موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا ما كان مبناه على الانتفاع به مع بقاء عينه إذا كان بحيث لا يستهلك في سنة واحدة بل يبقى سنين وقد يبقى طول العمر كبعض أنواع الفرش والألبسة والدور والأواني المعدنيّة ونحو ذلك من الأمتعة الباقية أكثر من سنة واحدة بطبيعة الحال ، فقد حكم في المتن بعدم الخمس فيها إلّا إذا فرض الاستغناء عنها فاحتاط بوجوب الخمس حينئذ. وكذا الحال في حليّ النِّساء إذا جاز وقت لبسهنّ لها للخروج حينئذٍ عن عنوان المئونة ، والمرجع بعد ذلك إطلاقات الخمس السليمة عن التقييد.

ولكن الظاهر عدم وجوب الخمس من غير فرق بين صورتي الاستغناء وعدمه.

بيان ذلك : إنّا قد ذكرنا في محلّه في الأُصول (١) : أنّه إذا كان هناك عامّ أو مطلق وقد ورد عليه مخصّص زماني : فإن كان الزمان ملحوظاً فيه بنحو المفرديّة بحيث كان له عموم أو إطلاق أزماني وأفرادي فلوحظ كلّ زمان فرداً مستقلا للعامّ في قبال الزمان الآخر كان المرجع فيما عدا المقدار المتيقّن من التخصيص هو عموم العامّ حتى إذا كان استصحاب المخصّص جارياً في نفسه مع أنّه لا يجري ، لتعدّد الموضوع لتقدّم الأصل اللفظي أعني : أصالة العموم أو الإطلاق على الاستصحاب الذي هو أصل عملي.

وإن كان ملحوظاً ظرفاً لا قيداً فكان الثابت على كلّ فرد من العامّ حكماً واحداً مستمرّاً لا أحكاماً عديدة انحلاليّة ، فلا مجال حينئذٍ للتمسّك بالعامّ حتى إذا لم يكن الاستصحاب جارياً في نفسه ، إذ لم يلزم من استدامة الخروج تخصيص آخر زائداً على ما ثبت أوّلاً ، ولا دليل على دخول الفرد بعد خروجه عن العامّ ، بل مقتضى الأصل البراءة عنه.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢١٧ وما بعدها.

٢٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن هذا كلّه مخصوص بما إذا كان التخصيص أزمانيّاً بأن تكفّل دليل المخصّص للإخراج في زمان خاصّ.

وأمّا إذا كان أفراديّاً بأن أخرج فرداً عرضيّاً من أفراد العامّ ، كخروج زيد عن عموم وجوب إكرام العلماء ، فلا يجري فيه حينئذٍ ذاك الكلام ، فإنّه خارج عن موضوع ذلك البحث ، فإذا خرج زيد ولو في زمان واحد يؤخذ بإطلاق دليل المخصّص المقدّم على عموم العامّ ، لعدم كون زيد فردين للعامّ كما لا يخفى. فسواء أكان الزمان مفرداً أم لا لا مجال للتمسّك فيه بأصالة العموم ، بل المرجع أصالة البراءة عن تعلّق الحكم به ثانياً.

وعليه ، فنقول : المستفاد من قوله (عليه السلام) : «الخمس بعد المئونة» الذي هو بمثابة المخصّص لعموم ما دلّ على وجوب الخمس في كلّ غنيمة وفائدة من الكتاب والسنّة أنّ هذا الفرد من الربح وهو ما يحتاج إليه خلال السنة المعبّر عنه بالمئونة خارجٌ عن عموم الدليل ، والظاهر منه أنّ الخروج لم يكن بلحاظ الزمان ، بل هو متعلّق بنفس هذا الفرد من الربح بالذات كما عرفت ، فهو من قبيل التخصيص الأفرادي لا الأزماني.

كما أنّه لم يكن مقيّداً بعدم كونه مئونة في السنة الآتية ولا بعدم الاستغناء عنه في السنين القادمة فيشمل كلّ ذلك بمقتضى الإطلاق. فهذا الفرد بعد خروجه لم يكن مشمولاً لإطلاقات الخمس فيحتاج شمولها له ثانياً إلى الدليل ومقتضى الأصل البراءة ، فلا موجب للاحتياط إلّا استحباباً.

ومع التنازل عن هذا البيان وتسليم كون الخروج بلحاظ الزمان فلا ينبغي التأمّل في عدم مفرديّة الزمان في عموم الخمس المتعلّق بالأرباح ليلزم الانحلال ، بل هو ظرف محض ، فلكلّ فرد من الربح حكم وحداني مستمرّ من الخمس تكليفاً ووضعاً ، فإذا سقط الحكم عن فرد في زمان بدليل التخصيص احتاج

٢٦٢

[٢٩٤٤] مسألة ٦٨ : إذا مات المكتسب في أثناء الحول بعد حصوله الربح سقط اعتبار المئونة في باقيه ، فلا يوضع من الربح مقدارها على فرض الحياة (١).

[٢٩٤٥] مسألة ٦٩ : إذا لم يحصل له ربح في تلك السنة وحصل في السنة اللاحقة لا يخرج مئونتها من ربح السنة اللاحقة (٢).

______________________________________________________

عوده إلى دليل آخر ، بعد وضوح أنّ أصالة العموم لا تقتضيه ، لعدم استلزام التخصيص الزائد.

وبالجملة : فعلى التقديرين أي سواء أكان التخصيص فرديّاً كما هو الظاهر أم زمانيّاً لم يجب الخمس بعد الاستغناء ، إذ الموجب له كونه غنيمة ، والمفروض أنّ هذا الفرد حال كونه غنيمة لم يجب خمسه ، لكونه من المئونة ، فعروض الوجوب ثانياً وخروج الخمس عن الملك يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل.

