موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: نينوى
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6084-13-3
الصفحات: ٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

التفكيك بينهما ، وكذا في باب الاقتضاء ، وأما بحسب الأمر التكويني الخارجي فلا ريب أن الشوق إلى ذي المقدمة يقتضي الشوق إلى مقدمته الموصلة ، وأنّ الشوق إلى شي‌ء يقتضي الشوق إلى ترك ضده ، فإن من يشتاق إلى أكل اللحم مثلاً لا ريب في اشتياقه إلى التعرض للسوق لشراء اللحم ، وكذا من اشتاق وجود شي‌ء يشتاق إلى ترك ضده ، فالفعل المستلزم لترك الواجب بالنظر إلى قيده لا يمكن استناده وإضافته إليه تعالى ، ولا يشمله دليل وجوب الوفاء بالنذر سواء كان سابقاً أو لاحقاً ، لأن النذر مشروط بعدم تفويت الحجّ به وعدم استلزامه لترك الواجب ، والحجّ يتقدم لأنه مطلق.

وقد يناقش فيما ذكرنا بأنه لو اعتبر في انعقاد النذر ووجوب الوفاء به بأن لا يكون مستلزماً لترك واجب آخر فلازمه عدم انعقاد النذر فيما إذا تعلق بما يستلزم تفويت ما هو أهم كما إذا نذر أن يصلي في مسجد محلته ، فاللازم عدم انعقاده لأنه يستلزم تفويت الصلاة في المسجد الأعظم أو الحرم الشريف ، وكذا لو نذر أن يزور مسلماً (عليه السلام) فاللازم عدم انعقاده لأنه يستلزم ترك زيارة الحسين (عليه السلام) التي هي أرجح وأهم وهكذا ، وهذا أمر لا يمكن الالتزام به.

وفيه ما لا يخفى ، لأن الميزان في صحّة انعقاد النذر كما عرفت أن يكون الفعل المنذور قابلاً للإضافة إليه تعالى ، والمستحب المستلزم لترك مستحب آخر أهم وأرجح صالح للإضافة إليه تعالى. نعم ، لو نذر ترك الراجح أو الأهم في نفسه لا ينعقد النذر كما إذا نذر ترك زيارة الحسين (عليه السلام) وأما إذا نذر شيئاً راجحاً في نفسه فلا مانع من انعقاده وإضافته إليه تعالى وإن كان مستلزماً لترك ما هو أثوب وأرجح إذ لا يلزم أن يكون متعلق النذر أثوب وأرجح وإنما اللّازم رجحانه وصحّة الإضافة إليه تعالى ، فكل من الفعلين الراجحين قابل لتعلق النذر به وإضافته إليه تعالى وإن كان أحدهما أرجح من الآخر كزيارة الحسين (عليه السلام) بالنسبة إلى زيارة مسلم (عليه السلام). وبالجملة : لا ينبغي الريب في تقدم الحجّ على النذر ، ولو قلنا بتقدّم النذر لأمكن الاحتيال في سقوط الحجّ بالمرة عن كل مسلم مستطيع ، وهذا بديهي البطلان.

١٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه بناء على أن وجوب الحجّ مطلق لم يؤخذ في موضوعه القدرة الشرعية وأمّا على القول بأنه مشروط بالقدرة الشرعية كما زعمه المشهور فيتقدم الحجّ على النذر أيضاً وإن كان لا يتقدم على سائر الواجبات المزاحمة له ، وذلك لأن وجوب الواجب في غير النذر رافع لموضوع الاستطاعة ، فإن جعل الواجب وإن كان لا ينافي جعل وجوب الحجّ ولكن ينافيه في مرحلة المجعول ، وأما في النذر فالتنافي متحقق في مرحلة الجعل لأن النذر واجب إمضائي ووجوب الحجّ صالح لرفع موضوع النذر فالحج يتقدم على النذر على كل تقدير سواء كان مطلقاً أو مشروطاً ، فلا يقاس النذر في المقام بسائر الواجبات الابتدائية ، فإن التزاحم في تلك الواجبات يتحقق لأن كلا من الواجبين مقدور في ظرف ترك الآخر ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال يقع التزاحم ، وأمّا في الواجبات الإمضائية فدليل الإمضاء قاصر الشمول عن النذر المستلزم لترك واجب أو ارتكاب محرم ، فالنذر على نحو الإطلاق غير قابل للإمضاء لعدم قابليته للإضافة إليه سبحانه ، وفي فرض ترك الواجب وإن كان صالحاً للإضافة ولكنه لم ينشئه الناذر ، والإلزام إنما يتعلق بما التزم به على نفسه وإلّا فيتخلف المنشأ عن الإلزام ، وتخلف المنشأ عن الإلزام إنما ثبت في موارد خاصة بالنص ولا يمكن التعدي عن تلك الموارد كاعتبار القبض في الهبة شرعاً مع أن الواهب وهب مطلقاً ، وكذا اعتبار القبض في بيع الصرف والسلم ، وتوقف العقد على بنت الأخ أو الأُخت على إذن العمة والخالة ، أو توقف العقد على البكر على إذن الولي بناء على اعتباره ، فإن تخلف الإمضاء عن القصود إنما ثبت في هذه الموارد وأما في غيرها فلا نلتزم به لعدم الدليل عليه ، ومنه المقام.

ونظير المقام ما لو آجر نفسه من الفجر إلى طلوع الشمس لعمل من الأعمال كالكتابة أو نسج الثوب ، فإنه لا يمكن الحكم بصحة الإجارة ووجوب الوفاء بالعقد لأنّ شموله على نحو الإطلاق لا يمكن لاستلزامه ترك الواجب ، وعلى نحو التقييد لا دليل عليه ، وممّا ذكرنا يظهر أنه لو عصى ولم يأت بالحج لا يمكن تصحيح نذره بالترتب ، لأنّ مطلقه غير قابل للاستناد ومقيده لم ينشأ.

١٢٢

ولم يمكن الجمع بينه وبين الحجّ ثمّ حصلت الاستطاعة وإن لم يكن ذلك الواجب أهم من الحجّ (*) ، لأن العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب ، وأما لو حصلت الاستطاعة أوّلاً ثمّ حصل واجب فوري آخر لا يمكن الجمع بينه وبين الحجّ يكون من باب المزاحمة فيقدم الأهم منهما ، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدم على الحجّ ، وحينئذ فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب الحجّ فيه ، وإلّا فلا إلّا أن يكون الحجّ قد استقر عليه سابقاً فإنه يجب عليه ولو متسكعاً.

