موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

الوارث دون الميّت ، والكلام فعلاً في تفريغ ذمّته لا في إيصال النفع لغيره ، ولا موضوع له حسبما عرفت ، فالحكم مطابق للقاعدة من غير حاجة إلى النصّ الخاصّ.

مضافاً إلى وروده في المقام ، ففي صحيحة زرارة : قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : رجل حلّت عليه الزكاة ومات أبوه وعليه دَين ، أيؤدّي زكاته في دين أبيه وللابن مال كثير؟ فقال (عليه السلام) : «إن كان أبوه أورثه مالاً ثمّ ظهر عليه دَين لم يعلم به يومئذٍ فيقضيه عنه ، قضاه من جميع الميراث ولم يقضه من زكاته ، وإن لم يكن أورثه مالاً لم يكن أحد أحقّ بزكاته من دَين أبيه فإذا أدّاها في دين أبيه على هذه الحال أجزأت عنه» (١).

فإنّها صريحة في عدم الأداء من الزكاة لو كان له مال ، وأنّه يصرف حينئذٍ في الدين ويكون مقدّماً على الإرث فيقضى من جميع الميراث ، أي يخرج من الأصل فيردّ من جميع الورثة لو ظهر الدَّين بعد القسمة لا من حصّة الولد فقط ، وإنّما يؤدّي الدَّين من الزكاة إذا لم يكن له مال ، إذ لم يكن أحد أحقّ بزكاته من دين أبيه ، ومعلوم أنّ الأب بعد الموت لم يكن واجب النفقة كما كان كذلك حال الحياة كي لا يجوز صرف الزكاة فيه ، ومن ثمّ قال (عليه السلام) : «من دين أبيه» ولم يقل : من أبيه.

نعم ، موردها الأداء دون الاحتساب ، لكن يتعدّى إليه بالقطع بعدم الفرق بحسب الفهم العرفي ، إذ يفهم منها أنّ الاعتبار بتمكّن الميّت من أداء دينه وعدمه ، وأنّه مع التمكّن لا يقع مصرفاً للزكاة كما لو كان حيّاً. ولا يفرق في هذا المناط بين الأداء والاحتساب كما هو ظاهر.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٥٠ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١٨ ح ١.

٤١

نعم ، لو كان له تركة لكن لا يمكن الاستيفاء منها لامتناع الورثة أو غيرهم فالظاهر الجواز (١).

______________________________________________________

(١) لو امتنع الورثة من صرف التركة في الدين إمّا عصياناً أو جهلاً بالموضوع ، لعدم ثبوت الدين عندهم شرعاً ، فامتنعوا عن الصرف المزبور حقّا أو باطلاً أو أنّه عرض تلف على التركة من ضياعٍ ونحوه بحيث لا يمكن استيفاء الدين منها ، فهل يجوز احتسابه حينئذٍ زكاة؟

الظاهر هو الجواز كما اختاره في المتن ، إذ المال الذي لا ينتفع به ولا يتمكّن المالك من صرفه في حوائجه في حكم العدم ، فالميّت حينئذٍ فقير عرفاً ومثله مورد للزكاة ، كما هو الحال في حال الحياة ، فلو كان لشخص أموالٌ كثيرة ولكنّها سرقت أو غصبت بحيث أصبح صفر الكفّ لا ينبغي الشكّ في أنّه فقير حينئذٍ عرفاً ومصرفٌ للزكاة ، فمجرّد الملكيّة لا تستوجب الغنى وزوال الفقر ما لم يتمكّن صاحبها من الانتفاع والصرف ، فيجوز الاحتساب في المقام عملاً بإطلاق الغارمين في الآية المباركة ، فالحكم مطابق للقاعدة.

وأمّا صحيحة زرارة المتقدّمة فليس فيها ما ينافي ذلك ، إذ المفروض فيها تصدّي الابن لأداء دين أبيه وعدم تمرّده عنه ، فلا إطلاق لها يشمل صورة الامتناع.

ولعلّ هذا هو مراد صاحب الجواهر من الاقتصار في تقييد الإطلاق على محلّ اليقين (١) ، يعني : أنّ المتيقّن من دلالة الصحيحة على عدم الاحتساب هو

__________________

(١) الجواهر ١٥ : ٣٦٦.

٤٢

[٢٧١٠] مسألة ١٢ : لا يجب إعلام الفقير أنّ المدفوع إليه زكاة (١) ، بل لو كان ممّن يترفّع ويدخله الحياء منها وهو مستحقّ يستحبّ دفعها إليه على وجه الصلة ظاهراً والزكاة واقعاً.

______________________________________________________

ما لو كان الوارث راغباً في تفريغ ذمّة الميّت عن الدَّين ، لأنّ موردها ذلك ، فلا تشمل الممتنع وإن كان الدليل لفظيّاً ، فيقتصر على المتيقّن من التقييد ، ويرجع فيما عداه إلى إطلاق الأدلّة ، المقتضي لجواز الاحتساب عن الزكاة كما تقدّم.

(١) تنحلّ المسألة إلى فروع ثلاثة :

أحدها : عدم وجوب الإعلام بكون المدفوع زكاة ، بل استحباب الدفع بعنوان الصلة ظاهراً لو كان الفقير رفيعاً ويدخله الحياء ، كأن يقول : هذا راجع إليكم ، أو : اقدّمه لكم ، ونحو ذلك ممّا يوهم الهبة والصلة.

ويدلّ على الحكم مضافاً إلى الإجماع كما عن غير واحد أوّلاً : إطلاقات الأدلّة من الكتاب والسنّة ، إذ لم يقيّد الدفع في شي‌ء منها بالإعلام ، بل اقتصر على مجرّد الإيصال إليه.

وثانياً : صحيحة أبي بصير ، قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذه من الزكاة ، فأُعطيه من الزكاة ولا اسمّي له أنّها من الزكاة؟ «فقال : أعطه ولا تسمّ له ولا تذلّ المؤمن» (١).