بل المرجع حينئذٍ إطلاق دليل المخصّص أو استصحابه لا عموم العامّ ، وتكفينا أصالة البراءة عن وجوب الخمس ثانياً ، بعد وضوح عدم كون المئونة في السنة اللّاحقة أو بعد الاستغناء مصداقاً جديداً للربح ليشمله عموم وجوب الخمس في كلّ فائدة.

(١) لما تقدّم من أنّ الاعتبار في الاستثناء بالمئونة الفعليّة لا التقديريّة ، فلا يوضع عن الربح إلّا المقدار الذي صرفه خارجاً ، ويرجع فيما عداه إلى عموم وجوب الخمس ، إذ لا مئونة بعد الموت ، فإنّها سالبة بانتفاء الموضوع.

(٢) لعدم المقتضي للإخراج بعد اختصاص دليله بمئونة سنة الربح لا غير.

نعم ، لو كان ذلك في سنة واحدة ، كما لو استدان للمئونة أوّل السنة ثمّ حصل الربح ، أمكن القول بالإخراج كما سبق اختياره من الماتن في المسألة السادسة

٢٦٣

[٢٩٤٦] مسألة ٧٠ : مصارف الحجّ من مئونة عام الاستطاعة (١) ، فإذا استطاع في أثناء حول حصول الربح وتمكّن من المسير بأن صادف سير الرفقة في ذلك العامّ احتسب مخارجه من ربحه ، وأمّا إذا لم يتمكّن حتى انقضى العام وجب عليه خمس ذلك الربح ، فإن بقيت الاستطاعة إلى السنة الآتية وجب وإلّا فلا ، ولو تمكّن وعصى حتى انقضى الحول فكذلك على الأحوط (*) ، ولو حصلت الاستطاعة من أرباح سنين متعدّدة وجب الخمس فيما سبق على عام الاستطاعة ، وأمّا المقدار المتمّم لها في تلك السنة فلا يجب خمسه إذا تمكّن من المسير ، وإذا لم يتمكّن فكما سبق يجب إخراج خمسه (**).

______________________________________________________

والستّين ، بناءً منه على أنّ مبدأ السنة هو أوّل الشروع في الاتّجار وإن لم يكن وجيهاً على ما قوّيناه من أنّ مبدأها ظهور الربح.

وأمّا افتراض ذلك في سنتين بأن تخرج مئونة سنة لا ربح فيها عن ربح السنة الأُخرى فلا وجه له بتاتاً ، لاختصاص الدليل بمئونة سنة الربح فقط حسبما عرفت.

(١) تنحلّ المسألة إلى صور ثلاث :

أُولاها : ما إذا استطاع أثناء حول الربح وتمكّن من المسير وتلبّس بالسير.

والظاهر أنّه لا خلاف كما لا إشكال في احتساب مخارجه من الربح ، ضرورة كونها من أوضح أنحاء المئونة فلا يجب الخمس فيها قطعاً.

ثانيتها : ما إذا استطاع أثناءه ولكنّه لم يتمكّن من المسير حتى انقضى العام.

__________________

(*) بل على الأظهر.

(٢) وكذا في فرض التمكّن من المسير دون سير.

٢٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا ينبغي التأمّل في وجوب خمس ذلك الربح حينئذٍ ، لوضوح أنّ عدم التمكّن يكشف عن عدم الوجوب ، ومعه لم تكن مئونة لكي تستثني ، وحينئذٍ فإن بقيت الاستطاعة إلى السنة الآتية وجب ، وإلّا فلا كما هو ظاهر.

ثالثتها : ما لو تمكّن ولكنّه عصى حتى انقضى الحول.

وقد احتاط الماتن (قدس سره) وجوباً بإخراج الخمس حينئذٍ أيضاً.

والظاهر أنّ نظره الشريف في الاحتياط المزبور مع بنائه على عدم الاحتساب في فرض التقتير ووضوح كون ترك الحجّ في محلّ البحث من هذا القبيل إلى اختصاص المقام بجهة بها يمتاز عن سائر موارد التقتير ، وهي تعلّق الوجوب بالصرف في المئونة ، للإلزام الشرعي بالذهاب إلى الحجّ ، فيحتمل أنّ يكون هذا الإيجاب والإلزام محقّقاً ، لصدق المئونة المانعة عن وجوب الخمس ، نظير ما ذكروه في باب الزكاة من أنّه لو وجب الصرف في مورد لم تجب الزكاة ، لعدم التمكّن من التصرّف.

وهذا الاحتمال وإن لم يكن بعيداً عند الماتن (قدس سره) ولأجله احتاط ولم يجزم في المسألة ، إلّا أنّه ضعيف عندنا ، لعدم صدق المئونة عرفاً إلّا لدى الصرف الخارجي ، ولا يكفي فيه مجرّد الإلزام الشرعي ، ومن ثمّ كان وجوب الخمس هو الأظهر لا مجرّد أنّه أحوط.

ونظير هذا الاحتياط منه (قدس سره) سيجي‌ء في المسألة الآتية ، حيث يذكر (قدس سره) أنّه إذا لم يؤدّ الدين حتى انقضى العام فالأحوط إخراج الخمس ، فإنّ مستنده هو ما ذكرناه بعين المناط ، حيث إنّ أداء الدين واجب كوجوب الحجّ ، فيحتمل أن يكون نفس التكليف محقّقاً لعنوان المئونة وإن لم يتحقّق الأداء خارجاً ، فلا موجب لقياس المقام بسائر موارد التقتير ، حيث لا تكليف فيها بالصرف في المئونة.

