موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يعيّن ، بل يعطي له بعد العمل ما أدّى إليه النظر ، فعدم التقدير في أصل الشرع لا يستلزم المجّانيّة بوجه.

ثمّ لو فرضنا أنّ جميع الزكاة قد تلفت بعد العمل ، فهل يضمن الحاكم سهم العامل؟

أمّا في فرض عدم التعيين بإجارة أو جعالة فالأمر ظاهر ، إذ لا يعطى بإزاء عمله إلّا من الزكاة ، أي من نفس العين ، ولم يبق لها موضوع حتّى يعطى منه حسب الفرض ، فلا موجب لضمان الحاكم بأن يعطى من ماله مثلاً.

وأمّا في فرض التعيين بأحد الأمرين فالظاهر أنّ الأمر أيضاً كذلك ، إذ قد عيّنت له الأُجرة أو الجعل من نفس الزكاة لا من مال آخر ، فلا استحقاق مع التلف وانتفاء الموضوع ، ولا مقتضي لضمان الحاكم لا من ماله الشخصي ولا من بيت مال المسلمين. ومنه تعرف أنّه لا أثر عملي تفترق به هذه الموارد ، بل في جميعها لو تلفت الزكاة لا ضمان على الحاكم.

وكيفما كان ، فقد عرفت أنّ سهم العامل لا تقدير له في أصل الشرع ، بل هو موكول إلى نظر الحاكم من التعيين بأُجرة أو جعل أو عدمه والعطاء بعد ذلك بما شاء ، لكن على الثاني ليس له الاقتصار على الأقلّ من اجرة المثل ، لأنّ عمل المسلم محترم فلا بدّ من إعطائه أُجرة عمله والخروج عن عهدته ، ولا دلالة في الإناطة برأي الإمام في الصحيح المتقدّم على جواز دفع الأقلّ ، إذ ليس معناه أنّه يعطيه ما يشتهيه ويريده حتّى لو كان درهماً أو فلساً واحداً ، بل المراد إعمال الرأي وملاحظة الطوارئ والخصوصيّات فيعطيه بإزاء العمل ما أدّى إليه النظر الذي لا يكاد يكون أقلّ من اجرة المثل بطبيعة الحال.

٦١

ويشترط (*) فيهم : التكليف بالبلوغ والعقل (١) والإيمان ، بل العدالة والحرّيّة أيضاً على الأحوط. نعم ، لا بأس بالمكاتب.

ويشترط أيضاً معرفة المسائل المتعلّقة بعملهم اجتهاداً أو تقليداً ، وأن لا يكونوا من بني هاشم. نعم ، يجوز استئجارهم من بيت المال أو غيره ، كما يجوز عملهم تبرّعا.

______________________________________________________

(١) ذكر الفقهاء شروطاً للعاملين على الزكاة قد ادّعي عليها الإجماع في كلمات غير واحد.

منها : البلوغ والعقل ، وذكروا في وجهه أنّ الصبي والمجنون قاصران يحتاجان في نفوذ تصرّفهما إلى الولي ، ولا ريب أنّ استعمال الشخص لجباية الزكوات يتضمّن نوع ولاية على الصدقات ، فكيف يقبل الاتّصاف بهذا العنوان من هو محتاج في تصرّفه إلى الولي؟! ولكن هذا لعلّه واضح البطلان ، ضرورة أنّ العامل لا يزيد على كونه أجيراً محضاً ، وليست له أيّة ولاية على الزكاة بوجه ، وإنّما هو كسائر العمّال المتصدّين بإجارة أو جعالة ونحوهما لغيرها من سائر الأعمال ، ولا شكّ في جواز استئجار الصبي أو المجنون بإذن الولي فيما إذا لم يبلغ المجنون حدّا يوجب إتلاف المال.

فإن تمّ إجماع قطعي كاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) ولا يتمّ جزماً فهو ، وإلّا فلا مانع من استئجارهما ، سيّما وأنّ بعض الصبيان لهم قابليّة العمل أقوى من البالغين.

والحاصل : أنّه لم يكن لدينا دليل تعبّدي من نصّ أو إجماع قطعي على هذا

__________________

(*) على الأحوط.

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الاعتبار ، فالحكم مبني على الاحتياط.

ومنها : الإيمان والحرّيّة وأن لا يكون من بني هاشم ، وقد استُدلّ بالإجماع أيضاً على اعتبار هذه الشروط الثلاثة.

والأولى التمسّك بما دلّ من الروايات على عدم جواز دفع الزكاة لبني هاشم والمخالف والعبد ، فإنّ النسبة بين هذه العناوين وبين العاملين وإن كانت هي العموم من وجه إلّا أنّ الحكم في الآية المباركة حكم وحداني متعلّق بمجموع الأصناف الثمانية والطبيعي الجامع لها ، ولم يكن انحلاليّاً بأن تجعل الزكاة للعامل مستقلا وللفقير مستقلا وهكذا لكي تلاحظ النسبة بينها وبين العامل بالخصوص ، وإنّما النسبة تلاحظ بين هذه العناوين الثلاث وبين مجموع الأصناف ، ولا شكّ أنّ النسبة حينئذٍ عموم مطلق ، بحيث لو فرضنا الجمع بينهما في الآية المباركة بأن قال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) ثمّ ذيّلها بقوله : ولا يعطى لبني هاشم أو للمخالف والعبد ، لم يبق العرف متحيّراً ولم يشكّ في التخصيص وأنّ الذيل قرينة التصرّف في الصدر.

