذنه والإذن في الشي‌ء إذن في لوازمه.

ثمّ لا يخفى أن مجرد التمكن من الإتمام لا يجدي في وجوب الحجّ عليه وإجزائه عن حجّة الإسلام بل لا بدّ من ملاحظة الحرج في إتمامه ، فإن لم يستلزم الإتمام وصرف ما عنده من المال الحرج والمشقة يجب الحجّ ، وإن استلزم الحرج فلا يجب عليه الإتمام بل يرجع من مكانه إلى بلاده.

(٢) لإطلاق روايات عرض الحجّ كصحيح الحلبي : «فإن عرض عليه ما يحج به فاستحيى من ذلك أهو ممن يستطيع إليه سبيلاً؟ قال : نعم» (١) فإن المستفاد منه أن

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

(١) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٥.

١٥٠

[٣٠٤٧] مسألة ٥٠ : لو عين له مقداراً ليحج به واعتقد كفايته فبان عدمها وجب عليه الإتمام في الصورة التي لا يجوز له الرجوع ، إلّا إذا كان ذلك مقيداً بتقدير كفايته (١).

______________________________________________________

الموضوع لوجوب الحجّ عرض ما يحج به ، ولا ريب في صدقه على ما إذا كان الباذل متعدداً ، هذا مضافاً إلى خصوص صحيح معاوية بن عمّار قال : «فإن كان دعاه قوم أن يحجوه فاستحيى» (١) فإنه صريح في كون الباذل متعدداً.

(١) أمّا فيما يجوز له الرجوع كقبل الإحرام فلا إشكال في عدم وجوب إتمام ما بذله على الباذل ، اعتقد كفايته أم لا ، إنما الكلام فيما لا يجوز الرجوع للباذل عن بذله كما إذا تلبس المبذول له بالإحرام وقد أعطاه مقداراً من المال معتقداً كفايته للحج فبان عدمها ، فهل يجب على الباذل تتميم ما بذله أم لا؟ قسّمه في المتن إلى قسمين :

أحدهما : ما يبذل له الحجّ ولم يكن بذله مقيداً بهذا المقدار ولكن من باب التطبيق طبّق بذله على هذا المقدار ، فالبذل مطلق من هذه الجهة ، وفي هذه الصورة اختار وجوب التتميم إذا انكشف عدم كفاية ما أعطاه.

ثانيهما : ما إذا كان البذل مقيداً بهذا المقدار ومعلقاً عليه ، فإذا انكشف عدم الكفاية ينكشف عدم بذل الحجّ له واقعاً وإنما تخيّل أنه بذل له ، فلم يكن المبذول له مستطيعاً من أوّل الأمر ، فلا يجب عليه تتميم البذل.

ولا يخفى أن ما ذكره (قدس سره) مبني على عدم جواز الرجوع للباذل عن بذله بعد تلبس المبذول له بالإحرام ، وقد ناقشنا في ذلك وذكرنا أن الظاهر جواز الرجوع للباذل عن بذله وإن قلنا بوجوب الإتمام على المبذول له. نعم ، على الباذل ضمان ما صرفه المبذول له في الإتمام راجع المسألة ٤١ فعليه لا فرق في عدم وجوب التتميم على الباذل في جميع الموارد المتقدمة.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٣.

١٥١

[٣٠٤٨] مسألة ٥١ : إذا قال : اقترض وحجّ وعليّ دينك ففي وجوب ذلك عليه نظر ، لعدم صدق الاستطاعة عرفاً. نعم ، لو قال : اقترض لي وحجّ به وجب مع وجود المقرض كذلك (١).

[٣٠٤٩] مسألة ٥٢ : لو بذل له مالاً ليحج به فتبين بعد الحجّ أنه كان مغصوباً ، ففي كفايته للمبذول له عن حجّة الإسلام وعدمها وجهان : أقواهما العدم ، أمّا لو قال : حجّ وعليّ نفقتك ثمّ بذل له مالاً فبان كونه مغصوباً فالظاهر صحّة الحجّ وإجزاؤه عن حجّة الإسلام (*) لأنه استطاع بالبذل ، وقرار الضمان على الباذل في الصورتين عالماً كان بكونه مال الغير أو جاهلاً (٢).

