موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

معهم كما هو المشهور كانت هذه المعاملة كغيرها من سائر المعاملات التي تعدّ فوائدها من أرباح المكاسب والغنائم بالمعنى الأعمّ كما هو ظاهر.

وإن قلنا بالحرمة كما هو الأظهر عملاً بإطلاق قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) (١) السليم عمّا يصلح للتقييد نظراً إلى أنّ الرواية المقيّدة المتضمّنة لجواز الربا مع الكافر ضعيفة السند ، ومن ثمّ استغرب السبزواري أنّه كيف يرفع اليد عن إطلاق الآية برواية ضعيفة فهذه المعاملة غير سائغة معهم من أصلها فلا يجوز ارتكابها.

نعم ، بعد الارتكاب وأخذ المال يجوز التصرّف فيه ولا يجب الردّ ، عملاً بقاعدة الإلزام ، حيث إنّهم يسوّغون هذه المعاملة فيؤخذون بما التزموا به على أنفسهم. وعليه ، فيعدّ ذلك فائدة عائدة بالتكسّب كما في سائر المعاملات ، فتكون لا محالة من الغنائم بالمعنى الأعمّ.

بل يمكن أن يقال : إنّه لا حاجة إلى التمسّك بقاعدة الإلزام بعد جواز استملاك مال الكافر حتّى سرقةً أو غيلةً.

نعم ، يتّجه في الكافر الذمّي الذي هو خارج فعلاً عن محلّ الكلام. اللهمّ إلّا أن يستند إليها ليكون له معذّر في نظر العقلاء دون الشرع.

وأمّا المأخوذ بالدعوى الباطلة فهو في حكم المأخوذ بالسرقة أو الغيلة ، ولا وجه للتفكيك بينهما أبداً ، لوحدة المناط ، وهو اندراج الكلّ في الفائدة والمغنم من غير اشتماله على القتال ، وقد عرفت أنّها من الغنائم بالمعنى الأعم ، فيعتبر في وجوب تخميسها إخراج مئونة السنة حسبما عرفت.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٢١

[٢٨٧٨] مسألة ٢ : يجوز أخذ مال الناصب أينما وُجِد (١) ، لكن الأحوط إخراج خمسه مطلقاً (٢).

______________________________________________________

(١) فلا احترام لماله كالكافر الحربي ، بل هو أشدّ منه ، وقد ورد : أنّ الله تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب ، وأنّ الناصب لنا أهل البيت أنجس منه (١).

ويدلّ على الحكم صريحاً صحيح الحفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس» (٢) ، ونحوه صحيح معلى بن خنيس على الأظهر (٣).

المؤيّدين بالمرسل عن إسحاق بن عمّار ، قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «مال الناصب وكلّ شي‌ء يملكه حلال إلّا امرأته ، فإنّ نكاح أهل الشرك جائز ، وذلك أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : لا تسبّوا أهل الشرك ، فإنّ لكلّ قوم نكاحاً ، ولو لا أنّا نخاف عليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم ورجل منكم خير من ألف رجل منهم لأمرناكم بالقتل لهم ، ولكن ذلك إلى الإمام» (٤).

(٢) لا إشكال في وجوب تخميسه في الجملة كما نطقت به الصحيحتان المتقدّمتان آنفاً.

وإنّما الكلام في أنّ ذلك هل يجب ابتداءً كما في غنائم دار الحرب ، أو بعد إخراج مئونة السنة؟

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٠ / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب ١١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٩ : ٤٨٧ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٢ ح ٦.

(٣) الوسائل ٩ : ٤٨٨ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٢ ح ٧.

(٤) الوسائل ١٥ : ٨٠ / أبواب جهاد العدو ب ٢٦ ح ٢.

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ذكر الماتن (قدس سره) أنّ الأوّل أحوط ، والظاهر أنّه الأقوى ، عملاً بإطلاق الصحيحتين ، فإنّ ما دلّ على أنّ الخمس بعد المئونة ناظرٌ إلى الفوائد العائدة بالاكتساب من الصناعات والتجارات ، أمّا ما عدا ذلك كغنائم دار الحرب والمعدن ، والمال المختلط بالحلال والحرام ونحوها ، ومنها المأخوذ من الناصب فالمتّبع إطلاق دليل وجوب الخمس ، الثابت في مواردها ، المقتضي لوجوب التخميس ابتداءً ، من غير انتظار الزيادة على مئونة السنة ، لعدم اندراجها تحت تلك الأدلّة كما لا يخفى.

بل يكفينا مجرّد الشكّ في ذلك والتردّد في أنّ ما دلّ على أنّ الخمس بعد المئونة هل يختصّ بالخمس بعنوان الفائدة وأرباح المكاسب؟ أو أنّه يعمّ مثل المقام ، نظراً إلى أنّ الحكم الوضعي أعني : تعلّق الخمس بالمال وكون جزء من خمسة أجزائه ملكاً للإمام (عليه السلام) ثابتٌ منذ التسلّط عليه على أيّ حال من غير شبهة وإشكال؟ غاية الأمر قيام الدليل على جواز التأخير والتصرّف في تمام المال إلى نهاية السنة تسهيلاً وإرفاقاً منهم (عليهم السلام) ، وأنّه لا خمس إلّا في الفاضل على مئونة السنة ، حيث قد ثبت هذا الترخيص في طائفة من تلك الأموال التي تعلّق بها الخمس ، فإذا شكّ في سعة هذا الدليل وضيقه وأنّه هل يشمل المال المأخوذ من الناصب أو لا ، كان المرجع أصالة عدم جواز التصرّف في ملك الغير أعني : الخمس المتعلِّق بالإمام (عليه السلام) إذ التصرّف يحتاج إلى الدليل بعد فرض كونه ملكاً للغير كما عرفت ، ومقتضى الأصل عدمه ، ونتيجته وجوب التخميس ابتداءً من غير إخراج مئونة السنة ، فيكون الحكم التكليفي أيضاً ثابتاً كالوضعي.

