موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: نينوى
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6084-13-3
الصفحات: ٣٩٥

[٣٠١٩] مسألة ٢٢ : لو كان بيده مقدار نفقة الذهاب والإياب وكان له مال غائب لو كان باقياً يكفيه في رواج أمره بعد العود لكن لا يعلم بقاءه أو عدم بقائه ، فالظاهر وجوب الحجّ بهذا الذي بيده استصحاباً لبقاء الغائب (*) ، فهو كما لو شك في أن أمواله الحاضرة تبقى إلى ما بعد العود أو لا ، فلا يعد من الأصل المثبت (١).

______________________________________________________

وبالجملة : له التخلص من الزكاة إما بإخراج الزكاة من المال بالنسبة ، وإما بتخليص الفضة وتصفيتها ، على أن موردها العلم والشك في المقدار ، لقوله فيها : «وإن كنت لا أعلم ما فيها من الفضة الخالصة إلّا أنِّي أعلم أنّ فيها ما يجب فيه الزكاة ، قال (عليه السلام) : فاسبكها حتى تخلص الفضة ويحترق الخبيث ثمّ تزكي ما خلص من الفضة» ولا يشمل المورد الذي يشك في أصل الوجود كما في المقام ، هذا مع أنه لا موجب للتعدِّي من مورد الرواية إلى غيره.

(١) إذا كان له ما يحج به ذهاباً وإياباً من الزاد والراحلة ، وكان له مال لإمرار معاشه ورواج أمره بعد العود والرجوع ، لكن لا يعلم بقاءه ويحتمل تلفه ، ذكر (قدس سره) أنه لا يسقط وجوب الحجّ بمجرد احتمال تلف المال الذي يحتاج إليه في العود لاستصحاب بقاء المال وعدم تلفه.

والأمر كما ذكره من عدم سقوط الحجّ ، لكن لا لما ذكره من التعليل بالاستصحاب فإنّ التعليل عليل والأصل مثبت ، لأن مجرى الاستصحاب لا بدّ من أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا حكم شرعي ، وبقاء المال إلى زمان العود ليس بحكم شرعي ولا بموضوع لذي حكم شرعي ، فإن الموضوع للحكم الشرعي هو الرجوع إلى الكفاية ، واستصحاب بقاء المال إلى زمان العود لا يثبت هذا الموضوع إلّا على الأصل المثبت ، بل الوجه في وجوب الحجّ وعدم سقوطه إطلاق الروايات الدالّة على تحقق

__________________

(*) الحكم وإن كان كما ذكره لكن التعليل عليل فإن الأصل مثبت.

١٠١

[٣٠٢٠] مسألة ٢٣ : إذا حصل عنده مقدار ما يكفيه للحج يجوز له (*) قبل أن يتمكن من المسير أن يتصرف فيه بما يخرجه عن الاستطاعة ، وأما بعد التمكن منه فلا يجوز وإن كان قبل خروج الرفقة (١) ، ولو تصرّف بما يخرجه عنها بقيت ذمّته مشغولة به ، والظاهر صحّة التصرّف مثل الهبة والعتق وإن كان فعل حراماً ، لأنّ النهي متعلق بأمر خارج ، نعم لو كان قصده في ذلك التصرّف الفرار من الحجّ لا لغرض شرعي أمكن أن يقال بعدم الصحة (**). والظاهر أنّ المناط في عدم جواز التصرّف المخرج هو التمكن من تلك السنة ، فلو لم يتمكن فيها ولكن يتمكّن في السنة الأُخرى (***) لم يمنع عن جواز التصرّف ، فلا يجب إبقاء المال إلى العام القابل إذا كان له مانع في هذه السنة ، فليس حاله حال من يكون بلده بعيداً عن مكّة بمسافة سنتين.

______________________________________________________

الاستطاعة بالزاد والراحلة ، والمفروض وجود الزاد والراحلة عنده وتحقق الاستطاعة بالمعنى الشرعي المفسر في النصوص ، ولم يؤخذ الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة في شي‌ء من الأدلة ، وإنما اعتبرنا ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى بدليل نفي الحرج مؤيداً ببعض الروايات الضعيفة. ومجرد احتمال الوقوع في الحرج لا ينافي صدق الاستطاعة بالفعل ولا يوجب سقوط الحجّ ، بل لا بدّ من إحرازه في سقوط الحجّ. وهذا نظير احتمال سرقة أمواله في طريق الحجّ ، فانّ مجرّد الاحتمال لا أثر له في سقوط الحجّ.

(١) لا ينبغي الريب في عدم جواز تعجيز نفسه بعد وجوب الحجّ بشرائطه وحدوده وإن كان الواجب متأخراً ، لأن الميزان في عدم جواز تعجيز النفس عن

__________________

(*) الظاهر عدم جوازه.

(**) بل الأقوى الصحة في هذا الفرض أيضاً.

(***) الظاهر عدم الفرق بين الموردين فيجب في هذا الفرض أيضاً إبقاء المال إلى العام المقبل ولا يجوز له تفويته.

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إتيان الواجب وعدم جواز تفويت الملاك ، هو تنجيز الوجوب وفعليته وإن كان زمان الواجب متأخراً ، فيقع الكلام في المقام تارة في الحكم التكليفي وأُخرى في الوضعي وثالثة في عدم اختصاص عدم جواز التعجيز بهذه السنة وشموله للسنة الآتية.

أمّا التكليفي فقد عرفت أنه لا يجوز له التعجيز والتفويت بعد التنجيز وإن كان الواجب متأخراً ، لأن الميزان في تقبيح العقل للتفويت والتعجيز هو فعلية الوجوب وتنجيزه ، سواء كان الواجب فعلياً أو استقبالياً.

إنما الكلام في مبدأ هذا الوجوب ، فقد ذكر جماعة أن مبدأه خروج الرفقة ، فلا يجوز له تعجيز نفسه عند خروج الرفقة ويجوز قبله ، وإن كان متمكناً من المسير وذكر المصنف (قدس سره) أن مبدأه هو التمكن من المسير ولا عبرة بخروج الرفقة فلا يجوز له تعجيز نفسه بالتمكن من المسير ولو كان خروج الرفقة متأخراً ، وذهب بعضهم إلى أن العبرة بأشهر الحجّ ، لأنّ التكليف في هذه الأشهر منجز ولا يجوز تفويت الاستطاعة فيها.