وهي وإن كانت ضعيفة السند بطريق الكليني من أجل سهل بن زياد ، إلّا

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٣١٤ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٥٨ ح ١ ، الكافي ٣ : ٥٦٣ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٨ / ٢٥.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أنّها صحيحة بطريق الصدوق ، لصحّة طريقه إلى عاصم بن حميد.

كما أنّها صريحة الدلالة على المطلوب.

ولكن قد تعارضها صحيحة ابن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : الرجل يكون محتاجاً فيبعث إليه بالصدقة فلا يقبلها على وجه الصدقة يأخذه من ذلك زمام الحياء وانقباض ، فنعطيها إيّاه على غير ذلك الوجه وهي منّا صدقة؟ «فقال : لا ، إذا كانت زكاة فله أن يقبلها ، وإن لم يقبلها على وجه الزكاة فلا تعطها إيّاه ، وما ينبغي له أن يستحيي ممّا فرض الله ، إنّما هي فريضة الله له فلا يستحيي منها» (١).

ويندفع : بأنّ ذيلها أعني قوله (عليه السلام) «وما ينبغي» المذكور في باب ٥٧ غير قابل للتصديق ، إذ كون الزكاة فريضة على الدافع لا يستلزم عدم استحياء القابض ، وإنّما يستوجب اللوم لو كانت فريضة على المستحيي نفسه لا على شخص آخر ، كيف؟! وهي أوساخ الأموال كما صرّح به في الأخبار ، ففي قبولها نوع من المهانة والذلّ كما عبّر به في صحيحة أبي بصير المتقدّمة ، ومن هنا مُنعت عن بني هاشم وعوّضوا عنها بالخمس إجلالاً لهم وترفيعاً لشأنهم.

وعلى الجملة : جعل حكم على شخص فريضة أو سنّة لا ينافي استحياء الآخر ، فإنّ المتعة سنّة مؤكّدة ومع ذلك يستحيي الشريف من تعريض ابنته الباركة للتمتّع بها ، فمضمون الصحيح لا يمكن الالتزام به ، ولا بدّ من ردّ علمه إلى أهله.

وأمّا الصدر أعني قوله في الجواب : «إذا كانت» فلا يخلو أيضاً عن شي‌ء بعد ذهاب الأصحاب إلى الجواز ، بل عليه الإجماع كما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٣١٥ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٥٨ ح ٢ ، وأورد ذيلها في ص ٣١٣ ب ٥٧ ح ١.

٤٤

بل لو اقتضت المصلحة (١) التصريح كذباً بعدم كونها زكاة جاز (*) ،

______________________________________________________

وقد حمله صاحب الوسائل تارةً : على عدم الاحتياج وانتفاء الاستحقاق.

وهو كما ترى مخالف لفرض الفقر المذكور في كلام السائل.

وأُخرى : على عدم وجوب الإخفاء.

وهو خلاف الظاهر جدّاً ، بعيد عن سياق الكلام كما لا يخفى.

وربّما يجمع بينها وبين صحيحة أبي بصير بالحمل على الكراهة ، لصراحة تلك في الجواز وظهور هذه في المنع ، فيرفع اليد عن ظاهر أحدهما بصريح الآخر ، فإن تمّ ذلك ، وإلّا فلا ريب في تقديم الاولى أعني : صحيحة أبي بصير إذ الثانية شاذّة مهجورة لا عامل بها ، فلا تنهض للمقاومة بإزاء الرواية المشهورة المجمع عليها بين الأصحاب ، فتأمّل.

ومع الغضّ عن ذلك وتسليم استقرار المعارضة فغايته تساقط الصحيحتين ، فيرجع بعدئذٍ إلى إطلاقات الأدلّة القاضية بعدم اعتبار الإعلام كما عرفت.

(١) الفرع الثاني : جواز التصريح كذباً بعدم كونها زكاة لو اقتضت المصلحة ذلك ، كأن يقول : إنّ هذا دين اقترضته منك سابقاً وقد نسيته أنت ، ونحو ذلك. ولكن هذا لم يظهر له أي وجه ، فإنّ مجرّد وجود المصلحة من ملاحظة احترام المؤمن وعدم الإذلال به أو ترتّب المنفعة لا يسوّغ ارتكاب الكذب الذي هو من الكبائر ما لم تبلغ المصلحة حدّ الإلزام والوجوب بحيث يكون أقوى ملاكاً من مفسدة الكذب ، ولا سيّما بعد إمكان التورية بناءً على جوازها في غير مورد الضرورة أيضاً كما هو الصحيح.

__________________

(*) جواز الكذب في أمثال المقام لا يخلو من إشكال بل منع. نعم ، لا بأس بالتورية.

٤٥

إذا لم يقصد القابض عنواناً آخر (*) (١) غير الزكاة ، بل قصد مجرّد التملّك.

______________________________________________________

(١) الفرع الثالث : اعتبار عدم قصد القابض عنواناً آخر مغايراً للزكاة.

ويقع الكلام تارةً في الصغرى وأُخرى في الكبرى.

أمّا الصغرى : فالظاهر أنّها غير معقولة ولا يمكن فرضها في المقام إلّا نادراً ، إذ بعد أن أخبر الدافع ولو كذباً بعدم كون المدفوع زكاةً وقد قبضه الفقير بانياً على هذا الاعتقاد فكيف يمكنه القبض والحال هذه بعنوان الزكاة أو بعنوان مطلق التملّك الجامع لها والقابل للانطباق عليها؟! فإنّه منافٍ للاعتقاد المزبور ، بل لا يمكنه إلّا قصد العنوان المغاير من هدية ونحوها.

