موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

ومقتضى الأصل البراءة عنه ، وهذا هو الصحيح.

وقد يقال كما قيل بأنّ مقتضى حديث رفع الإكراه رفع كلّ أثر مترتّب على المكره عليه ، ومنه وجوب الفطرة ، فيرتفع عن العيلولة المكره عليها.

ويندفع بما ذكرناه في محلّه عند التكلّم حول الحديث بأنّ مفاده رفع الحكم المتعلّق بالفعل أو المترتّب عليه ، أي كلّ فعل كان متعلّقاً أو موضوعاً لحكم شرعي كالكفّارة المترتّبة على الإفطار فهو مرفوع في عالم التشريع إذا صدر عن الإكراه أو الاضطرار ونحوهما ، وأمّا الآثار الغير المترتّبة على فعل المكلّف بل على أمر آخر جامع بينه وبين غيره وقد يجتمع معه كالنجاسة المترتّبة على الملاقاة التي قد تستند إلى الفعل الاختياري وقد لا تستند فهي غير مرفوعة بالحديث بوجه.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الفطرة مترتّبة على عنوان العيلولة التي قد تكون اختياريّة وقد لا تكون مع الغضّ عمّا مرّ من انصراف النصوص إلى الأوّل فإنّ الموضوع كون شخص عياله للآخر الذي هو عنوان جامع بين الأمرين ، ومثله لا يرتفع بالحديث ، لاختصاصه بالأحكام المتعلّقة أو المترتّبة على الفعل الاختياري كما عرفت.

وممّا يؤكّد ذلك أنّا لو فرضنا أنّ العيلولة كانت اضطراريّة فالجأته الضورة الملحّة على اتّخاذ العيال ، أفهل يحتمل حينئذٍ أن لا تجب فطرته عليه لحديث رفع الاضطرار؟ فيقال بأنّ العيلولة الاضطراريّة كالإكراهيّة مرفوعة بالحديث ، والسرّ ما عرفت من اختصاص الحديث بما يتعلّق أو يترتّب على الفعل الاختياري دون غيره.

٤٢١

[٢٨٥٣] مسألة ١٨ : إذا مات قبل الغروب من ليلة الفطر لم يجب في تركته شي‌ء ، وإن مات بعده وجب الإخراج (*) من تركته (١) عنه وعن عياله ، وإن كان عليه دين وضاقت التركة قسّمت عليهما بالنسبة.

______________________________________________________

(١) أمّا عدم وجوب شي‌ء في تركته لو مات قبل الغروب فظاهر ، لعدم إدراكه زمان الوجوب.

وأمّا لو مات بعد الغروب فقد حكم في المتن بوجوب الإخراج عنه وعن عياله من تركته ، بل لو كان عليه دين تقسّم عليهما بالنسبة لدى المضايقة.

وقد تقدّم أنّ صاحب الوسائل حمل رواية ابن الفضيل المتضمّنة لإخراج المملوك عن نفسه من مال مولاه وقد صار لليتامى على موت المولى بعد الهلال.

أقول : هذا الحكم ذكره المحقّق في الشرائع (١) ، ولم يتعرّض في الجواهر لشرحه مستقصًى (٢) ، وكأنّه أرسله إرسال المسلّمات.

ولكن للنظر فيه مجال ، فإنّ الفطرة لو كانت كزكاة المال حقّا متعلّقاً بالعين مع وجودها حيث تكون مشتركة بين المالك والفقير بالنسبة وديناً ثابتاً في الذمّة مع تلفها كما في سائر الديون ، لاتّجه ما أُفيد.

ولكنّا لم نعثر حتّى الآن على رواية يستفاد منها ذلك ، بل الجمود على ظواهر الأدلّة يعطينا أنّ وجوب الفطرة تكليف محض كإقامة الصلاة من دون أن يتضمّن الوضع بوجه ، فهو واجب إلهي كسائر التكاليف الصرفة المنوطة

__________________

(*) فيه إشكال بل منع.

(١) الشرائع ١ : ٢٠٢.

(٢) الجواهر ١٥ : ٥١٢.

٤٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالقدرة والحياة والساقطة لدى العجز والممات من غير أن تستتبع اشتغال الذمّة بتاتاً. فليفرض أنّه كان بانياً بعد دخول الوقت على الإخراج ولم يكن عاصياً ولكن اختطفه القدر ولم يمهله الأجل فسقط عنه التكليف ، فما هو المسوّغ بعدئذٍ للإخراج والذمّة فارغة فضلاً عن المزاحمة مع سائر الديون؟! فإنّه يحتاج إلى الدليل ولم يقم عليه أيّ دليل.

وممّا يرشدك إلى ما ذكرناه ما سيأتي الكلام عليه قريباً إن شاء تعالى من أنّه لو لم يخرج الفطرة إلى أن مضى وقتها كما بعد الزوال على القول بالتحديد به أو غير ذلك كما ستعرف ، فالمشهور أنّها تسقط حينئذٍ والإعطاء بعد ذلك صدقة مستحبّة وليس من الفطرة ، وقد دلّت عليه رواية معتبرة ، وذهب جماعة إلى وجوب القضاء كما يجب قضاء الصلاة والصيام ، والتزم جمع قليل بأنّها أداء.

فلو كانت الفطرة من قبيل الوضع وديناً ثابتاً في الذمّة فأيّ مجال بعدئذٍ لهذا البحث وكيف يحرّر هذا النزاع؟ إذ ما الذي أسقط الذمّة وأفرغها بعد الاشتغال؟! أفهل ترى أنّ خروج الوقت من مناشئ ذلك وموجبات الفراغ عن حقوق الناس؟! وعلى الجملة : لا ينسجم تحرير هذا البحث مع الالتزام بكونها حقّا ماليّاً وديناً ثابتاً في الذمّة بوجه.