والظاهر أنه لا دليل على شي‌ء من ذلك ، بل مقتضى الآية الكريمة والروايات المفسرة للاستطاعة تنجز الوجوب بحصول الزاد والراحلة وما يحج به وتخلية السرب وصحّة البدن ، بحيث لا يكون الحجّ حرجياً ، من دون فرق في حصول ذلك بين أشهر الحجّ وخروج الرفقة والتمكن من المسير ، ومتى حصلت الاستطاعة بالمعنى المتقدم تنجز الوجوب عليه في أي وقت كان ، وأشهر الحجّ إنما هي ظرف الواجب لا أنها ظرف الوجوب ، فلو فرضنا أنه صحيح المزاج والطريق مفتوح وعنده ما يحج به من الزاد والراحلة يجب عليه الحجّ من أوّل حصول الاستطاعة ، فإن الواجب تعليقي بمعنى كون الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً ، فلا يجوز له التفويت ولو كان قبل أشهر الحجّ أو قبل خروج الرفقة ، ولذا لو فرضنا أنه لا يتمكن من المسير في شهر شوّال لبُعد المسافة وعدم الوصول إلى الحجّ لو سافر في شهر شوال كما في الأزمنة السابقة بالنسبة إلى بعض البلاد ، وكان متمكناً من المسير في شهر رجب ويمكنه

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الوصول ، يجب عليه الحجّ وليس له تركه معتذراً بأنه في شهر شوال لا يتمكن من المسير لبعد الطريق ، والحاصل : أن الوجوب غير محدد بزمان خاص.

وبما ذكرنا يظهر الحال في الجهة الثالثة وهي عدم جواز تعجيز نفسه في هذه السنة إذا تمكّن من الحجّ في السنة الثانية ، ويجب عليه إبقاء المال إلى العام المقبل ، ولا يجوز له تفويت المال في هذه السنة ، لأنّ العبرة بتحقق الاستطاعة متى حصلت ولم تكن محدّدة بزمان خاص ، من خروج الرفقة أو أشهر الحجّ أو التمكّن من المسير.

وأمّا الجهة الثانية وهي صحّة التصرفات المعجزة الموجبة لفقد الاستطاعة ، مثل الهبة والعتق أو بيع المال بثمن زهيد لا يفي للحج ، فقد فصّل في المتن بين ما إذا كان قصده من ذلك التصرّف الفرار من الحجّ فلا يصحّ ، وبين ما إذا كان قصده لغرض آخر فيصحّ ، وإن كان التصرف ملازماً ومقروناً لترك الحجّ ، وقد أخذ هذا ممّا ذكره الفقهاء في عدة مسائل ، منها : ما لو كان مديناً وسافر ، فقد ذكروا أنه لو كان سفره بقصد الفرار عن أداء الدّين كان السفر محرماً ويجب عليه التمام ، وإن سافر بقصد آخر كالزيارة والسياحة فالسفر مباح ، وإن كان ملازماً لعدم أداء دينه ، لأنّ السفر لم يكن موجباً لعدم أداء دينه.

وقد طبق (قدس سره) هذه الكبرى على المقام ، لأن عنوان الهبة أو البيع لم يكن محرماً في نفسه ، وإنما الحجّ تركه مبغوض ومحرم وهو غير منطبق على الهبة أو البيع بل البيع أو الهبة ملازم لترك الحجّ ، وذلك لا يوجب حرمة الهبة أو البيع ، بخلاف ما إذا وهب أو باع بقصد الفرار عن الحجّ والتوصل إلى الحرام ، فإنه يكون البيع حينئذ محرماً وفاسداً على مبناه من أن النهي عن المعاملة يقتضي الفساد.

أقول : قد ذكرنا في الأُصول أن النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد (١) ، وملخص ما ذكرنا هناك : أنّ ما يتصوّر وجوده في المعاملة ، وما يتعلق به النهي أُمور ثلاثة لا رابع لها ، لأنّ النهي إمّا أن يتعلّق بالمبرِز بالكسر أو المبرَز بالفتح أي اعتبار

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٦.

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

نفس المالك ، وإمّا يتعلّق بالاعتبار الشرعي أو العقلائي. والاعتبار القائم بنفس المالك الذي يبزره بمبرِز من اللفظ أو الإشارة يكون موضوعاً لاعتبار الشرع أو العقلاء فإن المالك يعتبر في نفسه شيئاً كملكية هذه الدار لزيد ثمّ يبرزه بمبرز ويعتبره الشارع أو العقلاء ، وليس وراء ذلك شي‌ء يسمّى بالسبب أو المسبب ، فالموضوع لاعتبار الشارع أو العقلاء انما هو المبرز بالكسر والمبرز بالفتح المسمّى عندهم بالمسبب ومن الواضح ان الاعتبار الشرعي أو العقلائي خارج عن تحت اختيار البائع أو المشتري لأنه ليس بفعله.

وبعبارة اخرى : الملكية المترتبة على العقد خارجة عن اختيار البائع ، فإنها راجعة إلى الشارع أو العقلاء ولا معنى لتعلق النهي بذلك ، فإن الفعل ليس بفعله حتى يتصور تعلق النهي به ، فما عن أبي حنيفة من أن النهي عن المعاملة يدل على الصحة لا أساس له أصلاً ، إذ لا يتصور النهي عن ذلك حتى يقال بدلالته على الصحّة ، وإنما يصح تعلق النهي بالمبرِز بالكسر أو المبرَز بالفتح أو بالمجموع المركّب بينهما الذي هو البيع حقيقة ، ولا يخفى أنّ مجرّد النهي لا يقتضي الفساد ، بل أقصاه دلالته على المبغوضية والحرمة ، كما هو الحال في المحرمات التوصلية كغسل الثوب بالماء المغصوب فإنه وإن كان محرماً ولكن يطهر الثوب بلا إشكال ، والبيع المحرم من هذا القبيل.

والحاصل : مجرّد الحرمة لا يدلّ على الفساد ، وإنما يدلّ عليه لو تعلّق النهي بعنوان البيع أو عنوان الهبة إرشاداً إلى الفساد كالنهي عن بيع الغرر أو النهي عن بيع ما ليس عنده ونحو ذلك ، ولذا قد تكون المعاملة جائزة ومع ذلك فاسدة لأجل إرشاد النهي وعدم مولويته ، فتلخص أن المعاملات في المقام صحيحة على التقديرين ولكن يستقرّ عليه الحجّ لأنّ التعجيز اختياري.