______________________________________________________

(١) لم يظهر وجه الفرق بين الصورتين ، وذلك لعدم وجوب الاقتراض لأنه من تحصيل الاستطاعة وهو غير واجب ، والاستطاعة غير حاصلة في الصورتين ، لأنّ المستفاد من الآية والروايات المفسرة لها أن الاستطاعة تتحقق بأحد أمرين : إمّا الاستطاعة المالية أو البذلية وكلاهما مفقود في المقام ، أما المالية فمفقودة على الفرض وأما البذلية فلعدم صدق العرض والبذل على الأمر بالاقتراض ، وإيجاد مقدمة البذل بالاقتراض غير واجب كتحصيل المال والاستطاعة. نعم ، لو اقترض يجب الحجّ حينئذ لحصول الاستطاعة ، كما إذا اكتسب وحصّل الاستطاعة ، إلّا أن الكلام في وجوب الاقتراض والكسب لتحصيل الاستطاعة.

(٢) ذكر في هذه المسألة صورتين لبذل المغصوب :

الاولى : لو بذل له مالاً مغصوباً ليحج به فتبين بعد الحجّ أنه كان مغصوباً فهل يكفي للمبذول له عن حجّة الإسلام أم لا؟

ذهب بعضهم إلى الإجزاء ، لجواز التصرف في المال المبذول ، لفرض جهله بالغصب. ولكنه واضح الدفع لأن الجواز جواز ظاهري ، وليس للباذل بذل هذا المال

__________________

(*) الظاهر أنه لا يجزئ عنها.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّ المفروض أنه لم يكن له واقعاً ، فالبذل غير سائغ وغير ممضى شرعاً في الواقع فلم يتحقق منه البذل الموجب للاستطاعة وإنما تحقق منه في الخارج بذل المال المغصوب وهو غير موجب للاستطاعة.

الصورة الثانية : ما لو قال له : حجّ وعليّ نفقتك ولكنّه أدّى من المال المغصوب بمعنى أنه التزم بالبذل وفي مقام الإعطاء والتطبيق الخارجي أعطي مالاً مغصوباً ، ولم يكن بذل الحجّ مقيداً به ، نظير البيع الكلي وأداء المال المغصوب ، ذهب في المتن إلى الصحّة والإجزاء لأنه استطاع بالبذل.

وفيه : أن هذه الصورة كالصورة السابقة في عدم الإجزاء ، لأن البذل الموجب للاستطاعة لا يتحقق بمجرد القول والوعد ، وإنما تتحقق الاستطاعة البذلية بالبذل والإعطاء الخارجيين ولو تدريجاً ، ولذا لو قال : حجّ وعليّ نفقتك ، ولم يعطه شيئاً من المال خارجاً لا يجب عليه الحجّ قطعاً مع أن البذل الإنشائي قد تحقق ، ويكشف ذلك عن أن الموجب للاستطاعة البذلية إنما هو البذل الخارجي والمفروض أنه غير متحقق في الخارج.

وبعبارة اخرى : الاستطاعة البذلية لا تتحقق بإعطاء مال الغير وإنما تتحقق بإعطاء المال غير المغصوب وهو غير حاصل في المقام ، والمفروض أن الاستطاعة المالية مفقودة أيضاً فلا موجب للحج أصلاً لا الاستطاعة المالية ولا البذلية ، فالصورتان مشتركتان في الحكم.

إنما الكلام في ضمان هذا المال المغصوب الذي أتلفه المبذول له ، والظاهر أن الباذل والمبذول له كلاهما ضامن ، لقاعدة على اليد ، أما الباذل فلأنه غاصب والمال تحت يده وسلطانه وذلك يوجب الضمان سواء كان عالماً أو جاهلاً بكونه مال الغير. وأما المبذول له فلأنه أتلف المال ، والمالك المغصوب منه له أن يرجع إلى أيهما شاء ، وإذا رجع إلى الباذل فليس للباذل الرجوع إلى المبذول له ، لأن المفروض أن الباذل قد سلّط المبذول له على المال مجاناً وبغير ضمان ، وليس له الرجوع بعد التسليط المجاني

١٥٣

[٣٠٥٠] مسألة ٥٣ : لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحجّ بأُجرة يصير بها مستطيعاً وجب عليه الحجّ ، ولا ينافيه وجوب قطع الطريق عليه للغير ، لأن الواجب عليه في حجّ نفسه أفعال الحجّ وقطع الطريق مقدمة توصلية بأي وجه أتى بها كفى ، ولو على وجه الحرام أو لا بنيّة الحجّ (١)