٢٣

وكذا الأحوط إخراج الخمس ممّا حواه العسكر من مال البغاة إذا كانوا من النُّصّاب (١) ودخلوا في عنوانهم ، وإلّا فيشكل حلّيّة مالهم.

______________________________________________________

(١) لا ينبغي الإشكال في حلّيّة مال البغاة والخوارج وجواز التصرّف فيه بإتلافٍ ونحوه قبل نشوب القتال أو أثنائه قبل أن (تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) ، فإنّ الإذن في القتال إذنٌ في مثل هذه التصرّفات التي يتوقّف القتال عليها من قتل فرس المقاتل الباغي أو فتق درعه أو كسر سيفه ونحو ذلك.

ومنه تعرف عدم الضمان بعد أن كان الإتلاف بإذن من ولي الأمر ومن هو أولى بالتصرّف.

وقد أمر مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام بعقر جمل عائشة فعُقِرَ من غير أن يخرج عن ضمانه (١).

وأمّا بعد انتهاء القتال ووضع (الْحَرْبُ أَوْزارَها) فلا إشكال في الجواز أيضاً إذا كان البغاة من النصّاب ، لما تقدّم من حلّيّة مال الناصب وعدم احترامه وإن لم يقاتل فضلاً عمّا لو قاتل.

وأمّا إذا لم يكن من النواصب وإنّما خرج وقاتل طلباً للرئاسة وحرصاً على حطام الدُّنيا من غير أن يحمل بغض أهل البيت (عليهم السلام) وينصب العداوة لهم ، فقد وقع الخلاف حينئذٍ بين الأصحاب في جواز التصرّف في ماله :

فذهب جماعة إلى الجواز وأنّه يقسّم بين المقاتلين كما في الكافر الحربي ، بل ادّعى الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة وأخبارهم عليه (٢).

__________________

(١) الجمل (مصنّفات الشيخ المفيد ١) : ٣٧٧.

(٢) الخلاف ٥ : ٣٤٦ / ١٧.

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن الإجماع المدّعى منه معارض بما عن السيِّد المرتضى وابن إدريس والعلّامة من دعوى الإجماع على خلافه كما في الجواهر ج ١٢ ص ٣٣٩ ، فلا يعتمد عليه بوجه. ولم يتّضح مراده (قدس سره) من الأخبار وغايته أنّها مرسلة.

هذا ، وقد ذهب المحقّق في جهاد الشرائع إلى جواز التصرّف والقسمة بين المقاتلين (١) ، استناداً إلى قيام سيرة علي (عليه السلام) على ذلك ، كما حكي ذلك عن جمع أيضاً منهم العماني (٢).

ولكن سيرته غير ثابتة كما صرّح به في الجواهر ، بل عن الشيخ في المبسوط والشهيد في الدروس أنّ سيرته (عليه السلام) في أهل البصرة كانت على خلاف ذلك وأنّه (عليه السلام) أمر بردّ أموالهم فأُخذت حتى القدور (٣).

فدعوى السيرة معارضة بمثلها كالإجماع فلا يمكن الاعتماد على شي‌ء منهما ، بل لا يمكن الاعتماد حتى لو ثبتت السيرة على كلّ من الطرفين ، إذ لو ثبتت سيرته (عليه السلام) على التقسيم فبما أنّها قضيّة خارجيّة فمن الجائز أن يكون ذلك من أجل أنّ المقاتلين كانوا بأجمعهم من النواصب ، وقد عرفت حلّيّة مال الناصب وإن لم يقاتل فضلاً عن المقاتل. فلا دلالة في ذلك على جواز القسمة في غير الناصبي الذي هو محلّ الكلام.

ولو ثبتت سيرته (عليه السلام) على الردّ فهو أعمّ من حرمة التقسيم ، لجواز ابتنائه على المنّ.

__________________

(١) لاحظ الشرائع ١ : ٣٦٤ ٣٦٩.

(٢) حكاه في الجواهر ٢١ : ٣٣٩.

(٣) الدورس ٢ : ٤٢ ، المبسوط ٧ : ٢٦٦.

٢٥

[٢٨٧٩] مسألة ٣ : يشترط في المغتنم أن لا يكون غصباً من مسلم أو ذمّي أو معاهد (١) أو نحوهم ممّن هو محترم المال ، وإلّا فيجب ردّه إلى مالكه. نعم ، لو كان مغصوباً من غيرهم من أهل الحرب لا بأس بأخذه وإعطاء خمسه وإن لم يكن الحرب فعلاً مع المغصوب منهم. وكذا إذا كان عند المقاتلين مال غيرهم من أهل الحرب بعنوان الأمانة من وديعة أو إجارة أو عارية أو نحوها.