١٠٥

[٣٠٢١] مسألة ٢٤ : إذا كان له مال غائب بقدر الاستطاعة وحده أو منضماً إلى ماله الحاضر وتمكن من التصرّف في ذلك المال الغائب ، يكون مستطيعاً ويجب عليه الحجّ وإن لم يكن متمكِّناً من التصرّف فيه ولو بتوكيل من يبيعه هناك فلا يكون مستطيعاً إلّا بعد التمكّن منه أو الوصول في يده.

وعلى هذا فلو تلف في الصورة الأُولى بقي وجوب الحجّ مستقرّاً عليه إن كان التمكّن في حال تحقق سائر الشرائط ، ولو تلف في الصورة الثانية لم يستقر ، وكذا إذا مات مورثه وهو في بلد آخر وتمكن من التصرف في حصته أو لم يتمكّن ، فإنّه على الأوّل يكون مستطيعاً بخلافه على الثاني (١).

[٣٠٢٢] مسألة ٢٥ : إذا وصل ماله إلى حدّ الاستطاعة لكنه كان جاهلاً به أو كان غافلاً (*) عن وجوب الحجّ عليه ثمّ تذكر بعد أن تلف ذلك المال ، فالظاهر

______________________________________________________

(١) لأنّ العبرة في الاستطاعة بالتمكن من التصرف في المال ، فلو كان المال غائباً وتمكن من التصرّف فيه ببيع أو إجارة أو الاقتراض ثمّ الأداء منه يكون مستطيعاً ويستقرّ عليه الحجّ ، لأنّ الميزان أن يكون عنده ما يحجّ به سواء كان المال حاضراً أو غائباً ، ولو تلف المال في هذه الصورة ولم يحج فقد استقرّ عليه الحجّ وعليه الإتيان ولو متسكعاً.

وأمّا إذا لم يكن متمكّناً من التصرّف فيه فلا يكون مستطيعاً ، لأنّ العبرة كما عرفت بالتمكّن من التصرّف ولا يجدي مجرّد الملكيّة ، فالمحقق للاستطاعة هو التمكّن من التصرّف ، ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين الحضور والغياب فيما إذا لم يكن متمكِّناً من التصرّف ، فلو كان المال حاضراً وموجوداً في الصندوق الحديدي بحيث لا يمكن فتحه وأخذ المال منه لا يكون مستطيعاً ، وكذا لو مات مورثه في بلده وانتقل المال إلى

__________________

(*) هذا إذا كانت الغفلة مستندة إلى التقصير بترك التعلم ، وأما في غير ذلك فلا يجب الحجّ واقعاً فإنها مانعة عن تحقق الاستطاعة ، وكذلك الجهل المركب في الشبهة الموضوعية.

١٠٦

استقرار وجوب الحجّ عليه إذا كان واجداً لسائر الشرائط حين وجوده ، والجهل والغفلة لا يمنعان عن الاستطاعة (١) ، غاية الأمر أنه معذور في ترك ما وجب عليه ، وحينئذ فإذا مات قبل التلف أو بعده وجب الاستئجار عنه إن كانت له تركة بمقداره وكذا إذا نقل ذلك المال إلى غيره بهبة أو صلح ثمّ علم بعد ذلك

______________________________________________________

الوارث ولكن توقف التصرف فيه على إثبات نسبه وانحصار الوراثة وأمثال ذلك من المقدّمات ، فإن الاستطاعة لا تتحقق بمجرّد الملكية وإنما تتحقق بالتمكّن من التصرّف.

(١) الظاهر هو التفصيل بين ما إذا كانت الغفلة عن وجوب الحجّ مستندة إلى تقصير منه كترك التعلم ، وبين ما إذا كانت غير مستندة إلى التقصير ككثرة الاشتغال والابتلاء الموجبة للغفلة.

فإن كانت الغفلة مستندة إلى تقصير منه فالأمر كما ذكره في المتن ، وان كانت غير مستندة إلى التقصير فلا يجب عليه الحجّ واقعاً ، لأنّ حديث الرفع في حقه رفع واقعي وقد ذكرنا في محله (١) أن حديث الرفع بالنسبة إلى غير «ما لا يعلمون» رفع واقعي وفي الحقيقة تخصيص في الأدلّة الأوّلية ، والحكم غير ثابت في حقه واقعاً.

ففي فرض الغفلة لا يجب عليه الحجّ ، لعدم ثبوته في حقه ، وفي فرض الالتفات وإن أمكن تكليفه بالحج لكن المفروض أنه لا مال له بالفعل ، ففي هذه الصورة الحق مع المحقق القمي (قدس سره) من عدم الوجوب.

وكذلك يفصّل في مورد الجهل بوصول المال إلى حد الاستطاعة بين الجهل البسيط والمركب.

فإن كان الجهل جهلاً بسيطاً فالظاهر استقرار وجوب الحجّ عليه ، لأن الحكم بعدم الوجوب في فرض الجهل حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحجّ واستقراره عليه

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٦٥.

١٠٧

أنه كان بقدر الاستطاعة ، فلا وجه لما ذكره المحقق القمي في أجوبة مسائله من عدم الوجوب لأنه لجهله لم يصر مورداً وبعد النقل والتذكر ليس عنده ما يكفيه فلم يستقر عليه ، لأن عدم التمكن من جهة الجهل والغفلة لا ينافي الوجوب الواقعي ، والقدرة التي هي شرط في التكاليف القدرة من حيث هي ، وهي موجودة ، والعلم شرط في التنجّز لا في أصل التكليف.

______________________________________________________

واقعاً ، فإذا انكشف وتبين الخلاف يجب عليه إتيان الحجّ لاستقراره عليه ، لأنّ العلم بالاستطاعة لم يؤخذ في الموضوع ، وإنما الموضوع وجود ما يحج به واقعاً ، والجاهل بالجهل البسيط يتمكن من إتيان الحجّ ولو احتياطاً ، فلا مانع من توجه التكليف إليه واقعاً.

وأمّا في مورد الجهل المركّب فلا يتوجّه إليه التكليف واقعاً ، لعدم تمكّنه من الامتثال ولو على نحو الاحتياط ، فان من كان جازماً بالعدم ومعتقداً عدم الاستطاعة لا يمكن إثبات الحكم في حقه ، فإنّ الأحكام وإن كانت مشتركة بين العالم والجاهل ولكن بالجهل البسيط الذي يتمكّن من الامتثال ، لا الجهل المركّب والجزم بالعدم الذي لا يتمكّن من الامتثال أبداً فهو كالغفلة ، ففي هذه الصورة الحق مع المحقق القمي أيضاً.