______________________________________________________

فإنّ المال بقاء للباذل ، لأنه بعد ما أعطى الباذل البدل إلى المالك يصير المبدل ملكاً له والمفروض أنه سلّط المبذول له عليه مجاناً كما لو أعطاه المال ابتداء مجاناً ، فالإتلاف مستند إلى أمره وتسليطه المجاني ، وأما إذا رجع المالك إلى المبذول له وأعطاه البدل صار المال ملكاً له بقاء فيرجع المبذول له إلى الباذل ، لأنه فوّت المال على مالكه الجديد وهو المبذول له ، فالباذل ضامن على كل حال إما للمالك الأولّ وهو المغصوب منه ، وإمّا للمالك الثاني وهو المبذول له ، فلا موجب لسقوط الضمان عن الباذل أصلاً. والحكم بالضمان لا يتوقف على قاعدة الغرور حتى يفرق بين العلم والجهل ، بل العبرة بالسيرة العقلائية ومقتضاها الضمان على الإطلاق ، ونظير ذلك ما إذا أضاف شخص أحداً وقدّم طعاماً مغصوباً للضيف فإن المالك المغصوب منه له الرجوع إلى المضيف والضيف ، فإذا رجع إلى المضيف ليس للمضيف الرجوع إلى الضيف لأنه سلطه عليه مجاناً ، وإذا رجع إلى الضيف له الرجوع إلى المضيف للسيرة العقلائية على كون المال المغصوب ملكاً لمن أعطى البدل ، فحينئذ يكون المضيف ممن أتلف المال على الضيف ويكون ضامناً له.

(١) لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحجّ كالطبخ ونحوه يصير بها مستطيعاً أو آجر نفسه لمجرّد المشي مع المستأجر من دون خدمة له وصار بها مستطيعاً وجب عليه الحجّ ، ولا ينافيه وجوب قطع الطريق عليه للغير ، لأنّ الخدمة أو المشي ليس من أعمال الحجّ وأفعاله بل قطع الطريق مقدّمة توصلية ، والواجب إنما هو نفس الأعمال لا المقدّمات ، فالمستأجر عليه غير الواجب والواجب لم يقع عليه عقد الإجارة.

١٥٤

ولذا لو كان مستطيعاً قبل الإجارة جاز له إجارة نفسه للخدمة في الطريق ، بل لو آجر نفسه لنفس المشي معه بحيث يكون العمل المستأجر عليه نفس المشي صح أيضاً ولا يضر بحجه. نعم ، لو آجر نفسه لحج بلدي لم يجز له أن يؤجر نفسه (*) لنفس المشي كإجارته لزيارة بلدية أيضاً ، أما لو آجر للخدمة في الطريق فلا بأس وإن كان مشيه للمستأجر الأوّل ، فالممنوع وقوع الإجارة على نفس ما وجب عليه أصلاً أو بالإجارة.

______________________________________________________

وقد يشكل بأن ظاهر الآية الشريفة وجوب السفر وجوباً نفسياً ، فإن المراد بحج البيت هو الذهاب إليه والسعي نحوه ، فيكون وجوبه كسائر أفعال الحجّ وأعماله ، فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه وتكون الإجارة فاسدة.

وفيه أوّلاً : أن المستفاد من الآية الشريفة مطلوبية نفس أعمال الحجّ والمناسك لا السفر بنفسه ولذا لا يجب السفر عليه من خصوص بلده ، ولو كان السفر بنفسه واجباً لزم عدم كفاية السفر من بلد آخر إذا استطاع منه في بلده وهذا مقطوع البطلان ، وكذا لا ريب في إجزاء الحجّ وسقوطه إذا استطاع في بلده أو مكان آخر وقصد الحجّ من الميقات ، وذلك يكشف عن عدم وجوب السفر بنفسه وعن عدم دخوله في أفعال الحجّ.

وثانياً : أنّ ذلك يستفاد من بعض النصوص كصحيحة معاوية بن عمار : «الرجل يمر مجتازاً يريد اليمن أو غيرها من البلدان وطريقه بمكّة فيدرك الناس وهم يخرجون إلى الحجّ فيخرج معهم إلى المشاهد ، أيجزئه ذلك عن حجّة الإسلام؟ قال : نعم» (١).

