موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

[٢٩٧٣] مسألة ١٣ : إن كان المجتهد الجامع للشرائط في غير بلده جاز نقل حصّة الإمام (عليه السلام) إليه (١) ، بل الأقوى جواز ذلك ولو كان المجتهد الجامع للشرائط موجوداً في بلده أيضاً ، بل الأولى النقل إذا كان مَن في بلد آخر أفضل أو كان هناك مرجّح آخر.

[٢٩٧٤] مسألة ١٤ : قد مرّ أنّه يجوز للمالك أن يدفع الخمس من مال آخر له نقداً أو عروضاً (*) (٢) ولكن يجب أن يكون بقيمته الواقعيّة ، فلو حسب العروض بأزيد من قيمتها لم تبرأ ذمّته وإن قبل المستحقّ ورضي به.

______________________________________________________

الخمس في بلد آخر فعلى القول بعدم جواز النقل لا يجوز نقله من بلده أي بلد المال إلى غيره ولو كان هو بلد المالك ، ويضمن لو تلف في الطريق.

(١) محصّله : انّ ما مرّ من التفاصيل حول مسألة النقل لا يجري بالنسبة إلى حصّة الإمام (عليه السلام) ، لما تقدّم من أنّ أمرها راجع إلى الحاكم الشرعي (١) ، فلا يجوز أيّ تصرّف فيه إلّا بإجازته ، فإن أجاز نقله جاز وإلّا فلا ، كما هو الحال في إجازة الولي بالنسبة إلى الأموال الشخصيّة.

(٢) مرّ الإشكال في دفع بدل الخمس عروضاً كالزكاة ، إلّا إذا كان بإجازة من الحاكم الشرعي ، فإن قلنا بالجواز أو كان بإجازة الحاكم فلا يجوز أن يحسب العروض بأزيد من قيمته الواقعيّة بأن يحسب ما يسوى خمسة مثلاً بإزاء عشرة ويعطيه عمّا عليه من العشرة خمساً ، لأنّه تفويت على المستحقّين ، ولا أثر لرضى المستحقّ وقبوله.

__________________

(*) مرّ الإشكال في دفعه من العروض [في المسألة ٢٩٥١ التعليقة ٣].

(١) في ص ٣٣١.

٣٤١

[٢٩٧٥] مسألة ١٥ : لا تبرأ ذمّته من الخمس إلّا بقبض المستحقّ أو الحاكم ، سواء كان في ذمّته أم في العين الموجودة ، وفي تشخيصه بالعزل إشكال (١).

______________________________________________________

نعم ، لو باع العروض المفروض من المستحقّ بعشرة في ذمّته ببيعٍ صحيح وقد أقدم المشتري على الغبن المزبور لاحتياجه واضطراره جاز احتساب ماله في ذمّته من العشرة خمساً بإجازة من الحاكم أو مطلقاً على إشكال فيه أشرنا إليه آنفاً (١) ، وسيأتي التعرّض له أيضاً إن شاء الله تعالى (٢).

(١) لا ينبغي الإشكال في أنّ المالك بما أنّه الشريك الأعظم وبمقتضى السيرة القطعيّة الجارية له الولاية على التقسيم وإخراج الخمس من أيّ جزء من أجزاء ماله شاء وتعيينه فيه ، وليس للحاكم ولا للمستحقّ إلزامه بالإعطاء من مال خاصّ كما مرّت الإشارة إليه (٣).

أمّا ولايته على العزل وتعيين الخمس في المعزول بحيث لو تلف ولو بدون تعدٍّ أو تفريط لم يكن ضامناً ويكون بمثابة التلف في يد المستحقّ ، فلم يدلّ عليه في المقام أيّ دليل وإن ثبت ذلك في الزكاة كما تقدّم (٤) ، فلا أثر هنا للإفراز خارجاً ويكون وجوده كعدمه ، فإذا تلف ما أفرزه قبل وصوله إلى المستحقّ أو الحاكم ولو بدون تعدٍّ أو تفريط لم يسقط الخمس. وعليه ، فلا تبرأ ذمّته إلّا بقبض المستحقّ أو الحاكم ، سواء أكان عين ما تعلّق به الخمس موجوداً بعدُ أم

__________________

(١) في ص ٣٣١.

(٢) في ص ٣٤٤ ٣٤٥.

(٣) في ص ١٥٩ و ٢٨٥.

(٤) شرح العروة ٢٣ : ٤٠١.

٣٤٢

[٢٩٧٦] مسألة ١٦ : إذا كان في ذمّة المستحقّ دين جاز له احتسابه خمساً (*) ، وكذا في حصّة الإمام (عليه السلام) إذا أذن المجتهد (١).

______________________________________________________

تلف على وجه الضمان فانتقل الخمس إلى ذمّته.

نعم ، مع بقاء العين إذا أخرج خمسها لإيصاله إلى أهله فتلف في الأثناء من غير تفريط فمقتضى الإشاعة وقوع التلف على الشريكين بالنسبة ، بخلاف ما إذا كان الحقّ كلّيّاً في المعيّن ، لوجود الكلّي في الباقي ، كما أنّ الأمر كذلك إذا تلف مقدار من العين قبل الإخراج المزبور.