______________________________________________________

وعلى الجملة : فالسيرة على أيّ من الطرفين ثبتت لا يمكن الاستدلال بها فضلاً عن عدم ثبوتها كالإجماع ، ولم يرد في المقام نصّ كما عرفت. إذن فلا بدّ من العمل على مقتضى القواعد العامّة ، وهي تقتضي عدم الجواز ، عملاً بإطلاقات احترام مال المسلم ما لم يثبت خلافه.

(١) لا فرق في الغنيمة المأخوذة من دار الحرب بين ما إذا كانت ملكاً للمحاربين أنفسهم أو ملكاً لمحارب آخر وإن لم يكن من أهل الحرب فعلاً ، سواء أغصبوه منه أم كان عندهم بعنوان الأمانة من وديعة ونحوها ، لصدق الغنيمة على الكلّ ، فيشمله إطلاق الآية المباركة بعد تساوي الجميع في عدم احترام المال. وهذا ظاهر ، كما أنّه متسالم عليه بين الأصحاب.

وأمّا لو كان مغصوباً ممّن هو محترم المال كالمسلم والذمّي ونحوهما فالمشهور وجوب الردّ إلى مالكه ، بل لم ينسب الخلاف إلّا إلى الشيخ في النهاية والقاضي في بعض كتبه ، فعزي إليهما أنّ الغنيمة حينئذٍ للمقاتلين وأنّ الإمام يغرَّم القيمة لأربابها من بيت المال (١).

__________________

(١) انظر النهاية : ١٩٨.

٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ويدلّ على المشهور مضافاً إلى عمومات أدلّة احترام المال المقتضية لوجوب الردّ صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سأله رجل عن الترك يغزون على المسلمين فيأخذون أولادهم فيسرقون منهم ، أيردّ عليهم؟ «قال : نعم ، والمسلم أخو المسلم ، والمسلم أحقّ بماله أينما وجده» (١).

ودلالتها ظاهرة بل صريحة في المطلوب ، كما أنّها صحيحة السند.

هذا ، ويستدلّ لمقالة الشيخ برواية أُخرى لهشام ، عن بعض أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في السبي يأخذ العدو من المسلمين في القتال من أولاد المسلمين أو من مماليكهم فيحوزونه ، ثمّ إنّ المسلمين بعد قاتلوهم فظفروا بهم وسبوهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن قال : «وأمّا المماليك فإنّهم يقامون في سهام المسلمين فيباعون وتعطى مواليهم قيمة أثمانهم من بيت مال المسلمين» (٢).

ولكنّها ضعيفة السند بالإرسال أوّلاً ، ولم يعمل بها المشهور ليدّعى الانجبار على القول به. وأخصّ من المدّعى ثانياً ، فإنّها متعرّضة لخصوص المماليك أعني : الإماء والعبيد دون سائر الأموال المغتنمة ، فيحتاج إلى دعوى القطع بعدم الفرق أو عدم القول بالفصل. ومعارَضة بصحيحته ثالثاً حسبما عرفت.

نعم ، يمكن الاستدلال له بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن رجل لقيه العدو وأصاب منه مالاً أو متاعاً ، ثمّ إنّ المسلمين أصابوا ذلك ، كيف يصنع بمتاع الرجل؟ «فقال : إذا كانوا أصابوه قبل أن يحوزوا متاع الرجل رُدّ عليه ، وإن كانوا أصابوه بعد ما حازوه فهو في‌ء المسلمين فهو

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٩٨ / أبواب جهاد العدو ب ٣٥ ح ٣.

(٢) الوسائل ١٥ : ٩٧ / أبواب جهاد العدو ب ٣٥ ح ١.

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أحقّ بالشفعة» (١).

بناءً على تفسير الحيازة بالمقاتلة ليكون المعنى : أنّ إصابة المال لو كانت بعد القتال فهو في‌ء للمسلمين ، وإن كانت قبله رُدّ إلى صاحبه.

ولكن هذا التفسير غير ظاهر ، بل بعيد كما لا يخفى. ومن ثمّ فسّر الحيازة في الجواهر بالمقاسمة (٢) بعد إرجاع الضمير في قوله : «إذا كانوا أصابوه» إلى الرجل ، أي إذا أصابوا صاحب المال قبل التقسيم رُدّ إليه ، وإن أصابوه بعد القسمة فهو في‌ء للمسلمين.

ولكنّه أيضاً خلاف الظاهر.

ولا يبعد أن يكون الأقرب من هذين الاحتمالين تفسير الحيازة بالاستيلاء على المال واغتنامه مع عود الضمير إلى الرجل ليكون المعنى : إنّه إن عرف صاحب المال قبل أن يغتنم فهو له وإلّا فللمسلمين ، كما ربّما يقرّب هذا المعنى ما هو المشهور بل المتسالم عليه بينهم من أنّ مجهول المالك لو عرف صاحبه بعد الصرف فيما قرّره الشرع من صدقة ونحوها لم يستحقّ شيئاً. ومن ثمّ فرّقوا بينه وبين اللقطة بأنّه لو تصدّق بها ضمن على تقدير العثور على صاحبها ، بخلاف التصدّق بمجهول المالك فإنّه لا ضمان فيه بتاتاً ، فيكون الاغتنام في المقام بعد كون المال المبحوث عنه من قبيل مجهول المالك بمثابة التصدّق في سائر الموارد ، حيث إنّه بإذنٍ من صاحب الشرع ، فلا ضمان بعده وإن عثر على مالكه.

