دراسة في علامات الظهور

السيد جعفر مرتضى العاملي

دراسة في علامات الظهور

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١
٢

٣

٤

الإنتظار المرّ

مزجاة إلى ولي الله الأعظم الحجة بن الحسن

( عجل الله تعالى ظهوره الشريف )

صفوَةَ الخلق معدن المكرماتِ

سابقَ السابقين بالخيراتِ

يا إمام الأحرار يا ذروة المج‍

‍دِ ويا نجدةَ السراةِ الكُفاة

يا ملاذ العُفاة في ضَنكِ المح

‍ل وغوثَ الملهوفِ في النائبات

قولُك الفصلُ حكمُك العدلُ يا من

لك عزم أمضى من المرهفات

لك ذاتٌ قدسيةٌ وصفاتٌ

قد تعالت على جميع الصّفات

لك مجد أدنى الذُّرى منه أوْفَتْ

في علاها على ذُرى النَّيرات

لا تَنال العقولُ أدنى مَداها

وبلوغُ الأقصى من المعجزات

قد تحدّرْت من أرومة عزّ

ومن الطاهرين والطاهرات

قد زكا محتدٌ وطاب نجارٌ

وصفا العرْق من هَناً وهَنات

كل ما في الوجود ما زال يتلو

بعضَ آيات فضلك البينات

هي وحيُ القرآن وهي نثار

من معاني الإنجيل والتوراة

٥

سيدي أنت رحمةٌ للبرايا

أنت رمزُ البقاء للكائنات

أنت للمؤمنين واحة أمن

أنت سيفٌ على رقاب الطغاة

أنت في ظلمة الجهالات نورٌ

بل منار الهدى لكل الهداة

أنت أغنيت بل وأحييت دنياً

بالندى والهدى وبالمكرمات

أنت قدَّست كلَّ صاحب قدس

وغمرت الوجود بالبركات

أنت إمَّا بنا ادلهمّت خطوبٌ

ورمانا الزمان بالقاصمات

وإذا الكفر عاث في الأرض بغياً

ودهى الكونَ حندسُ الظلمات

دفقة النور نهلة الماء للصادي

ربيع المنى وسرُّ الحياة

* * * *

سيدي أنت أنت عزِّي وذخري

فاستمع سيدي لبعض شكاتي

زهرة العمر إن تكن تتلاشى

بمرور الساعات واللحظات

فلماذا ـ يا حسرتا ـ نصب عيني

تتلاشى في إثرها أُمنياتي

ولماذا أرى الأناشيد ترْتَ‍

‍دُّ نياحاً يطفو على النغماتِ

وأرى الخصب والربيع فآتي‍

‍ه فألقى الربيعَ محضَ مواتِ

والضنى ماجَ في الأزاهير حتى

صوَّحَت في شبابها زهراتي

وأرى الأُفقَ طافحاً زخرت في

فيض وكّاف غَيْثه واحاتي

فأحثُّ الخطى إليه ، ولكن

أثقلت كظَّةُ الظَّما خُطواتي

ثمّ إذ جئْتُه ولم أرَ شيئاً

غيرَ لَمْع السَّراب في الفلوات

٦

يتلاشى قلبي ، وقد بُحَّ صوتي

ثم مات الصدى على لهَواتي

* * * *

سيدي عاثَتِ الهموم بقلبي

ورمتْني بأعظم النكبات

ودهتني دهيا الفراق فأصبح‍

‍ت أسيرَ الهموم والكربات

مزَّقَتْني سيوفُه ، وأحاطتْ

بي أفاعيه من جميع الجهات

عصفَتْ بي رياحُه فَسَمُومٌ

لَفْحُ ما هبَّ من صَبا النّسمات

ورمتني في مَهْمَه التْيه يُلهيني

ضياعي أجْتَرُّ فَضلَ شتاتي

أتلَظّى بالوجد أقْتاتُ دمعي

وكأنّي أسْتافُ بعض رُفاتي

وعلى الجمرِ رُحْتُ أمْشي ولكن

ذاك جمر الآهات والحسرات