وبالجملة : فلا دليل على نفوذ العزل وتعيّن المعزول خمساً إلّا إذا وقع بإذن الحاكم الشرعي صريحاً أو ضمناً ، كما إذا قال له : أرسل إلينا خمسك ، أو : ابعثه إلى الجهة الكذائيّة ، فإنّه يتضمّن الإذن في إفراز الخمس من ماله وإرساله ، ويتعيّن المفرَز حينئذٍ خمساً بحيث لو تلف في الطريق لم يضمنه.

ولعلّ الأمر قد اشتبه على صاحب المستند ، حيث ادّعى قيام الإجماع على ثبوت الولاية للمالك على الإفراز (١) ، فإنّ المسألة غير معنونة في كلماتهم كي يستظهر منها الإجماع ، وإنّما المتسالم عليه الولاية في مقام الإعطاء وتفريغ الذمّة على الإعطاء من أيّ مال شاء حسبما عرفت.

وبالجملة : فالمتّبع هو الدليل ، ولم يرد نصّ على جواز العزل والإفراز في المقام ، وما ورد يختصّ بباب الزكاة. إذن فالأقوى عدم الجواز.

(١) مقتضى ما تقدّم من ظهور أدلّة الباب في تعلّق الخمس بعين المال : عدم

__________________

(*) فيه إشكال كما مرّ [في المسألة ٢٩٧١ التعليقة ٢].

(١) المستند ٩ : ٢٢٤.

٣٤٣

[٢٩٧٧] مسألة ١٧ : إذا أراد المالك أن يدفع العوض نقداً أو عروضاً (*) لا يعتبر فيه رضا المستحقّ أو المجتهد بالنسبة إلى حصّة الإمام (عليه السلام) (١) وإن كانت العين التي فيها الخمس موجودة ، لكن الأولى اعتبار رضاه خصوصاً في حصّة الإمام (عليه السلام).

______________________________________________________

الاجتزاء بالأداء من مال آخر وعدم الولاية للمالك عليه إلّا ما أثبته الدليل ، وقد ثبت به ولايته على التبديل بمال آخر عيناً ، نقداً كان أم عروضاً ، أو بالنقد خاصّة من درهم أو دينار أو ما يقوم مقامهما من النقود ، على الخلاف المتقدّم.

أمّا ولايته على احتساب الدين خمساً بجعل ماله في ذمّة المستحقّ خمساً بدلاً من الخمس المتعلّق بالعين ، فهو يحتاج إلى دليل ، ولم يرد عليه دليل في المقام كما ورد في الزكاة.

ولا يفرق فيما ذكرناه بين القول بكون الخمس ملكاً لبني هاشم أو كونهم مصرفاً له ، ولا بين كون الملك على نحو الإشاعة أو الكلّي في المعيّن أو غيرهما ، فإنّ تعلّق الخمس بالعين حسبما هو المستفاد من الأخبار أمرٌ مطّرد في جميع هذه التقادير ، ولا مجال لرفع اليد عنه بتبديله بمال آخر إلّا بمقدار دلالة الدليل ، ولا دليل على تبديله بالدين وإن ورد في الزكاة.

نعم ، يجوز ذلك إذا أجاز الحاكم الشرعي ولو من باب الحسبة كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكرناه بين حقّ السادة وحقّ الإمام (عليه السلام) ، لوحدة المناط فيهما كما هو ظاهر.

(١) إذ بعد ما عرفت من ثبوت ولاية المالك على تعيين الخمس كالزكاة وأنّ

__________________

(*) مرّ الإشكال في دفعه من العروض.

٣٤٤

[٢٩٧٨] مسألة ١٨ : لا يجوز للمستحقّ أن يأخذ من باب الخمس ويردّه على المالك ، إلّا في بعض الأحوال ، كما إذا كان عليه مبلغ كثير ولم يقدر على أدائه بأن صار معسراً وأراد تفريغ الذمّة فحينئذٍ لا مانع منه إذا رضي المستحقّ بذلك (١).

______________________________________________________

له الإخراج من أيّ جزء من أجزاء المال شاء ، كما أنّ له التبديل والإخراج من مال آخر ، فليس إذن للفقير معارضته ولا للفقيه مطالبته بغيره ، فلا عبرة برضى غيره بعد نفوذ تصرّفه.

نعم ، في ولاية المالك على الدفع من غير النقدين وما بحكمهما كلامٌ قد تقدّم (١).

(١) تقدّم التعرّض لذلك في مبحث الزكاة بما يجري في الخمس أيضاً بمناط واحد ، حيث ذكرنا أنّه لا يجوز للمستحقّ الأخذ من المالك ثمّ الردّ عليه تبرّعاً ، لأنّه تفويتٌ للحقّ منافٍ لحكمة تشريعه ، إلّا إذا فرضت هناك مصلحة مقتضية لذلك بحيث لم يصدق معها التفويت والتضييع ، كما إذا كان من عليه الحقّ فقيراً متديّناً تائباً وذمّته مشغولة بما هو عاجز عن أدائه فإنّه لا بأس حينئذٍ بالأخذ والردّ مقدّمةً لتفريغ ذمّته ، لأنّه أمر حسن مرغوب فيه شرعاً.