______________________________________________________

المقام الثاني : فيما إذا تزاحم الحجّ مع واجب مطلق فوري ، ذكر (قدس سره) أنه إذا كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة ولم يمكن الجمع بينه وبين الحجّ ثمّ حصلت الاستطاعة يقدم ذلك الواجب وإن لم يكن أهم من الحجّ ، لأن العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب ، وأما لو حصلت الاستطاعة أوّلاً ثمّ حصل واجب فوري آخر لا يمكن الجمع بينهما يكون من باب المزاحمة فيقدم الأهم منهما.

أقول : بناء على ما سلكه من أخذ القدرة الشرعية في الحجّ لا أثر للتقدم الزماني في المزاحمة وعدمها ، لأن الواجب المتقدم كما يدفع موضوع وجوب الحجّ فكذا الواجب المتأخر يرفع موضوع وجوب الحجّ ، إذ لا فرق بين الدفع والرفع وفي انتفاء الموضوع حدوثاً أو بقاء ، فالتفصيل بين سبق الواجب على الاستطاعة وتأخره في غير محله. نعم ، على مسلكنا يقع التزاحم ويقدم الأهم كما عرفت تفصيل ذلك.

__________________

(*) هذا إذا كانا متساويين ، وأما إذا كان الحجّ أهم فيجب الحجّ ويقدم على غيره.

١٢٣

[٣٠٣٠] مسألة ٣٣ : النذر المعلق على أمر قسمان : تارة يكون التعليق على وجه الشرطية كما إذا قال : «إن جاء مسافري فلله عليّ أن أزور الحسين (عليه السلام) في عرفة» ، وتارة يكون على نحو الواجب المعلق ، كأن يقول : «لله عليّ أن أزور الحسين (عليه السلام) في عرفة عند مجي‌ء مسافري» ، فعلى الأوّل يجب الحجّ إذا حصلت الاستطاعة قبل مجي‌ء مسافرة ، وعلى الثاني لا يجب (*) ، فيكون حكمه حكم النذر المنجز في أنه لو حصلت الاستطاعة وكان العمل بالنذر منافياً لها لم يجب الحجّ سواء حصل المعلق عليه قبلها أو بعدها ، وكذا لو حصلا معاً لا يجب الحجّ من دون فرق بين الصورتين ، والسر في ذلك أن وجوب الحجّ مشروط والنذر مطلق (**) فوجوبه يمنع من تحقق الاستطاعة (١).

______________________________________________________

(١) ذكر (قدس سره) أن النذر المعلق على شي‌ء تارة يكون على نحو الواجب المعلق ، وأُخرى على نحو الواجب المشروط.

فإن كان على نحو التعليق يقدم النذر على الحجّ مطلقاً ، سواء حصلت الاستطاعة قبل مجي‌ء المعلق عليه أو بعده ، لأن وجوب النذر فعلي وأسبق من وجوب الحجّ والعبرة بالأسبق زماناً ، مثلاً لو نذر أن يزور الحسين (عليه السلام) في عرفة عند مجي‌ء مسافرة ، وحصلت الاستطاعة قبل مجي‌ء المسافر يقدم النذر ، وحاله حال النذر المنجز في أنه لو حصلت الاستطاعة وكان العمل بالنذر منافياً لها لم يجب الحجّ ، وكذا لو حصلا معاً لا يجب الحجّ ، لأنّ وجوب النذر الفعلي يمنع من تحقق الاستطاعة ، وأما إذا كان التعليق على نحو الشرطية يجب الحجّ إذا حصلت الاستطاعة ، قبل مجي‌ء مسافرة وذلك لعدم الوجوب الفعلي للنذر ، لأنّ الوجوب في الواجب المشروط متأخر وإنما الإنشاء فعلي ، فحينئذ لا مانع من فعلية وجوب الحجّ.

أقول : قد ذكرنا في بحث الأُصول أن الواجب المعلق وإن كان أمراً معقولاً ولكنه

__________________

(*) بل الأظهر الوجوب فيه وفيما بعده.

(**) بل الأمر بالعكس على ما بيناه في محله.

١٢٤

[٣٠٣١] مسألة ٣٤ : إذا لم يكن له زاد وراحلة ولكن قيل له : حجّ وعليّ نفقتك ونفقة عيالك وجب عليه ، وكذا لو قال : حجّ بهذا المال وكان كافياً له ذهاباً وإياباً ولعياله ، فتحصل الاستطاعة ببذل النفقة كما تحصل بملكها من غير فرق بين أن يبيحها له أو يملِّكها إيّاه ، ولا بين أن يبذل عينها أو ثمنها ، ولا بين أن يكون البذل واجباً عليه بنذر أو يمين أو نحوهما أو لا ، ولا بين كون الباذل موثوقاً به أو لا على الأقوى ، والقول بالاختصاص بصورة التمليك ضعيف (١)

______________________________________________________

يرجع إلى الواجب المشروط غاية الأمر أنه مشروط بالشرط المتأخر (١) ، فعلى ما سلكه المصنف (قدس سره) من أخذ القدرة الشرعية في الحجّ لا بدّ من التفصيل بين الشرط المقارن والمتأخر ، فإن كان الشرط مثل مجي‌ء المسافر أُخذ شرطاً مقارناً وكانت الاستطاعة قبل حصول الشرط وجب الحجّ ، وإن كان الشرط أُخذ شرطاً متأخراً وكان وجوب الوفاء بالنذر فعلياً سقط وجوب الحجّ وإن كانت الاستطاعة قبل حصول الشرط ، لأنّ وجوب الوفاء بالنذر أسبق من الاستطاعة ، فلا فرق بين الواجب التعليقي والمشروط بالشرط المتأخر ، والعبرة في سقوط الحجّ إنما هي بتقدّم وجوب الوفاء بالنذر على الاستطاعة.

وأمّا على ما سلكناه فلا فرق بين جميع الأقسام ، ويقدم الحجّ لكونه مطلقاً لم يعتبر فيه سوى الاستطاعة المفسرة بالزاد والراحلة ، بخلاف النذر فإنه مشروط بعدم كونه محلِّلاً للحرام ومحرِّماً للحلال ، وأن يكون قابلاً للإضافة إليه تعالى فينحل النذر.

(١) في هذه المسألة أُمور :

الأوّل : لا خلاف بين الأصحاب في وجوب الحجّ بالبذل سواء قيل له : حجّ وعليّ نفقتك ، أو أعطاه المال ليحج به ، فإذا رفض ولم يأت بالحج استقر عليه الحجّ ، وقد ادعي عليه الإجماع ، وتدل عليه عدة من الروايات المعتبرة.