تتوالى الاهات حَرَّى بَواك

آه ماذا تفيدني آهاتي

زَفرَة الوجد وهي تَلفَحُ قلبي

صَهَرَتْه بها لظى الزفرات

فالجحيم التي بها سوف يُجْزى

كل باغ و كل طاغ وعات

وَمْضَةٌ من لهيب وجدي وشوقي

أوقدتها فكيف بالوَمضات

* * * *

سَرْمَدِيّاً ـ يا سيدي ـ صار حُزني

غُصَصاً مرَّةً غدت لذّاتي

بسمتي لوعةٌ ، حنيني شجوٌ

ونشيدي ثَواكلُ العَبَراتِ

أشَتاتي أم غُربتي لك أشكو

أنت أدرى بغربتي وشتاتي

ضاق صدري وعيلَ صبري وإني

خائفٌ من ذنوبي الموبقات

٧

فلو أني أحظى بِنَظْرَةِ عطف

منك لم أخْشَ كل ما هو آت

ليس إلاّك من يداوي جراحي

فجراحي أعْيَتْ جميع الأساةِ

هب لقلبي حياته وتعاهد

بالندى كل زهرة في حياتي

وازرع الأُفق بالورود يغشِّي

فَوْحُ أطيابها جميع الجهات

وامسح البؤس عن عيوني وهَدْهِدْ

بالسنا خاطري وبالبسمات

وبفيض الحنان والحب فلتُم‍

‍رعْ رحابي وليفعم الطّهرُ ذاتي

* * * *

سيدي جئت أطلب الرِّفْدَ فاعطف

واستجب لي بحق ذي الثَّفنات

أتمنى رضاك فهو نجاة

لي ، فأنتم ـ والله ـ فُلْكُ النجاة

أتراني أحظى بقربك يوماً

أتراني أراك قبل وفاتي

آه يا ليتني أراك وأني

منك قد نلت أعظم البركات

أمنيات عزيزة وعذابٌ

حبذا لو تحقّقت أمنياتي

٨

تقديم :

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد ..

فإن هذا الكتاب قد جاء ليعالج ظاهرة قد اعتبرت سلبيةً إلى حد كبير. وهي ظاهرة التعامل مع علامات الظهور من زاوية معينة لا تنسجم مع الأهداف الحقيقية.

فقد عالج هذا الكتاب موضوع الاخبارات الغيبية للأئمة عليهم‌السلام بعلامات الظهور والموقف المتخذ ، والذي ينبغي أن يتخذ منها. ثم تقسيمها إلى ما هو من المحتوم وما ليس من المحتوم.

وأهداف هذا التقسيم ودوافعه بصورة عامة.

ومهما يكن من أمر : فإن ما نرمي إليه في هذه الدراسة الموجزة إنما هو مجرد إعطاء الرأي بصراحة وبموضوعية وتسجيل الموقف على أساس علمي رصين وليس هو الاستقصاء والاستعياب.

والله نسأل : أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يلهمنا النية الصادقة وصواب القول والعمل الصالح إنه ولي قدير.

٢١ شهر رمضان المبارك سنة ١٤١١ ه‍ ق

جعفر مرتضى العاملي

٩
١٠

الفصل الأول

نظرة في شؤون الإمامة والأمة

١١
١٢

ركنان تقوم الإمامة عليهما :

إن من المعلوم والمفهوم : أن الإمامة أصل أصيل عند الشيعة الإمامية ، فهي وفقاً للأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ـ إمتداد للنبوة ـ لا يمكن تحقيق الأهداف الإلهية بإسعاد البشر ، وإيصالهم إلى كمالهم ، ونيلهم درجات القرب والرضا الإلهي بدونها.

وهي كذلك ، منصب إلهي ، لابد من الرجوع فيه إلى الله العالم الحكيم والمدبر الرحيم سبحانه وتعالى.