اللهمّ إلّا أن يحتمل كذب المخبر ولم يعتقد بصدقه فيمكنه حينئذٍ عدم قصد العنوان الآخر ، ولكنّه فرض نادر كما عرفت ، بل لعلّه خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى.

وأمّا الكبرى : فلا عبرة بقصد القابض أبداً ، وإنّما الاعتبار بقصد الدافع الذي هو المكلّف بالزكاة ، فإنّها وظيفة له لا للفقير القابض ، إذ لا شأن له عدا أنّه مورد ومصرف لها ، ومن الواضح أنّ الدفع إليه ليس من قبيل المعاملات ليحتاج إلى قبول منه عن قصد وورود القصدين على محلّ واحد ، فلو دفع بقصد البيع وقبض بقصد الإجارة بطل ، أمّا لو دفع في المقام بقصد الزكاة وقبض الفقير بقصد الوفاء عن دَينٍ تخيّل له عليه صحّ وبرئت ذمّة الدافع عن الزكاة بلا إشكال.

والسرّ ما عرفت من أنّ المناط في القصد صدوره ممّن هو موظّف بالزكاة ، وليس إلّا الدافع ، ولا أثر لقصد القابض بوجه ، ومن ثمّ صحّ الاحتساب زكاةً

__________________

(*) لا أثر لقصد القابض في أمثال المقام.

٤٦

[٢٧١١] مسألة ١٣ : لو دفع الزكاة باعتقاد الفقر فبان كون القابض غنيّاً (١) : فإن كانت العين باقية ارتجعها ، وكذا مع تلفها إذا كان القابض عالماً بكونها زكاةً وإن كان جاهلاً بحرمتها للغني ، بخلاف ما إذا كان جاهلاً بكونها زكاةً فإنّه لا ضمان عليه (*). ولو تعذّر الارتجاع أو تلفت بلا ضمان أو معه ولم يتمكّن الدافع من أخذ العوض كان ضامناً (**) ، فعليه الزكاة مرّة أُخرى.

نعم ، لو كان الدافع هو المجتهد أو المأذون منه ، لا ضمان عليه ، ولا على المالك الدافع إليه.

______________________________________________________

ممّن له دَين على الفقير وإن لم يطّلع عليه الفقير أبداً ، بل وإن كان ميّتاً كما مرّ.

وقد ورد في جملة من النصوص جواز صرف الزكاة في الأيتام وإعاشتهم منها ليكبروا ويرغبوا في الإسلام مع وضوح عدم الاعتبار بقصد اليتيم وقبوله ، ولم يفرض القبول من وليّه حتّى الحاكم الشرعي ، بل يصحّ دفع الزكاة إلى فقير لا يعرف معنى الزكاة أبداً ، لكونه جديد العهد بالإسلام مثلاً ـ ، فلا يعقلها فضلاً عن أن يقبلها ويقصدها.

وببيان آخر : المالك للزكاة إنّما هو طبيعي الفقير لا شخص من يدفع إليه ، وإنّما هو مصداق للطبيعي يملكه بعد القبض لا قبله ، ومن البديهي عدم تعقّل القصد من الطبيعي ، فمن هو المالك لا يعقل قصده ، ومن يعقل منه القصد والقبول ليس بمالك إلّا بعد القبض ، والكلام في القصد قبله ، إذ لا أثر للقصد بعد القبض كما هو ظاهر.

(١) لا ينبغي التأمّل في وجوب الارتجاع مع بقاء العين فيما لو كانت متعيّنة

__________________

(*) بمعنى أنّه لا يستقرّ عليه الضمان.

(**) الظاهر عدم الضمان إذا كان الدفع مع الحجّة ومن دون تقصير في الاجتهاد.

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

في الزكاة قبل الدفع بالعزل والإفراز ، لما تقدّم من عدم جواز التصرّف في العين المعزولة ما عدا الإيصال إلى صاحبها ، فإبقاؤها عند غيره وهو الغنى في المقام تصرّفٌ بغير إذن المالك ، وهو حرام.

وأمّا الدفع إليه من غير سبق العزل فهل هو محكوم بوجوب الارتجاع أيضاً؟.

اختار المحقّق الهمداني (قدس سره) العدم ، نظراً إلى أنّ المدفوع لا يتشخّص في الزكاة إلّا بقبض الفقير الواقعي المنفي حسب الفرض ، فهو إذن ماله وباقٍ تحت سلطنته ، فله الإبقاء كما له الإرجاع (١).

ولكن الظاهر الوجوب وجريان حكم العزل عليه ، والوجه فيه : أنّ المالك لا يدفع إلّا الزكاة ، كما أنّ الفقير لا يقبض إلّا العين المتّصفة بعنوان الزكاة ، فلا جرم كان الوصف العنواني ملحوظاً قبل قبض الفقير وتسلّمه ، لا أنّه يعرضه بعد القبض. وعليه ، فلدى إخراج المالك وتصدّيه للدفع ونيّته الزكاة لا مناص من تعيّن المدفوع فيها ، لتكون موصوفة بالزكاة حال تسلّم الفقير ، ومن الواضح أن نيّة الزكاة وتشخيص المدفوع فيها حاصلة للدافع فعلاً وبنحو الإطلاق من غير أن يكون مقيّداً بقبض الفقير ومعلّقاً عليه ، فهو حال الإخراج وقبيل الدفع ناوٍ لتشخيص الزكاة في المدفوع وتعيّنه فيها لا محالة ، ولا نعني بالعزل إلّا هذا. فلا يختصّ الحكم بسبق العزل خارجاً ، بل يعمّ العزل المقارن للدفع.

وعلى الجملة : فكل دفع فهو مشتمل على العزل قبله ولو آناً ما دائماً ، وليس ذلك مقيّداً بقبض الفقير الواقعي ، بل يعمّ الاعتقادي الخيالي وجداناً ، وإذا تحقّق العزل وجب الارتجاع ، كما في العزل المسبوق ، بمناط واحد ، فانكشاف عدم الفقر لا يمنع عن وجوب الارتجاع.