هذا كلّه فيما إذا حصلت الاستطاعة في عام الربح.

٢٦٥

[٢٩٤٧] مسألة ٧١ : أداء الدين من المئونة إذا كان في عام حصول الربح (١) أو كان سابقاً ولكن لم يتمكّن من أدائه (*) إلى عام حصول الربح ، وإذا لم يؤدّ دينه حتى انقضى العام ، فالأحوط إخراج (**) الخمس أوّلاً وأداء الدين ممّا بقي.

______________________________________________________

وأمّا لو حصلت من أرباح سنين عديدة فلا ينبغي التأمّل في وجوب الخمس فيما سبق على عام الاستطاعة ، لعدم المقتضي للاستثناء ، وأمّا المقدار المتمّم لها الحاصل في السنة الأخيرة فحكمه حكم الاستطاعة بتمامها في عام الربح ، فتجري فيها الوجوه الثلاثة المتقدّمة من التمكّن من المسير وعدمه والعصيان ، فلاحظ.

(١) تفصيل الكلام في المقام : أنّ الدين على أقسام :

فتارةً : يفرض بعد حصول الربح في عامه ، وأُخرى قبله في نفس العام ، وثالثةً في العام السابق على عام الربح.

كما أنّه قد يكون لأجل المئونة ، وأُخرى لغيرها ، إمّا مع بقاء عين ما استدان له ، أو مع تلفها كما في الغرامات ونحوها.

والسيِّد الماتن وإن لم يذكر إلّا بعض هذه الأقسام لكنّا نذكر جميعها استيعاباً للبحث.

فنقول : يقع الكلام في مقامات ثلاثة :

__________________

(*) بل مع التمكّن أيضاً ، نعم إذا كان بدل الدين موجوداً وجب تخميس الربح قبل أداء الدين إلّا فيما إذا كان البدل من مئونته فعلاً كالدار والفراش ونحوهما.

(**) بل الأظهر ذلك إلّا فيما إذا كانت الاستدانة للمئونة وكانت بعد ظهور الربح فإنّه لا يجب التخميس وإن لم يؤدّ الدين.

٢٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المقام الأوّل : في الدين المتأخّر عن حصول الربح في عامه.

وتفصيله : أنّه إذا ربح أوّلاً ثمّ استدان فقد يستدين لمئونته ، وأُخرى لأمر خارجي غير المئونة.

فإن كان الأوّل فلا ينبغي الشكّ في جواز أدائه من الربح من غير تخميس ، والظاهر أنّه لم يستشكل فيه أحد ، إذ كما يجوز أن يشتري ذلك بنفس الربح ، فكذلك يجوز أن يشتريه بالذمّة ويؤدِّي الدين من الربح ، ففي الحقيقة هذا صرف للربح في المئونة ديناً لا عيناً ، ولا فرق بينهما قطعاً.

كما لا فرق في ذلك بين ما إذا كانت المئونة المشتراة ديناً تالفة أم أنّها كانت باقية كالفرش والدار والفرس ونحو ذلك ، فإنّه على التقديرين إذا أدّى الدين من الربح يعدّ ذلك من صرف الربح في المئونة حسبما عرفت.

بل الظاهر أنّ الأمر كذلك وإن لم يؤدّ الدين إلى أن مضت السنة ، فيجوز الأداء منه بعد ذلك من غير تخميس ، لعدم صدق الربح عند العقلاء بعد أن كان واقعاً في قبال الدين ، فإنّ العبرة عندهم في إطلاق الربح أو الخسران بملاحظة مجموع السنة ، فإن زاد في آخرها على رأس المال شي‌ء لم يصرف في المئونة فهو الربح ، وإلّا فلا.

وعليه ، فهم لا يعتبرون الربح الذي بإزائه دين استدانة للمئونة سواء أكانت مئونة تحصيل الربح أم مئونة السنة ربحاً حقيقةً وإن كان كذلك صورةً ، بحيث لو سئل بعد انقضاء السنة هل ربحت في سنتك هذه؟ لكان الجواب منفيّاً ، إذ لا يرى شيئاً يزيد على رأس ماله بعد اضطراره إلى الصرف في أداء الدين.

ولو فرض صدق الربح بنحوٍ من العناية فلا ينبغي الإشكال في عدم صدق عنوان الفاضل على المئونة الذي هو الموضوع لوجوب الخمس ، فلا يدخل في قوله (عليه السلام) : «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام» إلخ.

٢٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : العادة قاضية وسيرة العقلاء جارية على صرف المؤن المحتاج إليها من الأرباح إمّا من عين الربح ، أو من مماثله من دين أو مال مخمّس أو ما لا خمس فيه ، بحيث يتحفّظ على رأس المال ويصرف من الأرباح عيناً أو مثلاً. وعليه ، فلا ربح ، ولو سلّمنا فلا فاضل.

ففي هذه الصورة لا حاجة إلى الأداء الخارجي ، بل مجرّد اشتغال الذمّة بالدين كافٍ في الاستثناء.

وإن كان الثاني : أعني الدين لغير المئونة ، كما لو اشترى فرساً ديناً لأن يؤاجره مثلاً فتارةً يكون موجوداً ، وأُخرى تالفاً.