وكيفما كان ، فهذا الاحتمال وإن كان أقرب كما عرفت ، إلّا أنّه بعدُ غير واضح ، فلا تخلو الصحيحة عن كونها مضطربة الدلالة ، فلا تصلح للاستدلال بعد تكافؤ

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٩٨ / أبواب جهاد العدو ب ٣٥ ح ٢.

(٢) الجواهر ٢١ : ٢٢٤.

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتمالات.

على أنّا لو سلّمنا التفسير الأوّل بل لو فرضنا صراحتها فيه فلا ينطبق مفادها على مقالة الشيخ من غرامة الإمام قيمته من بيت المال ، لعدم التعرّض فيها لهذه الغرامة بوجه ، بل المذكور فيها أنّه أحقّ بالشفعة ، أي أنّ للمالك استرجاع المال من المقاتلين بالثمن كما في الشفيع ، كما صرّح بذلك في مرسلة جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في رجل كان له عبد فادخل دار الشرك ثمّ أُخذ سبياً إلى دار الإسلام «قال : إن وقع عليه قبل القسمة فهو له ، وإن جرى عليه القسم فهو أحقّ بالثمن» (١).

هذا كلّه فيما لو عرف المالك قبل القسمة.

وأمّا لو لم يعرف إلّا ما بعد التقسيم فعن الشيخ في النهاية : أنّها للمقاتلة أيضاً نحو ما سبق (٢) ، ولكن ذكر في الجواهر : أنِّي لم أجد له موافقاً منّا (٣) ، وإن حكي ذلك عن بعض العامّة كأبي حنيفة والثوري والأوزاعي ونحوهم (٤) ، كما لم يظهر له مستند أيضاً عدا صحيحة الحلبي المتقدّمة بناءً على تفسير الحيازة بالقسمة كما احتمله في الجواهر ، المعتضدة بمرسلة جميل. لكن عرفت أنّ شيئاً منهما لا ينطبق على مقالة الشيخ ، بل مفادهما جواز استرداد المالك بعد دفع الثمن لا غرامة الإمام قيمتها من بيت المال.

فالأقوى ما عليه المشهور من استرداد المالك ماله حيثما وجده ، من غير فرق بين ما قبل القسمة وما بعدها ، عملاً بإطلاقات احترام المال حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٩٨ / أبواب جهاد العدو ب ٣٥ ح ٤.

(٢) النهاية : ٢٩٤ ٢٩٥.

(٣) الجواهر ٢١ : ٢٢٥.

(٤) الجواهر ٢١ : ٢٢٥.

٢٩

[٢٨٨٠] مسألة ٤ : لا يعتبر في وجوب الخمس في الغنائم بلوغ النصاب عشرين ديناراً ، فيجب إخراج خمسه قليلاً كان أو كثيراً على الأصحّ (١).

______________________________________________________

وتؤيّد المشهور رواية طربال عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سُئل عن رجل كان له جارية فأغار عليه المشركون فأخذوها منه ، ثمّ إنّ المسلمين بعد غزوهم فأخذوها فيما غنموا منهم «فقال : إن كانت في الغنائم وأقام البيّنة أنّ المشركين أغاروا عليهم فأخذوها منه رُدّت عليه ، وإن كانت قد اشتُرِيت وخرجت من المغنم فأصابها رُدّت عليه برمّتها ، وأُعطي الذي اشتراها الثمن من المغنم من جميعه» قيل له : فإن لم يصبها حتى تفرّق الناس وقسّموا جميع الغنائم فأصابها بعد؟ «قال : يأخذها من الذي هي في يده إذا أقام البيّنة ، ويرجع الذي هي في يده إذا أقام البيّنة على أمير الجيش بالثمن» (١).

فإنّها توافق المشهور من حيث أخذ المالك ماله مجّاناً حيث وجده وإن تضمّنت رجوع المأخوذ منه بالثمن إلى أمير الجيش أو إلى المغنم.

(١) كما هو المعروف والمشهور ، خلافاً للمفيد في الغريّة (٢) ، حيث اعتبر النصاب ، ولكن لم يعرف له موافق كما صرّح به في الجواهر (٣) ، كما أنّه لم يعلم له أيّ مستند حتى رواية ضعيفة. فالمتّبع إذن إطلاقات الأدلّة من الكتاب والسنّة القاضية بلزوم التخميس في مطلق الغنيمة من غير تحديدٍ بحدّ.

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٩٩ / أبواب جهاد العدو ب ٣٥ ح ٥.

(٢) حكاه في الجواهر ١٦ : ١٣.

(٣) الجواهر ١٦ : ١٣.

٣٠

[٢٨٨١] مسألة ٥ : السَّلَب من الغنيمة فيجب إخراج خُمسه على السالب (*) (١).