وبالجملة : ما ذكره المحقق القمي من عدم وجوب الحجّ إنما يصحّ فيما إذا كانت الغفلة غير مستندة إلى التقصير وفيما إذا كان الجهل جهلاً مركّباً ، وأمّا إذا كانت الغفلة مستندة إلى التقصير أو كان الجهل بسيطاً فالحق مع المصنف (قدس سره).

١٠٨

[٣٠٢٣] مسألة ٢٦ : إذا اعتقد أنه غير مستطيع فحج ندباً فإن قصد امتثال الأمر المتعلِّق به فعلاً وتخيل أنه الأمر الندبي أجزأ عن حجّة الإسلام لأنه حينئذ من باب الاشتباه في التطبيق ، وإن قصد الأمر الندبي على وجه التقييد (*) لم يجزئ عنها وإن كان حجّه صحيحاً ، وكذا الحال إذا علم باستطاعته ثمّ غفل عن ذلك وأمّا لو علم بذلك وتخيل عدم فوريتها فقصد الأمر الندبي فلا يجزئ ، لأنّه يرجع إلى التقييد (**) (١).

______________________________________________________

(١) الظاهر هو الإجزاء مطلقاً وليس المقام من موارد التقييد ، وإنما هو من موارد التخلّف في الداعي ، وذلك لأن التقييد إنما يتصور في الأُمور الكلية التي لها سعة وقابلة للتقسيم إلى الأنواع والأصناف ، كالصلاة حيث إنّ لها أنواعاً وأصنافاً ، كصلاة الفجر ونافلتها ونحو ذلك من الأقسام ، وأمّا الأمر الخارجي الجزئي الذي لا يقبل التقسيم فلا يتصوّر فيه التقييد.

نظير ذلك ما ذكروه من التفصيل في باب الائتمام بزيد فبان أنه عمرو ، وقلنا هناك أنّ ذلك غير قابل للتقييد ، لأن الائتمام قد تعلق بهذا الشخص المعين وهذا غير قابل للتقسيم ، ولا سعة فيه حتى يتصوّر فيه التقييد والتضيق ، وهكذا الأمر في المقام ، فإنّ الأمر بالحج المتوجه إليه في هذه السنة أمر شخصي ثابت في ذمته وليس فيه سعة حتى يتضيق ويتقيد ، والثابت في ذمته ليس إلّا حجّة الإسلام وقد أتى بها ، فإن حجّ الإسلام ليس إلّا صدور هذه الأعمال من البالغ الحر المستطيع الواجد لجميع الشرائط

__________________

(*) ليس هذا من موارد التقييد ، وإنما هو من موارد التخلف في الداعي ، إذ المفروض أنه قصد الأمر الفعلي المتعلق بالحج ، ومن المفروض أنه مستطيع وواجد لسائر الشرائط ، فالصادر منه هو حجّة الإسلام وإن كان هو جاهلاً به ، ولا يعتبر قصد هذا العنوان في صحّة الحجّ ، فلا يقاس المقام بما إذا قصد نافلة الفجر ثمّ علم أنه كان قد صلاها فإن ما أتى به لا يجزئ عن صلاة الفجر لأنها غير مقصودة.

(**) لا لذلك ، بل لأنّ الأمر الفعلي لم يقصد وإنما قصد الأمر الندبي المترتب على مخالفة الأمر الفعلي.

١٠٩

[٣٠٢٤] مسألة ٢٧ : هل تكفي في الاستطاعة الملكيّة المتزلزلة للزاد والراحلة وغيرهما ، كما إذا صالحه شخص ما يكفيه للحج بشرط الخيار له إلى مدة معيّنة أو باعه محاباة كذلك؟ وجهان أقواهما العدم (*) ، لأنّها في معرض الزوال إلّا إذا كان

______________________________________________________

والمفروض حصولها ، فالصادر منه هو حجّة الإسلام وإن كان جاهلاً به ، ولا يعتبر قصد هذا العنوان في صحّة الحجّ ، غاية ما في الباب تخيل جواز الترك وعدم الوجوب ، ومجرد تخيل الجواز غير ضائر في صحّة العمل ، كما لو فرضنا أنه صام في شهر رمضان ندباً بنية القربة وكان جاهلاً بوجوب الصوم فيه ، فإنه لا ريب في الاكتفاء به وعدم وجوب القضاء عليه ، بل لو فرضنا أنه لو علم بالوجوب لم يأت به في هذه السنة ويؤخره لغرض من الأغراض ، نلتزم بالصحة أيضاً لأنه من باب تخلّف الداعي وليس من التقييد بشي‌ء.

وبالجملة : التقييد إنما يتصور في الأُمور الموسعة الكليّة ، وأما الأُمور الشخصية فلا يتحقق فيها التقييد نظير الأفعال الخارجية الحقيقية كالأكل ، فإن الأكل يتحقق على كل تقدير ولا معنى للتقييد فيه ، هذا كله فيما إذا اعتقد أنه غير مستطيع فحج ندباً ، أو علم باستطاعته ثمّ غفل عن ذلك.

وأمّا الفرض الثالث ، وهو ما لو علم بالوجوب وتخيل عدم فوريته فحج ندباً فذكر (قدس سره) أنه لا يجزئ لأنه يرجع إلى التقييد ، والأمر كما ذكره ، لا لذلك بل لأنّ في المقام أمرين أحدهما وجوبي والآخر ندبي مترتب على الأوّل وفي طوله لا في عرضه فإن الأمر بالضدّين إذا كان على نحو الترتب لا استحالة فيه ، لأن الأمر الثاني مترتب على عدم الإتيان بالأوّل ولو كان عن عصيان ، وقد ذكرنا في محله أن كل مورد أمكن جريان الترتب فيه يحكم بوقوعه لأنّ إمكانه مساوق لوقوعه ، فما حجّ به صحيح في نفسه ، إلّا أنه لا يجزئ عن حجّة الإسلام ، لأنّ الأمر الفعلي لم يقصد وإنما قصد الأمر الندبي المترتب على مخالفة الأمر الفعلي ، ولا يقاس هذا الفرض بالفرضين

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

١١٠

واثقاً بأنّه لا يفسخ (١) ، وكذا لو وهبه وأقبضه إذا لم يكن رحماً فإنه ما دامت العين موجودة له الرجوع ويمكن أن يقال (*) بالوجوب هنا حيث إنّ له التصرّف في الموهوب ، فتلزم الهبة.