إذن فلا يبعد أنّ الفطرة من قبيل التكليف المحض كالصلاة ، والمعروف والمشهور أنّ الواجبات الإلهية لا تخرج من أصل المال ما عدا الحجّ للنصّ وهو الصحيح ، ولكن السيّد الماتن (قدس سره) يرى أنّ جميعها تخرج من الأصل. وكيف ما كان ، فالفتوى بخروج الفطرة عن أصل التركة لا يستقيم على المشهور إلّا بناءً على كونها كزكاة المال ديناً ثابتاً في الذمّة ، وقد عرفت أنّه في غاية الإشكال ، فالمساعدة على ما أفاده في المتن مشكل جدّا.

٤٢٣

[٢٨٥٤] مسألة ١٩ : المطلّقة رجعيّاً فطرتها على زوجها (*) (١) ، دون البائن إلّا إذا كانت حاملاً ينفق عليها.

______________________________________________________

(١) غرضه (قدس سره) من عقد هذه المسألة بيان الفرق بين الرجعي والبائن ، وأنّ الأوّل ملحق بالزوجة فيجري عليها حكمها حسبما مرّ من وجوب الفطرة على الزوج بشرط العيلولة ، بخلاف الثاني فلا فطرة عليه مع البينونة إلّا مع فرض العيلولة بأن كان ينفق عليها خارجاً كما في البائن الحامل.

والوجه في ذلك أنّ العلقة الزوجيّة باقية على حالها في المطلّقة رجعيّةً ، لا لما اشتهر من أنّ المطلّقة رجعيّةً زوجةٌ ليتكلّم في أنّ النزيل موضوعي أو حكمي ، وعلى الثاني فهل هو بلحاظ بعض الآثار أم تمامها ، لعدم ورود ذلك في شي‌ء من الروايات المعتبرة وغيرها بعد الفحص التامّ ، وإنّما هي عبارة دارجة على ألسن الفقهاء مصطادة من الأخبار المتفرّقة.

بل لأجل أنّها زوجة حقيقةً وله التمتّع بها كيف ما شاء تمتّع الزوج بزوجته حتّى الجماع وإن لم يقصد به الرجوع كما دلّ عليه النصّ ، وأنّه بنفسه رجوع قهري ، فلم يترتّب أيّ أثر على هذا الطلاق ما عدا الاستعداد للبينونة المنوطة بانقضاء العدّة ، فهي قبل الانقضاء باقية على علقة الزوجيّة ومحكومة بأنّها زوجة بالحمل الشائع ، وإنّما تبين منه بعد انقضائها كما هو صريح قوله (عليه السلام) «فإذا انقضت العدّة فقد بانت منه» ، فالطلاق بالإضافة إلى الانقضاء بمثابة الإنشاء بالإضافة إلى القبض في بيع الصرف والسلم ، فكما أنّ تأثير البيع مشروط فيه بالقبض وقبله في حكم العدم فكذا الطلاق في المقام.

وعليه ، فيترتّب على الرجعيّة جميع آثار الزوجيّة من النفقة والإرث والتمتّع

__________________

(*) العبرة في وجوب الفطرة إنّما هي بصدق العيلولة في الرجعيّة والبائن.

٤٢٤

[٢٨٥٥] مسألة ٢٠ : إذا كان غائباً عن عياله أو كانوا غائبين عنه وشكّ في حياتهم فالظاهر وجوب فطرتهم مع إحراز العيلولة على فرض الحياة (١).

______________________________________________________

له منها ولها منه ونحوها من الأحكام التي منها وجوب الفطرة عنها مع العيلولة ، وهذا بخلاف البائن ، فلا تجب عنها إلّا في الحامل التي ينفق عليها خارجاً ، الموجب لصدق العيلولة كما هو مفروض كلام الماتن ، فلا يورد عليه بمنافاته لما تقدّم منه من عدم العبرة بوجوب النفقة.

(١) لا شكّ في عدم اختصاص حجّيّة الاستصحاب بالموضوعات البسيطة ، بل يعمّها والمركّبة ونعني بالمركّب : الأعمّ من الأجزاء والشرائط فيمكن جريان الاستصحاب في جزء من أجزاء المركّب لكن بشرط إحراز بقيّة الأجزاء إمّا بالوجدان أو بالقيد الاستصحابي أو غيره ، وإلّا فجريانه في الجزء بما هو جزء لا أثر له بعد فرض ترتّب الأثر على المركّب ، فإنّ الاستصحاب تعبّد بالبقاء وفرض الشاكّ متيقّناً ، وهذا إنّما يصحّ في موردٍ يترتّب عليه أثر شرعي كي يقبل التعبّد ، والمفروض أنّ الأثر مترتّب على المركّب بما هو مركّب دون الجزء ، فلا بدّ في إجرائه فيه من إحراز الجزء الآخر وجداناً أو تعبّداً ليلتئم المركّب ويترتّب عليه الأثر ، فقد يكون كلاهما بالتعبّد وأُخرى أحدهما ، والنتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

فالاعتصام مثلاً أثر مترتّب على الكرّ من الماء ، فقد يحرز صدق الماء وجداناً ويشكّ في الكرّيّة فيستصحب ، وأُخرى : ينعكس فتكون الكرّيّة محرزة والمائيّة مشكوكة فيستصحب ويُقال : هذا الكرّ كان ماءً سابقاً والآن كما كان ، وثالثةً : يكون كلا الجزأين بالتعبّد لو شكّ الآن في المائيّة وفي الكرّيّة فإنّه يستصحب كلاهما ويقال : هذا الموجود كان ماءً وكرّاً والآن كما كان.