______________________________________________________

(١) قد وقع الخلاف في حكم السَّلَب وأنّه هل يختصّ بالمقاتل السالب ، أو أنّه غنيمة كسائر الغنائم يشترك فيها جميع المقاتلين بعد إخراج خمسه؟

والمعروف بين العامّة هو الأوّل ، لما رووه عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من أنّ من قتل قتيلاً فله سَلَبه وسلاحه (١) ، ولكن الرواية لم تثبت من طرقنا ، ومن ثمّ كان المعروف بيننا هو الثاني فيجب تخميسه كسائر الغنائم ، عملاً بالإطلاقات.

نعم ، لو ثبتت الرواية أو فرضنا أنّه من الجعائل بحيث جعله الإمام (عليه السلام) للسالب وخصّه به لمصلحة حيث إنّه وليّ الأمر ويجوز له ذلك كما تقدّم (٢) ، لم يجب تخميسه حينئذٍ ، لاستثنائه بالجعل عن الغنائم كما سبق ، فينصرف دليل الخمس عن مثله.

وبعبارة اخرى : ظاهر أدلّة الخمس أنّه إنّما يجب في غنيمة تقسّم أربعة أخماسها الباقية بين المقاتلين لا ما إذا كانت مختصّة بمقاتل خاصّ ، بل ظاهر ما دلّ على الاختصاص به أنّه له بتمامه وكماله ، ولأجله تنصرف عنه أدلّة التخميس من حيث الغنيمة.

نعم ، لا إشكال في وجوب خمسه من حيث الفائدة ، أي الغنيمة بالمعنى

__________________

(*) بناءً على أنّ السلب للسالب فالظاهر عدم وجوب الخمس فيه من حيث الغنيمة ، إلّا أنّ المبنى ممنوع.

(١) انظر صحيح مسلم ٣ : ١٣٧١ / ١٧٥١ ، سنن البيهقي ٦ : ٣٠٦ و ٣٠٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٤٧ / ٢٨٣٨.

(٢) في ص ١١.

٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

الأعمّ ، وهو أمر آخر.

ثمّ إنّه قد ورد في صحيحة ابن سنان : أنّه «ليس الخمس إلّا في الغنائم خاصّة» (١).

وهذا بظاهره غير قابل للتصديق ، بل مقطوع العدم ، ولا يمكن الأخذ به ، لمنافاته مع ما ثبت من الخارج بالنصوص القطعيّة من ثبوت الخمس في غير الغنائم أيضاً كالمعادن والغوص والكنز ونحوها ممّا ستعرف إن شاء الله. فلا بدّ من العلاج :

إمّا بإرادة مطلق الفائدة من الغنيمة الشامل لجميع تلك الموارد.

أو يراد خصوص الخمس الواجب فرضاً الثابت في ظاهر القرآن ، بناءً على أنّ المراد بالغنيمة في الآية المباركة هي غنائم دار الحرب بقرينة الآيات السابقة واللّاحقة الواردة في القتال مع الكفّار ، فلا ينافي وجوب غيرها بحسب السنّة القطعيّة ، فالخمس في الغنيمة فريضة إلهيّة ثبتت بحسب الجعل الأولي وفيما عداها سنّة نبويّة. وإن كان المبنى سقيماً عندنا كما سيتّضح لك في محلّه إن شاء الله تعالى.

أو يراد وجه آخر (٢) كما ذكر ذلك كلّه الشيخ (٣) وغيره.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٤٨٥ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٢ ح ١.

(٢) في رسالة شيخنا الوالد (طاب ثراه) التي كتبها في الخمس ما لفظه : والأظهر في الجمع أن يقال : إنّ الحصر المذكور قابل للتخصيص فيخصَّص بما دلّ على ثبوته في غيره ، ألا ترى ما ورد في باب الصوم من أنّه لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال : الطعام والشراب والنِّساء والارتماس في الماء ، مع عدم انحصار المفطر بالأربعة المذكورة.

(٣) التهذيب ٤ : ١٢٤ / ٣٥٩.

٣٢

الثاني : المعادن (١) من الذهب والفضّة والرصاص والصُّفر والحديد والياقوت والزَّبَرْجَد والفيروزَج والعقيق والزئبَق والكِبريت والنفط والقير والسَّبخ والزاج والزَّرنيخ والكُحل والملح بل والجصّ والنورة وطين الغَسل وحجر الرَّحى والمَغْرَة وهي الطين الأحمر على الأحوط ، وإن كان الأقوى عدم الخمس فيها من حيث المعدنيّة ، بل هي داخلة في أرباح المكاسب فيعتبر فيها الزيادة عن مئونة السنة.

والمدار على صدق كونه معدناً عرفاً ،

______________________________________________________

وعلى أيّ حال ، فلا بدّ من الحمل على أحد المحامل بعد امتناع الأخذ بالظاهر حسبما عرفت.

(١) بلا خلافٍ فيه ولا إشكال ، بل إجماعاً كما عن غير واحد ، وتشهد له جملة وافرة من النصوص بين معتبر وغيره دلّت على تعلّق الخمس بالمعدن من حيث هو وبعنوانه ، لا بعنوان الفائدة لتلاحظ الزيادة على المئونة.