منها : صحيحة العلاء على ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد قال : «سألت أبا

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٤٨.

١٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال : يكون له ما يحج به ، قلت : فمن عرض عليه فاستحيى؟ قال : هو ممّن يستطيع» (١).

نقل صاحب الوسائل هذه الرواية عن الصدوق (٢) ثمّ قال : وزاد الصدوق «قلت : فمن عرض عليه فاستحيى إلخ» ، ولكن هذه الزيادة موجودة في رواية الشيخ (٣) عن محمّد بن مسلم أيضاً ، وليست مختصّة برواية الصدوق.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم على ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن القاسم ابن معاوية بن وهب عن صفوان عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ قال : هو ممن يستطيع الحجّ ولِمَ يستحيى ولو على حمار أجدع أبتر ، قال : فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل» (٤).

تنبيه حول سند هذه الصحيحة : روى صاحب الوسائل هذه الرواية بهذا السند ولكن الموجود في نسخ التهذيب المتدوالة الموجودة عندنا موسى بن القاسم عن معاوية بن وهب عن صفوان (٥) ولعلّ نسخة التهذيب الموجودة عند صاحب الوسائل كانت مطابقة لما في الوسائل ، والصحيح ما أثبته في الوسائل ونسخة التهذيب مغلوطة وذلك فإن موسى بن القاسم وإن كان قد يروي عن جده معاوية بن وهب أحياناً وقد صرح في بعض الروايات برواية موسى بن القاسم عن جدِّه معاوية بن وهب ولكن في هذا السند لا يمكن أن يروي عن جده معاوية بن وهب ، لأنّ معاوية بن وهب في هذا السند روى عن صفوان ، وروايته عنه غير ممكنة عادة لأن معاوية بن وهب أقدم طبقة من صفوان لكونه من أصحاب الصادق (عليه السلام) وصفوان من

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨ ح ٢.

(٢) التوحيد : ٣٤٩ / ١٠.

(٣) التهذيب ٥ : ٣ / ٤.

(٤) الوسائل ١١ : ٣٩ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ١.

(٥) التهذيب ٥ : ٣ / ٤.

١٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أصحاب الكاظم والرضا (عليهما السلام) ، وكيف يمكن رواية من كان من أصحاب الصادق (عليه السلام) عن أصحاب الكاظم والرضا (عليهما السلام) فالثابت في السند كما في الوسائل ، فإنّ رواية موسى بن القاسم عن صفوان كثيرة جدّاً.

ومنها : صحيح الحلبي في حديث قال «قلت له فإن عرض عليه ما يحج به فاستحيى من ذلك أهو ممن يستطيع إليه سبيلاً؟ قال : نعم ، ما شأنه يستحي ولو يحج على حمار أجدع أبتر» (١).

ومنها : صحيح معاوية بن عمار في حديث «قال : فإن كان دعاه قوم أن يحجوه فاستحيى فلم يفعل ، فإنه لا يسعه إلّا أن يخرج ولو على حمار أجدع أبتر» (٢).

وربما يقال : لا مجال للعمل بكثير من هذه الروايات لعدم إمكان العمل بها والالتزام بمضمونها ، لأنها تدل على وجوب الحجّ بالبذل وإن استلزم العسر والحرج وكان مخالفاً لشأنه وشرفه بالركوب على حمار أجدع أبتر وأن يمشي بعضاً ويركب بعضاً ، والمتسالم عندهم عدم وجوب الحجّ ولو بالبذل في الفرض المزبور.

وفيه : ما أشرنا إليه سابقاً ، أن هذه الأخبار ولو بقرينة الصحيحة الأخيرة محمولة على من استقر عليه الحجّ بالبذل وأنه ليس له رفض البذل ولا يسعه ذلك ، وإذا رفض واستحيا يستقر عليه الحجّ وعليه أن يحج ولو متسكعاً. وبالجملة الأمر بتحمل العسر والمشقة في هذه الروايات بعد ما استطاع بالبذل واستحيا ولم يقبل وترك الحجّ ، فإنه يستقر عليه الحجّ حينئذ ، وليس المراد من النصوص وجوب الحجّ عليه وإن بذل له حمار أجدع أبتر يستحيي أن يركبه.

ويمكن أن يستدل لكفاية الاستطاعة البذلية بنفس الآية الشريفة (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٣) فإن الظاهر منها كفاية مطلق الاستطاعة والقدرة إلّا أن الروايات فسرتها بأنها ليست هي القدرة الفعلية بل هي قدرة خاصة

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحج ب ١٠ ح ٥.

(٢) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب بالحج ب ١٠ ح ٣.

(٣) آل عمران ٣ : ٩٧.

١٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كالتمكّن من الزاد والراحلة مع تخلية السرب وصحّة البدن ، فإطلاق الآية يشمل الاستطاعة البذلية ، لصدق الاستطاعة المفسرة على البذل أيضاً.

وربما يناقش في الاستدلال بالآية بأن الاستطاعة المذكورة فيها وإن كانت في نفسها صادقة على البذل ، ولكن الروايات فسرتها بملكية الزاد والراحلة ، لظهور اللّام في قوله (عليه السلام) : «له زاد وراحلة» في الملكية ، وبعض الروايات وإن كان مطلقاً ولكن وجب تقييده بما دل على الملكية ، فلا تشمل البذل وإباحة الزاد والراحلة.

وفيه : أوّلاً : ما عرفت من أنه لا موجب لحمل المطلق على المقيد وتقييد إطلاق ما يحج به بالملكية ، لعدم التنافي بين حصول الاستطاعة بالملكية وحصولها بالإباحة والبذل كما يقتضيه إطلاق قوله : «ما يحجّ به» ، أو «عنده ما يحجّ به» ، وإنما يحمل المطلق على المقيّد للتنافي بينهما كما إذا وردا في متعلقات الأحكام بعد إحراز وحدة المطلوب ، وأمّا مجرّد المخالفة في الموضوع من حيث السعة والضيق فلا يوجب التقييد فلا منافاة بين حصول الاستطاعة بالملك وحصولها بالإباحة والبذل.