فهو وحده الذي يعين الإمام ، ويدلّ عليه بواسطة النص ، حيث يكون هذا الإمام قد تربى تربية إلهية خالصة في مهبط الوحي ، ومعدن الرسالة ثم بعد ذلك في حجر الإمامة ، حيث إن ذلك من شأنه أن يمنحه الفرصة لاكتساب علومه ومعارفه الشاملة من مقام النبوة ، ومصدر المعرفة الأول. أو من وارث علمه ، والإمام الحاضر والقائم بالأمر من بعده في كل عصر وزمان.

ونستخلص من ذلك :

أن الإمامة تقوم على ركنين أساسين :

أحدهما : النص القاطع لكل عذر.

الثاني : العلم الخاص ، الذي يتلقاه الإمام عليه‌السلام من مقام النبوة مباشرة ، أو بالواسطة هذا بالإضافة إلى الملكات والخصائص القيادية ، وكل ما

١٣

من شأنه أن يحفظ المسيرة ، ويضمن سلامة الاتجاه ، مثل صفة العصمة ، والتدبير ، والحنكة ، والشجاعة ، والكرم ، وغير ذلك مما يساعده على النهوض بأعباء المسؤولية على النحو الأكمل والأفضل والأمثل.

التأكيد على الركن الأول :

ونلاحظ هنا : أن الأئمة : قد اهتموا بالتأكيد على هذين الركنين الذين أشرنا إليهما. حتى إن علياً عليه‌السلام قد استشهد لحديث الغدير بالصحابة والبدريين منهم خاصة في أكثر من مورد ، وأكثر من مناسبة ، في رحبة الكوفة ، وفي صفين وفي الجمل ، وفي يوم الشورى ، فشهد جم غفير منهم بسماعهم ذلك مباشرة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما أن الإمام الحسين عليه‌السلام قد جمع الصحابة في موسم الحج ، وذكرهم بفضائل أبيه ، وبحديث الغدير ، وبأفاعيل معاوية (١).

تتبع كتب الحديث والأثر ، والتاريخ والسير يوضح هذا الإصرار منهم عليهم‌السلام ، لكثرة ما روي عنهم عليهم‌السلام في هذا المجال.

التأكيد على الركن الثاني :

أما بالنسبة للعلم الخاص فإن تأكيداتهم عليه تفوق حد الحصر ، ونحن نكتفي بذكر نماذج ثلاثة ظهر فيها هذا الأمر بصورة جلية وواضحة ، وهي التالية :

النموذج الأول : علي عليه‌السلام وإخباراته الغيبية :

وقد بلغت الاخبارات عما سيحدث ، الصادرة من قبل أمير المؤمنين

__________________

(١) راجع على سبيل المثال : كتاب الغدير ج ١ ص ١٥٩ و ٢١٣ ودلائل الصدق ، وكتابنا الحياة السياسية للإمام الحسن عليه‌السلام ص ٩٠ فما بعدها.

١٤

عليه‌السلام حداً جعل البعض ـ حسداً ، أو حقداً ، أو جهلاً أو سياسة يتهمونه ـ والعياذ بالله ـ بالكذب ، وحديث الخرافة (١) وما ذلك إلا من أجل أن يُفهِم الناس أنه يأخذ علمه من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي اختصه بما لم يخص أحداً سواه. وذلك لأن الله سبحانه هو ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) (٢) من يرتضيه من أفراد الأمة ، ومَنْ غير الأئمة يفوز بهذا الحظ العظيم والشرف الباذخ.

علي عليه‌السلام في العراق :

والأمر الذي لابد من الإلماح إليه ولو بإيجاز هو : أنه لم يكن أهل العراق يعرفون أمير المؤمنين عليه‌السلام حق معرفته ، ولا كانوا قد تربّوا على نهجه ، ولا اطلعوا على أطروحته ، وإنما عرفوا الإسلام من قبل آخرين ، ممن هم في الخط الأخر المناوئ له عليه‌السلام.