[٣٠٢٥] مسألة ٢٨ : يشترط في وجوب الحجّ بعد حصول الزاد والراحلة بقاء المال إلى تمام الأعمال ، فلو تلف بعد ذلك ولو في أثناء الطريق كشف عن عدم الاستطاعة ، وكذا لو حصل عليه دين قهراً عليه (**) كما إذا أتلف مال غيره خطأ

______________________________________________________

السابقين لوحدة الأمر فيهما ، بخلاف المقام الذي تعدّد الأمر فيه على نحو الترتّب.

(١) ذكر (قدس سره) أن الأقوى عدم الاكتفاء بالملكيّة المتزلزلة في تحقّق الاستطاعة ، فلا يجب الحجّ بحصول الملكية المتزلزلة إلّا مع الوثوق بعدم زوالها وعلل ذلك بأن الملكية المتزلزلة في معرض الزوال فلا تثبت بها الاستطاعة.

أقول : لم يؤخذ هذا المعنى وهو عدم كون المال في معرض الزوال في موضوع الاستطاعة ، بل الموضوع كما عرفت بما لا مزيد عليه أن يكون عنده ما يحج به وعنده الزاد والراحلة ، وهذا المعنى صادق في المقام حتى مع علمه بالزوال ، فلو حصل له زاد وراحلة ولو بالملكية المتزلزلة يجب عليه الحجّ لتحقق الاستطاعة ، ولو علم أن المالك يفسخ ويسترجع المال ، فإن كان متمكناً من أدائه بلا حرج فلا كلام ، وإن استلزم أداؤه الحرج يسقط وجوب الحجّ لنفي الحرج ، ولو شك في الرجوع يستصحب عدمه.

وأظهر من ذلك ما ذكره أخيراً من أنه لو وهبه المال وأقبضه ولم يكن رحماً فإنه يجب عليه التصرّف فيه تصرفاً لا يجوز رده ، بأن يعمل في المال عملاً تزول به سلطنة المالك على الرد ، لتحقق الاستطاعة وأن عنده ما يحج به وعنده الزاد والراحلة فيجب عليه حفظ القدرة بالتصرّف المانع عن رجوع المالك ، فإن الحجّ يستقر عليه

__________________

(*) بل هو الأوجه.

(**) على ما تقدم في المسألة ١٧ [٣٠١٤].

١١١

وأمّا لو أتلفه عمداً فالظاهر كونه كإتلاف الزاد والراحلة عمداً في عدم زوال استقرار الحجّ (١).

[٣٠٢٦] مسألة ٢٩ : إذا تلف بعد تمام الأعمال مئونة عوده إلى وطنه أو تلف ما به الكفاية من ماله في وطنه بناء على اعتبار الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة فهل يكفيه عن حجّة الإسلام أو لا وجهان ، لا يبعد الإجزاء (٢) ويقرِّبه (*) ما ورد من أن من مات بعد الإحرام ودخول الحرم أجزأه عن حجّة

______________________________________________________

بمجرّد ملكيته لشي‌ء يتمكن به الحجّ فيجب عليه التحفظ على ذلك لئلا يرجع المالك فتزول استطاعته.

(١) مقتضى الروايات الدالة على اعتبار الاستطاعة بقاؤها إلى تمام الأعمال ، لأن الحجّ عبارة عن مجموع هذه الأعمال ولا بدّ من اقترانها بالاستطاعة ، فلو تلف المال قبل أن يتم الأعمال سواء كان قبل الشروع فيها أو في الأثناء كشف عن عدم الاستطاعة. وأما إتلاف مال الغير الذي يوجب الدّين عليه قهراً ، فإن كان من باب الاتفاق والخطأ يجري فيه أحكام الدّين المتقدمة من كون الدّين مؤجّلاً أم حالّا مطالباً به غير مأذون في التأخير ، وقد عرفت أن مجرد الدّين غير ضائر في صدق الاستطاعة ، وأما إذا كان الإتلاف عمدياً فالظاهر كونه كإتلاف نفس الزاد والراحلة في عدم زوال استقرار الحجّ لأن الواجب تعليقي ، ويجب عليه حفظ القدرة لفعلية الوجوب.

(٢) لأنّ المعتبر إنما هو إتيان الأعمال عن استطاعة والمفروض تحقق ذلك ، ولا تعتبر مئونة العود في الاستطاعة ، ولذا لو كان له مئونة الذهاب إلى مكّة فقط وتمكن من البقاء فيها بلا حرج وجب عليه الحجّ فلا أثر لتلف المال للعود كما لا أثر لتلف ما به الكفاية في وطنه ، وإنما اعتبرنا مئونة الإياب لأجل الحرج في البقاء في مكّة وعدم عوده إلى وطنه ، وهكذا بالنسبة إلى الرجوع إلى ما به الكفاية فإنه لم يدل دليل على

__________________

(*) لم يظهر وجه للتقريب.

١١٢

الإسلام ، بل يمكن أن يقال (*) بذلك إذا تلف في أثناء الحجّ أيضاً.

[٣٠٢٧] مسألة ٣٠ : الظاهر عدم اعتبار الملكية في الزاد والراحلة ، فلو حصلا بالإباحة اللّازمة (**) كفى في الوجوب لصدق الاستطاعة ، ويؤيده الأخبار الواردة في البذل ، فلو شرط أحد المتعاملين على الآخر في ضمن عقد لازم أن يكون له التصرّف في ماله بما يعادل مائة ليرة مثلاً وجب عليه الحجّ ويكون كما لو كان مالكاً له (١).

______________________________________________________

اعتباره ، وإنما التزمنا بذلك لنفي الحرج ولا يجري في المقام لأنه خلاف الامتنان ، إذ لا امتنان في الحكم بالفساد بعد إتيان الأعمال ، كما هو الحال في موارد الوضوء أو الغسل الحرجي ، فإنه إذا توضأ أو اغتسل ثمّ علم بأن وضوءه أو غسله لم يكن واجباً لكونه حرجياً لا نحكم بفساد الوضوء أو الغسل ، لأنّ الحكم بفساده خلاف الامتنان وحديث نفي الحرج إنما يجري في مورد الامتنان كرفع الوجوب والإلزام ، ولا امتنان في الحكم بالفساد بعد إتيان الأعمال.