وثانياً : أن الروايات المفسرة للآية مختلفة ، ففي بعضها عبر بمن له زاد وراحلة الظاهر في الملكية ، وفي بعضها ورد ما يحج به أو عنده ما يحجّ به ، أو يجد ما يحج به الظاهر في الأعم من الملك والإباحة (١) فيقع التعارض في الروايات المفسرة والمرجع إطلاق الآية ، والقدر المتيقن في الخروج عن إطلاقها من لا مال له ولا بذل له ، وهذا ممّن لا يجب عليه الحجّ قطعاً وإن كان قادراً عليه بالقدرة العقلية ، ويبقى الباقي وهو من أُبيح له المال للحج مشمولاً للآية.

وثالثاً : أن حرف اللام لا تدل على الملكية وإنما تدل على الاختصاص وهو أعم من الملكية كما في قوله تعالى (لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) (٢).

وبالجملة : نفس الآية الشريفة متكفلة لوجوب الحجّ بالبذل ، والروايات لا تخالف ذلك ، خصوصاً صحيحة معاوية بن عمّار الظاهرة بل الصريحة في كفاية البذل على

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨.

(٢) الروم ٣٠ : ٤.

١٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وجه الإباحة كما هو الحال في الضيف ، فلا ينبغي الريب في ثبوت الاستطاعة بالبذل والإباحة.

الأمر الثاني : الظاهر ثبوت الاستطاعة بمطلق البذل ، ولا يعتبر فيه قيد وشرط آخر لظاهر الروايات. ونسب إلى بعضهم اعتبار كون البذل على وجه التمليك فلا يكفي مجرد الإباحة وجواز التصرف ، ولم يعلم وجهه فإن إطلاق النصوص يدفعه ، بل الإباحة أظهر دخولاً في إطلاق الروايات من التمليك ، فإن قوله : «فان عرض عليه الحجّ» أو قوله : «دعاه قوم أن يحجوه» (١) ظاهر في خصوص الإباحة.

ونسب إلى بعضهم القول باختصاص البذل بما إذا كان البذل واجباً عليه بنذر أو يمين ونحو ذلك ، فلو كان البذل غير واجب لا يجب الحجّ على المبذول له كما عن العلامة (قدس سره) معللاً بأنه لا يمكن تعليق الواجب على غير الواجب (٢).

ولعله (قدس سره) أراد معنى لم يظهر لنا واقعة ، وإلّا فهذا الكلام لا ينبغي صدوره من مثل العلّامة (قدس سره) وهو أجل شأناً من هذا الكلام.

وكيف يمكن القول بعدم جواز تعليق الواجب على غير الواجب ، فإن تعليق الواجب على غير الواجب في الأحكام كثير جدّاً ، فإن وجوب القصر معلق على السفر المباح ، ووجوب التمام معلق على الإقامة حتى المباحة ، وكذا وجوب الصوم معلق على الإقامة ، ووجوب الإنفاق على الزوجة معلق على النكاح الجائز في نفسه وهكذا وهكذا ، بل دخول غير الواجب في موضوع الروايات أظهر لأن البذل غير الواجب أكثر وأغلب من البذل الواجب.

وأمّا اعتبار الوثوق في استمرار البذل ، فلم يعرف وجهه أيضاً وحال البذل حال المال الموجود الموجب للاستطاعة ، ولا يعتبر الوثوق بالبقاء في المال فهكذا في البذل لعدم الفرق بين البابين من هذه الجهة ، فلو شك في تلف المال أو ظن به لا يسقط الواجب ولا يوجب ذلك رفع اليد عن الواجب ، وكذلك الحال في البذل. نعم ، لو

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٣.

(٢) التذكرة ٧ : ٦٢.

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتقد عدم الاستمرار أو كان واثقاً به لا يجب الحجّ ، لأنّ مرجع ذلك إلى عدم تحقق البذل وعدم عرض الحجّ عليه ، ويكون وعده حينئذ مجرد كلام وصورة للبذل ولا واقع له كالمال الموجود الذي يعلم بتلفه فإنه لا يجب الحجّ حينئذ من أوّل الأمر.

والحاصل : أنه لا فرق بين البذل والمال الموجود في حصول الاستطاعة بهما ، ولا يعتبر الوثوق بالبقاء فيهما ، فكلا الأمرين من هذه الجهة من باب واحد.

الثالث : لا فرق في حصول الاستطاعة بالبذل بين بذل نفس المال أو بذل بدله لصدق عرض الحرج على ذلك ، فما عن بعضهم من اشتراط بذل عين الزاد والراحلة ولو بذل أثمانهما لم يجب عليه القبول ، ممّا لا وجه له أصلاً.

الرابع : لو كان له بعض النفقة فبذل له البقية والمتمم يجب عليه القبول أيضاً لصدق الاستطاعة بذلك ، لأن الاستطاعة لا تنحصر ببذل تمام النفقة ، بل لو بذل له المتمم يصدق أن عنده ما يحج به أو يجد ما يحج به ، هذا مضافاً إلى الارتكاز العقلائي ، بيانه : أن الحجّ يجب بالاستطاعة المالية وكذلك يجب بالاستطاعة البذلية ، فيجب الحجّ بالجامع بين المال الموجود الوافي للحج وبين البذل الوافي للحج ، والعبرة بتحقق الجامع ، ولا فرق في وجود الجامع بين وجوده في ضمن كل فرد مستقلا أو منضماً فإن الميزان وجود الجامع ، ولا إشكال في تحققه بوجوده في كل فرد بالاستقلال أو بضم بعض الفردين بالفرد الآخر.

الخامس : هل تعتبر نفقة العود في الاستطاعة البذلية أم لا؟ اختار المصنف اعتبارها ، فلو بذل له نفقة الذهاب فقط ولم يكن عنده نفقة العود لم يجب عليه الحجّ.

وما ذكره (قدس سره) على إطلاقه غير تام ، بل يجري فيه جميع ما تقدم في الاستطاعة المالية ، ولا خصوصية للبذل فإن البذل محقق للاستطاعة ، فإن استلزم عدم العود الحرج يعتبر بذل نفقة العود ، وإن كان بقاؤه في مكّة أو ذهابه إلى بلد آخر غير حرجي فلا تعتبر نفقة العود ، فالميزان هو الحرج وعدمه ، وحال نفقة العود في المقام كنفقة العود في الاستطاعة المالية.

ودعوى أن أدلّة البذل منصرفة عما لم يبذل نفقة العود والإياب ، لا شاهد عليها وعهدتها على مدعيها.