وقد ذكرنا في الأُصول أنّ الضابط العامّ لتشخيص أقوى الظهورين فرضهما مجتمعين ومتّصلين في كلام واحد ، فإن بقي العرف متحيّراً كان الظهوران متكافئين والدليلان متعارضين ، وإلّا فلا تعارض في البين ، بل يكون أحد الظهورين أقوى من الآخر وقرينة على التصرّف فيه بحيث يكون مانعاً عن انعقاد الظهور في المتّصل وعن حجّيّته في المنفصل.

وعلى الجملة : فلا يبعد استفادة حكم المقام من نفس النصوص الواردة في العناوين الثلاثة.

وأمّا ما ورد في بعض نصوص العبد من تقييد عدم الدفع إليه بصورة الحاجة كما في صحيحة ابن سنان : «... ولو احتاج لم يعط من الزكاة» ، فالقيد مسوق

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لبيان تحقّق الموضوع ، وإلّا فلا يحتمل أن يدلّ بمفهومه على جواز الدفع في صورة الغنى وعدم الحاجة ، فإطلاق ما دلّ على أنّ العبد لا يعطى من الزكاة شيئاً كموثقة إسحاق بن عمّار (١) وغيرها محكّم.

على أنّه يمكن استفادة حكم العامل بالخصوص من بعض النصوص الواردة في بني هاشم ، كصحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : إنّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعل الله عزّ وجلّ (الْعامِلِينَ عَلَيْها) فنحن أولى به ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : يا بني عبد المطّلب (هاشم) ، إنّ الصدقة لا تحلّ لي ولا لكم ، ولكنّي وعدت الشفاعة» (٢).

فإنّها صريحة في منعهم عن جميع السهام حتّى من سهم العاملين.

وهي تدلّ أيضاً على ما تقدّم سابقاً من اختصاص العاملين بمن يستعمله الإمام وينصبه للعمل ، وليس لكلّ أحد التصدّي لذلك من غير الإذن.

ويمكن استفادته أيضاً من بعض النصوص الواردة في منع الزكاة عن المخالفين ، وهي صحيحة زرارة وابن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) ، أنّهما قالا : «الزكاة لأهل الولاية ، قد بيّن الله لكم موضعها في كتابه» (٣).

حيث دلّت على أنّ الزكاة التي هي مختصّة بأهل الولاية هي التي بيّن الله موضعها في كتابه ، وهي المصارف الثمانية التي منها سهم العاملين ، فكأنه تعالى

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٩٤ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٤ ح ٣.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٦٨ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٩ ح ١.

(٣) الوسائل ٩ : ٢٢٤ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٥ ح ٩.

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

قال هكذا : إنّما الصدقات لأهل الولاية وهم الفقراء والمساكين والعاملين عليها. فقد دلّت بوضوح على اختصاص سهم العاملين بالمؤمنين.

ثمّ لا يخفى أنّ المستفاد من الأدلّة ليس إلّا أنّ الهاشمي لا يعطى من الزكاة ، لا أنّه غير قابل للاستئجار من مالٍ آخر ، فلو رأى وليّ الأمر المصلحة في استعماله وإعطائه من ماله أو من بيت مال المسلمين أو تصدّى هو للعمل تبرّعاً لم يكن به بأس ، إذ ليس الممنوع العمل بل الإعطاء من الصدقة حسبما عرفت.

ومنها : العدالة ، وقد ادّعي الإجماع أيضاً على اعتبارها في العامل ، لكن الإجماع القطعي غير محقّق ، بل لم يدلّ عليه أيّ دليل ، ويكفي كونه ثقة أميناً.

كما لم يدلّ دليل على عدم الاعتبار أيضاً.

والاستدلال له بما في صحيح بريد بن معاوية من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لمصدّقة : «... فإذا قبضته فلا توكل به إلّا ناصحاً شفيقاً أميناً حفيظاً غير معنف بشي‌ء منها» (١) ، حيث يظهر منه الاكتفاء بالأمانة والوثاقة وعدم اعتبار العدالة.

في غير محلّه ، لأنّها ناظرة إلى ما بعد القبض والجمع ، أعني : التوكيل في التقسيم وأن يكون المقسّم ثقة أميناً ، فهي أجنبيّة عن العامل ، أو فقل : إنّها أخصّ من المدّعى ، فتأمّل.

إذن لا دليل على الاعتبار نفياً وإثباتاً ، ويكفينا في عدم الاعتبار عدم الدليل على الاعتبار.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ١٢٩ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١٤ ح ١.