وبعبارة اخرى : تشريع الخمس والزكاة إنّما هو لسدّ حوائج السادة والفقراء ، فلا يسوغ ارتكاب ما يتضمّن إضاعة هذا الحقّ ، أمّا ما لا إضاعة فيه فلا إشكال فيه حسبما عرفت.

__________________

(١) شرح العروة ٢٣ : ١٨٩ ١٩٢.

٣٤٥

[٢٩٧٩] مسألة ١٩ : إذا انتقل إلى الشخص مال فيه الخمس ممّن لا يعتقد وجوبه (*) (١) كالكافر ونحوه لم يجب عليه إخراجه ، فإنّهم (عليهم السلام) أباحوا لشيعتهم ذلك ، سواء كان من ربح تجارة أو غيرها ، وسواء كان من المناكح والمساكن والمتاجر أو غيرها.

تمّ كتاب الخمس.

______________________________________________________

(١) المعروف والمشهور تقييد الحكم بما إذا انتقل المال ممّن لا يعتقد الخمس ، مع أنّ هذا القيد غير مذكور في شي‌ء من روايات الباب.

وكيفما كان ، فالأخبار في المسألة مختلفة ومتعارضة ، كما أنّ الأقوال متشتّتة ومتضاربة (١) ، وبما أنّ المتّبع هو الدليل فلا بدّ من عرض الأخبار والنظر فيما هو المتحصّل منها ، مقتصرين على النصوص المعتبرة ، معرضين عمّا لا عبرة به ، فنقول ومنه الاستعانة :

يظهر من جملة من الأخبار إباحة الخمس للشيعة إباحةً مطلقةً بلا قيد ولا شرط ، وأنّهم في حلّ منه لا يجب عليهم أداؤه بتاتاً ، فكأنّ التشريع بالإضافة إليهم لم يتجاوز مرحلة الاقتضاء ولم يبلغ مقام الفعليّة ، لاقترانه بتحليلهم وإباحتهم (صلوات الله عليهم).

وبإزائها ما دلّ على عدم الإباحة مطلقاً.

وهناك ما تضمّن التحليل بالنسبة إلى من انتقل إليه الخمس ، فيثبت حينئذٍ

__________________

(*) بل من مطلق من لا يلتزم بالخمس ولو كان معتقداً به.

(١) خصوصاً في شرح المراد من المساكن والمناكح والمتاجر ، بل قال في الجواهر (١٦ : ١٥٢) : يخشى على من أمعن النظر فيها مريداً إرجاعها إلى مقصد صحيح من بعض الأمراض العظيمة قبل أن يأتي بشي‌ء إلى أن قال : وليتهم تركونا والأخبار.

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

في ذمّة من انتقل عنه ، وليس على من انتقل إليه شي‌ء ، بخلاف الزكاة حيث لم تسقط عمّن انتقلت إليه كما تقدّم (١).

فهذه طوائف ثلاث من الأخبار :

أمّا الطائفة الأُولى : فالعمدة منها صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : هلك الناس في بطونهم وفروجهم ، لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا ، ألا وأنّ شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلّ» (٢) هكذا في التهذيب ، ورواها في الفقيه بلفظ : «وأبناءهم» بدل : «وآباءهم» ولعلّه الأصحّ كما لا يخفى.

ونحوها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال : «إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حلّلهم من الخمس يعني : الشيعة ليطيب مولدهم» (٣).

ومعتبرة الحارث بن المغيرة النصري ، قال : دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فجلست عنده فإذا نجيّة قد استأذن عليه فأذن له فدخل فجثا على ركبتيه ثمّ قال : جعلت فداك ، إنِّي أُريد أن أسألك عن مسألة ، والله ، ما أُريد بها إلّا فكاك رقبتي من النار ، فكأنه رقّ له فاستوى جالساً إلى أن قال : «اللهمّ إنّا قد أحللنا ذلك لشيعتنا» إلخ (٤).

وقد عبّر عنها في الحدائق بالموثّقة (٥). ولم يظهر وجهه بعد جهالة جعفر بن

__________________

(١) شرح العروة ٢٣ : ٣٧٦.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٤٣ / أبواب الأنفال ب ٤ ح ١ ، التهذيب ٤ : ١٣٧ / ٣٨٦ ، لا يوجد في الفقيه بل في علل الشرائع : ٣٧٧ / ٢.

(٣) الوسائل ٩ : ٥٥٠ / أبواب الأنفال ب ٤ ح ١٥.

(٤) الوسائل ٩ : ٥٤٩ / أبواب الأنفال ب ٤ ح ١٤.

(٥) الحدائق ١٢ : ٤٢٩.

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

محمّد بن حكيم الواقع في سلسلة السند. نعم ، هو مذكور في إسناد كامل الزيارات ، فهي موثّقة على مسلكنا لا على مسلكه (قدس سره).

وأمّا روايته الأُخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : إنّ لنا أموالاً من غلّات وتجارات ونحو ذلك ، وقد علمت أنّ لك فيها حقّا «قال : فلم أحللنا إذن لشيعتنا إلّا لتطيب ولادتهم ، وكلّ من والى آبائي فهو في حلّ ممّا في أيديهم من حقّنا ، فليبلغ الشاهد الغائب» (١).