١٣٠

كالقول بالاختصاص بما إذا وجب عليه أو بأحد الأمرين من التمليك أو الوجوب. وكذا القول بالاختصاص بما إذا كان موثوقاً به ، كل ذلك لصدق الاستطاعة وإطلاق المستفيضة من الأخبار ، ولو كان له بعض النفقة فبذل له البقية وجب أيضاً ، ولو بذل له نفقة الذهاب فقط ولم يكن عنده نفقة العود لم يجب (*) وكذا لو لم يبذل نفقة عياله إلّا إذا كان عنده ما يكفيهم إلى أن يعود أو كان لا يتمكن من نفقتهم مع ترك الحجّ أيضاً.

[٣٠٣٢] مسألة ٣٥ : لا يمنع الدّين من الوجوب في الاستطاعة البذلية (١) نعم لو كان حالّا وكان الديّان مطالباً مع فرض تمكنه من أدائه لو لم يحج ولو تدريجاً ففي كونه مانعاً أو لا وجهان (٢) (**).

______________________________________________________

السادس : هل يعتبر نفقة العيال في الاستطاعة البذلية أم لا؟ ذكر المصنف أنه لو لم يبذل نفقة العيال لم يجب الحجّ ، ولا يخفى أن نصوص البذل غير متعرضة لنفقة العيال فلا بدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة ، فإن كان الإنفاق واجباً والسفر يمنعه من الإنفاق ، يدخل المقام في باب التزاحم ويقدم الأهم ، ولا يبعد أن يكون الإنفاق على العيال أهم لأنه من حقوق الناس. نعم ، إذا لم يتمكن من الإنفاق عليهم أصلاً حتى مع عدم السفر بحيث يكون الإنفاق متعذراً عليه حجّ أو لم يحج يقدم الحجّ بلا إشكال لعدم المزاحمة حينئذ ، وإذا لم يكن الإنفاق واجباً ولكن كان عدم الإنفاق حرجياً له لا يجب الحجّ لنفي الحرج.

(١) وجهه ظاهر ، لأن المفروض أنه لا يصرف مالاً حتى يمنعه الدّين ، وإنما يحجّ ويسافر مجاناً.

(٢) الظاهر عدم الفرق بين أقسام الدّين والعبرة بالمزاحمة ، فلو علم أنه لو حجّ

__________________

(*) الحال فيه هو الحال في الاستطاعة المالية.

(**) الأظهر هو الأوّل ، وكذا الحال في غيره إذا كان السفر إلى الحجّ منافياً لأدائه.

١٣١

[٣٠٣٣] مسألة ٣٦ : لا يشترط الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة البذليّة (١).

______________________________________________________

لا يتمكّن من أداء دينه أصلاً يسقط وجوب الحجّ ، سواء كان الدّين مؤجّلاً أو حالاً مطالباً ، لوجوب حفظ القدرة لأداء مال الغير ، ولو علم بالتمكن من الأداء بعد الرجوع فلا يكون الدّين مانعاً.

وبالجملة : العبرة بالتزاحم ولا يختص المنع عن الحجّ بما ذكره من كون الدّين حالاً مطالباً ، بل لو كان مؤجلاً وكان السفر منافياً لأدائه يتقدم الدّين ، فلو علم أنه لو لم يحج وبقي في بلده تمكن من أداء دينه في وقته دفعة أو تدريجاً ، وأمّا إذا حجّ لا يتمكّن من الأداء حتى تدريجاً ، يسقط وجوب الحجّ للزوم التحفظ على القدرة للأداء.

(١) سيجي‌ء البحث في اعتبار الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة المالية وستعرف إن شاء الله تعالى أن عمدة الدليل على اعتباره نفي الحرج ، وأما رواية أبي الربيع الشامي الآتية (١) فموردها الاستطاعة المالية ، لقوله : «هلك الناس إذن إذا كانت الاستطاعة بمجرد الزاد والراحلة ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفه ، فقيل له : فما السبيل؟ فقال : السعة في المال إذا كان يحج ببعض ويبقى بعضاً لقوت عياله» ، فإن الظاهر من الرواية صدراً وذيلاً كون موردها الاستطاعة المالية ، ولا إطلاق لها يشمل مورد الاستطاعة البذلية ، فلا بدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه نفي الحرج.

والحاصل : الظاهر عدم اعتبار الرجوع إلى الكفاية هنا ، لصدق الاستطاعة بمجرّد عرض الزاد والراحلة بدون الرجوع إلى كفاية. نعم ، لو فرضنا تحقق الحرج والوقوع في العسر إذا سافر للحج ولم يرجع إلى كفاية ، كما إذا كان كسبه منحصراً في أيام الحجّ وإذا سافر فيها اختل أمر مئونة سنته ومعاشه وإعاشة عائلته ووقع في الضيق في بقية أيام السنة ، فحينئذ يسقط وجوب الحجّ.

ولو كانت الاستطاعة ملفقة من المال والبذل ، كما لو كان له مال لا يفي بمصارف

__________________

(١) في ص ١٦٠.

١٣٢

[٣٠٣٤] مسألة ٣٧ : إذا وهبه ما يكفيه للحج لأن يحج وجب عليه القبول على الأقوى ، بل وكذا لو وهبه وخيّره (*) بين أن يحج به أو لا ، وأما لو وهبه ولم يذكر الحجّ لا تعييناً ولا تخييراً فالظاهر عدم وجوب القبول كما عن المشهور (١).

______________________________________________________

الحجّ وبذل له ما يتمم ذلك وجب عليه القبول ويجري عليها ما يجري على الاستطاعة المالية ، ويعتبر حينئذ الرجوع إلى الكفاية ، لأنّ المفروض أن له مالاً فيشمله قوله (عليه السلام) : «يحجّ ببعض ويبقى بعضاً لقوت عياله».

(١) لو وهب له المال ليحج به وجب عليه القبول ، لإطلاق دليل البذل وصدق العرض على ذلك ، ولا يختص العرض بالبذل والإباحة ، ولو ملّكه مالاً وخيّره بين الحجّ وغيره كزيارة الرضا (عليه السلام) ذكر المصنف (قدس سره) أنه يجب عليه القبول كالأوّل ، وأما لو وهبه ولم يذكر الحجّ لا تعييناً ولا تخييراً فلا يجب القبول.

أقول : ما ذكره من عدم وجوب القبول في الهبة المطلقة صحيح ، لأن الاستطاعة تحصل بأحد أمرين : إمّا أن يكون له مال يكفيه للحج أو يبذل له ذلك ، وشي‌ء من الأمرين غير صادق في المقام ، والقبول تحصيل للاستطاعة وهو غير واجب.