وفي المقام أيضاً يكون موضوع الفطرة مركّباً من جزأين : العيلولة وحياة

٤٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

العيال ، فلو شكّ في الحياة مع إحراز العيلولة وجداناً على تقديرها تستصحب الحياة حينئذٍ ويترتّب الأثر ، وكذا مع إحرازها تعبّداً ، كما لو كانت وكيلة في طلاق نفسها واحتملنا الطلاق والخروج بذلك عن العيلولة ، فإنّه يجري الاستصحاب حينئذٍ في كلّ من الجزأين فيقال : كان الحيّ بوصف كونه عيالاً موجوداً والآن كما كان ، فتجب الفطرة عنه.

٤٢٦

فصل

في جنسها وقدرها

والضابط في الجنس : القوت الغالب لغالب الناس (١) وهو : الحنطة والشعير والتمر والزبيب والأرز والأقط واللبن والذرة وغيرها.

______________________________________________________

(١) اختلفت كلمات الأصحاب (قدّس الله أسرارهم) تبعاً لاختلاف الأخبار في تعيين الضابط لجنس الفطرة :

فعن الصدوقين وابن أبي عقيل تخصيصه بالأربعة (١) أعني : الحنطة والشعير والتمر والزبيب وهذا هو منشأ احتياط الماتن في الاقتصار عليها للاجتزاء بها اتّفاقا.

وزاد في المدارك الأقط ، لورود صحيحتين دلّتا عليه ، إحداهما مطلقة والأُخرى مختصّة لأهل الإبل والغنم والبقر (٢).

وزاد السيّد المرتضى اللبن (٣).

وزاد الشيخ المفيد وجماعة آخرين الأرز فتكون سبعة (٤).

والمشهور بين المتأخّرين بل وغيرهم كفاية القوت الغالب للناس من أيّ جنس كان كالعدس والماش والسلت وغيرها ممّا يغذّي الإنسان نفسه وعياله.

__________________

(١) المختلف ٣ : ١٨١.

(٢) المدارك ٥ : ٣٣٨.

(٣) جمل العلم والعمل ضمن (رسائل الشريف المرتضى ٣) : ٨٠.

(٤) المقنعة : ٢٥٠.

٤٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

قال في الحدائق بعد ذكر هذه الأقوال : إنّ صاحب المدارك إنّما اختار الخمسة لما يراه من اختصاص النصوص الصحيحة على مسلكه الذي يعبّر عنها صاحب الحدائق بالأصل الفاسد بهذه الخمسة ثمّ اعترض عليه بما لفظه : وكان الواجب عليه أن يعدّ الذرة أيضاً ، لصحّة الخبر ، ولعلّه لم يقف عليه (١).

أقول : من المحتمل جدّاً بل لعلّه الظاهر أنّ صاحب المدارك لم يعتبر هذه الرواية (٢) صحيحة ، ولذلك لم يذكرها ، والوجه فيه أنّها مرويّة عن أبي عبد الرحمن الحذّاء ، وصاحب الحدائق يرى أنّ المكنّى بهذه الكنية اسمه أيّوب ابن عطيّة وهو ثقة ، ولكنّه غير واضح ، فإنّ أيّوب بن عطيّة وإن كان ثقة ومكني بهذه الكنية إلّا أنّه لم يثبت إرادته من هذه الرواية ، ضرورة عدم انحصار هذه الكنية به ، ومن الجائز أن يراد به شخص آخر مكنّى بهذه الكنية ، كما قد تشهد به رواية الشيخ الصدوق لها بعين السند والمتن ولكن سمّاه بالحسن الحذّاء (٣) ، فيظهر منه أنّ المراد بأبي عبد الرحمن في هذه الرواية هو الحسن الحذّاء وهو رجل مجهول ، إذ لا يحتمل التعدّد بأن يروي الراوي بهذا السند للصدوق عن شخص وللشيخ عن شخص آخر. ومع التنازل فلا أقلّ من احتمال الاتّحاد فتصبح الرواية ضعيفة وتسقط عن صلاحيّة الاستدلال.

ومن القريب جدّاً أنّ صاحب المدارك لم يلتفت إلى ذلك ولأجله لم يذكرها.

نعم ، كان عليه أن يضيف اللبن ، لوروده في صحيحة زرارة وابن مسكان جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : الفطرة على كلّ قوم ممّا يغذّون عيالهم من لبن أو زبيب أو غيره» (٤).

__________________

(١) الحدائق ١٢ : ٢٨٢.

(٢) الوسائل ٩ : ٣٣٥ / أبواب زكاة الفطرة ب ٦ ح ١٠.

(٣) علل الشرائع : ٣٩٠ / ١.

(٤) الوسائل ٩ : ٣٤٣ / أبواب زكاة الفطرة ب ٨ ح ١.

٤٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد رواها في التهذيب تارةً عن زرارة وأُخرى عن ابن مسكان (١) ، غير أنّ صاحب الوسائل جمع بينهما في النقل. وكيف ما كان فالسند صحيح كما عرفت ، فكان اللّازم عليه أن يذكره أيضاً ، ولكن الظاهر أنّه (قدس سره) معذور في ذلك ، إذ لا يعتبر هذه الرواية صحيحة ، من أجل أنّ محمّد بن عيسى الذي يروي عن يونس ضعّفه ابن الوليد وتبعه الصدوق وكذلك الشيخ في رجاله وفي الفهرست والاستبصار (٢) ، ولعلّ صاحب المدارك بنفسه أيضاً يرى ضعفه ، بل هو الظاهر. وكيف ما كان فبناءً على مسلكه من الاقتصار على الصحاح من الأخبار فالأمر كما ذكره لانحصارها في الخمسة كما عرفت.