فهي ضعيفة السند بأبي عمارة فإنّه مجهول ، وإن عبّر عنها في الحدائق بالصحيحة (٢).

وهذه الروايات مضافاً إلى معارضتها بما ستعرف من الطائفتين غير قابلة للتصديق في نفسها ولا يمكن التعويل عليها :

أوّلاً : من أجل منافاتها لتشريع الخمس الذي هو لسدّ حاجات السادة والفقراء من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، إذ لو لم يجب دفع الخمس على الشيعة والمفروض امتناع أهل السنّة وإنكارهم لهذا الحقّ فمن أين يعيش فقراء السادة؟! والمفروض حرمة الزكاة عليهم ، فلا يمكن الأخذ بإطلاق هذه النصوص جزماً.

وثانياً : أنّها معارضة بالروايات الكثيرة الآمرة بدفع الخمس في الموارد المتفرّقة والأجناس المتعدّدة كقوله (عليه السلام) : «خذ من أموال الناصب ما شئت وادفع إلينا خمسه» (٣) أو : «من أخذ ركازاً فعليه الخمس» (٤) وما ورد في

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٤٧ / أبواب الأنفال ب ٤ ح ٩.

(٢) الحدائق ١٢ : ٤٢٩.

(٣) الوسائل ٩ : ٤٨٧ / أبواب ما يجب فيه ب ٢ ح ٦ ، بتفاوت يسير.

(٤) الوسائل ٩ : ٤٩٧ / أبواب ما يجب فيه ب ٦ ح ١ ، بتفاوت يسير.

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أرباح التجارات من صحيحة علي بن مهزيار الطويلة (١) وغيرها.

فلو كان مباحاً للشيعة وساقطاً عنهم فلما ذا يجب عليهم الخمس؟! وما معنى الأمر بالدفع في هذه النصوص المتكاثرة؟! وهل ترى أنّ ذلك لمجرّد بيان الحكم الاقتضائي غير البالغ مرحلة الفعليّة بقرينة نصوص التحليل؟! هذا مضافاً إلى معارضتها ب :

الطائفة الثانية الظاهرة في نفي التحليل مطلقاً ، مثل ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه ، قال : كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) إذ دخل عليه صالح بن محمّد بن سهل وكان يتولّى له الوقف بقم ، فقال : يا سيِّدي ، اجعلني من عشرة آلاف درهم في حلّ ، فإنِّي قد أنفقتها ، فقال له : «أنت في حلّ» فلمّا خرج صالح فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «أحدهم يثب على أموال (حقّ) آل محمّد وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثمّ يجي‌ء فيقول : اجعلني في حلّ ، أتراه ظنّ أنِّي أقول : لا أفعل ، والله ليسألنّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً» (٢).

فإنّ الظاهر بمقتضى القرائن الموجودة فيها أنّ المراد من الأموال هو الخمس كما لا يخفى.

ومعتبرة أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : «من اشترى شيئاً من الخمس لم يعذره الله ، اشترى ما لا يحلّ له» (٣).

والظاهر أنّها معتبرة ، فإنّ المراد بالحسين الواقع في السند هو ابن سعيد

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٠١ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٨ ح ٥.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٣٧ / أبواب الأنفال ب ٣ ح ١.

(٣) الوسائل ٩ : ٥٤٠ / أبواب الأنفال ب ٣ ح ٦.

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الذي يروي عنه أحمد بن محمّد ، كما أنّ المراد بالقاسم هو ابن محمّد الجوهري ، فتصبح الرواية معتبرة ، وقد فات صاحب الوسائل هنا روايتها بسند آخر قد تعرّض له في باب بيع السرقة ، حيث يرويها هناك عن الحسين بن سعيد عن أبان ، ومعه لا إشكال في السند بوجه.

نعم ، الرواية السابقة المتضمّنة لقصّة صالح أقوى دلالةً ، لاختصاص موردها بالشيعة ، وأمّا هذه فمطلقة تعمّ الشيعة وغيرهم ، فمن الجائز أن يراد الثاني خاصّة كما لا يخفى.

هذا ، وقد اختار صاحب الحدائق في مقام الجمع بين هاتين الطائفتين المتعارضتين : أنّ الساقط إنّما هو حصّة الإمام (عليه السلام) أعني : نصف الخمس وأمّا النصف الآخر أعني : حقّ السادة فلا بدّ من دفعه إليهم (١).

وهذا كما ترى مجرّد اقتراح من غير أن يعرف له أيّ وجه ، بل أنّ مقتضى التعليل بطيب الولادة الوارد في بعض نصوص التحليل تعلّق الحلّيّة بتمام الخمس ، لعدم تحقّق الطيب بدون ذلك كما لا يخفى.

نعم ، قد خصّ التحليل في بعض النصوص بحصّته (عليه السلام) ، كما في صحيح ابن مهزيار : «من أعوزه شي‌ء من حقّي فهو في حلّ» (٢).