وحتى معرفتهم هذه للإسلام ، فإنها كانت ظاهرية وقشرية ، وإنما تعمقت وتأصلت بفضل جهوده هو عليه‌السلام ، حتى ليقول مخاطباً لهم :

« وركزت فيكم راية الإيمان ، وعرفتكم حدود الحلال والحرام » (٣).

ولأجل ذلك ، فقد كان من الطبيعي أن يشدّد عليه الصلاة والسلام كثيراً على أمر النص ، ويركّز على أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اختصه بعلوم لم تكن لدى أحد من الناس غيره عليه‌السلام وهي علوم الإمامة.

ولكن الملفت للنظر هو أننا نجده عليه‌السلام يهتم بإظهار علومه

__________________

(١) ذكرنا نبذة عن هذا الأمر في كتاب علي عليه‌السلام والخوارج.

(٢) الآيتين ٢٦ و ٢٧ من سورة الجن.

(٣) نهج البلاغة ، بشرح محمد عبده ج ١ ص ١٥٣. وراجع : ما قاله أبو أيوب الأنصاري لأهل العراق في كتاب : الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٥٢ / ١٥٣.

١٥

الخاصة بصورة إخبارات غيبية ـ عما سيحدث في المستقبل ـ بصورة أكبر ، وأشد إبان حروبه مع الخوارج ، حسبما ألمحنا إليه في كتابنا : « علي عليه‌السلام والخوارج » ، أما في حربي الجمل وصفين ، فقد كان اهتمامه بذلك أقل كما يظهر للمتتبع.

التفسير المعقول :

ولعل التفسير المعقول والمقبول لهذه الظاهرة هو : أن حروبه عليه‌السلام مع الخوارج كانت هي الأصعب ، والأقسى ، والأشد مرارة ، ولكن لا من حيث : أنه قد كانت لدى الخوارج قدرات قتالية فائقة !! إذ إنهم من هذه الناحية ليس كما يشاع عنهم ، بل إن أمرهم كان أهون من غيرهم فقد قتل منهم في معركة واحدة من معارك النهروان ، أربعة آلاف رجل ـ على ما قيل ـ ولم ينج منهم عشرة ، ولم يقتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام عشرة (١) بسبب الخطة القتالية الناجحة التي رسمها علي عليه‌السلام ولأسباب أخرى لا مجال لبحثها الآن (٢).

ولكن السر في صعوبة ومرارة هذه الحرب يعود إلى الأمور التالية :

١ ـ إن الخوارج كانوا في ظاهر الأمر من القرَّاء المسلمين ، الذين يتظاهرون بالتقوى ، والصلاح ، والنسك ، وقد عرف ذلك عنهم وشاع.

إذن ... فقتل هؤلاء بأيدي إخوانهم المسلمين لم يكن بالأمر المستساغ ولا المقبول لدى عامة الناس ، الذين لم يعرفوا بواطن الأمور ، ولا اطلعوا على خلفياتها.

__________________

(١) راجع : كتاب علي عليه‌السلام والخوارج.

(٢) راجع : كتاب علي عليه‌السلام والخوارج.

١٦

٢ ـ إن الخوارج كانوا ـ من جهة ثانية ـ جزءاً من هذا الجيش الذي حارب إلى جانبه عليه‌السلام أعداءه في الجمل وصفين فكانوا ـ إذن ـ رفقاء السلاح والجهاد لهذا الجيش الذي يحاربونه اليوم ، ويقتلهم ، ويقتلونه ، وكانت لهم به علاقات شخصية ، وروابط ، وذكريات ، حلوة ومرة.

٣ ـ لقد كانت هناك وشائج قربى ونسب ، تربط بين هاتين الفئتين المتناحرتين ، حيث إن القوم كانوا أبناء القوم ، وآبائهم ، وإخوانهم ، وأبناء عمهم.