__________________

(١) لاحظ مصباح الفقيه ١٣ : ٥٢١ ٥٢٦.

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، يختصّ هذا البيان بالعين الشخصيّة ولا يعمّ احتساب الدين ، فلو كان له دين على الفقير فاحتسبه زكاةً ثمّ انكشف غناه بطل الاحتساب ، إذ الدين كلّي موطنه الذمّة ، فلا يقبل العزل الذي هو من شؤون الأعيان الشخصيّة ، فلا معنى للارتجاع حينئذٍ كما هو ظاهر.

هذا كلّه مع بقاء العين.

وأمّا مع تلفها عند القابض ، فهل يضمنها الدافع أو القابض ، أمّ أنّ هناك تفصيلاً؟

الذي ينبغي أن يقال في المقام : إنّ الدافع إمّا أن يكون قد جدّ واجتهد وفحص عن حال الفقير وجرى في تشخيص الفقر على الطريقة العقلائيّة والموازين الشرعيّة ، وأُخرى قصّر وفرّط في المقدّمات ولم يسلك تلك الموازين المقرّرة.

فعلى الأوّل : لا ضمان عليه وإن صدق معه الإتلاف ، سواء أكان القابض عالماً أم جاهلاً ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أنّ الدافع المكلّف بأداء الزكاة له الولاية على تطبيقها حيثما شاء كما تقدّم ، فهو إذن ولي على المال ، ولا ينبغي التأمّل في أنّ الولي الغير المقصّر في أداء وظيفته أمين لا يضمن بشي‌ء ، كما هو الحال في الأولياء على الأيتام والصغار والمجانين والقاصرين والغائبين ، أو على الأوقاف ، وكذا الحاكم الشرعي أو المأذون من قبله في تصدّي تقسيم الزكوات مثلاً وإيصالها إلى محالّها ، فإنّ شيئاً من هؤلاء لا يضمنون لو انكشف الخلاف بعد بذل جهدهم ، فلو قامت البيّنة مثلاً لدى الحاكم الشرعي على فقر زيد فدفع إليه الزكاة ثمّ انكشف غناه ، أو باع الولي مال اليتيم معتقداً بحسب الموازين غبطته وصلاحه وبعد يوم ارتفعت القيمة السوقيّة ارتفاعاً فاحشاً ، لم يكن ضامناً يقيناً ، وإلّا لما استقرّ حجر على حجر ، ولما قام للمسلمين سوق كما لا يخفى.

وعلى الجملة : فالدافع ولي ، والولي القائم بوظيفته لا ضمان عليه فينتج بعد

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ضمّ الصغرى إلى الكبرى عدم ضمان الدافع في المقام.

ثانيهما : أنّا وإن كنّا قد عبّرنا لحدّ الآن بأنّ الزكاة ملك للفقير ، إلّا أنّها كانت مسامحة في التعبير ، إذ لم يدلّ على الملكيّة أيّ دليل ، والتعبير بالشركة في قوله (عليه السلام) : «إنّ الله أشرك الفقراء في أموال الأغنياء» مبني على ضرب من المسامحة ، ولا يراد به الشركة في الملكيّة ، ولا سيّما على القول بعدم البسط على المصارف الثمانية وجواز الدفع لفرد واحد من صنف واحد ، إذ كيف يجوز دفع ملك الفقير لغيره؟!

نعم ، على البسط له وجه ، ولكنّه يندفع بعدم الانطباق على سائر الموارد السبعة ، والالتزام بالتفكيك مخالف لاتّحاد السياق كما لا يخفى.

إذن فالصحيح أنّ الفقير مصرف بحت ولا ملكيّة بتاتاً إلّا بعد القبض ، وإنّما الزكاة ضريبة إلهيّة متعلّقة بالعين كالضرائب المجعولة من قبل السلاطين وحكّام الجور ، فالمال مال الله يصرفه المالك في الفقير بإذن الله حيث أعطى له ولاية الدفع. وعليه ، فالدافع الذي أخطأ في تشخيص الفقر قصوراً لا تقصيراً مرخّص فيما يرتكبه من العطاء من قِبَل الشارع ، وعمله عمل سائغ ، فهو يصرف مال الله الذي هو كضريبة إلهيّة بترخيص منه تعالى ، فأيّ موجب بعد هذا للضمان؟! فإنّه لم يتلف ملكاً للغير ليضمنه حسبما عرفت.

وأمّا ما اشتهر من : أنّ من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، فلم نجد ذلك ولا في رواية واحدة بعد الفحص التامّ في مظانّه ليتمسّك بعمومه في المقام على القول بملكيّة الفقير.

وإنّما هي عبارة الفقهاء اصطادوها من الموارد المتفرّقة ، فليس هذا بنفسه مدركاً للضمان ، بل المدرك السيرة العقلائيّة الممضاة لدى الشارع ، القائمة على الضمان في موارد الإتلاف ، بل التلف في يد الغير ، ومن الضروري عدم قيام

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

السيرة في المقام كما لم يرد فيه نصّ خاصّ ولا إجماع قطعي ، فلا مقتضي لضمان الدافع بوجه.

وأمّا القابض فهو ضامن مع علمه بكونها زكاة وإن كان جاهلاً بحرمتها للغني إذ الجهل المزبور لا يؤثّر إلّا في سقوط الإثم ، دون الضمان الثابت بمقتضى عموم : على اليد ما أخذت ، فبما أنّ يده على المال يد غير مستحقّة فلا بدّ من الخروج عن عهدته.

وأمّا لو كان جاهلاً فلا ضمان عليه أيضاً ، لأنّه إمّا أن يضمن بلا رجوع إلى الدافع الغارّ من جهة عدم إخباره بأنّ المال المدفوع إليه زكاة الموجب للإضرار أو مع الرجوع إليه.