نعم ، صحيحة محمّد بن مسلم تضمّنت القمح والعدس والسلت ، لكن في فرض العجز عن الحنطة والشعير (٣) ، وسنتكلّم فيها إن شاء تعالى.

والمقصود أنّ هذه الرواية لو كانت ضعيفة فالأمر كما ذكره (قدس سره) من الاختصاص بالخمسة ، ولكنّا قد ذكرنا في محلّه أنّ محمّد بن عيسى بن العبيدي من أجل الثقات ، وقد ذكر النجاشي أنّ أصحابنا ينكرون على ابن الوليد أنّه كيف لا يعمل بروايات العبيدي وقد قال الفضل بن شاذّان في حقّه : مَن مثل العبيدي (٤)؟! وقال ابن نوح : أنّه أصاب شيخنا ابن الوليد إلّا في محمّد بن عيسى (٥). وعليه ، فلا أثر لما ذكره ابن الوليد. على أنّه لم يظهر منه تضعيف الرجل بنفسه ، بل استثنى من كتاب نوادر الحكمة خصوص ما ينفرد به العبيدي

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٧٨ / ٢.

(٢) حكاه النجاشي عن الصدوق : ٣٣٣ ، الفهرست : ١٤٠ / ٦١١ ، رجال الطوسي : ٤٢٢ / ١٠ ، الاستبصار ١ : ١٤.

(٣) الوسائل ٩ : ٣٣٧ / أبواب زكاة الفطرة ب ٦ ح ١٣.

(٤) النجاشي : ٣٣٣ ٣٣٤ / ٨٩٦.

(٥) النجاشي : ٣٤٨ / ٩٣٩.

٤٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

عن كتب يونس ، والظاهر من ذلك أنّ له مناقشة في خصوص رواياته عن كتب يونس ، وتبعه على ذلك الصدوق الذي يصرّح هو بنفسه أنّه يتبع في التصحيح والتضعيف شيخه ابن الوليد ، ولأجل ذلك لم يرو الصدوق في الفقيه ولا رواية واحدة عن العبيدي عن يونس ، لأنّ شيخه لم يسمح بذلك ، ومع ذلك تراه يروي في الفقيه عن العبيدي عن غير يونس في موارد كثيرة تبلغ نيفاً وثلاثين مورداً ، وكذلك ابن الوليد بنفسه فإنّه يروي عن العبيدي عن غير يونس ، فيعلم من ذلك بوضوح أنّ ابن الوليد لا يناقش في محمّد بن عيسى العبيدي بنفسه ولا يضعّفه ، بل كان في نظره خصوصيّة لما يرويه عن كتب يونس ، وهذا اجتهاد منه لا يلزمنا متابعته فيه كما لا يخفى.

وأمّا تضعيف الشيخ فهو أيضاً ليس بشي‌ء ، إذ هو مبني حسبما يظهر من الفهرست على تخيّله أنّ ابن الوليد والصدوق ضعّفاه ، وإلّا فهو لم يذكر وجهاً آخر لضعفه غير ذلك ، وهذا أيضاً اجتهادٌ منه.

إذن فما تسالم عليه الأصحاب كما ذكره النجاشي من وثاقة الرجل وما ذكره الفضل بن شاذّان من المدح البليغ هو المتّبع. وعليه ، فالرواية معتبرة ويحكم بمقتضاها بكفاية اللبن ، بل وكفاية مطلق ما يغذّي الإنسان عياله المعبّر عنه بالقوت الغالب.

ثمّ إنّ الأجناس الأربعة التي ذكرنا أنّه لا كلام في الاجتزاء بها ، لم ترد مجتمعة ولا في رواية واحدة معتبرة بحيث تدلّ على الانحصار فيها ، فإنّ الروايات الواردة في ذلك :

إحداهما : صحيحة سعد بن سعد الأشعري : عن الفطرة كم يدفع عن كلّ رأس من الحنطة والشعير والتمر والزبيب؟ «قال : صاع بصاع النبيّ (صلّى الله عليه وآله)» (١).

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٣٣٢ / أبواب زكاة الفطرة ب ٦ ح ١.

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وهي وإن اشتملت على الأربعة ولكنّها مذكورة في كلام الراوي دون الإمام (عليه السلام) ، ولا نظر فيه إلى الانحصار ، إذ السؤال عن المقدار لا عن ذي المقدار ، فهي محمولة على المثال ، وغايته إجزاء الإخراج عن أحد هذه الأربعة كما هو المتسالم عليه بين الفقهاء ، وأمّا الحصر فلا يستفاد منها بوجه.

الثانية : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : صدقة الفطرة على كلّ رأس من أهلك إلى أن قال : عن كلّ إنسان نصف صاع من حنطة أو شعير أو صاع من تمر أو زبيب لفقراء المسلمين» (١).

وهي أيضاً مخدوشة بعدم إمكان العمل بها ، لعدم كفاية نصف الصاع بلا إشكال ، فهي محمولة على التقيّة جزماً ، حيث إنّ عثمان هو الذي أحدث هذه البدعة واكتفى في الحنطة بنصف الصاع كما أُشير إليه في بعض النصوص المتقدِّمة.