وثالثاً : لو تنزلنا عما تقدم فقد ذكرنا في محله أن وجوب المشي لا ينافي أخذ الأُجرة عليه إذا كان الواجب توصّليّاً ، والسفر لو سلّم وجوبه فهو واجب توصّلي ، بل

__________________

(*) لكن لو آجر نفسه لخصوصية المشي كالمشي معه فلا بأس.

(١) الوسائل ١١ : ٥٨ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢٢ ح ٢.

١٥٥

[٣٠٥١] مسألة ٥٤ : إذا استؤجر أي طلب منه إجارة نفسه للخدمة بما يصير به مستطيعاً لا يجب عليه القبول ولا يستقر الحجّ عليه ، فالوجوب عليه مقيد بالقبول ووقوع الإجارة ، وقد يقال بوجوبه إذا لم يكن حرجاً عليه (١) لصدق الاستطاعة ولأنه مالك لمنافعه فيكون مستطيعاً قبل الإجارة ، كما إذا كان مالكاً لمنفعة عبده أو دابته وكانت كافية في استطاعته ، وهو كما ترى إذ نمنع صدق الاستطاعة بذلك ، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط في بعض صوره كما إذا كان من عادته إجارة نفسه للأسفار.

______________________________________________________

لو كان واجباً تعبدياً لم يكن منافياً لقصد القربة المعتبرة فيه ، لإمكان قصد القربة للخروج عن عهدة الإجارة.

نعم ، لو كان المشي مملوكاً لشخص كما لو استؤجر لحج بلدي لم يجز له أن يؤجر نفسه لشخص آخر في نفس المشي ، لأن المشي ملك للأوّل ولا يجوز أن يؤجره لشخص آخر كما هو الحال في سائر موارد الإجارة ، ولكن يمكن إجارته لخصوصية خاصة للمشي لا لنفس المشي ، فإن الإجارة الأُولى تتعلّق بمطلق المشي والسير والإجارة الثانية تتعلق بخصوصية خاصة من المشي ككونه ملازماً له أو يسلك طريقاً خاصاً ونحو ذلك من الخصوصيات.

(١) واستدل له بوجهين :

الأوّل : صدق الاستطاعة العرفية.

الثاني : أن كل شخص مالك لمنافع نفسه كما يملك منافع الأعيان من العقار والدواب والعبيد فيكون مستطيعاً قبل الإجارة ، وقد عرفت أن الاستطاعة تحصل بوجود ما يحج به عيناً أو بدلاً ، فكما أن من يملك من العقار أو منافعها ما يفي بمصاريف حجّه يجب عليه الحجّ ، كذلك من يملك منافع نفسه يجب عليه تبديلها بالأثمان بإجارة ونحوها ليحجّ بها.

١٥٦

[٣٠٥٢] مسألة ٥٥ : يجوز لغير المستطيع أن يؤجر نفسه للنيابة عن الغير وإن حصلت الاستطاعة بمال الإجارة قدم الحجّ النيابي ، (١) (*) فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب عليه لنفسه ، وإلّا فلا.

______________________________________________________

ويندفع الأوّل بأن العبرة في الاستطاعة الموجبة للحج ليست بالاستطاعة العرفية أو العقلية ، وإنما العبرة بالاستطاعة الشرعية المفسرة في الروايات ، وهي استطاعة خاصة من وجود الزاد والراحلة عيناً أو بدلاً ، سواء حصلت بالملك أو بالبذل وكلاهما مفقود في المقام ولا إطلاق للآية من هذه الجهة.

ويندفع الثاني بأن الإنسان وإن كانت له القدرة والسلطنة على منافع نفسه ، ولكن لا تتحقق بذلك الملكية الاعتبارية نظير ملكية منافع الدار والعقار والدواب ، ولا يقال له إنه ذو مال باعتبار قدرته على أعماله ومنافعه ، ولذا تسالم الفقهاء على أنه لو حبس شخص حراً لا يضمن منافعه التي فاتت منه بالحبس بخلاف ما لو حبس عبداً فإنه يضمن منافعه الفائتة. وممّا يدلّنا على أن الإنسان ليس بمالك لمنافعه بالملكية الاعتبارية ، أنه لو كان مالكاً لها لا يتوقف وجوب الحجّ عليه على طلب الاستئجار منه ، بل يجب عليه بنفسه أن يتصدّى لذلك ويجعل نفسه معرضاً للايجار كما لو كان مالكاً للدار والعقار في لزوم العرض ، وهذا مقطوع الخلاف.