أمّا الأوّل : فلا موجب له ولا مقتضي لتحمّل الضرر مع أنّه مغرور من قبل الدافع ، والمغرور يرجع إلى من غرّه ، كما هو الشأن في سائر موارد الضمانات المتضمّنة للتغريرات ، فإنّ المقام لا يمتاز عنها بشي‌ء.

وأمّا الثاني : فهو باطل ، لما عرفت من عدم ضمان الدافع بالوجهين المتقدّمين.

وعلى الثاني أعني : ما إذا كان الدافع مفرّطاً في المقدّمات ومقصّراً في تشخيص الفقر فهو ضامن ، لمكان التفريط ، كما أنّ القابض أيضاً ضامن عالماً كان أم جاهلاً ، بمقتضى : على اليد ، إلّا أنّهما يختلفان في قرار الضمان.

فإنّ الدافع لو خرج عن الضمان بالدفع ثانياً إلى الفقير الواقعي رجع بعد ذلك إلى القابض العالم بالحال ، إذ هو يملك التالف بالدفع المزبور في ذمّة القابض ، وأمّا لو تصدّى القابض للدفع فليس له الرجوع إلى الدافع ، لأنّه قد أتلفه عن علمٍ بكونه مال الغير ، فليس له الرجوع إلى أحد ، فكان قرار الضمان عليه ، أي على القابض.

وأمّا في فرض جهل القابض فالأمر بالعكس ، فلا يرجع الدافع إلى القابض ،

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّه الذي سلّطه على المال وأوقعه في الضرر ، ويرجع هو إليه بمقتضى قاعدة المغرور حسبما عرفت.

هذا ما يقتضيه الجري على القواعد الأوّلية حول فروض هذه المسألة وشقوقها من التفصيل بين بقاء العين وتلفها وعذر الدافع وتفريطه ، وعلم القابض وجهله ، حسبما بيّناه.

وأمّا بالنظر إلى الأدلّة الخاصّة فقد يقال باستفادة الحكم من النصوص الواردة في المقام ، وأنّ مرسلة ابن أبي عمير تدلّ على الضمان فيمن دفع إلى من يراه معسراً فوجده موسراً ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في رجل يعطي زكاة ماله رجلاً وهو يرى أنّه معسر فوجده موسراً «قال : لا يجزئ عنه» (١).

وأنّ موثّقة عبيد بن زرارة تدلّ على عدم الضمان فيما لو طلب واجتهد ولم يقصّر في تشخيص الفقير ثمّ انكشف الخلاف ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : قلت له : رجل عارف أدّى زكاته إلى غير أهلها زماناً إلى أن قال : قلت له : فإنّه لم يعلم أهلها فدفعها إلى من ليس هو لها بأهل ، قد كان طلب واجتهد ثمّ علم بعد ذلك سوء ما صنع «قال : ليس عليه أن يؤدّيها مرّة أُخرى» (٢).

ونحوها صحيح زرارة ، غير أنّه قال : «إن اجتهد فقد برئ ، فإن قصّر في الاجتهاد في الطلب فلا» (٣).

ولكن المرسلة من أجل الإرسال غير صالحة للاستدلال. ولا يجدي كون المرسِل ابن أبي عمير الذي قيل : إنّه لا يروي ولا يرسِل إلّا عن الثقة ، لما تكرّر في مطاوي هذا الشرح من الخدش في هذه الدعوى التي صدرت من الشيخ

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢١٥ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٢ ح ٥.

(٢) الوسائل ٩ : ٢١٤ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٢ ح ١.

(٣) الوسائل ٩ : ٢١٤ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٢ ح ٢.

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

(قدس سره) في كتاب العدّة (١) ، فإنّه اجتهادٌ منه لم يبتن على أساس صحيح ، سيّما بعد ما عثرنا على روايته عن الضعاف كما نبّهنا عليه في المعجم (٢) ، بل لم يعمل حتّى هو (قدس سره) باجتهاده ، فقد ناقش (قدس سره) أنّ مرسِلها ابن أبي عمير. هذا أوّلاً.

وثانياً : مع الغضّ عن ذلك وتسليم الكبرى فهي غير منطبقة على المقام ، إذ المرسِل هو الحسين بن عثمان لا ابن أبي عمير ، فعلى تقدير التسليم فغايته أنّ ما يرسله ابن أبي عمير بنفسه وبلا واسطة في حكم المسنَد ، لا ما يرويه عن ثقة وذلك الثقة يرسِله عن مجهول كما في المقام ، فإنّ مثل ذلك يعدّ من مراسيل ذلك الثقة لا من مراسيل ابن أبي عمير كما لا يخفى.

وأمّا الروايتان فهما أجنبيّتان عن المقام ، فإنّ المراد بغير الأهل هو المخالف ، بقرينة توصيف الدافع في الصدر بالعارف ، وقد فرض أنّه فحص عن أهل المعرفة فلم يجد ، فدفع بعد اليأس إلى من يعلم بأنّه ليس بأهل ، ثمّ يتبيّن له سوء صنعه ، فانكشف خطأه لا خطأ الطريق الذي اعتمد عليه كما هو محلّ الكلام. فهذه الرواية إن تمّت فهي من أدلّة جواز الدفع إلى المستضعفين بعد فقد المؤمنين الذي هو محلّ الكلام بين الأعلام ، وسنتكلّم فيه إن شاء تعالى.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ المسألة عارية عن النصّ الصالح للاعتماد عليه ، فلا بدّ إذن من الجري على مقتضى القواعد الأوّلية حسبما عرفت.