والتفكيك بين القيد والمقيّد بحمل المقدار على التقيّة دون ذي المقدار كما ترى. فهي إذن لا تدلّ على الحصر أيضاً.

نعم ، في بعض الروايات الضعيفة دلالة على الحصر ، مثل : ما روي عن عبد الله بن سنان مرسلاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن صدقة الفطرة «قال : عن كلّ رأس من أهلك ، الصغير منهم والكبير ، والحرّ والمملوك والغني والفقير ، كلّ من ضممت إليك ، عن كلّ إنسان صاع من حنطة أو صاع من شعير أو تمر أو زبيب» (٢).

ولكنّها من أجل الإرسال غير صالحة للاستدلال وإن تمّت دلالتها.

وعلى الجملة : فلم ترد الأربعة في أيّ رواية معتبرة. نعم ، ذكر مجموعها في روايات متفرّقة :

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٣٣٦ / أبواب زكاة الفطرة ب ٦ ح ١١.

(٢) الوسائل ٩ : ٣٣٠ / أبواب زكاة الفطرة ب ٥ ح ١٢.

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

ففي صحيحة عبد الله بن ميمون ذكر القمر والزبيب والشعير ولم تذكر الحنطة (١) ، ونحوها صحيحة معاوية بن وهب (٢).

وفي صحيحة صفوان ذكر الحنطة والتمر والزبيب ولم يذكر الشعير (٣).

وفي صحيحة معاوية بن عمّار اقتصر على الأقط لأصحاب الإبل والبقر والغنم (٤).

هذا ، وقد ذكر في الحدائق وتبعه صاحب الجواهر أنّ في صحيحة عبد الله بن سنان : «صاع من حنطة أو صاع من شعير» (٥).

والظاهر أنّ هذا سهو منهما ، فإنّ الرواية بهذه الصورة غير موجودة ، بل هي في الاستبصار هكذا : «نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير» (٦) وفي التهذيب هكذا : «نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير أو صاع من تمر» (٧) ، وصاحب الوسائل نقلها بالمعنى ، حيث قال في ذيل رواية الحلبي ما لفظه : وعنه ، عن حمّاد ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) نحوه ، وزاد : «أو صاع من شعير» (٨).

والحاصل : أنّ صحيحة عبد الله بن سنان بتلك الصورة مقتصراً عليهما لا وجود لها نهائيّاً ، بل الموجود منها ما أثبتناه حسبما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٣٣٠ / أبواب زكاة الفطرة ب ٥ ح ١١.

(٢) الوسائل ٩ : ٣٣٥ / أبواب زكاة الفطرة ب ٦ ح ٨.

(٣) الوسائل ٩ : ٣٢٧ / أبواب زكاة الفطرة ب ٥ ح ١.

(٤) الوسائل ٩ : ٣٣٣ / أبواب زكاة الفطرة ب ٦ ح ٢.

(٥) الحدائق ١٢ : ٢٨٢ ، الجواهر ١٥ : ٥١٧.

(٦) الاستبصار ٢ : ٤٧ / ١٥٥.

(٧) التهذيب ٤ : ٨١ / ٢٣٤.

(٨) الوسائل ٩ : ٣٣٦ / أبواب زكاة الفطرة ب ٦ ح ١٢.

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف ما كان ، فقد ظهر أنّ الأربعة لم تذكر مجتمعة في شي‌ء من الروايات المعتبرة ، بل ذكرت متفرّقة متشتّتة ، فلا بدّ إذن من ملاحظة الجمع بينها بإضافة الأقط الوارد في النصّ المعتبر كما مرّ فتكون خمسة ، وبين ما دلّ على أنّ العبرة بما يغذّي الإنسان نفسه وعياله المعبّر عنه بالقوت الغالب.

فنقول : لا ريب في التنافي بين إطلاق الضابطين ، فإنّ بينهما عموماً من وجه ، إذ القوت الغالب قد لا يكون من الخمسة كالعدس والماش ونحوهما ، كما أنّ الخمسة قد لا تكون قوتاً غالباً ، كالزبيب لأهل العراق ، بل الشعير لغالب البلدان ، فإطلاق كلّ من الدليلين يضادّ الإطلاق في الدليل الآخر ويعارضه ، إذ العبرة في أحدهما بالقوت الغالب ، سواء أكان من الخمسة أم لا ، وفي الآخر بالعكس.

وحينئذٍ فإمّا أن يؤخذ بكلّ من الإطلاقين بأن يلتزم بكفاية القوت الغالب وإن لم يكن من الخمسة ككفايتها وإن لم تكن قوتاً غالباً ، أو يؤخذ بإطلاق أحدهما دون الآخر ، أو يقيّد كلّ منهما بالآخر.

