موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

فيدفع له قدر الكفاية اللائقة بحاله (١) من الملبوس والمأكول والمركوب أو ثمنها أو أُجرتها إلى أن يصل إلى بلده بعد قضاء وطره من سفره أو يصل إلى محلّ يمكنه تحصيلها بالاستدانة أو البيع أو نحوهما.

______________________________________________________

وأمّا مع عدم الندم فصريح المحقّق الهمداني عدم الجواز ، لإطلاق النصّ والفتوى (١).

وفيه ما لا يخفى ، إذ لا نصّ ما عدا المرسلة ، ومقتضاها مع الغضّ عن سندها هو الجواز ، بداهة أنّ الرجوع إلى البلد سفر سائغ وأمر مباح قد أذن الله فيه ، فهو من حيث هو سفر الطاعة ، والتوبة عن المعصية السابقة وعدمها لا مدخليّة لها في ذلك بوجه.

وأمّا الفتاوى فلم يظهر منها أنّ سفره حال الرجوع من سفر المعصية ، فإنّ مورد كلماتهم هو سفر المعصية لا الرجوع عنه ، ومن ثمّ يقصّر في رجوعه تاب أم لم يتب فيما إذا كان بالغاً حدّ المسافة الشرعيّة ، لعدم صدق اسمها عليه. فلا مانع إذن من الدفع إليه من هذا السهم.

اللهمّ إلّا إذا انطبق عليه عنوان آخر مرجوح كتشجيعه على ما فعل أو الرضا بما ارتكب بحيث يتضمّن مناط الإعانة على الإثم ، فإنّ الدفع حينئذٍ من هذا السهم مشكل كما تقدّم.

وأمّا من دون ذلك كما إذا كانت المعصية خفيّة قد علم بها صاحب الزكاة وكان العاصي جاهلاً بعلمه بها فلا مانع في مثله من الإعطاء إليه.

(١) من دون الزيادة عليه ، لما اتّضح ممّا مرّ من امتياز ابن السبيل ونحوه عن مثل الفقير في أنّ الزكاة لم تكن لشخصه كما في الفقير ، بل للجهة الخاصّة والوصف

__________________

(١) مصباح الفقيه ١٣ : ٥٨٦.

١٢١

ولو فضل ممّا اعطي شي‌ء ولو بالتضييق على نفسه أعاده على الأقوى (١) ، من غير فرق بين النقد والدابّة والثياب ونحوها ،

______________________________________________________

العنواني القائم به ، فهو مصرفها لا أنّه مستحقّها ، فلا جرم يقتصر على المقدار الذي يحتاج إليه تلك الجهة ، كما هو الحال في الغارم ، فكما أنّه لا يعطي إلّا بمقدار أداء دينه ، فكذا ابن السبيل لا يعطي إلّا بالمقدار الذي يقتضيه وصفه العنواني دون الزائد عليه.

(١) أمّا إذا كان المدفوع من النقدين كما لو أعطاه عشرة دنانير فصرف منها ستّة وبقي أربعة إمّا للتقتير أو للتنزيل في السعر ، فلا ينبغي الشكّ في لزوم الردّ ، لما عرفت من أنّه لا يستملك الزكاة على حذو ما يستملكها الفقير ، وإنّما هو مصرف بحت لجهة معيّنة وهي العود إلى البلد ، فإذا حصل الغرض بقي الباقي بلا مصرف ، لأنّه انتقل إلى حالة لا تحل عليه الصدقة ، وإنّما أُبيحت لأجل حاجته الفعليّة العارضة أثناء الطريق والزائلة بعد الحضور في الوطن ، ولا تحلّ الصدقة للغني ، فلا جرم يعاد الزائد كما هو الحال في الغارم ، فكما أنّه لو أبرأه الغريم قبل أداء الدين وجب الردّ لانتفاء المصرف ، فكذا في المقام لاتّحاد المناط ، ولعلّ وجوب الردّ في الفرض ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال.

وأما إذا كان من العروض كالدابّة والثياب ونحوهما فعن العلّامة في النهاية وغيره عدم الوجوب.

ووجّهه في الجواهر بما لفظه : ولعلّ ذلك لأنّ المزكّي يملّك المستحقّ عين ما دفعه إليه ، والمنافع تابعة ، والواجب على المستحقّ ردّ ما زاد من العين على الحاجة ، ولا زيادة في هذه الأشياء إلّا في المنافع ولا أثر لها مع ملكيّة تمام العين.

١٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ قال (قدس سره) : اللهمّ إلّا أن يلتزم انفساخ ملكه عن العين بمجرّد الاستغناء ، لأنّ ملكية تزلزل ، فهو كالزيادة التي تجدّد الاستغناء عنها (١).

ووافقه عليه المحقّق الهمداني (٢) ، وهو الصحيح.