٦٥

والأقوى عدم سقوط هذا القسم في زمان الغيبة (١) مع بسط يد نائب الإمام (عليه السلام) في بعض الأقطار. نعم ، يسقط بالنسبة إلى من تصدّى بنفسه لإخراج زكاته وإيصالها إلى نائب الإمام (عليه السلام) أو إلى الفقراء بنفسه.

الرابع : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) من الكفّار (٢) ، الّذين يُراد من إعطائهم الفتهم وميلهم إلى الإسلام ، أو إلى معاونة المسلمين في الجهاد مع الكفّار أو الدفاع. ومن (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) : الضعفاء العقول من المسلمين ، لتقوية اعتقادهم ، أو لامالتهم إلى المعاونة في الجهاد أو الدفاع.

______________________________________________________

(١) لإطلاق الأدلّة وعدم الدليل على التخصيص بحال الحضور ، عدا ما في كلمات الأصحاب من تفسير العاملين بالنوّاب والسعاة من قبل الإمام ، حيث ذكر بعضهم : أنّه يستظهر منه الاختصاص المزبور ، وأنّه من وظائف الإمام (عليه السلام). ولكنّه كما ترى ، بل لم يظهر وجه للتفسير المذكور بعد جعل هذه الحصّة في الأدلّة لوليّ الأمر ، الشامل بإطلاقه للإمام الأصلي ونائبه الخاصّ أو العامّ حسب اختلاف الأزمنة ، فلو كان الحاكم الشرعي في عصر الغيبة مبسوط اليد ولو في بعض الأقطار وقد تمكّن من جباية الزكوات دفع سهماً منها للعاملين بمقتضى إطلاق الأدلّة حسبما عرفت.

(٢) هذا الحكم ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال ، بل قد قام عليه إجماع المسلمين ونطق به الكتاب والسنّة.

وإنّما الكلام في تشريح موضوعه وتفسيره من حيث الاختصاص بالكفّار وعدمه ، فإنّ فيه أقوالاً ثلاثة :

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط والمحقّق في الشرائع ، بل نُسب إلى المشهور بين الأصحاب من الاختصاص بالكفّار.

قال في محكيّ المبسوط ما لفظه : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) عندنا هم الكفّار الذين يستمالون بشي‌ء من مال الصدقات إلى الإسلام ، ويتألّفون ليستعان بهم على قتال أهل الشرك ، ولا نعرف لأصحابنا مؤلّفة أهل الإسلام (١).

وقال في الشرائع : و (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم الكفّار الذين يستمالون إلى الجهاد ولا نعرف مؤلّفة غيرهم (٢).

ثانيها : ما ذهب إليه المفيد وتبعه جماعة من التعميم ، وأنّ المؤلّفة ضربان : مشركون وهم من عرفت ، ومسلمون وهم ضعفاء الإيمان ، فيعطي لهم الزكاة لتقوية عقيدتهم (٣).

ثالثها : ما اختاره في الحدائق من الاختصاص بالمسلمين ، قال ما لفظه : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قوم مسلمون قد أقرّوا بالإسلام ودخلوا فيه ، ولكنّه لم يستقرّ في قلوبهم ولم يثبت ثبوتاً راسخاً ، فأمر الله تعالى نبيّه بتألّفهم بالمال لكي تقوى عزائمهم وتشتدّ قلوبهم على البقاء على هذا الدين. فالتأليف إنّما هو لأجل البقاء على الدين والثبات عليه ، لا لما زعموه (رضوان الله عليهم) من الجهاد كفّاراً كانوا أو مسلمين وأنّهم يتألفون بهذا السهم لأجل الجهاد (٤).

أمّا القول الأوّل : فلم يظهر له أيّ مستند ، بل يدفعه إطلاقات الأدلّة من الكتاب والسنّة.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٤٩.

(٢) الشرائع ١ : ١٩٠.

(٣) نقله عنه في المعتبر ٢ : ٥٧٣.

(٤) الحدائق ١٢ : ١٧٧.

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا القول الثاني : فهو المطابق للإطلاقات كما عرفت.

وأمّا القول الثالث : فقد استُدلّ له في الحدائق بطائفة من الأخبار إن تمّت سنداً ودلالةً لم يكن بدّ من تقييد المطلقات بها.

ولتوضيح الحال لا بدّ من استعراض تلكم الأخبار.

فمنها : ما عن تفسير علي بن إبراهيم القمّي نقلاً عن العالم (عليه السلام) : «والمؤلّفة قلوبهم قال : هم قوم وحّدوا الله وخلعوا عبادة مَن دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يتألّفهم ويعلّمهم ويعرّفهم كيما يعرفوا ، فجعل لهم نصيباً في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا» إلخ (١).

وهي كما ترى مرفوعة السند فلا يمكن التعويل عليها.

ومنها : معتبرة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قوم وحّدوا الله وخلعوا عبادة مَن دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أنّ محمّداً رسول الله ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يتألّفهم ويعرّفهم لكيما يعرفوا ويعلّمهم» (٢).