ولكنّه خاصّ بالمحتاجين والمعوزين لا مطلق الشيعة الذي هو محلّ الكلام ، فهو إجازة لصنف خاصّ في صرف سهم الإمام ، وأجنبي عمّا نحن فيه من التحليل العام لمطلق الشيعة.

نعم ، تضمّنت رواية أبي حمزة تحليل ثلاثة أسهم ، أي نصف الخمس لمطلق

__________________

(١) الحدائق ١٢ : ٤٤٢ ٤٤٣ ، ٤٦٣ ٤٦٤.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٤٣ / أبواب الأنفال ب ٤ ح ٢.

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الشيعة (١) ، لكنّها لا تدلّ على الحصر وأنّ التحليل يختصّ بذلك لينافي ما دلّ على التحليل في تمام الخمس ، فمفادها ليس إلّا تحليل هذه الأسهم ، لا عدم تعلّق التحليل ببقيّة السهام ، فالدلالة قاصرة.

مضافاً إلى أنّ السند ضعيف أيضاً بعليّ بن العبّاس الذي ضعّفه النجاشي صريحاً (٢) ، فلا يمكن التعويل عليها.

والأقوى في مقام الجمع حمل نصوص التحليل على ما انتقل إلى الشيعة ممّن لا يعتقد الخمس ، أو لا يخمّس وإن اعتقد كما ستعرف ، وأمّا ما وجب على المكلّف نفسه فلا موجب لسقوطه ولم يتعلّق به التحليل ، فتكون نصوص التحليل ناظرة إلى الأوّل ، ونصوص العدم إلى الثاني.

وتدلّنا على هذا التفصيل :

طائفة ثالثة من الأخبار تعدّ وجهاً للجمع بين الطائفتين المتقدّمتين وشاهداً عليه ، والعمدة منها روايتان :

إحداهما : ما رواه الشيخ والصدوق بإسنادهما عن يونس بن يعقوب ، قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من القماطين فقال : جعلت فداك ، تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت ، وأنّا عن ذلك مقصّرون ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» (٣).

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٥٢ / أبواب الأنفال ب ٤ ح ١٩.

(٢) رجال النجاشي : ٢٥٥ / ٦٦٨.

(٣) الوسائل ٩ : ٥٤٥ / أبواب الأنفال ب ٤ ح ٦ ، التهذيب ٤ : ١٣٨ / ٣٨٩ ، الاستبصار ٢ : ٥٩ / ١٩٤ ، الفقيه ٢ : ٢٣ / ٨٧.

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

وهي وإن كانت ضعيفة السند بطريق الشيخ من أجل محمّد بن سنان ولكنّها معتبرة بطريق الصدوق ، لخلوّه عنه ، وإن اشتمل على الحكم بن مسكين فإنّه ثقة على الأظهر.

وقد دلّت على التحليل بالإضافة إلى الأموال التي تقع في الأيدي ، أي تنتقل من الغير بشراءٍ ونحوه وأنّه لا يجب على الآخذ ومن انتقل إليه إعطاء الخمس ، وأنّهم (عليهم السلام) حلّلوا ذلك لشيعتهم.

ثانيتهما : ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي سلمة سالم بن مكرم وهو أبو خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قال رجل وأنّا حاضر : حلّل لي الفروج ، ففزع أبو عبد الله (عليه السلام) ، فقال له رجل : ليس يسألك أن يعترض الطريق ، إنّما يسألك خادماً يشتريها ، أو امرأة يتزوّجها ، أو ميراثاً يصيبه ، أو تجارة أو شيئاً أعطيه «فقال : هذا لشيعتنا حلال ، الشاهد منهم والغائب ، والميّت منهم والحيّ ، وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال ، أما والله ولا يحلّ إلّا لمن أحللنا له» إلخ (١).

وهي صريحة في المدّعى ، أعني : التحليل في المال المنتقل إليه بشراء ونحوه.

كما أنّها صحيحة السند على الأظهر ، فإنّ سالم بن مكرم المكنّى بأبي خديجة تارةً ، وبأبي سلمة اخرى ، كنّاه بها الصادق (عليه السلام) على ما رواه الكشّي (٢) ثقة جدّاً على ما نصّ عليه النجاشي بقوله : ثقة ثقة (٣) ، أي ليست فيه أيّة شبهة.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٤٤ / أبواب الأنفال ب ٤ ح ٤ ، التهذيب ٤ : ١٣٧ / ٣٨٤ ، الاستبصار ٢ : ٥٨ / ١٨٩.

(٢) رجال الكشّي : ٣٥٢ / ٦٦١.

(٣) رجال النجاشي : ١٨٨ / ٥٠١.

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن الشيخ الطوسي (قدس سره) ضعّفه بعد أن عنونه بقوله : سالم بن مكرم يكنّى أبا خديجة ومكرم يكنّى أبا سلمة ، فجعل أبا سلمة كنية لأبيه لا لنفسه ، بل صرّح في الفهرست في آخر الترجمة بقوله : عن سالم بن أبي سلمة وهو أبو خديجة (١).