ومن الطبيعي أن تترك الحرب فيما بين هؤلاء آثاراً سلبية بليغة على البنية الاجتماعية ، وعلى العلاقات العشائرية والقبلية في داخل جسم الأمة.

هذا بالإضافة إلى الصعوبات العاطفية ، والصدمات الروحية ، والعقد النفسية التي تنشأ ـ عادة ـ عن قتل وقتال المرء لأخيه ، وصديقه ، وابن عمه. ولا ندري حقيقة المشاعر التي كانت تنتاب عدي بن حاتم حينما دفن ولده بعد انتهاء المعركة. وكذا غيره ، حينما دفن رجال من الناس قتلاهم بإذنه عليه‌السلام (١).

٤ ـ إن الشعارات التي رفعها الخوارج كانت خداعة وبراقة إلى حد كبير ، وكانت تستهوي أولئك الذين ينساقون وراء مشاعرهم ، وعواطفهم ، دونما تأمل أو تعقل ، أو تمحيص لحقيقة ما يجري وما يحدث ، ودونما دراسة واعية لدوافعه وخلفياته. ولم تكن لديهم معرفة كافية تخولهم تمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال.

وهذا الواقع الذي كان يعاني منه مجتمع أمير المؤمنين عليه‌السلام

__________________

(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٤ ص ٦٦ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ٣٤٨ وتذكرة الخواص ص ١٠٥ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ١٨١.

١٧

يجعل من الشعارات البراقة والخداعة وسيلة فعالة في تخفيف هيمنة العقل والتقليل من زنته ورجاحته وجعل الأهواء ، والمشاعر هي الطاغية والمسيطرة ، وهذا هو السبب في أن فرعون قد استخف قومه ـ أي عقولهم ـ فأطاعوه حتى عبدوه.

وهو السبب في أن يتمكن الشيطان من أن يزين القبيح للإنسان ويظهره بصورة أحسن ، حتى يقع فيه. ولو كان ثمة أثارة من علم لعرف الصحيح من الزائف والحسن من القبيح ، والحق من الباطل.

٥ ـ إننا إذا درسنا واقع المجتمع الذي كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يتعامل معه ، ولاسيما بعد حربي الجمل وصفين ، فلسوف نخرج بنتيجة مثيرة ، وقد يرى البعض أنها تستند إلى نظرة مفرطة في التشاؤم.

فأما بالنسبة لفريق الخوارج ، فإن أمرهم واضح ، إذ يعلم كل أحد : أنهم كانوا أعراباً جفاةً ، أخفاء الهام ، سفهاء الأحلام.

وحتى بعد مرور قرنين من الزمن وفشوا العلم بين الناس ، وظهور الفرق والنحل ، حتى نحلة الاعتزال المفرطة في الاعتماد على العقل ، وكذلك بعد ترجمة الكتب اليونانية ، وبعد أن صار كل فريق يحاول تقديم آرائه ، بقوالب علمية ، وبصيغ حضارية ـ نعم ، حتى بعد هذا وذاك وذلك ، فإن حالة الخوارج الثقافية قد بقيت في منتهى السوء ، حتى لقد قال فيهم بشر بن المعتمر :

ما كان من أسلافهم أبو الحسن

ولا ابن عباس ولا أهل السنن

غر مصابيح الدجى مناجب

أولئك الأعلام لا الأعارب

كمثل حرقوص ، ومن حرقوص

فقعة قاع حولها قصيص

ليس من الحنظل يشتار العسل

ولا من البحور يصطاد الورل

١٨

هيهات ما سافلة كعالية

ما معدن الحكمة أهل البادية (١)

وأما بالنسبة لمن عدا الخوارج من أصحابه وأعوانه ( عليه الصلاة والسلام ) ، فإن حربي الجمل وصفين ، والاغتيالات التي قام بها أعداؤه ، قد أفقدته الكثير من خلّص أصحابه ، ولم يبق معه إلا القليل. وقد قال الأشتر لهؤلاء الناس بعد انتهاء حرب صفين : « قتل أماثلكم ، وبقي أراذلكم » (٢).