وقد رويت بطريقين أحدهما مرسل ، والآخر معتبر ، فإنّه وإن اشتمل على موسى بن بكر وفيه كلام ولكنّه ثقة على الأظهر.

ولكنّها قاصرة الدلالة ، إذ مضافاً إلى عدم استفادة الاختصاص بالمسلمين ، ولعلّهم أحد موارد التأليف مع جواز وجود فرد آخر ، فتأمّل أنّها في الدلالة على الاختصاص بالكفّار أقرب ، لأنّ موردها من لم يدخل الإسلام في قلبه ،

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢١١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٧ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٩.

(٢) الكافي ٢ : ٤١٠ / ١.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

كالمنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام صورةً ، فلا دلالة لها على الاختصاص بالمسلم ضعيف الاعتقاد الذي يُراد تأليف قلبه وتقوية عقيدته كما هو المدّعى.

ومنها : مرسلة يونس عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) لم يكونوا قطّ أكثر منهم اليوم» (١).

ولكنّها مضافاً إلى الإرسال قاصرة الدلالة ، لعدم كونها بصدد تعريف المؤلّفة ، وإنّما تعرّضت لبيان الكمّيّة فحسب.

ومنها : موثّقة إسحاق بن غالب ، قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «يا إسحاق ، كم ترى أهل هذه الآية (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٢)؟» قال : ثمّ قال : «هم أكثر من ثلثي الناس» (٣).

ولكنّها غير ناظرة إلى تفسير المؤلّفة بوجه ، وإنّما وردت لبيان ما تقتضيه طبيعة البشر من السخط عند المنع والرضا لدى العطاء ، ولا ارتباط لها بما نحن فيه ، فإيرادها في باب المؤلّفة في الكافي كاستشهاد الحدائق بها غير واضح.

ومنها : مرسلة موسى بن بكر ، قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : «ما كانت (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قطّ أكثر منهم اليوم ، وهم قوم وحّدوا الله وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قلوبهم وما جاء به فتألّفهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتألّفهم المؤمنون بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لكيما يعرفوا» (٤).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤١١ / ٣.

(٢) التوبة ٩ : ٥٨.

(٣) الكافي ٢ : ٤١٢ / ٤.

(٤) الكافي ٢ : ٤١٢ / ٥.

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكنّها قاصرة سنداً بالإرسال وبسهل بن زياد ، ودلالةً بنحو ما تقدّم في الرواية الثانية.

ومنها وهي العمدة ـ : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) «قال (عليه السلام) : هم قوم وحّدوا الله عزّ وجلّ وخلعوا عبادة مَن يعبد من دون الله عزّ وجلّ وشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهم في ذلك شكّاك في بعض ما جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فأمر الله نبيّه أن يتألّفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقرّوا به ، وإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم حنين تألّف رؤساء العرب من قريش وسائر مضر ، منهم : أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس فغضبت الأنصار إلى أن قال زرارة : فسمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : فحطّ الله نورهم ، وفرض الله للمؤلّفة قلوبهم سهماً في القرآن» (١).

ويندفع بقصورها عن الدلالة على الحصر ، بل أقصاها التعرّض لشأن نزول الآية وأنّ موردها هي تلك القصّة وأنّها نزلت بعد الاعتراض على ما بذله لأبي سفيان وأضرابه من المنافقين. ومن البيّن أنّ المورد لا يخصّص الموارد ، فمن الجائز جواز الدفع إلى الكفّار أيضاً لاستمالتهم إلى الجهاد أو إلى الإسلام ، كما يقتضيه إطلاق الكتاب والسنّة حسبما تقدّم.

فلم يثبت إذن ما يستوجب ارتكاب التقييد لترفع به اليد عن المطلقات.

هذا ، والذي يهوّن الخطب أنّ هذا البحث قليل الجدوى كما نبّه عليه المحقّق الهمداني (قدس سره) (٢) ، فإنّ من جملة مصارف الزكاة سهم سبيل الله ، وهو

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤١١ / ٢.

(٢) مصباح الفقيه ١٣ : ٥٣٧.

٧٠

الخامس : الرّقاب ، وهم ثلاثة أصناف (١) :

______________________________________________________

كلّ أمر قربي يتوصّل به إلى مرضاة الله ، ولا شبهة أنّ من مصاديقه الصرف لتأليف القلب والجلب إلى ما فيه تشييد الدين وتقوية الإسلام والمسلمين ، سواء أكان المعطى له مسلماً ضعيف العقيدة لأجل تركيز مبادئ الإسلام ومفاهيمه في ذهنه أم كافراً يرجى تأليف قلبه إلى الجهاد أو إلى الإسلام.

إذن فلا ثمرة مهمّة للبحث عن اختصاص المؤلّفة بالمسلمين أو بالكافرين أو التعميم لهما بعد جواز الدفع لكلّ منهما بالعنوان الآخر على التقديرين حسبما عرفت.