أمّا الموجود فيجوز فيه أداء الدين من الربح ، إذ يجوز له الآن أن يشتري الفرس بالربح فكيف بأداء الدين الآتي من قبل شراء الفرس؟! به ، لكنّه حينئذٍ يكون الفرس بنفسه ربحاً ، إذ للمالك تبديل الأرباح خلال السنة ولو عدّة مرّات ، كما هو دأب التجار في معاملاتهم ، فهو في المقام يجد آخر السنة أنّه ربح الفرس ، فيجب تخميسه بماله من القيمة ، سواء أكان مساوياً لما اشترى به أم أقلّ أم أكثر ، ففي جميع هذه الأحوال العبرة بنفس هذا المال لا الربح الذي أدّى به دينه.

ولو لم يؤدّ دينه إلى أن انقضت السنة يقوّم الفرس أيضاً آخر السنة ويلاحظ الدين الذي عليه من الفرس ، فبمقدار الدين لا ربح وإنّما الربح في الزائد عليه لو كان فيجب تخميسه حينئذٍ.

فمثلاً : لو اشترى الفرس بخمسين وكانت قيمته آخر السنة مائة فمعناه : أنّه ربح خمسين فيخمّسه ، أمّا الخمسون الآخر فمدين بإزائه بهذا المقدار. نعم ، لو كانت القيمة بمقدار ما اشترى فضلاً عن الأقلّ لم يكن عليه شي‌ء.

وأمّا لو كان الفرس مثلاً تالفاً فإن أدّى دينه خلال السنة فلا إشكال ،

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّ الخروج عن عهدة أداء الدين الثابت عليه تكليفاً ووضعاً يعدّ من المئونة ، بل لعلّ تفريغ الذمّة عنه بالربح السابق على التكليف من أوضح أنحائها ، فلو أدّاه فقد صدر من أهله في محلّه.

وأمّا لو لم يؤدّ حتى مضت السنة فهل يستثني كما كان يستثني الدين للمئونة؟ فيه كلام وإشكال.

والاستثناء مشكل جدّاً ، نظراً إلى أنّ تلف هذا المال الخارجي الأجنبي عن التجارة لا ينافي صدق الربح في التجارة الذي هو الموضوع لوجوب الخمس ، فقد ربح في تجارته وفضل عن مئونته وإن كان في عين الحال قد وردت عليه خسارة خارجية أجنبيّة عن تلك التجارة.

فاستثناء هذا الدين كما ثبت في المئونة بدعوى أنّه لم يربح أو على تقدير الصدق لا يصدق الفاضل على المئونة ، غير وجيه في المقام ، لما عرفت من عدم ارتباط الخسارة الخارجيّة بصدق الربح في هذه التجارة ، فإنّها نظير الضمان أو الدية الثابت في حقّه الناشئ من إتلاف مال أحدٍ أو كسر رأسه ونحو ذلك في أنّه لو أفرغ ذمّته وصرف الربح فيما اشتغلت به الذمّة فهو ، ويعدّ حينئذٍ من المئونة ، لاحتياج الإنسان إلى تفريغ ذمّته كاحتياجه إلى المأكل والملبس ونحو ذلك. أمّا لو لم يفعل وبقي عنده الربح حتى مضت السنة بحيث صدق أنّه ربح وفضل عن المئونة لأنّه لم يصرفه في المئونة وجب عليه الخمس ، لأنّ حاله حينئذٍ حال التقتير كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما إذا كان الدين بعد الربح من هذه السنة.

المقام الثاني : فيما إذا كان الدين من السنين السابقة.

ولا ينبغي الشكّ في عدم استثنائه من أرباح هذه السنة ، لأنّ المستثنى منها خصوص ما يعدّ من مؤن هذه السنة ، ولا ريب أنّ ديون السنين السابقة حتى

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ما كانت لأجل مئونتها فضلاً عمّا كانت لغير المئونة لا تكون من مئونة هذه السنة. فالاستثناء لا يثبت جزماً.

وهل يجوز أداء ذاك الدين من هذه الأرباح ، أو لا يجوز إلّا بعد التخميس؟

حكم في المتن بالجواز شريطة إن لم يكن متمكّناً من الأداء إلى عام حصول الربح.

ولم يظهر لنا وجه لهذا التقييد ، إذ لا مدخل للتمكّن وعدمه في هذا الحكم ، بل العبرة بصدق كون الأداء المزبور مئونة لهذه السنة ، فإن ثبت بحيث صدق على صرف الربح فيه أنّه صرفه في المئونة جاز استثناؤه ، وإلّا فلا.

ولا يناط ذلك بعدم التمكّن السابق بوجه كما هو الحال في بقيّة المؤن ، فلو تزوّج أو اشترى داراً من أرباحه ولو مع التمكّن من الصرف من مالٍ آخر صدق عليه بالضرورة أنّه قد صرف الربح في المئونة ، فالتمكّن المزبور أو عدمه سيّان في هذا الحكم وأجنبيّان عن صدق الصرف في المئونة جزماً ، فلا فرق إذن بين الصورتين أبداً.

والظاهر تحقّق الصدق المذكور ، فإنّ منشأ هذا الدين وإن كان قد تحقّق سابقاً إلّا أنّه بنفسه مئونة فعليّة ، لاشتغال الذمّة به ولزوم الخروج عن عهدته ، سيّما مع مطالبة الدائن ، بل هو حينئذٍ من أظهر مصاديق المئونة ، غايته أنّ سببه أمر سابق من استدانة أو إتلاف مال أحد أو ضرب أو قتل بحيث اشتغلت الذمّة بالبدل أو الدية ، فالسبق إنّما هو في السبب لا في المسبّب ، بل المسبّب أعني : كونه مئونة متحقّق بالفعل.