فالصحيح ما ذكره في المتن من عدم وجوب الحجّ عليه ، لعدم وجوب القبول عليه إذا طلب منه إجارة نفسه ، لأنّ ذلك من تحصيل الاستطاعة وهو غير واجب.

(١) لأنه يجب عليه تسليم العمل المستأجر عليه إلى من يستحقه ، كما لو آجر نفسه لسائر الأعمال من البناء والخياطة ، فإن وجوب تسليم ما عليه من الأعمال ينافي وجوب الحجّ ويزاحمه ، هذا إذا كان الحجّ النيابي مقيداً بالعام الحاضر ، وأما إذا لم يكن مقيداً به بل كانت الإجارة مطلقة وفرضنا حصول الاستطاعة بمال الإجارة قدم الحجّ

__________________

(*) إذا لم يكن الحجّ النيابي مقيداً بالعام الحاضر قدم الحجّ عن نفسه.

١٥٧

[٣٠٥٣] مسألة ٥٦ : إذا حجّ لنفسه أو عن غيره تبرعاً أو بالإجارة مع عدم كونه مستطيعاً لا يكفيه عن حجّة الإسلام فيجب عليه الحجّ إذا استطاع بعد ذلك وما في بعض الأخبار من إجزائه عنها محمول على الإجزاء ما دام فقيراً كما صرح به في بعضها الآخر ، فالمستفاد منها أن حجّة الإسلام مستحبة على غير المستطيع وواجبة على المستطيع ، ويتحقق الأوّل بأي وجه أتى به ولو عن الغير تبرّعاً أو بالإجارة ، ولا يتحقق الثاني إلّا مع حصول شرائط الوجوب (١).

______________________________________________________

عن نفسه إذا لم يكن مزاحماً لإتيان الحجّ النيابي في السنين الآتية ، بأن علم أنه لو حجّ في هذه السنة عن نفسه يتمكن من الحجّ النيابي في العام القابل ، وأما إذا كان مزاحماً بحيث لو صرف المال في هذه السنة في حجّ نفسه عجز عن الحجّ النيابي في السنة الآتية فدم الحجّ النيابي ، والحاصل : أن حال الحجّ النيابي حال الديون في المزاحمة وعدمها ، فلا بدّ من مراعاة التمكن من إتيان الحجّ النيابي في السنين الآتية.

(١) فرض الماتن في هذه المسألة صورتين :

الاولى : المتسكع إذا حجّ لنفسه.

الثانية : الحجّ عن غيره تبرعاً أو إجارة.

أمّا الاولى فلا ريب في عدم إجزاء حجّه عن حجّة الإسلام ، لأن إطلاق الأدلّة الدالة على وجوب الحجّ بالاستطاعة المالية أو البذلية يقتضي وجوب الحجّ عليه وعدم سقوطه عنه ، ولا دليل على سقوطه بالحج الندبي التسكعي.

وأمّا الصورة الثانية فقد ورد في عدة من النصوص إجزاؤه عن حجّ الإسلام وعمدتها صحيحتان لمعاوية بن عمار : قال : «حجّ الصرورة يجزئ عنه وعمن حجّ عنه».

وفي صحيحته الأُخرى : «عن رجل حجّ عن غيره يجزئه ذلك عن حجّة الإسلام؟ قال : نعم» (١) ولا يعارضهما رواية آدم بن علي : «من حجّ عن إنسان ولم يكن له مال

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٥٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢١ ح ٢ ، ٤.

١٥٨

[٣٠٥٤] مسألة ٥٧ : يشترط في الاستطاعة مضافاً إلى مئونة الذهاب والإياب وجود ما يمون به عياله حتى يرجع ، فمع عدمه لا يكون مستطيعاً (١) والمراد بهم من يلزمه نفقته لزوماً عرفياً وإن لم يكن ممّن تجب عليه نفقته (*) شرعاً على الأقوى ، فإذا كان له أخ صغير أو كبير فقير لا يقدر على التكسب وهو ملتزم بالإنفاق عليه ، أو كان متكفِّلاً لإنفاق يتيم في حجره ولو أجنبي يعد عيالاً له فالمدار على العيال العرفي.