وقد اختلفت كلمات الفقهاء في تفسير المعدن كما تضارب فيه تعريف اللغويّين ، وقد اشتملت النصوص على ذكر جملة منها كالذهب والفضّة ونحوهما.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ ما يتكوّن في جوف الأرض ويستخرج منها ويعظم الانتفاع بها كالفلزات من الذهب والفضّة والنحاس والرصاص ونحوها من النفط والكبريت من مصاديق هذا العنوان عرفاً. والظاهر عدم اختصاصه بما كان مستوراً ومتكوّناً في جوف الأرض ، بل يشمل الظاهر المتكوّن فوقها كالملح ، كما صرّح به في صحيح ابن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الملاحة «فقال : وما الملاحة؟» فقلت : أرض سبخة مالحة يجتمع فيها الماء فيصير ملحاً «فقال : هذا المعدن فيه الخمس» فقلت : والكبريت والنفط يخرج

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

من الأرض؟ قال : «فقال : هذا وأشباهه فيه الخمس» (١).

فهذا مصداق شرعي للمعدن بمقتضى هذه الصحيحة ، سواء أصدق عليه المعدن عرفاً أم لا. كما أنّ ما صدق عليه الاسم عرفاً يلحقه حكمه وإن لم يكن مذكوراً في النصوص كالقير ، إلّا أن يكون مشمولاً لقوله : «وأشباهه» الوارد في ذيل هذه الصحيحة.

كما أنّ الظاهر عدم اعتبار خروجه عن صدق مسمّى الأرض ، فلا فرق فيما يستخرج بين كونه من غير جنس الأرض كالذهب والفضّة ونحوهما حيث إنّها ماهيّة أُخرى مباينة لها بحيث لو فرضنا أنّ قطعة من الكرة الأرضيّة كانت ذهباً لا يصدق عليها عنوان الأرض بتاتاً ، أو كانت من جنس الأرض ومسمّاها كالعقيق والفيروزج والياقوت والزبرجد ونحوها من الأحجار الكريمة التي لا فرق بينها وبين غيرها من الحصى وسائر الأحجار في اتّخاذ أُصولها من التراب ، غايته أنّه تغيّرت صورتها بسبب الأمطار وإشراق الشمس وعلل اخرى فأصبحت ملوّنة شفّافة واتّصفت بكونها ثمينة كريمة تبذل الأموال الطائلة بإزائها لعلّةٍ لم نعرفها لحدّ الآن ، إذ ربّ حجر يكون أبدع وأجمل وأشدّ صفاءً ولا يعدّ كريماً.

وكيفما كان ، فهذه أيضاً معادن وإن كانت من جنس الأرض ولم تكن مغايرة لها وقد حكي أنّ في بلاد الهند وادياً من عقيق مع ضرورة صدق اسم الأرض عليها.

ومن ثمّ ذكرنا في محلّه جواز السجود عليها ، لصدق اسم الأرض على هذه الأحجار وإن صدق اسم المعدن عليها أيضاً ، إذ المعتبر في المسجد أن يكون أرضاً لا أن لا يكون معدناً.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٤٩٢ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٣ ح ٤.

٣٤

وإذا شكّ في الصدق (١) لم يلحقه حكمها فلا يجب خمسه من هذه الحيثيّة ، بل يدخل في أرباح المكاسب ويجب خمسه إذا زادت عن مئونة السنة من غير اعتبار بلوغ النصاب فيه.

______________________________________________________

وكيفما كان ، فالعبرة بالصدق العرفي أو التعبّد الشرعي ، وقد ورد في صحيح زرارة : أنّ «كلّ ما كان ركازاً ففيه الخمس» (١) ، الشامل لكلّ ما كان له ثبات وقرار ومرتكزاً في مكان حتى مثل الملح ونحوه كما تقدّم.

فإن تحقّق ذلك وأُحرز الصدق فلا كلام.

(١) إنّما الكلام في موارد الشكّ كالجصّ والنورة وطين الرأس والطين الأحمر ونحوها.

والمتعيّن حينئذٍ الرجوع إلى الأُصول العمليّة ، ومقتضاها أصالة عدم وجوب التخميس فعلاً بعد الأخذ بعموم ما دلّ على أنّ «كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير ففيه الخمس بعد المئونة» (٢) أي مئونة السنة فإنّ ما يشكّ في صدق اسم المعدن عليه مشمول لهذا العامّ ، لصدق الفائدة عليه بلا كلام ، وقد خرج عن هذا العامّ بالمخصّص المنفصل عناوين خاصّة كالمعدن ونحوها ، حيث يجب تخميسها ابتداءً من غير ملاحظة المئونة ، والمفروض الشكّ في سعة مفهوم المخصّص بحيث يشمل هذا الفرد المشكوك فيه وضيقه ، وقد تقرّر في محلّه الاقتصار في المخصّص المنفصل المجمل الدائر بين الأقلّ والأكثر على المقدار المتيقّن والرجوع فيما عداه إلى عموم العامّ الذي مقتضاه في المقام عدم وجوب التخميس إلّا بعد إخراج المئونة حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٤٩٢ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٣ ح ٣.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٠٣ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٨ ح ٦.

٣٥

ولا فرق في وجوب إخراج خمس المعدن بين أن يكون في أرض مباحة أو مملوكة (١) ، وبين أن يكون تحت الأرض أو على ظهرها ، ولا بين أن يكون المخرج مسلماً أو كافراً (٢) ذمّيّاً بل ولو حربيّا ، ولا بين أن يكون بالغاً أو صبيّاً وعاقلاً أو مجنوناً (٣) ، فيجب (*) على وليّهما إخراج الخمس ، ويجوز للحاكم الشرعي إجبار الكافر (**) على دفع الخمس ممّا أخرجه وإن كان لو أسلم سقط عنه مع عدم بقاء عينه.