فهو نظير من كان مريضاً سابقاً ولم يكن متمكّناً من علاج نفسه إلّا في هذه السنة ، أو كان متمكّناً وأخّر عامداً ، فإنّه على التقديرين إذا صرف من أرباح هذه السنة في معالجة نفسه فقد صرفه في مئونته وإن كان سببها المرض

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

السابق ، فليست العبرة بسبق السبب ، بل الاعتبار بفعليّة المئونة وهي صادقة حسبما عرفت.

فتحصّل : أنّ الأظهر أنّ أداء الدين السابق سواء أكان متمكّناً منه سابقاً أم لا يعدّ أيضاً من المئونة وإن لم يكن الدين بنفسه معدوداً منها ، فلا يستثني من أرباح هذه السنة من غير أداء.

فيفرّق بين الدين المتأخّر وبين الدين السابق ، فيحسب الأوّل من مئونة هذه السنة وإن لم يؤدّ خارجاً كما مرّ ، أمّا الثاني فلا يحسب منها إلّا مع التصدّي للأداء خارجاً ، سواء أكان مصروفاً في مئونة السنة السابقة أم لا.

هذا فيما إذا لم يكن بدل الدين موجوداً.

وأمّا مع وجوده ، كما لو اشترى بالدين السابق داراً أو بستاناً ، فإن كان ذلك لأمر خارجي غير المئونة فلا ينبغي الشكّ في عدم جواز الأداء بلا تخميس ، إذ بعد أن كان الدين مقابلاً بالمال فلو أدّاه من الربح غير المخمّس يبقى هذا المال خالصاً له بلا دين فيكون زيادة على المئونة فلا بدّ من تخميسه ، فليس له أن يؤدّي دينه بلا تخميس لا بالنسبة إلى الربح ولا الثمن ، بل لا بدّ وأن يحاسب آخر السنة.

وأمّا إن كان للمئونة لاحتياجه إلى الدار مثلاً فعلاً فله أن يؤدّي دينه من أرباح هذه السنة ، لأنّه من صرف الربح في المئونة فهو كما لو اشترى فعلاً من هذه الأرباح داراً لسكناه ، فلا يجب الخمس في مثله لا في الربح ولا في بدل الدين بعد فرض كونه مئونة له بالفعل.

ومن هذا القبيل أداء مهر الزوجة ، فله أن يؤدّي كلّ سنة مقداراً من مهرها بلا تخميس ، لأنّه من صرف الربح في المئونة حسبما عرفت.

المقام الثالث : في الدين في هذه السنة ولكن قبل ظهور الربح.

٢٧١

وكذا الكلام في النذور والكفّارات (١).

[٢٩٤٨] مسألة ٧٢ : متى حصل الربح وكان زائداً على مئونة السنة تعلّق به الخمس (٢) وإن جاز له التأخير في الأداء إلى آخر السنة ، فليس تمام

______________________________________________________

وحكمه يظهر ممّا مرّ ، فإنّه إن قلنا : إنّ مبدأ السنة حال الشروع في الكسب كما هو خبرة المتن فحاله حال الدين بعد الربح ، وإن قلنا : إنّ مبدأه ظهور الربح كما هو الصحيح فحاله حال الدين في السنة السابقة. فهذا إمّا أن يلحق بالقسم الأوّل أو بالقسم الثاني فلاحظ.

(١) يعني : فيجري فيه الاحتياط المتقدّم في أداء الدين السابق بإخراج الخمس أوّلاً ثمّ الأداء ممّا بقي.

وقد أشرنا إلى وجه هذا الاحتياط في المسألة السابقة ، وأنّه احتمال أن يكون التكليف المتعلّق بالحجّ أو بأداء الدين أو بالوفاء بالنذر أو الكفّارة بنفسه محقّقاً لصدق المئونة ، وأنّه بذلك يمتاز المقام عن سائر موارد التقتير.

لكن عرفت ضعفه وأنّه ما لم يتحقّق الأداء أو الوفاء خارجاً لا تكاد تصدق المئونة عرفاً بمجرّد التكليف والإلزام الشرعي ، وأنّ العبرة بنفس الصرف لا بمقداره ، فلا ينبغي التوقّف عن الفتوى ، بل الأظهر الأقوى هو وجوب إخراج الخمس.

(٢) ينبغي التكلّم في مقامين :

أحدهما : في زمان تعلّق الخمس وأنّه حين ظهور الربح ، أم بعد انتهاء السنة.

ثانيهما : في أنّه بناءً على الأوّل فهل يجوز له التأخير إلى نهاية السنة أو لا؟

أمّا المقام الأوّل : فالمعروف والمشهور أنّ التعلّق المستتبع لحصول الاشتراك بين المالك ومستحقّ الخمس إنّما هو من أوّل ظهور الربح.

٢٧٢

الحول شرطاً في وجوبه (*) ، وإنّما هو إرفاق بالمالك ، لاحتمال تجدّد مئونة اخرى زائداً على ما ظنّه ، فلو أسرف أو أتلف ماله في أثناء الحول لم يسقط الخمس ، وكذا لو وهبه أو اشترى بغبن حيلة في أثنائه.

______________________________________________________

ونسب الخلاف إلى الحلّي في السرائر وأنّه ذهب إلى أنّ التعلّق في آخر السنة (١).

وهذا على تقدير صدق النسبة لا نعرف له وجهاً صحيحاً ، فإنّ الآية المباركة ولو بضميمة الروايات الكاشفة عن إرادة الغنيمة بالمعنى الأعمّ ظاهرة في تعلّق الخمس من لدن تحقّق الغنيمة.