(١) على المشهور بينهم من الاختصاص بالأصناف الثلاثة المذكورين في المتن ، أعني : المكاتب العاجز عن أداء مال الكتابة ، والعبد تحت الشدّة ، ومطلق عتق العبد شريطة عدم وجود المستحقّ للزكاة.

وزاد بعضهم صنفاً رابعاً ، وهو من وجب عليه العتق كفارةً ولم يجد ما يكفّر به فإنّه يُعتَق عنه.

وزاد آخرون صنفاً خامساً ، وهو الصرف لعتق الرقاب مطلقاً بلا قيد ولا شرط.

فالأقوال في المسألة ثلاثة ، وستعرف أنّ الأخير هو الأظهر.

أمّا القول الأوّل : فيستدلّ له في الصنف الأوّل بمرسلة الصدوق : قال سُئل الصادق (عليه السلام) عن مكاتب عجز عن مكاتبته وقد أدّى بعضها «قال : يؤدّى عنه من مال الصدقة ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه (وَفِي الرِّقابِ)» ورواها الشيخ أيضاً بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي إسحاق ، عن بعض أصحابنا ، عن الصادق (عليه السلام) (١).

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٩٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٤ ح ١ ، الفقيه ٣ : ٧٤ / ٢٥٨ ، التهذيب ٨ : ٢٧٥ / ١٠٠٢.

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

فقد تضمّنت تطبيق الإمام (عليه السلام) صرف الزكاة من سهم الرقاب الوارد في الآية المباركة على مورد السؤال.

لكنّك خبير بعدم الحاجة في إثبات هذه الدعوى إلى التمسّك بمثل هذه الرواية الضعيفة بالإرسال بطريقيها.

إذ مضافاً إلى أنّ صرف الزكاة من سهم الرقاب في مورد السؤال ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال يدلّ عليه نفس الآية الشريفة ، لانطباق هذا السهم على الصرف في المكاتب قطعاً.

فإنّ الصرف من سهم الرقاب تارةً يكون بشراء الرقبة فتبدّل العين الزكوية بها ثمّ يعتقها المالك بنفسه أو يأذن ولي الأمر بإنشاءٍ جديد.

وأُخرى : بالصرف في نفس العتق مباشرةً بأن يدفع المال إلى العبد أو إلى مولاه لكي يسدّد به مال الكتابة فيترتّب عليه العتق قهراً.

ولا شبهة أنّ الثاني أولى ، بل لعلّه القدر المتيقّن ، فإنّ الأوّل محقّق لموضوع العتق ، أمّا الثاني فهو صرف فيه ابتداء وبلا واسطة.

وكيفما كان ، فلا حاجة إلى الاستناد إلى هذه المرسلة. على أنّها لا تدل على الاختصاص المنسوب إلى المشهور بوجهٍ كما لا يخفى.

ويستدلّ له في الصنف الثاني : وهو العبد تحت الشدّة بما رواه الكليني بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن الرجل يجتمع عنده من الزكاة الخمسمائة والستمائة ، يشتري به نسمة ويعتقها؟ «فقال : إذن يظلم قوماً آخرين حقوقهم» ثمّ مكث مليّاً ثمّ قال : «إلّا أن يكون عبداً مسلماً في ضرورة فيشتريه ويعتقه» (١).

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٩١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٣ ح ١ ، الكافي ٣ : ٥٥٧ / ٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٠ / ٢٨٢.

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والكلام فيها يقع من حيث السند تارةً ومن ناحية الدلالة اخرى :

أمّا السند : فقد رواها في الكافي بإسناده عن عمرو ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، ورواها الشيخ في التهذيب عن الكافي ، عن عمرو بن أبي نصر ، عن أبي عبد الله (عليه السلام).

ويظهر من صاحب الوسائل أنّ بعض نسخ التهذيب مطابق لما في الكافي ، حيث إنّه (قدس سره) روى هذه الرواية أوّلاً عن الكافي ، ثمّ عقّبها برواية أُخرى عنه ثمّ قال ما لفظه : ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب وكذا الذي قبله. فيظهر من ذلك أنّ نسخ التهذيب مختلفة.

وكيفما كان ، فإن كان الراوي عمرو بن أبي نصر ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما في أكثر نسخ التهذيب فهو ثقة ، فإنّه هو مولى السكوني واسمه زيد أو زياد ، وقد وثّقه النجاشي صريحاً (١). وإن كان شخصاً آخر يروي عن أبي بصير كما في الكافي فهو مجهول الحال. وحيث إنّ الأصل في الرواية هو الكافي إذ الشيخ يرويها عنه كما سمعت ولم يعلم من هو عمرو الراوي عن أبي بصير فلا جرم تكون الرواية محكومة بالضعف.

هذا ، ومن العجيب توصيف الرواية ب : ما أورده الشيخ في الصحيح ، كما عن صاحب المدارك (٢) ، وكأنّه (قدس سره) قصر النظر على التهذيب ولم يراجع الكافي.

وأعجب منه توصيفها بصحيح أبي بصير كما في المستمسك (٣) ، فإنّه إنّما يعبّر

__________________

(١) رجال النجاشي : ٢٩٠ / ٧٧٨.