وأمّا القول بوجوب القبول على تقدير الهبة مع التخيير بين الحجّ وغيره فهو مبني على دعوى صدق الاستطاعة حينئذ ، فإن عرض شي‌ء آخر أيضاً لا يضر بصدق عرض الحجّ ، لأن عرض الحجّ غير مشروط بعدم عرض غيره ، إذ لا معنى لعرض الحجّ إلّا بذل مال يفي للحج ، والتعيين لا خصوصية له ، ولكن الظاهر عدم صحّة ذلك ، فإن التخيير يرجع إلى أن بذله للحج مشروط بعدم صرفه المبذول في جهة أُخرى ، أو الإبقاء عنده ، ولا يجب على المبذول له تحصيل الشرط ، وإن شئت قلت : إنّ موضوع الوجوب هو البذل للحج ، والهبة مع التخيير المزبور بذل للجامع بين الحجّ

__________________

(*) وللقول بعدم الوجوب وجه وجيه ، فإن التخيير يرجع إلى أن بذله للحج مشروط بعدم صرفه المبذول في جهة أُخرى أو الإبقاء عنده ، ولا يجب على المبذول له تحصيل الشرط.

١٣٣

[٣٠٣٥] مسألة ٣٨ : لو وقف شخص لمن يحج أو أوصى أو نذر كذلك فبذل المتولي أو الوصي أو الناذر له وجب عليه ، لصدق الاستطاعة بل إطلاق الأخبار وكذا لو أوصى له بما يكفيه للحج بشرط أن يحج فإنه يجب عليه بعد موت الموصي (١).

[٣٠٣٦] مسألة ٣٩ : لو أعطاه ما يكفيه للحج خمساً أو زكاة وشرط عليه أن يحجّ به فالظاهر الصحّة (*) ووجوب الحجّ عليه إذا كان فقيراً أو كانت الزكاة من سهم سبيل الله (٢) (**).

______________________________________________________

وغيره ، والبذل للجامع لا يكون بذلاً للحج ز بشخصه وإلّا وجب القبول في الهبة المطلقة أيضاً ، فإنّها لا تنفك عن التخيير في صرف الموهوب في الحجّ أو غيره.

(١) قد عرفت أن الاستطاعة تتحقق بأحد أمرين : إما بالاستطاعة المالية وإما بالبذلية ، فلو وقف شخص لمن يحج أو أوصى بمال لمن يحج أو نذر كذلك ، وبذل المتولي أو الوصي المال ، يصدق عنوان الاستطاعة وإن لم يكن الباذل مالكاً ، فإن إطلاق أخبار العرض والبذل يشمل المقام ولا تختص بما إذا كان الباذل مالكاً ، وكذلك يصدق عنوان الاستطاعة البذلية فيما لو أوصى له بما يكفيه للحج بشرط أن يحجّ فيجب عليه الحجّ بعد موت الموصي.

(٢) يقع الكلام في مقامين.

أحدهما في حصول الاستطاعة ووجوب الحجّ فيما إذا أعطاه من الزكاة أو الخمس بعنوان الفقر وشرط عليه الحجّ.

ثانيهما فيما إذا أعطاه الزكاة من سهم سبيل الله ليحج بها.

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

(**) تقدم الإشكال في جواز صرف الزكاة من سهم سبيل الله في غير الجهات العامة.

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أمّا الأوّل : فالظاهر عدم صحّة الشرط ، ويتوقف بيان ذلك على توضيح معنى الشرط وذكر الأقسام المتصوّرة له فنقول : إن الشرط في ضمن عقد ليس هو مجرّد الالتزام بشي‌ء المقارن للعقد ، وإنما هو أمر مربوط به ، والربط المتصور فيه على وجوه :

الأوّل : تعليق المنشأ بأمر متوقع الحصول ، كتعليق البيع على مجي‌ء مسافرة أو نزول المطر ، بمعنى أن المنشأ ليس هو التمليك على الإطلاق بل حصّة خاصّة منه وهو التمليك على تقدير مجي‌ء المسافر مثلاً ، وهذا هو التعليق الذي أجمعوا على بطلانه في جميع العقود والإيقاعات إلّا الوصية والتدبير.

الثاني : أن يعلق المنشأ على الالتزام بشي‌ء لا على نفس ذلك الشي‌ء ، كتعليق البيع على التزام المشتري بعمل كالخياطة مثلاً ، فالالتزام بها هو المعلق عليه لا نفس الخياطة ، ولا بأس بهذا التعليق لأنه تعليق على أمر حاصل معلوم الوجود ، فالالتزام من المشتري متحقق على الفرض فيكون نظير التعليق بكون هذا اليوم يوم الجمعة مع العلم بأنه يوم الجمعة وأمثال ذلك من الأُمور الحاصلة المعلومة ، والفرق بينه وبين الأوّل أنه في الأوّل يعلق المنشأ على أمر خارجي متوقع الحصول وفي الثاني يعلق المنشأ على الالتزام بأمر خارجي ، والالتزام من المشتري حاصل بالفعل ، ولا مانع من الشرط على النحو الثاني بل يجب الوفاء به عملاً بأدلّة وجوب الوفاء بالشرط كقوله (عليه السلام) : «المؤمنون عند شروطهم» (١) وهذا جار في جميع العقود ومنه باب النكاح ، فلو اشترطت الزوجة بأنّ حق السكنى لها أو اشترطت الإنفاق عليها بمقدار كذا ونحو ذلك من الشروط يجب عليه الوفاء ، فإن الشرط يرجع إلى تعليق الزوجية المنشأة على التزام الزوج بما اشترط عليه ، ولو قبل الزوج النكاح من دون التزامه بذلك بطل النكاح.

الثالث : أن يكون التزام البائع بالبيع معلقاً على الفعل الخارجي كالخياطة مثلاً

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ٢٧٦ / أبواب المهور ب ٢٠ ح ٤.

١٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لا نفس البيع والمنشأ ، فإن في البين أمرين : أحدهما إنشاء الملكية ونفس البيع ، ثانيهما الالتزام بذلك ، فالتعليق يرجع إلى الالتزام لا إلى المنشإ ، والشرط في هذه الصورة معناه أنه لو حصلت الخياطة خارجاً فهو ملتزم بالبيع وإلّا فلا ، ويرجع ذلك إلى جعل الخيار له عند التخلف ، وهذا يجري في كل عقد قابل للفسخ كالبيع والإجارة وأضرابهما ، وأما مثل النكاح فلا يؤثر هذا الشرط في فسخه ، لأن له رافعاً خاصاً كالطلاق وإن ذهب بعضهم إلى جريان ما ذكر حتى في مثل النكاح.