ثمّ إن المصنف (قدس سره) قرب الإجزاء في المقام بما ورد فيمن مات بعد الإحرام ودخول الحرم أنه يجزئه عن حجّة الإسلام. ولكن لم يظهر لنا وجه التقريب والتأييد لأن تلك الأدلة دلت على إجزاء الجزء والبعض عن الكل ، ومحل الكلام هو الإتيان بتمام الأعمال ولكن انكشف عدم الاستطاعة. وبعبارة اخرى : مورد تلك الروايات إتيان بعض الأعمال واجزائه عن الكل ، والمفروض في المقام هو الإتيان بجميع الأعمال ولكن البحث عن إجزاء غير الواجب عن الواجب ، فالمورد مختلف فلا وجه للتقريب.

(١) الظاهر أن الاستطاعة لا يعتبر فيها ملكية الزاد والراحلة ، فإن الاستطاعة

__________________

(*) هذا إذا لم يحتج إتمام الحجّ إلى صرف مال يضرّ بإعاشته بعد رجوعه.

(**) بل الظاهر كفاية الإباحة غير اللازمة أيضاً.

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عبارة عن القدرة على الزاد والراحلة والتمكن من التصرف فيهما ، ولا ريب في صدق الاستطاعة بذلك وإن لم يكن ما يحج به ملكاً له.

وربّما يناقش في صدق الاستطاعة بأنها بالنظر إلى الروايات (١) المفسرة لها ليست مجرد التمكن من التصرف وإباحته ، فإن مقتضى قوله (عليه السلام) «له زاد وراحلة» هو اعتبار الملك لظهور اللام في ذلك فلا يكفي مجرد الإباحة ، وأما الاكتفاء بالبذل فقد ثبت بدليل خاص. وأما ما في صحيح الحلبي : «إذا قدر الرّجل على ما يحجّ به» (٢) وفي صحيح معاوية : «إذا هو يجد ما يحج به» (٣) مما ظاهره الأعم من الملك فاللازم تقييده بالملك لحمل المطلق على المقيد. وفيه : أن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا وردا في متعلقات الأحكام كقولنا : أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ، لا في موضوعاتها لعدم التنافي كنجاسة الخمر والمسكر.

وبعبارة اخرى : إنما يحمل المطلق على المقيد لأجل التنافي بينهما ولذا يحمل المطلق على المقيد في المثال الأوّل بعد إحراز وحدة المطلوب لحصول التنافي بينهما حينئذ وهذا بخلاف المثال الثاني لعدم التنافي بين الحكم بنجاستهما أو حرمتهما معاً ، والمقام من قبيل الثاني ، فإن قوله : «له زاد وراحلة» وإن كان ظاهراً في الملكية إلّا أنه لا ينافي ثبوت الاستطاعة في غير مورد الملك أيضاً كموارد الإباحة وجواز التصرف ، فلا موجب لحمل المطلق المستفاد من صحيح الحلبي وصحيح معاوية على المقيد كقوله : «له زاد وراحلة» مما ظاهره الملك.

وأما قياس الإباحة المالكية بالإباحة الشرعية كالأنفال والمباحات الأصلية في عدم تحقق الاستطاعة بذلك ففي غير محله ، لعدم صدق الاستطاعة بمجرد الإباحة الشرعية وجواز التصرّف ، ومن الواضح عدم صدق الاستطاعة وعدم كونه واجداً للزاد والراحلة بمجرّد إباحة الأسماك في البحر والأنفال له ، وإنما يصدق أنه واجد

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣ / أبواب وجوب الحجّ ب ٨.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ٣.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ١.

١١٤

[٣٠٢٨] مسألة ٣١ : لو اوصي له بما يكفيه للحج فالظاهر وجوب الحجّ عليه بعد موت الموصي خصوصاً إذا لم يعتبر القبول (*) في ملكية الموصى له وقلنا بملكيته ما لم يرد فإنّه ليس له الرد حينئذ (١).

______________________________________________________

ومستطيع بصيد الأسماك خارجاً وحيازة المباحات والاستيلاء عليها خارجاً ، ومجرّد الإباحة الشرعية لا يحقق موضوع الاستطاعة ، وهذا بخلاف المقام الذي يجوز له التصرف من قبل المالك فعلاً ومستول على المال ومسلط عليه فإنه يصدق أنه مستطيع.

ومما ذكرنا ظهر أن تقييد الإباحة باللازمة غير لازم ، بل الإباحة إذا حصلت يصدق عنوان الاستطاعة سواء كانت لازمة أو جائزة ، فإن قوله : «له زاد وراحلة» «أو عنده ما يحج به» صادق على المقام مطلقاً من دون فرق بين الإباحة اللازمة وغير اللازمة.

(١) لصدق الاستطاعة بذلك ، هذا بناء على أن الوصيّة التمليكية إيقاع لا عقد ، ولا حاجة إلى القبول من الموصى له كما هو المختار فالأمر واضح ، لأنه بمجرّد موت الموصي يصدق على الموصى له أنه مستطيع ، نعم له الرد لأنّ التمليك القهري مخالف لسلطنته ، وذلك يقتضي سلطنته على الرد لا على احتياجها إلى القبول ، ويؤيد أو يدل على أنها إيقاع انتقال القبول والرد إلى ورثة الموصي له ، ولو كانت عقداً لاحتاجت إلى قبول نفس الموصى له ولا ينتقل القبول إلى الوارث ، وكان مقتضى القاعدة بطلان الوصيّة حينئذ. وبالجملة : بمجرد الوصيّة التمليكية تحصل الاستطاعة وليس له الرد لأنه إزالة للاستطاعة وتفويت لها ، هذا كله بناء على أنّ الوصيّة من الإيقاعات لا من العقود.

وأمّا بناء على أنها من العقود وتحتاج إلى القبول فلم يظهر لنا الوجه في صدق

__________________

(*) يختص الوجوب بهذا الفرض.