(٢) المدارك ٥ : ٢١٧.

(٣) مستمسك العروة ٩ : ٢٥١.

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عنها بالصحيحة لو كان الراوي عمرو بن أبي نصر لا أبي بصير حسبما عرفت.

وأمّا الدلالة فالإمعان في قوله (عليه السلام) : «إذن يظلم قوماً آخرين حقوقهم» الذي هو بمثابة التعليل يرشدنا إلى جواز الصرف في مطلق العتق في حدّ نفسه عكس ما يدّعيه المستدلّ من الاختصاص غير أنّ فيه إضاعة لحقّ الآخرين ، فكان مرجوحاً لأجل الابتلاء بالمزاحم ، وراجحاً بعد وجود مزاحم أقوى وهو كون العبد في شدّة ، كيف؟! ولو كان الصرف المزبور ممنوعاً في حدّ ذاته لاستند المنع إليه أي إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع المزاحم ، ولم يكن موقع للتعليل ولا للتفصيل بين الشدّة وعدمها. إذن فالرواية على خلاف المطلوب أدلّ كما لا يخفى ، فتدبّر جيّداً.

وكيفما كان ، فلا حاجة إلى الاستناد إلى هذه الرواية الضعيفة بعد كون الآية الشريفة صريحة في جواز صرف الزكاة في الرقاب ، ووضوح كون العبد تحت الشدّة هو الفرد البارز بل القدر المتيقّن منها.

ويستدلّ له في الصنف الثالث وهو مطلق عتق العبد شريطة عدم وجود المستحقّ بموثّقة عبيد بن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عزّ وجلّ أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجد موضعاً يدفع ذلك إليه ، فنظر إلى مملوك يباع فيمن يريده فاشتراه بتلك الألف الدراهم التي أخرجها من زكاته فأعتقه ، هل يجوز ذلك؟ «قال : نعم ، لا بأس بذلك» إلخ (١).

ويندفع : بعدم دلالتها على اختصاص الصرف بعدم وجدان مصرف آخر للزكاة كما هو المدّعى فإنّ هذا القيد إنّما ذكر في كلام السائل دون الإمام (عليه السلام) ليدلّ على الحصر ، ومن البيّن أنّ المورد لا يخصّص الوارد. إذن فلا مانع من التمسّك بإطلاق الآية الدالّة على جواز الصرف في مطلق الرقاب.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٩٢ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٣ ح ٢.

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والمتحصّل ممّا تقدّم : انّ القول الأوّل المنسوب إلى المشهور لا يمكن المساعدة عليه.

وأمّا القول الثاني المنسوب إلى المحقّق في مختصر النافع وإلى العلّامة في التذكرة (١) فيستدلّ له بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن العالم (عليه السلام) : «فقال : الفقراء هم الذين إلى أن قال : (وَفِي الرِّقابِ) : قوم لزمتهم كفّارات في قتل الخطأ وفي الظهار وفي الأيمان وفي قتل الصيد في الحرم وليس عندهم ما يكفّرون وهم مؤمنون ، فجعل الله لهم منهما في الصدقات ليكفّر عنهم» (٢).

ولكنّها ضعيفة السند بالإرسال كما تقدّم. هذا أوّلا.

وثانياً : إنّ مفاد الرواية جواز صرف الزكاة في مطلق الكفّارة وإن لم تكن هي العتق كما يفصح عنه قوله : «وفي قتل الصيد في الحرم» فإنّ من الواضح أنّ كفّارته بدنة لا عتق الرقبة ، ولا قائل بهذه التوسعة بالضرورة ، فظاهر الرواية لا قائل به ، وخصوص العتق لا تدلّ عليه الرواية.

هذا ، ومقتضى القاعدة عدم الجواز ، إذ الظاهر من قوله تعالى (وَفِي الرِّقابِ) وكذلك الأخبار المتضمّنة لهذا السهم هو صرف الزكاة في العتق ، وهو يتحقّق بأحد نحوين :

إمّا بالصرف في العتق مباشرةً بأن يُشترى بها عبد فتبدّل الزكاة به ثمّ يعتق ، والقدر المتيقّن عبد في شدّة كما تقدّم.

أو بالصرف في الانعتاق بأن يؤدّى بها مال الكتابة فيترتّب عليه الانعتاق قهراً حسبما مرّ.

__________________

(١) المختصر النافع : ٥٩ ، التذكرة ٥ : ٢٥٥.

(٢) الوسائل ٩ : ٢١١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٧ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٩.

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن الواضح أنّ شيئاً منهما لا ينطبق على محلّ الكلام ، ضرورة أنّ الدفع ممّن عليه كفّارة ليشتري به عبداً أو يعتقه لا يعد صرفاً لا في العتق ولا في الانعتاق ، وإنّما هو دفع للصرف في الشراء الذي هو مقدّمة للعتق ، فهو من صرف الزكاة في الكفّارة لا (فِي الرِّقابِ) ، نظير دفعها للفقير بشرط أن يشتري بها عبداً ويعتقه.