______________________________________________________

(١) لإطلاق الأدلّة الشامل لهما. وأمّا المغصوب فسيأتي الكلام عليه عند تعرّض الماتن (١) ، كما أنّ مقتضى الإطلاق عدم الفرق أيضاً بين أن يكون تحت الأرض أم على ظهرها كالملح كما تقدّم.

(٢) بناءً على تكليف الكافر بالفروع كالأُصول كما هو المشهور ، وأمّا بناءً على عدمه كما لعلّه الأظهر حسبما تقدّم في كتاب الزكاة فلا.

(٣) على المشهور من عدم سقوط الخمس عن الصغير والمجنون فيتصدّى وليّهما للإخراج ، ولكن تقدّم في كتاب الزكاة أنّ الأظهر سقوطه عنهما ، فإنّ الخمس كالزكاة وإن كانا من قبيل الوضع وأنّ مقداراً معيّناً من المال ملك للغير ، إلّا أنّ إطلاق حديث رفع القلم يشمل التكليف والوضع ولا موجب للتخصيص بالأوّل ، بل مفاده أنّ الصبي والمجنون ممّن رفع عنه قلم التشريع ولم يكتب عليهما في دفتر القانون شي‌ء.

__________________

(*) لا يخلو عن إشكال بل منع كما سيأتي.

(**) الحال فيه كما تقدّم في الزكاة [في المسألة ٢٦٢٨].

(١) بل تقدم في ص ٢٦ ٢٩.

٣٦

ويشترط في وجوب الخمس في المعدن بلوغ ما أخرجه عشرين ديناراً (١)

______________________________________________________

وعلى الجملة : لا يزيد المقام على ما تقدّم في كتاب الزكاة بشي‌ء ، لعدم ورود نصّ خاصّ فيه ، فيجري في الكافر والصغير والمجنون كلّما أسلفناه هناك ، فلاحظ.

(١) كما اختاره الشيخ في النهاية وابن حمزة في الوسيلة (١) ، وهو المشهور بين المتأخّرين ، بل نسب إلى عامّتهم تارةً وقاطبتهم اخرى. وأمّا القدماء فالمشهور بينهم عكس ذلك ، إذ لم ينسب اعتبار النصاب منهم إلّا إلى الشيخ في النهاية وابن حمزة في الوسيلة كما سمعت ، بل أنّ الشيخ بنفسه يدّعي في كتاب الخلاف الإجماع على عدم اعتبار النصاب (٢) ، وعن أبي الصلاح الحلبي أنّ نصابه دينار واحد (٣).

وكيفما كان ، فالمتّبع هو الدليل ، ولا شكّ أنّ مقتضى الإطلاقات في غير واحد من الروايات هو عدم الاعتبار ، إلّا أنّ صحيح البزنطي قد تضمّن التقييد به ، قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عمّا أخرج المعدن من قليل أو كثير ، هل فيه شي‌ء؟ «قال : ليس فيه شي‌ء حتى يبلغ ما يكون في مثله الزكاة عشرين ديناراً» (٤) ، وبه يقيّد إطلاق النصوص كما هو مقتضى صناعة الإطلاق والتقييد.

ولكن قد يناقش في الصحيح من وجوه :

__________________

(١) النهاية : ١٩٧ و ١٧٧ ، الوسيلة : ١٣٨ ، ١٢٧.

(٢) الخلاف ٢ : ١١٩ ١٢٠ / ١٤٢.

(٣) الكافي في الفقه : ١٧٠.

(٤) الوسائل ٩ : ٤٩٤ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٤ ح ١.

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : أنّه موهون بإعراض قدماء الأصحاب فيسقط عن درجة الاعتبار.

والجواب عنه واضح ، فإنّه بعد تسليم كبرى الوهن بالإعراض فالصغرى ممنوعة ، فإنّ جمهور المتأخّرين قد عملوا به كما أنّ الشيخ وابن حمزة من القدماء عملوا أيضاً. نعم ، جماعة منهم بين أربعة أشخاص أو خمسة لم يعملوا ، ولا ريب في عدم تحقّق الإعراض بهذا المقدار كما لا يخفى.

ثانيها : أنّه لا تعرّض في الصحيح إلى الخمس بوجه لا سؤالاً ولا جواباً ، بل الظاهر من سياقه أنّه ناظر إلى السؤال عن زكاة الذهب والفضّة بعد الإخراج من معدنهما ، وبما أنّهما غير مسكوكين حينئذٍ ولا زكاة إلّا في المسكوك فجوابه (عليه السلام) بالوجوب بعد بلوغ النصاب محمولٌ على التقيّة ، لموافقته لمذهب الشافعي (١).

وفيه أوّلاً : أنّ المعدن المذكور في السؤال مطلق يشمل عامّة المعادن ، فتخصيصه بالذهب والفضّة بلا موجب ، بل عارٍ عن كل شاهد.