وبالجملة : الشرط الصحيح يتصور بأحد أمرين : إما تعليق المنشأ على الالتزام وإما تعليق الالتزام بالعقد على الأمر الخارجي ، وأما تعليق المنشأ على الأمر الخارجي فهو باطل بالإجماع ، هذا ما يرجع إلى الشرط والتعليق بحسب الكبرى.

وأما في المقام فلا يجري شي‌ء ممّا ذكر ، لأن التعليق لا معنى له في المقام أصلاً لعدم قابلية تعليق الفعل الخارجي كالاعطاء على شي‌ء ، وإنما التعليق يتصور في الأُمور الاعتبارية ، وأما الأُمور الخارجية التكوينية فغير قابلة للتعليق ، بل إما تقع وتحصل في الخارج وإما لا تقع ولا تحصل ، فهي تتصف بالوجود والعدم كالأكل والضرب والإعطاء ، فإن الأكل إما أن يتحقق في الخارج وإما لا يتحقق ، وهكذا الإعطاء الخارجي لا معنى لتعليقه ، ويرجع الإعطاء المشروط إلى مجرّد الالتزام المقارن له دون أن يرتبط أحدها بالآخر.

وأما الملكية الشرعية وإن كانت قابلة للتعليق ولكنها ليست بيد المكلف وإنما هي بيد الشارع ، فما هو تحت يده ليس قابلاً للتعليق كالاعطاء وما هو قابل للتعليق كالملكية الشرعية ليس بيد المكلف حتى يعلقه ، وأما تعليق الالتزام بالإعطاء على الحجّ فلا أثر له ، لأنّ ما كان لله ليس له الرجوع فيه ، وهذا النحو من التعليق والالتزام في إعطاء الزكاة ليس بيده ، لأنّ المفروض أن ما أعطاه حُسب زكاة أو خمساً وليس له الرجوع لو لم يحج ، فالتعليق في نفس العمل وهو الإعطاء أو التعليق في الالتزام كل منهما غير قابل في المقام. نعم ، يبقى الالتزام المقارن من المعطى له في صرف ما أخذه في الحجّ ، لكنّه لا يؤثر ذلك شيئاً ولا يجب على الفقير العمل به فإنه

١٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

يدخل في باب الوعد لا محالة. نعم ، إذا أخذ الزكاة أو الخمس واستطاع بذلك يجب عليه الحجّ إن لم يقع في الحرج.

وللتوضيح نزيد في البيان وإن استلزم التكرار في الجملة ولكن لا يخلو من فائدة فنقول : إن الشرط ليس هو مجرّد الالتزام الابتدائي المقارن للعقد ، وإنما هو مرتبط به نحو ارتباط والتزام في ضمن التزام ، وهو يرجع إلى أحد أمرين على سبيل منع الخلو : إما تعليق المنشأ على الالتزام وهو أمر حاصل بالفعل فيجب الوفاء به ، وإما تعليق الالتزام بالمنشإ على أمر خارجي الذي مرجعه إلى جعل الخيار لنفسه ، وأما تعليق نفس المنشأ على أمر خارجي فقد عرفت أنه باطل بالإجماع ، وقد يجتمع الأمران في مورد واحد وقد يفترقان.

أمّا مورد الاجتماع فهو ما لو باع داره واشترط على المشتري خياطة ثوبه مثلاً وقبل المشتري ذلك ، فإن المنشأ وهو بيع الدار معلق على التزام المشتري بالخياطة ويجب عليه الوفاء به ، وكذلك التزام البائع بالبيع معلق على الخياطة ، وأثره ثبوت الخيار للبائع إذا تخلف المشتري.

وأمّا مورد الافتراق ، فقد يكون التعليق بالنحو الأوّل من تعليق المنشأ على الالتزام كما في الإيقاعات والعقود التي لا تقبل الفسخ كالنكاح ، فإنه غير قابل للفسخ ولا يجري فيه الخيار ، لأنه دائمي لا يزول إلّا بمزيل ورافع خاص ، فإذا علق النكاح على شي‌ء يرجع التعليق فيه إلى تعليق المنشأ على التزام الآخر فيجبر على الوفاء به ، فالثابت ليس إلّا مجرد حكم تكليفي وهو وجوب الوفاء على المشروط عليه ولا يوجب تخلفه الخيار وجواز الفسخ ، خلافاً لصاحب الجواهر الذي مال أو التزم بجريان الخيار في النكاح أيضاً (١) وكذلك باب الإيقاعات كالإبراء والطلاق ، فإن الشرط فيها يرجع إلى تعليق المنشأ على الالتزام ويجب الوفاء به ، ولو لم يتحقّق الوفاء منه في الخارج عصياناً لا يضر ذلك بتحقق الإبراء أو الطلاق ، لأن الإبراء قد

__________________

(١) لاحظ الجواهر ٢٩ : ١٤٩ ، ٣٠ : ٣٦٦.

١٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

تحقق وهو غير قابل للعود ، غاية الأمر يجب على المبرإ الوفاء بما اشترط عليه ، وقد ينعكس الأمر بمعنى أن الشرط يرجع إلى تعليق الالتزام لا المنشأ ، وأثره جعل الخيار لنفسه عند التخلّف ، كالتعليق على الأُمور الخارجة عن تحت الاختيار ، نظير التعليق على كون العبد كاتباً أو كون الفراش منسوجاً بنسج البلد الفلاني وأمثال ذلك.

ثمّ إن جميع ما ذكرنا إنما يجري في الأُمور القابلة للتعليق كالامور الاعتبارية ، وأما التكوينية فهي غير قابلة للتقييد ، لأنّ التقييد إنما يصح في مورد الإطلاق والسعة والأمر الخارجي التكويني في نفسه مضيق وغير قابل لعروض التقييد عليه ، نظير الائتمام الخارجي بالإمام الحاضر ، فإن الائتمام قد حصل وتحقق خارجاً سواء كان الإمام زيداً أو عمراً وإنما الدواعي تختلف باختلاف الموارد.