فالمتّجه حينئذٍ هو التفصيل فيمن عليه الكفّارة بين الفقير وغيره ، ففي الأوّل يجوز الدفع له من سهم الفقراء فيصرفها حينئذٍ فيما يشاء من عتق أو غيره. وفي الثاني لا يجوز لا من هذا السهم لفرض كونه غنيّاً ولا من سهم الرقاب ، لعدم كونه مورداً له حسبما عرفت.

وأمّا القول الثالث : أعني : الصرف في مطلق عتق الرقبة كيفما اتّفق من غير قيد ولا شرط ، الذي اختاره صاحب المدارك ونسبه إلى المفيد وابن إدريس والعلّامة وولده وقوّاه في الحدائق (١) وإن كان له كلام في كيفيّة الصرف ، ولا يبعد أن يكون هو الصحيح فيدل عليه أوّلاً إطلاق الكتاب العزيز ، وكذلك الروايات الواردة في كون الرقاب من مصارف الزكاة ، حيث إن كلّاً منهما مطلق وخالٍ من أيّ تقييد. وقد عرفت أنّ النصوص التي استدلّ بها المشهور للاختصاص بالأصناف الثلاثة مخدوشة سنداً أو دلالةً على سبيل منع الخلوّ وكذا غيرها ، فلا تنهض لتقييد إطلاقات الكتاب والسنّة.

وثانياً : صحيحة أيّوب بن الحرّ ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) مملوك يعرف هذا الأمر الذي نحن عليه ، أشتريه من الزكاة فأعتقه؟ قال : فقال : «اشتره وأعتقه» إلخ (٢).

__________________

(١) المدارك ٥ : ٢١٧ ، الحدائق ١٢ : ١٨٣.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٩٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٣ ح ٣.

٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّ الموضوع فيها مطلق المملوك من غير قيد ولا شرط ، سوى أنّه يعرف هذا الأمر ، أي يقول بالولاية ولا يكون من المخالفين.

واحتمال كونها ناظرة إلى الدفع من سهم سبيل الله في غاية البعد ، إذ فيه :

أوّلاً : أنّ هذا السهم لا توسعة له بحيث يتناول المقام ونحوه من كلّ أمر حسن محبوب يتضمّن إدخال السرور في قلب المؤمن ، وإلّا لساغ الإعطاء من هذا السهم لتزويج الغني أو لتزيين الغنيّة. وهو كما ترى ، بل منافٍ لحكمة التشريع وجعل الزكاة كما لا يخفى ، بل هو خاصّ بما فيه مصلحة عامّة كبناء القناطر وتعمير المساجد والبعث إلى الحجّ وما شاكل ذلك من الخدمات الاجتماعيّة كما سيجي‌ء في محلّه إن شاء الله تعالى.

وثانياً : إنّ ذلك منافٍ لنفس الصحيحة ، إذ أنّ سياقها بقرينة ذكر المملوك يشهد بأنّ السؤال إنّما هو عن الشراء من سهم الرقاب وأنّه المرتكز في ذهن السائل ، فالإجابة بالجواز من سهم سبيل الله لا ينطبق عليه.

ويؤيّد الصحيحة رواية أبي محمّد الوابشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سأله بعض أصحابنا عن رجل اشترى أباه من الزكاة زكاة ماله «قال : اشترى خير رقبة ، لا بأس بذلك» (١).

فإنّها واضحة الدلالة على جواز العتق من سهم الرقاب بلا قيد ولا شرط ، غير أنّ السند ضعيف ، لجهالة الوابشي ، فلا تصلح إلّا للتأييد.

فتحصّل : أنّ الأصحّ من بين الأقوال إنّما هو القول الأخير.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٥١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١٩ ح ١.

٧٧

الأوّل : المكاتب العاجز عن أداء مال الكتابة (١)

______________________________________________________

(١) قد عرفت أنّ الأظهر جواز الدفع من هذا السهم في مطلق العتق من غير قيد ولا شرط.

وأمّا على المسلك المشهور من التخصيص بالأصناف الثلاثة التي منها المكاتب فينبغي تقييده كما في المتن بالعاجز عن أداء حال الكتابة لذكر هذا القيد في المرسلة المتقدّمة ، فلا يجوز الدفع إلى القادر. وهذا واضح لو أُريد به الواجد لمال الكتابة بالفعل ، بل لا يجوز الدفع إليه حتى على المختار ، لانصراف الإطلاقات عن مثله قطعاً ، مضافاً إلى عدم شمول حكمة التشريع لمثله ، ضرورة أنّ الزكاة إنّما شرّعت لدفع الضرورات وسدّ الحاجات ، فلا تشمل العبد الذي اكتسب وحصل فعلاً على ما يفي بمال الكتابة ، وهذا ظاهر.