وثانياً : أنّ حمل كلمة «شي‌ء» الواردة في السؤال على خصوص الزكاة أيضاً بلا موجب ، بل هو يشمل كلّ ما افترضه الله في هذا المال الشامل للخمس ، فقوله (عليه السلام) في الجواب : «ليس فيه شي‌ء» أي ليس فيه شي‌ء من حقّ الله إلّا أن يبلغ النصاب لا الزكاة بخصوصها ، إذ لا قرينة عليها كما عرفت.

وثالثاً : أنّ الظاهر من قوله (عليه السلام) : «ما يكون في مثله الزكاة» أنّ موضوع البحث ومورد السؤال والجواب شي‌ء آخر غير زكاة الذهب والفضّة ، ولذا جعله مماثلاً لها ، وإلّا لكانت هذه الجملة ملغية وأصبحت مستدركة ، وكان الأحرى أن يقول : حتى يبلغ عشرين ديناراً ، الذي هو أخصر وأسلس ، وليس ذلك الشي‌ء إلّا الخمس كما لا يخفى.

__________________

(١) الأُم ٢ : ٤٠ ، المجموع ٦ : ٢.

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ويؤكِّده أنّه لو أُريد به الزكاة فلا وجه لتخصيص النصاب بعشرين ديناراً ، إذ هو نصاب الذهب ، وأمّا الفضّة فمائتا درهم ، فكان اللّازم التعرّض له أيضاً وعطفه عليه ، وهما وإن كانا غالب المطابقة سيّما في الأزمنة السابقة التي كان فيها كلّ عشرة دراهم تسوى بدينار كما قيل ، إلّا أنّهما بالآخرة عنوانان بينهما عموم من وجه ، وقد يفترقان فلا وجه لتخصيص أحدهما بالذكر دون الآخر.

وهذا بخلاف ما لو أُريد الخمس ، ضرورة أنّ التحديد ببلوغ ما في مثله الزكاة إحالة على أمر مجمل ، لاختلاف الماليّة باختلاف مراتب النصب في الأعيان الزكويّة ، ومن ثمّ احتاج إلى التعيين وأنّه عشرون ديناراً نصاب الذهب ليرتفع به الإجمال المزبور.

ويؤيِّده أنّ البزنطي بنفسه سأل الرضا (عليه السلام) في صحيحته الأُخرى عن الكنز فأجابه (عليه السلام) بمثل الجواب المتقدِّم ، أعني التحديد بما يجب في مثله الزكاة مصرّحاً بأنّ فيه الخمس ، قال : سألته عمّا يجب فيه الخمس من الكنز؟ «فقال : ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس» (١) ، فيكشف ذلك عن أنّ السؤال في هذه الصحيحة أيضاً ناظر إلى الخمس ، ولعلّ مسبوقيّة ذهنه بحكم الكنز دعته إلى السؤال عن نظيره في المعادن.

ويؤيِّده أيضاً التصريح بالخمس في روايته الثالثة عن محمّد بن علي ابن أبي عبد الله عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال : سألته عمّا يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وعن معادن الذهب والفضّة ، هل فيها زكاة؟ «فقال : إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس» (٢).

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٤٩٥ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ٩ : ٤٩٣ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٣ ح ٥.

٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والمتحصِّل من جميع ما قدّمناه : أنّه لا مجال للخدش في هذه الصحيحة لا بالإعراض ولا بالحمل على التقيّة ، وهي ظاهرة في إرادة الخمس ، فلا مناص إذن من رفع اليد عن المطلقات وتقييدها بها ، وتكون النتيجة اعتبار النصاب في المعادن عشرين ديناراً.

نعم ، قد يعارضها روايته الأُخرى المتضمّنة لتحديد النصاب بدينار واحد المتقدِّمة آنفاً التي استند إليها الحلبي كما تقدّم (١).

وفيه أوّلاً : أنّها رواية شاذّة وقد تفرّد بالعمل بها الحلبي ولم يوافقه غيره ، فلا تنهض للمقاومة مع تلك الرواية المشهورة بين الأصحاب.

وثانياً : أنّها ضعيفة السند بمحمّد بن علي بن أبي عبد الله ، فإنّه مجهول ، بل لم يرد عنه في مجموع الفقه إلّا روايتان : أحدهما هذه التي يروي عنه البزنطي ، والأُخرى ما يروي عنه علي بن أسباط.

نعم ، بناءً على المسلك المعروف من أنّ أصحاب الإجماع ومنهم البزنطي لا يرسلون ولا يروون إلّا عن الثقة فالرجل محكوم بالوثاقة ، إذ الرواية عنه حينئذٍ توثيقٌ له ، ولكن المبنى بمراحل عن الواقع كما أشرنا إليه في مطاوي هذا الشرح مراراً. إذن فالرواية ضعيفة ولا تصلح لمعارضة ما سبق.

بل يمكن أن يقال : إنّ الدلالة أيضاً قاصرة وأنّ الجواب ناظر إلى الغوص فقط دون المعدن كما أشار إليه في الوسائل ، كما يكشف عنه تذكير الضمير في قوله : «قيمته» الراجع إلى ما يخرج من البحر دون المعادن ، وإلّا كان مقتضى القواعد تأنيثه كما لا يخفى ، فكأنه (عليه السلام) أعرض عن بيان حكم المعادن لوجود من يُتّقى منه بحيث لو بيّن الواقع وأنّ فيها النصاب عشرين ديناراً لكان

__________________

(١) في ص ٣٧.

٤٠