وتوضيح المقام : أنّ المحتملات في المسألة ثلاثة :

أحدها : ملكيّة ابن السبيل لما يأخذه من الزكاة ملكيّة مطلقة كملكيّة الفقراء ، فكما أنّ عروض الغنى بعد ذلك بإرثٍ ونحوه لا يستوجب الردّ ، إذ لا يخرجه عن الملك ، لعدم كونه من أسباب الخروج ولا كشفه عن خلل فيه بعد أن صدر في ظرفه من أهله ووقع في محلّه ووصل إلى مستحقّه ، ولا معنى للخروج عن الملك بلا سبب شرعي. فليكن ابن السبيل من هذا القبيل. وعليه ، فلا موجب للردّ بعد الوصول إلى البلد.

ثانيها : أن تكون الملكيّة متزلزلة ومراعاة ببقاء الوصف العنواني كما ذكره في الجواهر وقوّاه الهمداني ، فلم تكن الملكيّة مطلقة ، إذ ليس المالك هو الشخص بل الجهة ، فما دام كونه متّصفاً بابن السبيل يملك الزكاة ، وبعد زوال العنوان تزول الملكيّة ويعود المال إلى ما كان ، إذ لا تحلّ الصدقة للغني كما هو الحال في الغارمين.

ثالثها : أن لا تكون ثمّة ملكيّة رأساً لا مطلقاً ولا متزلزلاً ، وإنّما الثابت في ابن السبيل ملكيّة التصرّف بمقدار يتمكّن معه من الوصول إلى البلد ، والزائد باقٍ على ما كان من غير أن يكون منتقلاً إليه حتّى من أوّل الأمر ، إذ المستحقّ في الحقيقة هو نفس الجهة لا ذو الجهة. ووجوب الردّ حينئذٍ أظهر كما لا يخفى.

وهذا الاحتمال هو الأقوى ، لعدم نهوض دليل على تملكه للزكاة بأي من النحوين المزبورين ، ولا يقاس ذلك بالغارمين ، حيث دلّ الدليل فيه على تملّكه

__________________

(١) الجواهر ١٥ : ٣٧٧.

(٢) مصباح الفقيه ١٣ : ٥٨٨.

١٢٣

فيدفعه إلى الحاكم (١) ويعلمه بأنّه من الزكاة. وأمّا لو كان في وطنه وأراد إنشاء السفر المحتاج إليه ولا قدرة له عليه ، فليس من ابن السبيل (٢).

______________________________________________________

لها على النحو الثاني ليوفّي بها دينه ، فلو أبرأه الغريم كلّاً أو بعضاً رجعت إلى ما كانت عليه ، فلاحظ.

(١) ولعلّه المشهور. وعن الروضة : أنّه يعيدها إلى المالك ، لأنّه الولي على الزكاة ، فإن تعذّر فإلى الحاكم ، ولم يظهر وجهه إلّا استصحاب بقاء تلك الولاية (١).

وفيه مضافاً إلى ما هو الصواب من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ـ : أنّ تلك الولاية محدودة بالدفع إلى المستحقّ وقد حصل على الفرض ، وهي مقطوعة الارتفاع ويشكّ في حدوث ولاية جديدة على الارتجاع ، والأصل عدمها بعد عدم نهوض دليل عليها. ومن ثمّ ليس له استرداد ما أعطاه للفقير بعد قبضه وتملّكه ، إذ ولايته إنّما هي على الدفاع لا على الردّ ، فلا بدّ إذن من الردّ إلى الحاكم الشرعي الذي هو الولي حينئذٍ على الزكاة.

هذا فيما إذا دفع إلى ابن السبيل بمقدار حاجته ولكنّه زاد اتّفاقاً إمّا لأجل التضييق والتقتير أو لتنزّل القيمة.

وأمّا إذا دفع الزكاة من الأوّل اشتباهاً ، كما لو تخيّل أنّه يحتاج إلى عشرة فاستبان كفاية الخمسة فكان دفع الخمسة الزائدة من باب الخطأ في التطبيق ، فلا مانع حينئذٍ من القول باسترداد الزائد إلى المالك ، لأنّ هذا الدفع الواقع في غير محلّه بمنزلة العدم فكانت الولاية باقية ، نظير الدفع إلى من يعتقد فقره فاستبان غناه ، لكن مورد الكلام هو الأوّل.

(٢) ضرورة أنّ المنسبق منه والمتفاهم عرفاً هو المتلبّس بالسفر فعلاً ، فلا

__________________

(١) لاحظ الروضة البهية ٢ : ٥٣.

١٢٤

نعم ، لو تلبّس بالسفر على وجه يصدق عليه ذلك يجوز إعطاؤه من هذا السهم.

وإن لم يتجدّد نفاد نفقته (١) ، بل كان أصل ماله قاصراً ، فلا يعطى من هذا السهم قبل أن يصدق عليه اسم ابن السبيل. نعم ، لو كان فقيراً يعطى من سهم الفقراء (٢).