كما أنّ الروايات وعمدتها موثّقة سماعة : «ما أفاد الناس من قليل أو كثير ففيه الخمس» (٢) أيضاً ظاهرة في ثبوت الحكم حين صدق الفائدة الذي هو أوّل ظهور الربح.

وليس بإزاء ذلك إلّا قولهم (عليهم السلام) في عدّة من الأخبار : «إنّ الخمس بعد المئونة».

__________________

(*) إذا جاز له التأخير إلى آخر السنة فكيف لا يكون الوجوب مشروطاً بذلك؟! والتحقيق أنّ الخمس يتعلّق بالمال من أوّل ظهور الربح مشروطاً بعدم صرفه في المئونة إلى آخر السنة ، وبما أنّه يجوز صرفه فيها فلا يجب الأداء قبل تمام الحول ، وبذلك يظهر أنّه لا يجب الأداء فعلاً وإن علم أنّه لا يصرفه في مئونته ، فإنّ عدم الصرف خارجاً لا ينافي جوازه ، والواجب المشروط لا ينقلب إلى المطلق بوجود شرطه.

(١) السرائر ١ : ٤٨٩ ٤٩٠.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٠٣ / أبواب ما يجب فيه ب ٨ ح ٦ ، بتفاوت يسير.

٢٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن من الظاهر أنّ المراد بالبَعديّة ليست هي البَعديّة الزمانيّة لتدلّ على أنّ حدوث الخمس متأخّر عن إخراج المئونة ، بل المراد البَعديّة الرتبيّة ، نظير قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (١) ، يعني : أنّ مرتبة الخمس متأخّرة عن المئونة ، كما أنّ مرتبة الإرث متأخّرة عن الوصيّة والدين ، ومرجع ذلك إلى أنّ إخراج الأمرين مقدّم على الصرف في الإرث ، كما أنّه في المقام يلاحظ الخمس فيما يفضل على المئونة من الربح من غير نظر إلى الزمان بتاتاً.

فمقتضى الجمع بين هذه الروايات الدالّة على أنّ الخمس بعد المئونة وما دلّ على تعلّقه من لدن ظهور الربح : أنّ الحكم ثابت من الأوّل لكن مشروطاً بعدم الصرف في المئونة بنحو الشرط المتأخّر ، فإنّ البعديّة الرتبيّة لا تنافي الثبوت من الأوّل كما في الإرث ، غايته أنّه من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، فكلّما صرفه في المئونة لم يتعلّق به الخمس من الأوّل ، وكلّ ما بقي وفضل كما عبّر به في رواية ابن شجاع (٢) وجب خمسه. وهذا هو الظاهر من الجمع بين الأخبار.

وممّا يرشدك إلى إرادة البَعديّة الرتبيّة أنّ لازم إرادة الزمانيّة جواز إتلاف الربح أثناء السنة أو الصرف في غير المئونة من هبةٍ لا تليق بشأنه ونحوها ، لعدم لزوم حفظ القدرة قبل تعلّق التكليف ، ومرجع هذا إلى سقوط الخمس عنه ، ولعلّ الحلّي أيضاً لا يلتزم بذلك.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ ما ذكرناه إنّما يتّجه بالإضافة إلى مئونة الاسترباح وما يصرف في سبيل تحصيل الربح ، فإنّ ما ورد من أنّ الخمس بعد المئونة ناظر إلى ذلك.

__________________

(١) النِّساء ٤ : ١١.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٠٠ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٨ ح ٢.

٢٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا بالنسبة إلى مئونة السنة التي هي محلّ الكلام فتعلّق الخمس باقٍ على إطلاقه ، وإنّما المتقيّد بعدم الصرف فيها هو الحكم التكليفي أعني : وجوب الخمس لا تعلّقه ، على ما تشهد به نصوص الباب ، حيث إنّ المعلّق على ما بعد المئونة في صحيحة ابن مهزيار (١) إنّما هو وجوب الخمس ، كما أنّ المعلّق عليه في صحيحته الأُخرى (٢) هو قوله (عليه السلام) : «عليه الخمس» ، الظاهر في الوجوب.

إذن فيكون المشروط بعدم الصرف فيها على سبيل الشرط المتأخّر إنّما هو الوجوب لا أصل التعلّق ، فإنّه باقٍ على إطلاقه.

وكيفما كان ، فما ذكره المشهور من ثبوت الحكم من الأوّل مشروطاً بعدم الصرف في المئونة هو الصحيح ، بل لا ينبغي التردّد فيه.

وأمّا المقام الثاني : فقد صرّح جماعة بل ادّعي الإجماع عليه في غير واحد من الكلمات بجواز التأخير إلى نهاية السنة ، إرفاقاً واحتياطاً من جهة المئونة.

لكن قد يستشكل فيه بأنّه لولا قيام الإجماع بل إرسالهم له إرسال المسلّمات لَما أمكن تتميمه بالدليل ، إذ كيف يسوغ التأخير في أداء حتى الغير الثابت بمجرّد ظهور الربح كما هو المفروض مع إطلاق ما دلّ على عدم حلّ مال المسلم بغير إذنه؟! واحتمال وجود المئونة منفي بالأصل.

مع أنّه قد يعلم بعدمها سيّما إذا كان الربح كثيراً جدّاً بحيث يقطع عادةً بعدم صرف الجميع ، فغايته استثناء المقدار المتيقّن صرفه في المئونة دون المشكوك ، فضلاً عمّا يقطع بالعدم ، بل لا معنى للاحتياط حينئذٍ كما لا يخفى.

ويندفع بإمكان الاستدلال عليه مع الغضّ عن الإجماع بوجوه :

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٠٠ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٨ ح ٣.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٠٠ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٨ ح ٤.