وقد كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يتلهف على أصحابه المخلصين ، الذين فقدهم (٣).

وقد قال عليه‌السلام حين تكلّموا حول مدى طاعة الأشتر لأوامره عليه‌السلام : « ليت فيكم مثله إثنان ، وليت فيكم مثله واحد » (٤).

ويقول عليه‌السلام : « ذهب والله أولوا النهى ، والفضل والتقى ، الذين كانوا يقولون فيصدقون ، ويدعون فيجيبون ، ويلقون عدوهم فيصبرون وبقيت لي حثالة قوم لا يتعظون بموعظة ولا يفكرون في عاقبة لقد هممت أن أشخص عنكم فلا أطلب نصركم ما اختلف الجديدان » (٥).

__________________

(١) الحيوان ج ٦ ص ٤٥٥. والفقعة : الرخ من الكمأة. والقصيص : شجرة تنبت في أصلها الكمأة. والورل : دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه. وقال القزويني : إنه العظيم من الوزغ ، وسام أبرص ، طويل الذنب ، سريع السير ، خفيف الحركة.

(٢) صفين للمنقري ص ٤٩١ والمعيار والموازنة ص ١٦٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢١٩.

(٣) نهج البلاغة ج ٢ ص ١٣٠ / ١٣١ بشرح عبدة ، ونقله عن مصادر نهج البلاغة ج ٢ ص ٤٥٠ / ٤٥١ عن الزمخشري في ربيع الأبرار ، باب التفاضل والتفاوت. وراجع : الفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ١٠٢.

(٤) المعيار والموازنة ص ١٨٣ / ١٨٤.

(٥) الفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ٦٦ / ٦٧.

١٩

وكل ذلك يوضح : أنه عليه‌السلام لم يعد بإمكانه تحريك الساحة بنفس الفاعلية وبنفس الحماس ، إذ إن مراكز الثقل قد تلاشت ، والكوادر الفاعلة التي كان لها تأثير كبير في توجيه الفكر ، وبلورة الرؤية السياسية لدى الجماهير قد فقدت ، فليس لعلي عليه‌السلام بعد اليوم ، لا عمار ، ولا أبو الهيثم بن التيهان ، ولا الأشتر ، ولا ، ولا ...

أما من تبقى معه من المخلصين ، فقد كان عليهم أن يمسكوا بالمفاصل الحساسة للدولة التي تتناوشها ذؤبان معاوية ، ويعبث فيها الأخطبوط الأموي ، وغيره من فلول الحاقدين فساداً وإفساداً.

التوضيح والربط :

على ضوء ما تقدم وبعد أن عرفنا الحالة التي كان يعاني منها المجتمع فإن من الطبيعي أن تهيمن حالة من التردد والشك والريب على مواقف الناس ، وعلى مواجهتهم لظاهرة الخوارج ، وشعاراتهم ، فكان لابد من اللجوء إلى أسلوب الصدمة ، لإحداث اليقظة الضميرية والوجدانية لدى عامة الناس ، اعتماداً على المنطلقات العامة فيما يرتبط بالإيمان بالغيب.

وقد ظهرت هذه الصدمة والهزة الضميرية عل شكل إخبارات غيبية ، يشاهد الناس تحقق مضمونها بأم أعينهم. من أجل إعطاء الشحنة المحركة ، وتسجيل الموقف الحاسم ، لكي يمكن بعد ذلك ملاحقة ومتابعة العلم التربوي ، والتثقيف والتوعية ، ليكون ذلك ضمانة لبقاء القناعات ، وتجذيرها في عقل وفكر ، ووجدان الإنسان بصورة كافية ...

وتمثل هذه الهزة أو فقل الصدمة الضميرية الأسلوب الأمثل لإظهار علم الإمامة ، الذي استقاه عليه‌السلام من مهبط الوحي ، ومعدن الرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يشاركه فيه أحد.

٢٠