______________________________________________________

يحجّ به أجزأت عنه حتى يرزقه الله ما يحج به ويجب عليه الحجّ» (١) فإنها ظاهرة في عدم الإجزاء ووجوب حجّ الإسلام على النائب إذا تمكن واستطاع ، ومقتضى الجمع بينها وبين الصحيحتين هو الحمل على الاستحباب لصراحتهما في السقوط وظهور رواية آدم في الوجوب ، ولكن رواية آدم لضعفها لا تصلح للمعارضة ، لأنّ آدم بن علي مجهول ، ومحمّد بن سهل لم يوثق ولم يرد فيه مدح ، ومحمّد بن سهل هو ابن اليسع الأشعري القمي ، وما ذكره البهبهاني من وثاقته وورود المدح فيه (٢) لم يثبت.

ولكن الذي يهوّن الأمر أن الحكم بالإجزاء وسقوط حجّ الإسلام معلوم البطلان لم يذهب إليه أحد من علماء الإمامية (رضي الله عنهم) بل تسالموا على عدم الإجزاء وعدم العمل بالصحيحين ، بل ذكر في الجواهر (٣) أنه يمكن تحصيل الإجماع على ذلك. وبالجملة : الحكم بعدم الإجزاء معلوم من الخارج ، ولأجله نرفع اليد عن الصحيحين ونردّ علمهما إلى أهلهما.

(١) الظاهر أنه لا خلاف في اشتراط الاستطاعة بوجود ما يمون به عياله حتى

__________________

(*) العبرة بحصول العسر والحرج إذا لم ينفق على من لا تجب عليه نفقته شرعاً.

(١) الوسائل ١١ : ٥٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢١ ح ١.

(٢) منتهى المقال ٦ : ٧٧.

(٣) الجواهر ١٧ : ٢٧١.

١٥٩

[٣٠٥٥] مسألة ٥٨ : الأقوى وفاقاً لأكثر القدماء اعتبار الرجوع إلى كفاية من تجارة أو زراعة أو صناعة أو منفعة ملك له من بستان أو دكان أو نحو ذلك بحيث لا يحتاج إلى التكفّف ولا يقع في الشدّة والحرج. ويكفي كونه قادراً على

______________________________________________________

يرجع لعدم صدق الاستطاعة بدون ذلك ، فإن قوله (عليه السلام) : «يجب الحجّ إذا كان عنده ما يحج به» لا يصدق إلّا إذا كان مالكاً لمئونة عياله ممن يجب عليه نفقته شرعاً ، وليس له تفويت حقهم فإنه حق مالي يجب أداؤه ، فحاله حال الديون.

ويؤيده خبر أبي الربيع الشامي قال : «سُئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فقال : ما يقول الناس؟ قال فقلت له : الزاد والراحلة ، قال فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : قد سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن هذا فقال : هلك الناس إذن لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن الناس ينطلق إليهم فيسلبهم إيّاه لقد هلكوا إذن ، فقيل له : فما السبيل؟ قال فقال : السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض ويبقى بعضها لقوت عياله» (١).

وأمّا بالنسبة إلى غير واجب النفقة ممن التزم بالإنفاق عليه فما ذكره من تعميم العيال له مشكل ، فإن خبر أبي الربيع الشامي لو كان معتبراً سنداً أمكن أن يكون مدركاً لتعميم الحكم للعيال العرفي ، ولكن الخبر ضعيف بأبي الربيع الشامي لعدم توثيقه في الرِّجال (٢) ، فالعبرة بحصول العسر والحرج إذا لم ينفق على من لا تجب عليه نفقته شرعاً.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٩ ح ١.

(٢) ذهب سيّدنا الأُستاذ (دام ظله) أخيراً إلى وثاقة أبي الربيع الشامي لأنه من رجال تفسير علي بن إبراهيم [معجم رجال الحديث ٨ : ٧٦] فالخبر معتبر ، ولكن الذي يسهل الأمر أن مفاد الخبر لا يزيد عما يقتضيه أدلة نفي الحرج.

١٦٠