لا سبيل إلى الأوّل قطعاً ، أمّا أوّلاً : فلعدم حجّيّة الإطلاق مع وجود ما يصلح للتقييد ، فإنّ صحيحة زرارة قد تضمنت التقييد بما يغذّي الإنسان عياله المعبّر عنه بالقوت الغالب ، ومع هذا الظهور كيف يمكن رفع اليد عنه والعمل بإطلاق الطائفة الأُخرى؟! وثانياً : أنّه قد ذكر الزبيب في نفس هذه الصحيحة ، الكاشف عن أنّه إنّما يجزئ لكونه قوتاً غالباً ، ومعه كيف يمكن الأخذ بإطلاق الطائفة الأُخرى الدالّة على كفاية الزبيب بعنوانه وإن لم يكن قوتاً غالباً؟! كما لا سبيل إلى الأخذ بإطلاق الطائفة الأُولى والحكم بكفاية أحد الخمسة مطلقاً وإن لم تكن قوتاً غالباً وارتكاب التقييد في دليل القوت بكونه من أحدها ، وذلك لعين ما عرفت آنفاً من أنّ بعض هذه الخمسة وهو الزبيب قد ذكر في نفس هذا الدليل على نحوٍ يظهر منه أنّ الاجتزاء به إنّما هو من أجل كونه قوتاً غالباً لا لخصوصيةٍ

٤٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه ، ومعه كيف يمكن الحكم بكفايته وإن لم يكن مصداقاً للقوت الغالب؟! وعليه ، فيدور الأمر بين الوجهين الآخرين ، أعني : تقييد كلّ من الدليلين بالآخر لتكون النتيجة لزوم أحد الخمسة بشرط كونه من القوت الغالب ، أو الأخذ بإطلاق الطائفة الثانية وحمل الطائفة الأُولى على المثال فيكتفي بمطلق القوت الغالب من أيّ جنس كان من غير خصوصيّة للخمسة وإنّما ذكرت من باب المثال.

والظاهر أنّ الثاني هو الأقرب وأنّ الاعتبار بالقوت الغالب ، سواء أكان من أحد الخمسة أم لا ، كما ذهب إليه المشهور.

ويدلّنا عليه :

أوّلاً : ذكر اللبن في هذه الصحيحة الذي ليس هو من أحد الخمسة ، فيعلم أنّه لا خصوصيّة لها وأنّ نصوصها لم تكن في مقام الحصر بل في مقام المثال لمطلق القوت الشامل لمثل اللبن ونحوه.

وثانياً : أنّه قد ذكر في بعض الأخبار السابقة الأقط فقط لأصحاب الإبل والبقر والغنم ، أفيحتمل أن يكون الأقط بخصوصه واجباً عليهم بحيث لا يجزئ عنهم بقيّة الأجناس من الحنطة والشعير ونحوهما؟ لا شكّ أن هذا مقطوع العدم ، فليس التخصيص بالذكر إلّا من أجل أنّه القوت الغالب عندهم ، لكثرة وجوده لديهم ، فيعلم أنّ العبرة بهذا العنوان من غير خصوصيّة للأفراد وأنّ ذكرها في الروايات ليس إلّا من باب المثال وبيان الصغرى لتلك الكبرى.

وثالثاً : ما أسلفناك قريباً من أنّ هاتيك الخمسة لم تذكر مجتمعة ولا في رواية واحدة معتبرة ، وإنّما ذكرت متفرّقة متشتّتة وكان التخصيص بها نتيجة الجمع بين الأخبار المختلفة بعد ضمّ بعضها إلى بعض كما تقدّم. وهذا كما ترى كاشف قطعي عن أنّ الروايات الواردة في هذه الأجناس لم تكن في مقام الحصر ،

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولأجله اقتصر في بعضها على بعض ، فيظهر من ذلك بوضوح أنّه لا خصوصيّة لشي‌ء منها ، وإنّما ذكرت من باب المثال لمطلق القوت الغالب الذي هو تمام الموضوع للحكم.

ورابعاً : ما نلاحظه من تكرار لفظ الصاع في جميع تلك النصوص المعتبرة وأنّ الفطرة صاع من حنطة وصاع من شعير وصاع من تمر وصاع من زبيب ، كما في موثّق ياسر القمّي (١) وغيره ، مع إمكان الاكتفاء بكلمة الصاع مرّة واحدة ، فإنّ ذلك لم يظهر له أيّ وجه ما عدا أنّ العناية البليغة والاهتمام التامّ في هذه الأخبار معطوف نحو الكمّ والمقدار ، ولا نظر فيها إلى الجنس وذي المقدار ، وإنّما ذكر ذلك من باب المثال ، وأنّ العمدة التنبيه على مساواة هذه الأجناس في التقدير بالصاع ، خلافاً للعامّة وطعناً على ما ابتدعه عثمان ومعاوية من التقدير في الحنطة بنصف الصاع كما أُشير إليه في بعض النصوص المتقدّمة.

وعلى الجملة : فلا ظهور لهذه الأخبار في الاختصاص بالخمسة ، بل هي مسوقة لبيان أنّ الكمّيّة في الجميع واحدة بلا فرق بين الأجناس أبداً ، فطبعاً لم يكن ذكرها إلّا من باب المثال.

وعليه ، فظهور صحيحة زرارة في أنّ العبرة بالقوت الغالب سليمٌ عن أيّ معارض ، فيؤخذ به.

وتحمل الأجناس الواردة في تلك الأخبار التي ربّما يستظهر منها الاختصاص على المثال حسبما عرفت.

هذا ، مع الإغماض عن كلّ ما ذكرناه وتسليم عدم ظهور النصوص فيما استظهرناه فغايته الشكّ في لحاظ الخصوصيّة لهذه الخمسة فيتمسّك في نفيها بأصالة البراءة ، بناءً على ما هو الصحيح من الرجوع إليها عند الشكّ في

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٣٣٤ / أبواب زكاة الفطرة ب ٦ ح ٥.

٤٣٥

والأحوط الاقتصار على الأربعة الأُولى (*) (١) وإن كان الأقوى ما ذكرنا.

______________________________________________________

الجزئيّة أو الشرطيّة.

فتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ الأظهر الاكتفاء بكلّ ما يكون قوتاً غالباً ، سواء أكان من الخمسة أم من غيرها ، وإن كان الأحوط الاقتصار على الخمسة كما أُشير إليه في المتن ، لكن بشرط كونها من القوت الغالب ، وإلّا فالأحوط خلافه ، إذ قد يكون القوت الغالب في بعض البلاد شي‌ء وفي بعض شي‌ء آخر ، فمقتضى الاحتياط حينئذٍ إخراج ذلك القوت إن لم يكن من الخمسة ، وأحوط منه الجمع بين الأمرين.

(١) للتسالم على الاجتزاء بها ، مضافاً إلى القول بالاختصاص كما تقدّم ، ولكنّه مشروط بكونها من القوت الغالب كما تقدّم ، وإلّا فالأحوط دفع القوت الغالب ، وأحوط منه الجمع بين الأمرين ، ففي مثل بلاد طبرستان التي يكون القوت الغالب فيها الأرز الأحوط الجمع بينه وبين أحد الأربعة.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن : أنّ المستفاد من النصوص بعد ضمّ بعضها إلى بعض أنّه تجزئ الحنطة والشعير والتمر والزبيب والأقط واللبن.

كما أنّ المستفاد من صحيح زرارة وابن مسكان كفاية كلّ ما يغذّي به الإنسان عياله ، المعبّر عنه بالقوت الغالب ، فيشمل مثل الماش والعدس والأرز وإن لم يرد الأخير في شي‌ء من النصوص.

وأمّا ما لا يكون غذاءً وإن كان ممّا يحتاج إليه كالرطب والعنب والبسر والحصرم ونحوها من المراتب السابقة على التمر والزبيب فلا يجتزئ بها ، لعدم التقوّت والتغذّي بها ولو في بعض البلدان وفي نوبة واحدة ، بخلاف التمر والزبيب

__________________

(١) هذا الاحتياط يختصّ بما إذا كانت من القوت الغالب.

٤٣٦

بل يكفي الدقيق والخبز (*) (١) والماش ، والعدس.

______________________________________________________

فإنّهما كذلك ، ومن ثمّ اقتصر عليهما في النصوص ولم يذكر شي‌ء من المراتب السابقة عليهما ، مع أنّ الرطب والعنب أكثر وجوداً ، لمسبوقيّة التمر والزبيب بهما.

وأولى بعدم الإجزاء ما يكون مثل السكّر والملح والدبس ، بل الخضروات بالأسر حتّى الخيار ، فإنّ شيئاً منها لا يكتفى بها في مقام التغذّي ولو لقوم أو بلد خاصّ في نوبة واحدة وإن كان الجميع ممّا يحتاج إليه في الطعام.

(١) أمّا الدقيق فإن كان صاعاً فهو كافٍ قطعاً ، لعدم احتمال مدخليّة الحنطة بشكلها الخاصّ ، فإنّ هذا حنطة وإن تغيّرت صورته ، بل الصاع منه يزيد على الصاع منها بمقدار الربع ، ومن ثمّ كان أفضل ، لكونه أنفع بحال الفقير كما لا يخفى.

وإن كان أقلّ كما لو طحن صاع من الحنطة ، حيث يكون الدقيق الخالص بعد الطحن حوالي ثلاثة أرباع الصاع كما عرفت فيشكل الاجتزاء حينئذٍ ، نظراً إلى أنّ مقتضى الجمود على ظواهر النصوص لزوم اشتمال المواد الفعليّة للمدفوعات على صاع كامل من الحنطة أو الشعير ، والمفروض نقصان الدقيق المدفوع عن هذا الوزن.

إلّا أنّ المستفاد من صحيح عمر بن يزيد هو الاجتزاء وأنّ النقص يحتسب بدلاً عن اجرة الطحن ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) تعطى الفطرة دقيقاً مكان الحنطة؟ «قال : لا بأس ، يكون أجر طحنه بقدرٍ ما بين الحنطة والدقيق» (١).

فإن كان إجماع على خلافه فليطرح ، وإلّا كما هو الصحيح ، نظراً إلى أنّ

__________________

(*) في كفاية الخبز إشكال ، إلّا إذا كانت مادته بمقدار الصاع.

(١) الوسائل ٩ : ٣٤٧ / أبواب زكاة الفطرة ب ٩ ح ٥.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مورده الحنطة وأنّها بنفسها لا تقلّ عن الصاع دون المتّخذ منه ، فلا مانع من العمل به بعد عدم قيام إجماع على خلافه.

وأمّا الخبز فإن كان أصله صاعاً من الحنطة المستلزم لكون وزنه الفعلي صاعاً ونصف الزيادة بعد الطبخ بمقدار الثلث من أجل المزيج وهو الماء فلا إشكال في الاكتفاء كما عرفت في الدقيق ، بل هو أولى ، لكونه أنفع بحال الفقير. وأمّا لو كان وزنه الفعلي صاعاً واحداً المستلزم لكون الحنطة المتّخذ هو منها أقلّ بمقدار الثلث فيجري فيه الإشكال المتقدّم في الدقيق ، فإن أمكن التعدّي من مورد الصحيح بأن يكون النقص هنا بإزاء أجر الطبخ كما كان في الدقيق بإزاء أجر الطحن فهو ولكنّه مشكل جدّاً.