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : السيرة القطعيّة العمليّة القائمة من المتشرّعة على ذلك ، فإنّهم لا يكادون يرتابون في جواز التأخير إلى نهاية السنة ، ولا يبادرون إلى الإخراج بمجرّد ظهور الربح بالضرورة ، ولو كان ذلك واجباً لكان من الواضحات التي لا تعتريها شائبة الإشكال.

ثانيها : قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مهزيار : «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام» إلخ (١).

دلّت على أنّ الإخراج إنّما يجب في كلّ عام مرّة لا في كلّ يوم ، ولدي ظهور كلّ فرد فرد من الأرباح. ونتيجته : جواز التأخير إلى نهاية السنة.

ثالثها : صحيحة ابن أبي نصر ، قال : كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) : الخمس ، أخرجه قبل المئونة أو بعد المئونة؟ فكتب : «بعد المئونة» (٢).

فإنّ السؤال عن الإخراج الذي هو نقل خارجي لا عن التعلّق ، والمراد بالمئونة كما مرّ ليس هو مقدارها ، بل نفس الصرف الخارجي ، فقد دلّت على أنّ الإخراج إنّما هو بعد الصرف في المئونة في آخر السنة وإن كان التعلّق من الأوّل.

لكن ذكرنا سابقاً أنّ هذه الصحيحة يمكن أن تكون ناظرة إلى مئونة الربح لا مئونة السنة ، فهي حينئذٍ أجنبيّة عن محلّ الكلام.

رابعها وهو العمدة في المقام ـ : أنّ المئونة على قسمين :

أحدهما : المصارف الضروريّة التي لا بدّ منها من المأكل والمسكن والملبس ونحوها ممّا يحتاج إليه الإنسان في إعاشته ، فإنّها غالباً محدودة بحدٍّ معيّن ربّما يعلم الإنسان بمقداره وربّما يشكّ ويكون لها قدر متيقّن.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٠١ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ٨ ح ٥.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٠٨ / أبواب ما يجب فيه الخمس ب ١٢ ح ١.

٢٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : المصارف غير الضروريّة ممّا يكون باختيار الإنسان له أن يفعل وأن لا يفعل ، كالهبة اللّائقة بشأنه والحجّ المندوب والزيارات وما يصرف في سبيل الخيرات والمبرّات ، فإنّ هذه أيضاً تعدّ من المؤن. ومن ثمّ جاز الصرف فيها من غير تخميس كما تقدّم ، وليست محدودة بحدّ ، كما أنّ الجواز لم يكن منوطاً بالصرف الخارجي ، فهو ثابت حتى في حقّ من يقطع من نفسه بعدم الصرف في هذه السنة في شي‌ء من ذلك.

وقد تقدّم في المقام الأوّل أنّ الخمس وإن تعلّق من لدن ظهور الربح لكنّه مشروط وضعاً أو تكليفاً بعدم الصرف في المئونة بقسميها بنحو الشرط المتأخّر على ما استفدناه من قوله (عليه السلام) : «الخمس بعد المئونة» حسبما تقدّم (١).

وقد ذكرنا في الأُصول : أنّ الواجب المشروط لا ينقلب إلى الواجب المطلق بحصول شرطه فضلاً من العلم به ، فالحجّ مثلاً مشروط بالاستطاعة دائماً حتى بعد حصولها وتحقّقها خارجاً ، فإنّ موضوع الحكم لا ينقلب عمّا هو عليه بوجه ، ولأجل ذلك كان الواجب المهمّ المشروط بعصيان الأهمّ مشروطاً مطلقاً حتى مع فعليّة العصيان ، كما فصّلنا البحث حول ذلك في مبحث الترتّب مشبعاً (٢).

وعليه ، فلو فرضنا القطع بعدم الصرف في المئونة إلى نهاية السنة بحيث تيقّنّا بحصول الشرط مع ذلك لم يجب الأداء فعلاً وإن كان متعلّقاً للخمس فيجوز التأخير ، وذلك لجواز الصرف في المئونة من غير إناطة بفعليّة الصرف كما عرفت ، فإذا جاز الصرف المزبور جاز الإبقاء إلى نهاية السنة بطبيعة الحال ، ومن الضروري أنّ جواز الصرف أو الإبقاء لا يجتمع مع وجوب الأداء فعلاً.

__________________

(١) في ص ٢٠٩.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ١١٥ ١٢٤.

٢٧٧

[٢٩٤٩] مسألة ٧٣ : لو تلف بعض أمواله ممّا ليس من مال التجارة أو سرق أو نحو ذلك لم يجبر بالربح وإن كان في عامه ، إذ ليس محسوباً من المئونة (١).

______________________________________________________

وبالجملة : القطع بعدم فعليّة الصرف خارجاً لا ينافي جوازه شرعاً ، لعدم استلزام الجواز تحقّق الصرف بالضرورة ، فهو مرخّص في إعدام موضوع الخمس وإسقاطه بالصرف في المئونة إلى نهاية السنة ، ومن الواضح أنّ هذا ملازم لجواز الإبقاء ، فكيف يجتمع ذلك مع وجوب الإخراج فوراً ومن لدن ظهور الربح؟! للتهافت الواضح بين الإلزام بالإخراج في هذا الحال وبين الحكم بجواز الصرف في المئونة إلى نهاية السنة كما هو ظاهر جدّاً.

وهذا الوجه هو العمدة في الحكم بجواز التأخير مضافاً إلى ما عرفت من الروايات.