وبالجملة : الأُمور التكوينية الخارجية تتصف بالوجود والعدم ولا يجري فيها التعليق ، ولا معنى لأن يقال : إن الائتمام الخارجي معلق على كون الإمام زيداً أو أن الأكل الخارجي معلق على أن يكون المأكول ملك نفسه ، فإن الائتمام والأكل قد تحققا خارجاً على كل تقدير. وأما المقام الذي وجب عليه الخمس أو الزكاة فإنما يجب عليه الإعطاء والأداء والإيتاء ، والذي تحت اختياره ليس إلّا الإعطاء الخارجي وهذا غير قابل للتعليق ، وأما الملكية الشرعية فليست تحت يده واختياره وإنما هي بيد الشارع.

وبعبارة اخرى : إنما يجب على الشخص تفريغ ذمته من الزكاة إما بالعزل أو بنفس الإعطاء الخارجي ، والفعل الخارجي الصادر منه كالأداء والإعطاء غير قابل للتقييد والتعليق ، وأمّا التزامه بذلك فغير قابل للتعليق أيضاً ، لأنّ مرجعه إلى جعل الخيار وجواز الاسترداد ، وما أعطاه من الزكاة غير قابل للرجوع ، لأنّ ما كان لله لا يرجع كما في النص (١) فمرجع هذا الشرط إلى الالتزام المقارن للإعطاء وهو غير واجب الوفاء به ، ولا يصدق عليه عرض الحجّ وبذله.

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٢٣١ / أبواب الهبات ب ٣ ح ١ ، ٢ وب ٦ ح ٣.

١٣٨

[٣٠٣٧] مسألة ٤٠ : الحجّ البذلي مجزئ عن حجّة الإسلام ، فلا يجب عليه إذا استطاع مالاً بعد ذلك على الأقوى (١).

______________________________________________________

ولو تنزّلنا عن جميع ذلك وفرضنا إمكان التعليق في المقام ، لكن ليس لمن عليه الزكاة أو الخمس هذا الاشتراط لعدم الولاية له على ذلك ، وإنما الثابت في حقِّه لزوم الإعطاء وإبراء ذمته من الدّين بأدائه إلى مستحقه. نعم ، له حق التطبيق في الأداء إلى مستحقه ، وله أن يختار خصوص الفقير الفلاني أو السيد الفلاني ولم تثبت له الولاية بأزيد من ذلك ، ولو صح ذلك لجاز له أن يشترط على المستحق أُموراً أُخر فيعطي خُمسه أو زكاته للمستحق ويشترط عليه خياطة ثوبه وزيارة الحسين (عليه السلام) أو يصلِّي أو يصوم عن والده ونحو ذلك وهذا ضروري البطلان. هذا تمام الكلام في إعطاء الزكاة من باب الفقر.

المقام الثاني : إعطاء الزكاة له من سهم سبيل الله للحج. لا ينبغي الشك في أنه إذا أعطى الزكاة لشخص غير مستطيع من سهم سبيل الله ليحج بها وقلنا بجواز ذلك مطلقاً أو في خصوص ما كانت فيه مصلحة عامة على الكلام المتقدم في بحث الزكاة وجب على المعطى له قبولها وصرفها في الحجّ لأنه يكون بذلك مستطيعاً ، ولكن تقدّم الإشكال في جواز صرفها في غير ما كانت فيه مصلحة عامّة فراجع.

(١) المشهور والمعروف بين الأصحاب إجزاء الحجّ البذلي عن حجّة الإسلام ولا يحب عليه الحجّ ثانياً إذا استطاع مالاً بعد ذلك ، خلافاً للشيخ في الاستبصار فأوجبه ثانياً إذا أيسر بعد ذلك (١) واستدل بصحيح الفضل بن عبد الملك البقباق لقوله (عليه السلام) : «وإن أيسر فليحجّ» (٢) ونحوه خبر أبي بصير : «فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحجّ» (٣) ولكنّه ضعيف بعلي بن أبي حمزة البطائني.

__________________

(١) الاستبصار ٢ : ١٤٣ / ٤٦٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٤١ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٦.

(٣) الوسائل ١١ : ٥٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢١ ح ٥.

١٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وذكر الشيخ في الاستبصار أن صحيح معاوية الدال على الصحة وأنها حجّة تامة لا ينافي صحيح الفضل الدال على الوجوب إذا أيسر واستطاع ، لأنّ صحيح معاوية أخبر أن ما حجّه بالبذل صحيح ويستحق بفعلها الثواب وهذا مما لا كلام ولا خلاف فيه ، بل ذكر (قدس سره) أن الوجوب إذا أيسر مطابق للأُصول الصحيحة التي تدل عليها الدلائل والأخبار (١) وفي التهذيب (٢) عكس الأمر فإنه ذكر صحيح معاوية بن عمار (٣) الذي هو صريح في الإجزاء ثمّ ذكر صحيح الفضل وقال (قدس سره) : إنه محمول على الاستحباب.

ولا ريب أن ما ذكره في الاستبصار ضعيف ، لأن الحكم المستفاد من صحيح معاوية إن كان مقتصراً على الصحة فلا ينافي وجوب الحجّ ثانياً ، ولكن المستفاد منه صريحاً الإجزاء عن حجّة الإسلام لقوله : «هل يجزئ ذلك عنه عن حجّة الإسلام أم هي ناقصة؟ قال : بل هي حجّة تامة» ولو كان واجباً ثانياً لكان واجباً بوجوب آخر ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به ، لأنّ حجّ الإسلام في العمر مرّة واحدة كما صرح بذلك في صحيح هشام بن سالم : «وكلفهم حجّة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك» (٤) ، فما ذكره في التهذيب من حمل صحيح البقباق على الندب هو الصحيح. ويؤيده أو يؤكده التصريح في بعض الروايات بعدم الوجوب مرة ثانية كصحيح جميل ابن دراج : «في رجل ليس له مال حجّ عن رجل أو أحجّه غيره ثمّ أصاب مالاً ، هل عليه الحجّ فقال : يجزئ عنهما جميعاً» (٥) ، ويحتمل عود الضمير في قوله «عنهما» إلى ما أتى به من الحجّ وإلى ما لم يأت به ، بمعنى أن ما حجّة يجزئ ويكون صحيحاً ويجزئ أيضاً عن الحجّ إذا استطاع وأيسر ، أي لا يجب عليه الحجّ ثانياً إذا أيسر ، ويحتمل

__________________

(١) الاستبصار ٢ : ١٤٣ / ٤٦٨.

(٢) التهذيب ٥ : ٧ / ١٧.

(٣) الوسائل ١١ : ٤٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٠ ح ٢.

(٤) الوسائل ١١ : ١٩ / أبواب وجوب الحجّ ب ٣ ح ١.

(٥) الوسائل ١١ : ٥٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢١ ح ٦.

١٤٠