بل الظاهر عدم الإجزاء ، إذ المنسبق من الأدلّة لزوم دفع صاع من نفس الحنطة الخالصة أو الشعير كذلك لا بضميمة المزيج ، بل لا يجزئ حتّى لو كان المزيج من جنس الفطرة ، ولذا لا يكفي الصاع الملفّق من الحنطة والشعير كما سيجي‌ء (١) ، فضلاً عن كونه من غير الجنس كالماء المشتمل عليه الخبز ، فإذا لم يجز المزيج من الجنس فمن غيره بطريق أولى ، إذ لا يحتمل أنّ نصف صاع من الحنطة لا يجزئ وبعد طحنها ومزجها بالماء وصيرورتها عجيناً يجزئ مع بلوغ الصاع ، فليس كلّ ما كان صاعاً قابلاً للأكل مجزئاً ، بل لا بدّ وأن تكون المواد صاعاً إمّا من الحنطة أو الشعير ونحوهما.

ويؤكّده أنّ الخبز كان كثير الوجود ومتعارفاً بيعه في الأسواق ، ومع ذلك لم يذكر في شي‌ء من الأخبار ، فلو كان الصاع منه مجزئاً لكان أولى بالذكر من الحنطة ونحوها كما لا يخفى ، لكثرة وجوده وكثرة حاجة الفقير إليه ، بل هو أنفع بحاله.

__________________

(١) في ص ٤٤٨.

٤٣٨

والأفضل إخراج التمر (١).

______________________________________________________

وممّا ذكر تعرف عدم الإجزاء بصاع من الحنطة أو الأرز المطبوخين الذي ربّما يعادل نصف صاع من الخالص منهما.

وأمّا ما قيل من استظهار كون الدقيق في الصحيح المتقدّم قيمةً لا أصلا.

ففيه : أوّلاً : أنّه خلاف الظاهر جدّاً ، بل الظاهر دفع الدقيق فطرةً لا قيمةً كما لا يخفى.

وثانياً : ما سيأتي قريباً إن شاء تعالى وتقدّم في زكاة المال من اختصاص القيمة بالأوراق النقديّة ونحوها ممّا هو متمحّض في الثمنيّة ، لا دفع كلّ شي‌ء له ماليّة كفراش أو كتاب قيمةً عن الحنطة مثلاً فإنّ الدليل قاصر عن هذا التعميم ، ولا سيّما بلحاظ التعليل في بعض النصوص بكونه أنفع بحال الفقير.

(١) كما دلّت عليه النصوص الكثيرة ، التي منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث في صدقة الفطرة قال : «قال : التمر أحبّ ذلك إليّ» (١) يعني : الحنطة والشعير والزبيب.

قوله : يعني ، من كلام صاحب الوسائل كما نبّه عليه المعلّق ، وكان عليه الفصل بينهما بمثل قوله : أقول ، كي لا يوهم أنّه جزء من الرواية.

وموثّقة إسحاق بن عمّار : عن صدقة الفطرة «قال : التمر أفضل» (٢).

وصحيحة هشام «قال : التمر في الفطرة أفضل من غيره ، لأنّه أسرع منفعة وذلك أنّه إذا وقع في يد صاحبه أكل منه» (٣) ، ونحوها غيرها.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٣٤٩ / أبواب زكاة الفطرة ب ١٠ ح ١.

(٢) الوسائل ٩ : ٣٥٠ / أبواب زكاة الفطرة ب ١٠ ح ٤.

(٣) الوسائل ٩ : ٣٥١ / أبواب زكاة الفطرة ب ١٠ ح ٨.

٤٣٩

ثمّ الزبيب (١) ، ثمّ القوت الغالب (٢). هذا إذا لم يكن هناك مرجّح ، من كون غيرها أصلح بحال الفقير وأنفع له ، لكن الأولى والأحوط حينئذٍ دفعها (*) بعنوان القيمة.

______________________________________________________

(١) كما هو المعروف ، ولكن قد يقال بأنّ مقتضى التعليل المتقدّم في صحيح هشام مساواته مع التمر في الفضل ، ويندفع بالتصريح في صحيحة الحلبي المتقدّمة بأفضليّة التمر من الزبيب ، فمن الجائز أن تكون في التمر جهات أُخرى مختصّة أوجبت أفضليّته منه وإن اشتركا في هذه الجهة.

(٢) إن كان المراد به الغالب لنفسه وعياله كما ذكره غيره من الفقهاء كالمحقّق في الشرائع (١) أي القوت الشخصي من حنطة أو شعير وأنّ الأفضل اختياره بعد التمر والزبيب وإن كان على خلاف القوت الغالب لعامّة الناس ، فله وجه ، وقد دلّت عليه مرسلة يونس (٢) وخبر الهمداني الوارد في تقسيم الأمصار (٣) ، بل ظاهرهما الوجوب ، ولكن من أجل ضعف السند تحملان على الاستحباب ولو من باب التسامح في أدلّة السنن.

إلّا أنّ هذا لا يلائم مع قوله (قدس سره) أخيراً من أنّ الأولى والأحوط دفعها بعنوان القيمة لو كان غيرها أصلح بحال الفقير ، فإنّ إطلاقه يشمل ما لو كان ذلك الغير من الأجناس المنصوصة كالأقط واللبن والحنطة ونحو ذلك ، فلو

__________________

(*) إذا كان المعطى من أحد النقدين وما بحكمهما تعيّن ذلك ، وأمّا إذا لم يكن من أحدهما ولم يكن من القوت الغالب النوعي فالأحوط بل الأظهر عدم الاجتزاء به.

(١) الشرائع ١ : ٢٠٢ ٢٠٣.

(٢) الوسائل ٩ : ٣٤٤ / أبواب زكاة الفطرة ب ٨ ح ٤.

(٣) الوسائل ٩ : ٣٤٣ / أبواب زكاة الفطرة ب ٨ ح ٢.

٤٤٠