فتحصّل : أنّ الحقّ والحكم الوضعي وإن كان ثابتاً حين ظهور الربح لكن الحكم التكليفي أعني : وجوب الإخراج لم يكن إلّا في آخر السنة وعند حلول الحول وإن جاز له الإخراج في الأثناء أيضاً ، وأنّه لو فعل ذلك كشف عن تعلّق الوجوب به من الأوّل ، لتحقّق شرطه المتأخّر حسبما عرفت.

(١) تارةً : يفرض أنّ التالف ممّا يحتاج إليه في إعاشته ، كما لو انهدمت داره فاحتاجت إلى التعمير ، وهذا خارج عن محلّ الكلام ، لأنّه من صرف الربح في المئونة.

وأُخرى : يفرض أنّ التالف مئونة ولكنّه لم يصرف الربح في تلك المئونة ، أو كان مالاً خارجيّاً غير المئونة ، كما لو كانت له مواشي فتلفت ، فهل يجبر هذا التلف أو الخسارة الواردة من ربح التجارة بحيث لا يكون فيه خمس ، أو لا؟

٢٧٨

[٢٩٥٠] مسألة ٧٤ : لو كان له رأس مال وفرّقه في أنواع من التجارة فتلف رأس المال أو بعضه من نوع منها فالأحوط عدم جبره بربح تجارة أُخرى (١) ، بل وكذا الأحوط عدم جبر خسران نوع بربح اخرى ، لكن الجبر لا يخلو عن قوّة خصوصاً في الخسارة.

______________________________________________________

اختار (قدس سره) عدم الجبر ، وهو الصحيح ، والوجه فيه ظاهر ، فإنّ موضوع الخمس مؤلّف من أمرين : الربح ، وعدم الصرف في المئونة.

وكلا الأمرين متحقّق ، لصدق الربح والاستفادة وجداناً بحيث يصحّ أن يقال : إنّه استفاد في تجارته كذا مقداراً ولم يصرفه في المئونة حسب الفرض ، غاية الأمر أنّه قد وردت عليه خسارة خارجيّة لكنّها لا تستوجب سلب صدق الاستفادة في تجارته هذه بالضرورة ، لعدم ارتباط بينهما ، وأحدهما أجنبي عن الآخر. إذن فالجبر يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل ، ومعه لا مناص من التخميس.

هذا ، ولا يفرق الحال في ذلك بين القول باختصاص الخمس بأرباح المكاسب ، أو التعميم لمطلق الفائدة من وصيّة أو لقطة أو هبة أو وقف ونحو ذلك ممّا هو خارج عن الكسب ، ضرورة أنّ كلامنا في الجبر لا فيما يجب فيه الخمس ، فمتعلّق الوجوب أيّاً ما كان من العنوان الخاصّ أو العامّ لا تنجبر به الخسارة الخارجيّة ، إذ لا علاقة بينهما ولا ارتباط حسبما عرفت ، وتلك الخسارة كما لا توجب زوال الربح لا توجب زوال الفائدة أيضاً بمناطٍ واحد ، فلا وجه لابتناء الجبر وعدمه على تلك المسألة كما لا يخفى ، فلاحظ وتدبّر.

(١) الظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في جبر التلف أو الخسران بالربح فيما إذا كانا في وقتين أو في فردين من نوع واحد من التجارة ، كالبزّاز الذي يربح في شهر ويخسر في آخر أو يربح في قسم كالماهوت ويخسر في قسم آخر

٢٧٩

نعم ، لو كان له تجارة وزراعة مثلاً فخسر في تجارته أو تلف رأس ماله فيها فعدم الجبر لا يخلو عن قوّة (*) ، خصوصاً في صورة التلف ، وكذا العكس.

وأمّا التجارة الواحدة فلو تلف بعض رأس المال فيها وربح الباقي فالأقوى الجبر ، وكذا في الخسران والربح في عام واحد في وقتين ، سواء تقدّم الربح أو الخسران (**) ، فإنّه يجبر الخسران بالربح.

______________________________________________________

كالفاستون ، أو يربح بائع العبي في العباءة الشتويّة ويخسر في الصيفيّة ، وهكذا ، ضرورة أنّ العرف والعادة قد جرت على احتساب الربح والخسارة في مثل ذلك في المجموع لا في واحد واحد ، فيلاحظ المجموع في آخر السنة ويحاسب كمعاملة واحدة قد خسر فيها أو ربح. وهذا لا ينبغي الإشكال فيه كما عرفت ، وقد تعرّض له الماتن في آخر المسألة.

ولكن الذي ينبغي التنبيه عليه هو أنّ خسارة السنة السابقة لا تنجبر بالربح في السنة اللاحقة ولو من جنس واحد كما نصّ عليه الأصحاب ، كالبزّاز الذي يخسر في سنة ويربح في أُخرى ، لأنّ كلّاً منهما موضوع مستقلّ وله حكم خاصّ.

فعلى هذا لا تنجبر الخسارة السابقة بالربح اللّاحق ولو في سنة واحدة ، بناءً على ما هو الصحيح من أنّ مبدأ السنة إنّما هو ظهور الربح لا الشروع في الكسب ، فالخسارة قبل الظهور أيضاً لا تتدارك بالربح اللّاحق ، لأنّ العبرة بصرف الربح في المئونة ولم يصرف فيها ، وواضح إنّ الخسارة السابقة

__________________

(*) في القوّة إشكال ، نعم هو أحوط ، ولا فرق في ذلك بين صورتي الخسران والتلف السماوي.

(**) الجبر في فرض تقدّم الخسران لا يخلو من إشكال بل منع.

٢٨٠