ثمّ إنّه لا فرق في جميع ما ذكرناه بين أن يكون الشرط المعتبر تحقّقه في مصرف الزكاة الذي اعتقد وجوده ثمّ انكشف خلافه هو الفقر أم غيره من سائر الشرائط كالإسلام والإيمان والعدالة على القول بها وعدم كونه واجب النفقة وغير ذلك ، فلو اعتقد إسلام الفقير ثمّ انكشف كفره أو إيمانه أو عدم كونه ممّن

__________________

(١) العدّة ١ : ١٥٤.

(٢) معجم رجال الحديث ١٥ : ٢٩٧.

٥٣

[٢٧١٢] مسألة ١٤ : لو دفع الزكاة إلى غني جاهلاً بحرمتها عليه أو متعمّداً ، استرجعها مع البقاء (١) ، أو عوضها مع التلف وعلم القابض ، ومع عدم الإمكان يكون عليه مرّة أُخرى. ولا فرق في ذلك بين الزكاة المعزولة وغيرها ، وكذا في المسألة السابقة ، وكذا الحال لو بان أنّ المدفوع إليه كافر أو فاسق إن قلنا باشتراط العدالة أو ممّن تجب نفقته عليه ، أو هاشمي إذا كان الدافع من غير قبيله.

[٢٧١٣] مسألة ١٥ : إذا دفع الزكاة باعتقاد أنّه عادل فبان فقيراً فاسقاً ، أو باعتقاد أنّه عالم فبان جاهلاً ، أو زيد فبان عمرواً ، أو نحو ذلك (٢) ، صحّ

______________________________________________________

يجب الإنفاق عليه ثمّ تبيّن خلافه جرى فيه كلّ ما مرّ من التفصيل والتشقيق بمناط واحد ، فلاحظ.

(١) ما قدّمناه في المسألة السابقة من التشقيق والتفصيل يجري هاهنا حرفاً بحرف ، ولا فرق بينهما إلّا في خصوصيّة واحدة بها امتازت هذه عن تلك ، وهي أنّ الدافع هناك يدفع الزكاة لمن له الولاية عليه حسب تشخيصه وهو الفقير فيجري حينئذٍ فيه التفصيل المتقدّم بين التفريط في مقدّمات التشخيص وعدمه حسبما عرفت. وأمّا هاهنا فيصرفها بالدفع إلى الغني الذي يعلم بغناه فيما هو خارج عن شؤون الولاية ولم يجعل له الشارع سبيلاً في هذا الصرف ، فهو بهذا الدفع الذي ليس له الولاية عليه مفرّط مقصّر فيكون ضامناً لا محالة ، كما أنّ القابض أيضاً ضامن مع العلم وعدمه ، إلّا أنّ قرار الضمان عليه على الأوّل وعلى الدافع على الثاني حسبما عرفت في المسألة السابقة.

(٢) فصّل (قدس سره) حينئذٍ بين ما إذا كان ذلك بنحو التخلّف في الداعي والاشتباه في التطبيق ، وما إذا كان على وجه التقييد.

فيصحّ في الأوّل ويجزئ ، ولا يجوز استرجاع العين وإن كانت باقية ، لصيرورتها ملكاً للفقير بالقبض.

٥٤

صحّ وأجزأ إذا لم يكن على وجه التقييد (*) ، بل كان من باب الاشتباه في التطبيق ، ولا يجوز استرجاعه حينئذٍ وإن كانت العين باقية ، وأمّا إذا كان على وجه التقييد فيجوز ، كما يجوز نيّتها مجدّداً مع بقاء العين أو تلفها إذا كان ضامناً بأن كان عالماً باشتباه الدافع وتقييده.

______________________________________________________

ولا يصحّ في الثاني ، لانتفاء القصد عن فاقد القيد ، ويجوز الاسترجاع عيناً مع بقائها وبدلاً مع تلفها على وجه الضمان ، كما في صورة العلم باشتباه الدافع في تقييده ، دون الجهل ، لأنّه استلم العين حينئذٍ على أن تكون مضمونة على الدافع وقد سلّطه عليها مجّاناً وبلا عوض ، فلا مقتضي للضمان كما لا يخفى.

ثمّ في صورة الضمان يجوز الاحتساب ، لأنّه بالآخرة فقير ومصرف للزكاة وهذا دين في ذمّته ، فلا مانع من احتسابه زكاة ، كما لا مانع من تجديد النيّة مع بقاء العين أيضاً فيما ذكر.

أقول : قد تكرّر في مطاوي هذا الشرح عند التعرّض لأمثال المقام : أنّ الضابط العام في إمكان التقييد كون موضوع الحكم أو متعلّقه كلّياً قابلاً للانطباق على كثيرين ومفهوماً واسعاً شاملاً لتضيّق تلك السعة وتحدّد دائرة الكثرة بورود التقييد الذي معناه التضييق والتخصيص بحصّة خاصّة ، مثل قولك : بعتك منّاً من السمن على أن يكون من البقر ، أو من الحنطة على أن تكون من المزرعة الفلانيّة ، فالمبيع هو المنّ الكلّي من السمن أو الحنطة لكن مقيّداً بصنف خاصّ ونوع مخصوص في قبال ما لو باعه الكلّي على سعته وإطلاقه ، فلو سلّمه في مقام الوفاء فرداً من صنف آخر لم يكن ذاك وفاءً بالبيع ، لخروجه عن دائرة المبيع ، فلحاظ التقييد في هذا ونظائره أمر ممكن.

__________________

(*) الدفع الخارجي غير قابل للتقييد ، وبذلك يظهر حال ما فُرّع عليه.

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا لو كان موضوع الحكم من الوضع أو التكليف جزئيّاً حقيقيّا وشخصيّاً خارجيّاً مثل قولك : بعتك هذا العبد على أن يكون كاتباً ، فالتقييد هاهنا أمر غير معقول ، ضرورة أنّ الموجود الشخصي الخارجي فردٌ واحد لا إطلاق فيه ليقيّد ولا سعة فيه ليتضيّق ، فإنّ التقييد هو التضيّق كما عرفت ، وهو فرع فرض التوسعة في مرتبة سابقة ليرد عليها التضيّق كما هو ظاهر.