١١٥

[٣٠٢٩] مسألة ٣٢ : إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين (عليه السلام) في كل عرفة ثمّ حصلت لم يجب عليه الحجّ (*) ، بل وكذا لو نذر إن جاء مسافرة أن يعطي الفقير كذا مقداراً فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلق عليه ، بل وكذا إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلاً في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك ، فإن هذا كلّه مانع عن تعلّق وجوب الحجّ به ، وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة (١)

______________________________________________________

الاستطاعة بمجرّد الوصيّة ، لأنه ما لم يتحقق القبول لم يكن واجداً للزاد والراحلة وإن كان قادراً على التحصيل بواسطة القبول ، والمفروض أن الحجّ واجب على الواجد بالفعل لا على من كان قادراً على الإيجاد والتحصيل ، وإلزامه بالقبول من تحصيل القدرة الذي لا يجب ، نظير الهبة فإنه قبل القبول غير واجد للمال ، وإلزامه بقبولها تحصيل للقدرة وهو غير واجب.

(١) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين :

الأوّل : في تزاحم الحجّ والنذر ، فقد نسب إلى معظم الأصحاب بل إلى المشهور تقديم النذر على الحجّ فيما إذا نذر قبل حصول الاستطاعة عملاً راجحاً لا يجتمع مع الحجّ ، كما إذا نذر زيارة الحسين (عليه السلام) في كل عرفة ، وكذا لو نذر إن جاء مسافرة أن يعطي الفقير كذا مقداراً من المال فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلق عليه ومجي‌ء المسافر ، وكذا إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقداراً من المال في تعزية الحسين (عليه السلام) أو الزيارة أو في أمر خيري آخر والمفروض أن المال لا يكفي للنذر والحجّ معاً ، فقد ذكروا أن هذا كله مانع عن تعلّق وجوب الحجّ به ويقدم النذر ، لأنّ وجوب الوفاء بالنذر يزيل الاستطاعة ويرفعها ويصبح عاجزاً عن إتيان الحجّ ، فإنّ العجز الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب

__________________

(*) النذر بأقسامه لا يزاحم الحجّ فيجب عليه الحجّ في جميع الفروع المذكورة.

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ويكون معذوراً في ترك الحجّ ، لأنّه مأمور بالوفاء بالنذر فيكون ترك الحجّ حينئذ سائغاً.

أقول : هذا الكلام إنما نشأ من التزامهم بأخذ القدرة الشرعية في الحجّ ، ومقتضاه أن كل واجب يزاحم الحجّ يرفع موضوع الاستطاعة حتى مثل وجوب رد التسليم.

ولكن لا أساس لما التزموا به أصلاً ، لأنّ الاستطاعة المعتبرة في الحجّ ليست إلّا ملكية الزاد والراحلة وصحّة البدن وتخلية السرب على ما فسرت في النصوص المعتبرة ، وأما اشتراطه بعدم مزاحمته لواجب آخر فلم يثبت. نعم ، يتحقق التزاحم بين الحجّ وواجب آخر فيما إذا لا يتمكن من الجمع بينهما كأداء الدّين ، إلّا أنه في خصوص المقام لا تصل النوبة إلى التزاحم ، لأن الوفاء بالنذر ليس واجباً ابتدائياً نظير وجوب الصلاة والصوم ونحوهما من الواجبات الإلهية ، وإنما هو واجب إمضائي بمعنى أنه إلزام من الله تعالى بما التزم المكلف به على نفسه كالعقود ، فإنها إلزام من المكلف على نفسه ، والله تعالى ألزمه بما التزمه على نفسه وأمره تعالى بالوفاء به فالحكم بوجوب الوفاء بالنذور أو العقود نشأ من التزام المكلف على نفسه شيئاً ، والله تعالى ألزمه بهذا الالتزام وأمره بالوفاء ، فإن الناذر يلزم على نفسه شيئاً والله تعالى يُلزمه بالعمل به على نحو ما التزم به ، والمفروض أنه التزم على نفسه عملاً لله تعالى فلا بدّ من أن يكون العمل الملتزم به لله سبحانه في نفسه قابلاً للإضافة إليه تعالى ومرتبطاً به ، ومن هنا اعتبروا الرجحان في متعلق النذر ، قالوا : ولا ينعقد فيما لا رجحان فيه ولا يرتبط به تعالى أصلاً كنذر الأكل أو بناء البيت ونحو ذلك من المباحات الأصلية التي لا ترتبط به تعالى ، ولعلّ هذا هو المراد من قولهم في النذر أن لا يكون محلِّلاً للحرام ومحرِّماً للحلال ، مع أن هذا لم يرد في النذر وإنما ورد في الشرط.

وبالجملة : النذر هو التزام المكلف على نفسه شيئاً لله تعالى ، نظير ما يلتزم شخص على نفسه شيئاً لشخص آخر ، فلا بدّ أن يكون العمل الملتزم به في نفسه قابلاً للإضافة والاستناد إليه تعالى ولا يكفي مجرد الرجحان في نفسه ، بل لا بدّ في صحّة

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إضافة العمل إليه تعالى من ملاحظة سائر الملازمات والمستلزمات ، كأن لا يكون العمل مستلزماً لترك واجب أو إتيان محرم ، وإلّا فلا يكون قابلاً للإضافة إليه سبحانه ولا ينعقد النذر وإن كان العمل في نفسه راجحاً ، وعلى ذلك فصرف المال في التعزية أو الصدقة وإن كان راجحاً في نفسه ولكنه إذا استلزم ترك الحجّ يكون غير مشروع لأنه تفويت للاستطاعة وتعجيز للنفس عن إتيان الحجّ ، وكذلك زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عرفة وإن كانت راجحة في نفسها ولكنها إذا كانت ملازمة لترك الواجب كالحج لا يمكن إضافتها إلى الله سبحانه ، فإنّ نذر زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عرفة في الحقيقة يرجع إلى نذر ترك الحجّ ، نظير نذر قراءة القرآن من أوّل طلوع الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس بحيث تفوت عنه صلاة الفجر ، أو ينذر سجدة طويلة تستغرق في جميع الوقت بحيث تفوت عنه الصلاة المكتوبة في الوقت.

والحاصل : لا بدّ في انعقاد النذر من قابلية إضافة العمل المنذور إلى الله تعالى مضافاً إلى الرجحان الثابت في نفسه ، فإذا استلزم العمل ترك واجب أو إتيان محرم لا يمكن إضافته إليه تعالى ، فدليل وجوب الوفاء بالنذر من أصله قاصر لا يشمل أمثال هذه الموارد ، لأنه ليس من باب التكاليف الابتدائية بل إنما هو من باب الإمضاء والإلزام بما التزم المكلف على نفسه ، فلا بدّ أن يكون ما التزم به قابلاً للالتزام والاستناد إلى الله تعالى وإلّا فلا ينعقد النذر وينحل ، كما إذا نذر صوم اليوم الذي يجي‌ء مسافرة فيه فصادف يوم العيد ، ولا ريب في انحلال النذر في أمثال هذه الموارد والمقام من قبيل ذلك ، فلا تصل النوبة إلى التزاحم فضلاً عن أن يرفع النذر موضوع الاستطاعة.