ولكن هذا سهو منه جزماً ، فإنّ سالم بن مكرم هو سالم أبو سلمة على ما صرّح به النجاشي والبرقي وابن قولويه في غير مورد (٢) ، وقد سمعت عن الكشّي عن العيّاشي عن ابن فضّال أنّ الصادق (عليه السلام) كنّاه بأبي سلمة بعد أن كان يكنّى بأبي خديجة ، فهو سالم أبو سلمة لا ابن أبي سلمة.

والذي هو محكوم بالضعف هو سالم بن أبي سلمة الكندي السجستاني الذي وصفه النجاشي بقوله : حديثه ليس بالنقي وإن كنّا لا نعرف منه إلّا خيراً ، له كتاب (٣).

وهذا شخص آخر غير ابن مكرم ، ولم يتعرّض له الشيخ لا في الفهرست مع أنّ له كتاباً ، ولا في رجاله ، فيعلم من ذلك أنّ الشيخ تخيّل أنّهما شخص واحد وأنّ سالم بن مكرم هو سالم بن أبي سلمة ، وليس كذلك قطعاً حسبما عرفت.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن : أنّ المستفاد من نصوص الباب بعد ضمّ البعض إلى البعض والجمع بينها إنّما هو التفصيل بين الخمس الواجب على المكلّف بنفسه ابتداءً فلا تحليل ، وبين ما انتقل إليه من الغير فلا خمس عليه وإنّما هو في عاتق من انتقل عنه ، فيتعلّق ببدله إن كان له بدل ، وإلّا ففي ذمّته كما في الهبة. ومرجعه إلى إجازة ذاك النقل من قبل وليّ الأمر.

__________________

(١) الفهرست : ٧٩ / ٨٣٨.

(٢) رجال النجاشي : ١٨٨ / ٥٠١ ، البرقي : ٣٣ ، ابن قولويه في كامل الزيارات : ٥٥.

(٣) رجال النجاشي : ١٩٠ / ٥٠٩.

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وإنّما الكلام في أنّ ذلك هل يختصّ بما إذا كانت المنتقل عنه ممّن لا يعتقد الخمس بتاتاً كالمخالف والكافر ، أو يعمّ مطلق من لم يخمّس ولو عصياناً مع كونه معتقداً كفسّاق الشيعة؟

المذكور في كلمات الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو الأوّل ، حيث قيّدوا الحكم بما انتقل ممّن لا يعتقد.

ولكنّا لا نعرف وجهاً لهذا التقييد بعد أن كانت الروايتان المتقدّمتان صحيحتا يونس بن يعقوب وسالم بن مكرم مطلقتين من هذه الجهة ، وهما العمدة في المسألة كما عرفت ، فإنّ المذكور فيهما وقوع الأموال في الأيدي ، أو الشراء ، أو إصابة الإرث ونحوه ، ويجمعها انتقال ما فيه الخمس من الغير ، سواء أكان ذلك الغير الممتنع عن دفع الخمس معتقداً فاسقاً ، أم مخالفاً منكراً.

ودعوى أنّ جميع الشيعة كانوا يخمّسون أموالهم في زمانهم (عليهم السلام).

غير مسموعة ، إذ هي غير بيّنة ولا مبيّنة ، بل الظاهر أنّ الأزمنة متشابهة والقرون متقاربة ، ويتضمّن كلّ عصر مع هداية السبيل شاكراً وكفوراً ، فيؤدّي الخمس طائفة ولا يؤدّيه طائفة أُخرى ، كما هو المشاهد في العصر الحاضر.

وعليه ، فإطلاق الروايتين هو المحكّم بعد سلامته عمّا يصلح للتقييد ، ويقيّد بذلك ما دلّ على وجوب إيصال الخمس إلى مستحقّه حسبما عرفت.

هذا كلّه فيما إذا كان المال المنتقل من الغير بنفسه متعلّقاً للخمس ، وقد عرفت أنّه حلال لمن انتقل إليه بمقتضى نصوص التحليل ، والتكليف بالأداء باقٍ على عهدة من انتقل عنه.

وأمّا إذا انتقل مال لم يكن بنفسه متعلّقاً للخمس ، بل الخمس ثابت في ذمّة

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

من انتقل عنه لا في عين ماله ، فالظاهر خروجه عن نصوص التحليل.

وهذا كما لو وجب الخمس على المكلّف فأتلفه ولو بمثل الهبة فانتقل الخمس إلى ذمّته ثمّ مات وانتقلت أمواله إلى وارثه الشيعي ، فإنّ مثل هذا النقل المستند إلى الإرث غير مشمول لدليل التحليل ، إذ لا يصدق عليه أنّ فيه حقّهم.

وقد ذكرنا في محلّه أنّ حقّ الديّان غير متعلّق بالأعيان ، بل تنتقل التركة إلى الورثة ، لكن فيما زاد على مقدار الدين ، لتأخّر مرتبة الإرث عنه على ما نطقت به الآية المباركة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (١).

أمّا مقدار الدين فهو باقٍ على ملك الميّت يصرف في تفريغ ذمّته عنه ، ولم ينتقل إلى الوارث لكي يتوهّم اندراجه في نصوص التحليل.