وعليه ، فالتقييد المزبور إن كان في باب البيع وغيره من المعاملات رجع إلى الاشتراط ، أي إناطة الالتزام بالبيع بوجود القيد ، الراجع بحسب النتيجة إلى جعل الخيار لدى تخلّف الشرط على ما هو مذكور في محلّه.

وأمّا في غيره من الاعتباريّات التكليفيّة والوضعيّة كالوجوب والملكيّة وما الحق بها مثل الرضا والإجازة في مثل بيع الفضولي فيرجع إلى التقدير والتعليق ، الذي مرجعه إلى تقييد الحكم دون الموضوع ، ففي مثل الوصيّة أو التدبير ينشأ الملكيّة ولكن معلّقاً على الوفاة ، وفي مثل قوله : صلّ عند الدلوك ، ينشأ الوجوب ولكن معلّقاً على الزوال وبنحو الواجب التعليقي ، وإلّا فالحكم التكليفي أو الوضعي جزئي شخصي لا إطلاق له ليقيّد كما لا يخفى.

ومثله الرضا وما يترتّب عليه من الإجازة ، فإنّ التقييد فيه مرجعه إلى التعليق ، فيمكن أن يجيز العقد الفضولي الواقع على ماله إن كان الثمن كذا أو إن كان المشتري فاضلاً ، فهو بالفعل راضٍ وغير راض ، أي راضٍ على تقديرٍ ولا يرضى ولا يجيز على التقدير الآخر.

وأمّا فيما عدا الاعتباريّات وما يلحق بها ممّا عرفت فلا معنى فيها للتقييد ولا للتقدير والتعليق بوجه ، إذ لا معنى لشرب المائع الخارجي مثلاً مقيّداً بكونه ماءً ، أو على تقدير كونه ماءً ، ضرورة أنّ الشرب فعل شخصي تكويني وحداني دائر أمره بين الوجود والعدم ، فإمّا أن يكون أو لا يكون ، ولا يعقل تعليقه على شي‌ء أو تقييده بشي‌ء ، فإذا وجد فقد تحقّق الشرب ، ماءً كان أم

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

غيره ، وإلّا فلا وجود له من أصله. وهكذا الحال في سائر الأُمور التكوينيّة التي منها الاقتداء خلف من في المحراب كما تقدّم في محلّه (١).

ثمّ إنّ ما كان من قبيل الرضا قد يتحقّق معلّقاً وعلى تقدير دون تقدير حسبما عرفت ، وأُخرى منجّزاً من دون أيّ تعليق فيه ، نظراً إلى انبعاث الرضا عن اعتقاد وجود الوصف وحصول التقدير ، فيرضى بالتصرّف في ماله ، لاعتقاد أنّ المتصرّف عادل فيتبيّن خلافه ، فيصحّ على الثاني ، لكونه من تخلّف الداعي ، ولا يصحّ على الأوّل لو تخلّف ، لخروجه عن مورد الرضا والقصد المختصّ بأحد التقديرين حسب الفرض.

ومن جميع ما ذكرناه يظهر لك صحّة ما ذكره في المتن من التقسيم إلى ما كان على وجه التقييد مع نوع مسامحة في هذا التعبير وأنّ المراد به التقدير والتعليق حسبما عرفت وما كان من باب الاشتباه في التطبيق.

فإن دفع الزكاة منوط برضا المالك من أجل أنّ له الولاية على التطبيق كما تقدّم ، فتارةً يرضى بتصرّف الفقير وتملّكه رضاً فعليّاً منجّزاً ، استناداً إلى اعتقاد اتّصافه بصفة لا واقع لها من العدالة ونحوها ، وأُخرى يرضى على تقدير العدالة ولا يرضى على تقدير الفسق ، فلا يرضى على الإطلاق بل على تقديرٍ دون تقدير ، فيصحّ على الأوّل وإن تخلّف الوصف وكان من باب الاشتباه في التطبيق ، دون الثاني ، لاختصاص نيّة الزكاة والرضا بتصرّف الفقير وتملّكه بتقديرٍ خاص ، وهو كونه عادلاً أو عالماً أو زيداً ونحو ذلك ، ففقد التقدير يستوجب فقد الرضا وانتفاء النيّة والقصد فلا يقع المدفوع زكاةً.

كما ظهر أيضاً امتياز المقام عن سائر الموارد التي أنكرنا فيها التقييد ممّا تقدّم في كلام الماتن أو تأخّر التي منها ما أشرنا إليه من الاقتداء خلف مَن في المحراب على أنّه زيد فبان أنّه عمرو ، حيث ذكرنا أنّه من قبيل التخلّف في

__________________

(١) شرح العروة (كتاب الصلاة ٣) : ٢٢ ، ٦٦ ، ٩٩.

٥٧

الثالث : العاملون عليها. وهم المنصوبون من قبل الإمام (عليه السلام) أو نائبه (١) الخاصّ أو العامّ لأخذ الزكوات وضبطها وحسابها وإيصالها إليه أو إلى الفقراء على حسب إذنه.

______________________________________________________

الداعي دائماً ولا يعقل التقييد.

وجه الامتياز : ما عرفت من أنّ الدفع في المقام من قبيل الرضا بالتصرّف ، وقد عرفت أنّ الرضا يلحق بالاعتباريّات في إمكان التعليق والتقدير فيها ، دون الاقتداء المزبور ، فإنّه فعل تكويني إما يوجد أو لا يوجد ، ولا يعقل التعليق فيه بوجه حسبما عرفت.