وأمّا إذا لم يكن له مال موجود بالفعل ولكنّه قادر على التكسّب ، فلا يجوز على المسلك المشهور ، لعدم صدق العاجز ، ويجوز على المختار ، إذ لا قصور في شمول الإطلاق له بعد أن كان التكسّب محتاجاً إلى مضيّ زمان ، وبقاؤه على الرقيّة في هذا الزمان أمر مرجوع لا محالة ، بخلاف ما إذا كان له مال موجود بالفعل ، حيث عرفت انصراف الإطلاقات عنه.

ودعوى دلالة النصوص على عدم حلّيّة الزكاة للمحترف السوي.

مدفوعة بأنّ بعض تلك النصوص موردها الصرف من سهم الفقراء لا من سهم الرقاب الذي هو محلّ الكلام ، وبعضها الآخر وإن كان مطلقاً كصحيحة زرارة بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : «إنّ الصدقة لا تحلّ لمحترف ، ولا لذي مرّة سوي قوي فتنزّهوا عنها» (١) إلّا أنّها أيضاً ناظرة

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٢.

٧٨

مطلقاً كان أو مشروطاً (١) ، والأحوط أن يكون بعد حلول النجم ، ففي جواز إعطائه قبل حلوله إشكال (٢)

______________________________________________________

إلى الفقير بقرينة ذكر لام التمليك في قوله : «لمحترف» ، إذ هو الذي يعطى له الزكاة ، وأمّا العبد فيعطى الزكاة لمولاه في سبيل تحريره ولا يعطى للعبد نفسه فهي تصرف في رقبته ، ولذلك قال سبحانه (وَفِي الرِّقابِ) ولم يقل : وللرقاب.

وبالجملة : فالروايات المزبورة لا تمنع عن الصرف من هذا السهم في أداء مال الكتابة حتّى للمحترف ، فلا تصلح لتقييد المطلقات بعد شمولها له حسبما عرفت.

(١) بلا خلاف فيه ، لإطلاق النصّ وكذا الآية المباركة.

(٢) ينشأ من إطلاق الآية ومن ظهور العجز الوارد في المرسلة فيما بعد الحلول ، لعدم صدقه قبله ، وحيث إنّ المعتمد عندنا هو الإطلاق حسبما عرفت فالقول بالجواز هو المتعيّن وهو الذي اختاره المحقّق الهمداني تبعاً لصاحب الجواهر (١).

وأمّا على المسلك المشهور من الاستناد إلى المرسلة فالجواز مشكل بل ممنوع ، لما عرفت من عدم صدق العجز قبل حلول النجم ، فإنّ من كان مديناً لزيد بأجل معيّن لا يصدق عليه فعلاً وقبل حلول الأجل المضروب أنّه عاجز عن أداء دينه ، كما لا يصدق القادر وإن كنّا نعلم بعجزه عنه في ظرفه إلّا بضرب من التوسّع كما لا يخفى.

__________________

(١) مصباح الفقيه ١٣ : ٥٤٦ ، الجواهر ١٥ : ٣٥٣.

٧٩

ويتخيّر بين الدفع إلى كلّ من المولى والعبد (١)

______________________________________________________

(١) لا ينبغي الشكّ في جواز الدفع إلى المولى ، بل هو القدر المتيقّن من الصرف في الرقاب ، فيترتّب عليه الانعتاق بطبيعة الحال.

ولو اتّفق عدم الترتّب لمانع خارجي ولو كان هو عدم تمكّن العبد من دفع الباقي فيما لو كان مكاتباً مشروطاً وكان المدفوع مقداراً من مال الكتابة ، فلا بدّ حينئذٍ من الاسترجاع ، لأنّ الدفع كان مقيّداً بالصرف في الفكّ والتمليك مشروطاً بالتعقّب بالعتق ولو على سبيل الشرط المتأخّر كي يتّصف بكونه صرفاً في الرقاب وقد تخلّف ولم يتحقّق ، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، ومعه لا مناص من الاسترداد.

ومنه تعرف ضعف ما نُسب إلى الشيخ من أنّه قد ملكه بالقبض فله التصرّف فيه كيف شاء (١).

إذ فيه ما عرفت من أنّ التمليك كان مشروطاً من أوّل الأمر بالتعقّب بالانعتاق لا على سبيل الإطلاق ليمتلكه بالقبض بمجرّد الدفع إليه.

وأمّا الدفع إلى العبد نفسه بحيث يملكه بمجرّد القبض ليصرفه في تحرير رقبته فهذا لا دليل عليه ، إذ المرسلة المتقدّمة ظاهرة في الدفع إلى السيّد كما لا يخفى ، كما أنّ الآية المباركة الآمرة بالصرف في الرقاب قاصرة الدلالة على ذلك ، بل المنسبق منها الصرف في تحرير الرقبة بأحد النحوين المتقدّمين من العتق أو الانعتاق ، ولا تكاد تشمل الدفع إلى العبد نفسه.

بل أنّ مقتضى جملة من الأخبار اشتراط الحرّيّة في مستحقّ الزكاة ، فلا تعطى

__________________

(١) نسبه إلى الشيخ صاحب المدارك ٥ : ٢٢٠.

٨٠