وعلى الجملة : حال الخمس من هذه الجهة حال الزكاة وغيرها من سائر الديون المحكومة بلزوم إخراجها عن التركة أوّلاً ثمّ التقسيم بين الورثة ، فمقدار الخمس لم ينتقل إلى الوارث بتاتاً ، بل هو دين باقٍ على ملك الميّت ، ومورد روايات التحليل هو المال الخارجي الذي فيه حقّهم. وأمّا المال الذي ليس فيه الخمس وإنّما هو معدّ لتفريغ الذمّة عن الخمس أو غيره من سائر الديون فهو غير مشمول لتلك النصوص بوجه حسبما عرفت ، والله سبحانه أعلم.

__________________

(١) النِّساء ٤ : ١١.

٣٥٥

تذييل

في الأنفال

جرت عادة الفقهاء على التعرّض للأنفال بعد الفراغ عن كتاب الخمس ، لما بينهما من المناسبة ، باعتبار أنّ الخمس نصفه للإمام ، أمّا الأنفال فتمامها له ، قال سبحانه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) (١) ، وقد دلّت النصوص المتظافرة على أنّ ما كان لله والرسول فهو للإمام من بعده.

وقد أحببنا التعرّض لها استجابةً لطلب ثلّة من فضلاء البحث.

فنقول ومنه الاستعانة : ذكر الفقهاء موارد لذلك ، وقد اختلفت كلماتهم في تعدادها :

فمنها : كلّ أرض يغنمها المسلمون من الكفّار بغير قتال (٢) ، إمّا بصلح أو

__________________

(١) الأنفال ٨ : ١.

(٢) في رسالة شيخنا الوالد (قدس سره) التي كتبها في الخمس ما لفظه : قد تسالم الأصحاب على أنّ ما يؤخذ من غير أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو من الفي‌ء والأنفال ، وهو لله ولرسوله ، وبعده القرابة ، والمال المأخوذ من بني النضير حسب حكاية الكتاب في سورة الحشر (٥٩ : ٦) وهو قوله تعالى (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) إلخ لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو لله ورسوله ولا يشاركه شركاؤه في الخمس ، مع أنّ الآية المتّصلة بهذه الآية من دون ذكر عاطف مشعر بالمغايرة مصرّحة بعين ما صرّحت به في آية الغنيمة (الحشر ٥٩ : ٧) ، قال تعالى (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى

٣٥٦

__________________

فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وفي جملة من الكلمات التصريح بأنّ الآية الثانية بيانٌ للأُولى ولذلك لم تعطف عليها ، ومنهم الفيض في تفسيره (٥ : ١٥٥) والفاضل المقداد في كنز العرفان (٢٥٦) ونُقل عن الكشّاف (٤ : ٨٢).

وإن كانت الآية الثانية غير مرتبطة بسابقتها ، ولا ينافيه عدم العطف ، كما أنّ ذكر العاطف لا ينافي التوكيد ، بل كانت من آيات الخمس وكانت متّحدة المفاد مع آية سورة الأنفال. فيشكل حينئذٍ بأنّ صريح الآية : أنّ ما أفاء الله من أهل القرى بتمامه لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

ومحصّل الشبهة : أنّ الآية الأُولى ساكتة عن بيان المصرف وتعيين من له المال ، والثانية إن كانت مبيّنة لإجمال الاولى فينافيه ما هو المسلّم من أنّ المأخوذ بلا خيل ولا ركاب من الأنفال ، وإن كانت مساوقة لآية (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) الواقعة في سورة الأنفال (٨ : ٤١) ، فلا يوافق ما هو المسلّم أيضاً من أنّ المأخوذ بالقتال يخمّس وخمسه يقسّم بين الطوائف المذكورة ، وظاهر الآية عدم إعطاء شي‌ء لغير الإمام. وإن كانت متعرّضة لعنوان ثالث وكبرى اخرى غير الفي‌ء والغنيمة فما هي تلك الكبرى التي لم يعنونها الفقهاء في كتب الاستدلال؟! هذا ما خطر بالبال في تقريب الإشكال. انتهى.

أقول : قد أُشير إلى الإشكال في جملة من الكلمات ، وتفصّي عنه بوجوه لا تخلو عن الخدش كما لا يخفى على من لاحظها ، التي منها ما عن المحقّق الأردبيلي (قدس سره) في كشف آياته (زبدة البيان : ٢١٤) ، قال ما لفظه : المشهور بين الفقهاء أنّ الفي‌ء له (صلّى الله عليه وآله) وبعده للقائم مقامه يفعل به ما يشاء ، كما هو ظاهر الآية الأُولى ، والثانية تدلّ على أنّه يقسّم كالخمس ، فأمّا أن يجعل هذا غير مطلق الفي‌ء فيئاً خاصّاً كان حكمه هكذا ، أو منسوخاً ، أو يكون تفضّلاً منه ، وكلام المفسّرين أيضاً هنا لا يخلو عن شي‌ء. انتهى.

ويظهر من الشيخ في التبيان (٩ : ٥٦٤) أنّ الآيتين تنظران إلى مال واحد هو الفي‌ء ،

٣٥٧

__________________

يشير الصدر إلى من بيده أمر هذا المال ، والذيل إلى من يستحقّ الصرف فيه ، وأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ومن يقوم مقامه يضعه في المذكورين في هذه الآية. وهو أيضاً كما ترى.