فتحصل من جميع ما تقدم أن النذر لا يزاحم الحجّ ، لأنّ وجوبه مطلق غير مشروط بشي‌ء غير الاستطاعة المفسرة في النصوص ، والقدرة الشرعية المصطلحة غير مأخوذة فيه ، بخلاف النذر فإنه مشروط بأن لا يكون محلِّلاً للحرام ومحرِّماً للحلال.

ويؤيد بل يؤكد ما ذكرنا : أنه لو صحّ النذر لم يختص بزيارة الحسين (عليه السلام)

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يوم عرفة أو صرف المال في التعزية والتصدق ونحو ذلك ، بل يشمل كل شي‌ء فيه رجحان ، كما لو نذر قراءة سورة معيّنة في بيته أو في المسجد الفلاني في أوّل ذي الحجّة مثلاً أو يصلي في مسجد من مساجد بلده في يوم عرفة ونحو ذلك من الأُمور الراجحة التي يفوت بها الحجّ ، ولو صح ذلك لأمكن لكل أحد أن يحتال في سقوط الحجّ بنذر هذه الأُمور ويدفع وجوب الحجّ عن نفسه بذلك ، وهذا مقطوع البطلان ولا يمكن الالتزام به أبداً.

ثمّ إنه لو عصى ولم يحج فهل يجب الوفاء بالنذر بدعوى أن المزاحم عن الوفاء بالنذر كان هو الحجّ والمفروض أنه لم يأت به فلا مانع من وجوب إتيان متعلق النذر بنحو الترتب؟

الظاهر عدم وجوب إتيان متعلق النذر حتى في مثل الفرض لعدم جريان الترتب في أمثال المقام ، لأن الترتب إنما يجري في الواجبين الفعليين اللذين يشتمل كل منهما على ملاك ملزم غاية الأمر لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال ، وهذا إنما يختص بما إذا كان الواجب واجباً ابتدائياً أصلياً كالصلاة وإزالة النجاسة ، وأما إذا كان الواجب واجباً إمضائياً وتابعاً لما التزم به المكلف على نفسه فلا يجري فيه الترتب ، لأن ما التزم به المكلف إنما هو مطلقٌ مستلزم لترك الحجّ وهذا غير قابل للإمضاء ، وأما المشروط يعني المقيد بترك الحجّ فلم ينشئه ولم يلتزم به ، فما هو قابل للإمضاء لم يلتزمه ولم ينشئه وما التزم به غير قابل للإمضاء ، ونظير ذلك من كان مستطيعاً وآجر نفسه للغير فإن صحته مطلقاً غير ممكن ومقيداً لم ينشئه فتكون الإجارة فاسدة ويرجع إلى أُجرة المثل.

وممّا ذكرنا ظهر أنه لو نذر إتيان عمل من الأعمال المنافية للحج على تقدير ترك الحجّ صح نذره ، هذا تمام الكلام فيما إذا كان وجوب الحجّ كسائر الواجبات الإلهية التي لم تؤخذ القدرة الشرعية المصطلحة فيها.

وأمّا بناء على المشهور من أخذ القدرة الشرعية في الحجّ وإن كان مقتضاه تقدّم كل واجب عليه ومزاحمته له لعدم بقاء الموضوع للحج فيما زاحمه واجب آخر ، لكن

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

في خصوص النذر لا يمكن الالتزام بذلك ، لأن ما ذكروه من أخذ القدرة الشرعية في الحجّ وتقدم كل واجب عليه لو صحّ فإنما يصحّ في الواجبات الابتدائية ، وأمّا النذر فليس واجباً ابتدائياً وإنما هو واجب إمضائي كما عرفت ويجب الوفاء به فيما هو قابل للإمضاء ، ولا قابلية له للإمضاء في المقام لاستلزامه ترك الحجّ فلا يشمله دليل وجوب الوفاء كما هو الحال في العمل بالشرط في العقود ، فإن الشرط إذا كان محرماً للحلال ومحللاً للحرام لا يجب العمل به وإن اتي به في ضمن العقد اللازم.

هذا ، وقد يقال بأخذ القدرة الشرعية في موضوع وجوب الحجّ تمسّكاً بصحيح الحلبي «قال (عليه السلام) : إذا قدر على ما يحج به ثمّ دفع ذلك وليس له شغل يعذره به ، فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام» (١) بدعوى ظهوره في أن مطلق العذر رافع للوجوب ، والوفاء بالنذر عذر فيكون رافعاً للوجوب.

وفيه : أن الرواية لم تبين الصغرى ، وإنما تعرضت لترك الحجّ بلا عذر ، وأمّا كون الشي‌ء الخاص عذراً فلا بدّ من إثباته من الخارج ، كما ثبت العذر في موارد الحرج والضرر الزائدين على ما يقتضيه الحجّ ، ولم يثبت من الخارج كون الوفاء بالنذر عذراً ، فالحج كسائر الواجبات الشرعية في عدم أخذ القدرة الشرعية فيه ، هذا من ناحية وجوب الحجّ.

وأما الوفاء بالنذر فقد عرفت أنه ليس بواجب ابتدائي وإنما هو واجب إمضائي وإلزام بما التزم المكلف على نفسه ، وحينئذ لا بدّ أن يكون الفعل قابلاً للإضافة إليه تعالى وهو المراد بالراجح في كلماتهم ، فالعمل المستلزم لترك الواجب لا يمكن إمضاؤه إذ لا يمكن استناده إليه تعالى ، فإن الالتزام بشي‌ء التزام بلوازمه ، وإذا التزم بزيارة الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة فهو التزام بترك الحجّ حقيقة وهذا غير راجح قطعاً ، ولذا ذكرنا في باب مقدمة الواجب واقتضاء الأمر النهي عن ضده أن إنكار وجوب المقدمة أو نفي الاقتضاء إنما هو بحسب الأمر الاعتباري ، بمعنى أن الأمر بالشي‌ء لا يلازم الأمر بمقدمته في مقام الاعتبار لعدم الملازمة بين الاعتبارين ويمكن

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ٣.

١٢٠