(١) لا إشكال كما لا خلاف في أنّ من مصارف الزكاة : (الْعامِلِينَ عَلَيْها) ، بنصّ الكتاب العزيز والنصّ المستفيض ، لكن لا مطلق من تصدّى العمل ، إذ ليس هو وظيفة لكلّ أحد ، بل بشرط النصب والإذن من قبل الإمام (عليه السلام) أو نائبه الخاصّ أو العامّ ، بل لا يسوغ العمل بغير الإذن المزبور ، فإنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، إلّا إذا كان مأذوناً من قبل المالك حيث يجوز له التصدّي بنفسه للعمل ، فيجوز أن يأذن لغيره فيضمن حينئذٍ بالأمر له من ماله الشخصي لا من الزكاة ما لم يكن ظهور للإذن في المجّانيّة بقرائن حاليّة ونحوها.

وكيفما كان ، فلا إطلاق للآية المباركة يشمل صورة عدم الإذن ، إذ هي ناظرة إلى العمل السائغ الواقع على الوجه المقرّر شرعاً لا كيف ما اتّفق ، فليس مفادها إلّا أنّ العامل مصرف للزكاة ، وأمّا أنّ العمل أين يسوغ وما هو الشرط في صحّته فلا نظر في ذلك أبداً كي ينعقد الإطلاق.

ويستفاد ذلك أي لزوم الإذن والنصب من بعض النصوص الواردة في الموارد المتفرّقة ، حيث يظهر منها أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وكذا الوصيّ (عليه السلام) كان يعيِّن أشخاصاً للعمل على الزكوات ، من الجباية والضبط

٥٨

فإنّ العامل يستحقّ منها سهماً في مقابل عمله (١) وإن كان غنيّاً. ولا يلزم استئجاره من الأوّل ، أو تعيين مقدار له على وجه الجعالة ، بل يجوز أيضاً أن لا يعيّن ويعطيه بعد ذلك ما يراه.

______________________________________________________

والحراسة والإيصال ونحوها ، على نحوٍ يظهر المفروغيّة عن عدم جواز التصدّي بدون الإذن.

ثمّ إنّ المراد بالعامل مطلق من يتصدّى لعملٍ مستندٍ إلى الزكاة ، من الجباية والحراسة والكتابة والإيصال إلى الحاكم الشرعي والتقسيم إلى الفقراء ، فإنّ الكلّ مشمول لعنوان العامل بمقتضى الإطلاق ، ولا وجه للتخصيص بما عدا الأخير ، وإن كان هو المترائى ممّا رواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّ (الْعامِلِينَ عَلَيْها) هم السعاة والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتّى يؤدّوها إلى من يقسّمها (١) ، حيث يظهر منها خروج القسمة عن العمل كما نصّ عليه في الجواهر (٢). فإنّ الرواية مرسلة لا يعتمد عليها ، وإطلاق الآية شامل لذلك ، وإن كان ربّما يظهر من بعض الروايات أنّ العمل هو الجمع ، ولكنّه لا يصحّ ، إذ لا يحتمل أن يكون للعمل معنى خاصّ غير المعنى اللغوي ، كما أنّ ما يظهر من بعض أهل اللغة من التخصيص بالسعي والجمع لا حجّيّة فيه بعد إطلاق الآية المباركة وشمولها للكلّ من غير دليل صالح للتقييد حسبما عرفت.

(١) هل الحصّة المدفوعة إلى العامل من الزكاة يستحقّها مجّاناً كما في الفقير والمسكين ، أم أنّها في مقابل عمله فيجوز أن يستأجر من الأوّل أو يعيّن مقدار له على وجه الجعالة أو يعطيه بعده بلا تعيين؟

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢١١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٧ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٩.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٣٣٣.

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ظاهر الأصحاب بل قيل : إنّه لا خلاف فيه ولا ارتياب تخيير الإمام أو الحاكم الشرعي بين الدفع إليه على وجه الإجارة أو الجعالة ، أو لا هذا ولا ذاك ، فلا يعيّن ، بل يعطيه بعد ذلك ما يراه ، وهو الصحيح.

فإنّ ظاهر الآية المباركة أنّ العامل كغيره من الموارد الثمانية مصرف للزكاة ، ولا دلالة لها على التمليك المجّاني في شي‌ء منها حتّى الفقير فإنّه يملك بالقبض لا أنّه يملك بالدفع.

بل لعلّ في تعليق الحكم على العامل نوع إشعار بل ظهور في أنّ للوصف العنواني مدخلاً في التعلّق ، وأنّه يستحقّ السهم بإزاء العمل وفي مقابله ، كما لو أوصى بأن يدفع شي‌ء للعامل ، فإنّه ظاهر في كونه في مقابل العمل كما لا يخفى ، ولكن الدفع بإزاء العمل لا يختصّ بأن يكون على وجه الإجارة أو الجعالة ، بل يجوز من غير سبق التعيين بمقتضى إطلاق الأدلّة من الكتاب والسنّة.

وبالجملة : لا دلالة بل لا إشعار في الآية المباركة على المجّانيّة بوجه ، بل الظاهر أنّه يعطي للعامل بوصف كونه عاملاً وبإزاء عمله ، أعمّ من أن يعطيه بعنوان المجّان أو بعنوان الأُجرة أو الجعالة حسبما عرفت.

وأمّا ما ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قلت له : ما يعطى المصدّق؟ «قال : ما يرى الإمام ولا يقدّر له شي‌ء» (١).

فلا دلالة فيه على عدم جواز الإجارة أو الجعالة ، بل المقصود أنّه لم يقدّر للعامل في الشريعة المقدّسة شي‌ء من العشر أو نصف العشر ونحو ذلك ، بل هو موكول إلى نظر الإمام حسبما يرتئيه من المصلحة التي تختلف باختلاف الموارد من حيث زيادة العمل ونقيصته ، فربّما يعيّن شي‌ء بإجارة أو جعالة ، وأُخرى

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢١١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٤ و ٢٥٧ ب ٢٢ ح ٣.

٦٠