هذا ، وقد أجاب سيِّدنا الأُستاذ (دام ظلّه) عن الإشكال : بأنّ موضوع الآية الاولى هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، وهو راجع إلى النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ، والآية المباركة ظاهرة في ذلك ، ومع التنزّل عن ظهور الآية ودعوى سكوتها عن بيان المصرف فالروايات صريحة الدلالة على ذلك ، ولا خلاف في المسألة.

وأمّا الآية الثانية فموضوعها : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، والمراد به ما يؤخذ منهم بالقتال وبعد الغبة عليهم ودخول قراهم ، بقرينة المقابلة مع الآية الأُولى ، ولم يذكر فيها أنّ ما يرجع إلى النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أيّ مقدار ممّا غنمه المسلمون ، إلّا أنّ آية الغنيمة قد كشفت القناع عنه وبيّنت أنّ ما يغنمه المسلمون فخمسه يرجع إليه (صلّى الله عليه وآله) ، كما وبيّن أيضاً مصرفه في كلتا الآيتين.

ولا يقدح تخصيصه (صلّى الله عليه وآله) بالذكر مع أنّه أحد الستّة ، لكونه المحور والأصيل في هذا التسهيم كما لا يخفى.

هذا ، وأنّ صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) صريحة في أنّ الآية الثانية ناظرة إلى الغنيمة ، كما أنّ الاولى ناظرة إلى الأنفال.

قال (عليه السلام) : «الفي‌ء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء ، وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كلّه من الفي‌ء ، فهذا لله ولرسوله ، فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث يشاء ، وهو للإمام بعد الرسول وأمّا قوله (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ). قال : ألا ترى هو هذا؟ وأمّا قوله (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فهذا بمنزلة المغنم» إلخ ، (الوسائل ٩ : ٥٢٧ / أبواب الأنفال ب ١ ح ١٢. والآيتان من الحشر ٥٩ : ٦ و ٧).

٣٥٨

بجلاء أهلها ، وقد دلّت عليه جملة من الأخبار :

منها : معتبرة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : ما يقول الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ)؟ «وهي كلّ أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب فهي نفل لله وللرسول (صلّى الله عليه وآله)» (١).

وموثّقة سماعة ، قال : سألته عن الأنفال «فقال : كلّ أرض خربة أو شي‌ء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم. قال : ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، أنّه سمعه يقول : «إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم ، أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهذا كلّه من الفي‌ء ، والأنفال لله وللرسول ، فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يحبّ» (٣).

إنّما الكلام في أنّ ذلك هل يختصّ بالأراضي ، أو يعمّ كلّ ما يغنمه المسلمون من الكفّار ولو كان غير الأراضي كالفرش والأواني ونحوها من المنقولات؟

__________________

ولا ينافيه التعبير بالمنزلة المشعر بالمغايرة ، لجواز كون التغاير من أجل اختلاف المورد بعد الاشتراك في الحكم نظراً إلى أنّ الغالب في الغنائم الاستيلاء عليها في دار الحرب ، وميدان القتال ، لا من أهل القرى ، فاشير إلى تنزيل إحدى الغنيمتين منزلة الأُخرى.

(١) الوسائل ٩ : ٥٢٦ / أبواب الأنفال ب ١ ح ٩ ، وفيه سقط كما نبّه عليه المعلّق. والآية من الأنفال ٨ : ١.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٢٦ / أبواب الأنفال ب ١ ح ٨.

(٣) الوسائل ٩ : ٥٢٦ / أبواب الأنفال ب ١ ح ١٠.

٣٥٩

فهل تعدّ هذه أيضاً من الأنفال ، أو أنّها من الغنائم ويجب خمسها؟

لعلّ المشهور بين الفقهاء هو الاختصاص ، حيث قُيِّد الموضوع في كلماتهم بالأراضي.

ولكن التعميم غير بعيد ، لإمكان استفادته من بعض الأخبار :

منها : صحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء» (١) ، فإنّ الموصول مطلق يعمّ الأرض وغيرها.

وصحيحة معاوية بن وهب ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : السريّة يبعثها الإمام فيصيبون غنائم ، كيف تقسّم؟ «قال : إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسّم بينهم أربعة أخماس ، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ» (٢).

دلّت بصيغة العموم على شمول الحكم لكلّ غنيمة لم يقاتل عليها.

يبقى ظهور النصوص المتقدّمة في الاختصاص ، حيث إنّها وردت في مقام البيان وشرح مفهوم الأنفال. وظاهر التفسير أنّ للأرض خصوصيّة في هذا العنوان ، فله نوع مفهوم يدلّ على نفي الحكم عن غيره ، إذ ما ورد في مقام التحديد يدلّ على المفهوم بطبيعة الحال ، كالروايات الواردة في تحديد مفهوم الكرّ ، ولأجله يقيّد الإطلاق في هاتين الروايتين.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٢٣ / أبواب الأنفال ب ١ ح ١.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٢٤ / أبواب الأنفال ب ١ ح ٣.

٣٦٠