[٢٧٢٨] مسألة ٣٠ : إذا علم استحقاق شخص للزكاة ولكن لم يعلم من أيّ الأصناف ، يجوز إعطاؤه بقصد الزكاة من غير تعيين الصنف (٣) ، بل إذا علم استحقاقه من جهتين يجوز إعطاؤه من غير تعيين الجهة.

______________________________________________________

يشمل من هو بصدد إنشاء السفر ، ومرسلة علي بن إبراهيم (١) صريحة في ذلك.

فما عن بعضهم كالشهيد في اللمعة والدورس (٢) من صدقه عليه أيضاً ممنوع جدّا.

(١) لإطلاق الدليل بعد صدق الاسم كما هو المفروض ، ولا ينافيه التعبير بذهاب المال في المرسل ، فإنّه كناية عن الحاجة كما لا يخفى.

(٢) وبعد الأخذ من هذا السهم يصير بشخصه مالكاً للزكاة على ما سبق ، وبعدئذٍ له صرفها فيما يشاء ومنه مئونة السفر.

(٣) إذ لا دليل على اعتبار التعيين في مقام الامتثال بعد القطع بكونه مصداقاً للمستحقّ ، ومع الشكّ فاعتباره مدفوع بالأصل ، فيجزيه أن يعطيه بماله من العنوان الواقعي وإن لم يعلم به.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢١١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٧ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٨.

(٢) لاحظ اللمعة : ٥٢ ، والدروس ١ : ٢٤٢.

١٢٥

[٢٧٢٩] مسألة ٣١ : إذا نذر أن يعطي زكاته فقيراً معيّناً لجهة راجحة أو مطلقاً ينعقد نذره (١) ، فإن سها فأعطى فقيراً آخر أجزأ (٢).

______________________________________________________

ومنه يظهر الحال في الفرض الثاني ، فإنّه وإن امتاز بالجهالة حتّى في متن الواقع من دون التعيين ، لفرض تحقّق العنوانين معاً ، ككونه فقيراً وغارماً مثلاً فلا يقع لأحدهما دون الآخر ما لم يعيّن ، إلّا أنّك عرفت أنّه لا يعتبر في الزكاة تعيين الصرف ، وإنّما المعتبر مجرّد الإيصال إلى المصرف لا قصد عنوانه ، وقد تحقّق في كلتا الصورتين.

أجل ، يشكل الأمر بناءً على القول بوجوب البسط ، فلو تردّد زيد بين الفقير والغارم أو كان متّصفاً بهما معاً ، فلا بدّ من التعيين في الفرض الثاني ليوزع الباقي على المصارف السبعة الأخر ، وأما في الفرض الأوّل فلا يجزى الدفع إليه في إحراز البسط كما لا يخفى.

(١) أمّا في الأوّل كما لو كان الفقير من أرحامه فواضح ، وكذا في الثاني ، لكفاية الرجحان في طبيعي الفعل المنذور وإن لم تكن الخصوصيّة المكتنفة راجحة ، كما لو نذر إكرام زيد العالم ، أو الصلاة في مسجد خاصّ ، أو الصيام في يوم معيّن ، لثبوت الرجحان في طبيعي هذه الأُمور وإن لم تكن لزيد أو للمسجد الخاصّ أو اليوم المعيّن مزيّة على غيره من أفراد هذا الطبيعي. إذن فيكفي ثبوت الرجحان في إعطاء الزكاة للفقير وإن لم يكن رجحان لزيد بخصوصه.

(٢) فلا إعادة عليه ولا كفّارة.

أمّا الأوّل فلتحقّق الامتثال بعد وضوح أنّ الأمر النذري المتعلّق ببعض أفراد الواجب لا يستوجب تضييقاً فيه ولا تقييداً في متعلّق الأمر الأوّل ، بل غايته أن يكون من قبيل الواجب في واجب ، فلو تركهما عامداً عوقب عليهما ، ولو خالف النذر عوقب عليه فقط مع صحّة أصل العمل.

١٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : موضوع الأمر الأوّل لم يتغيّر بالنذر ولم ينقلب عمّا كان عليه ، بل هو بعد النذر كقبلة باقٍ على إطلاقه وسريانه ، وتمام أفراد الطبيعة في الوفاء بما فيها من المصلحة شرع سواء وعلى صعيد واحد ، ولا يكاد يوجب سقوط أيّ فردٍ منها عن قابليّة الامتثال به ، والتضييق إنّما هو في موضوع الأمر الثاني ، فلو نذر أن يصلّي الفريضة في المسجد فخالف وصلّاها في الدار تحقّق الامتثال وإن حنث النذر ، فإنّ الموضوع للأمر الصلاتي طبيعي الفريضة ، والخصوصيّات الفرديّة من الزمانية أو المكانية ونحوها خارجة عن حريم المأمور به ، فلا جرم تبرأ الذمّة بالإتيان بأيّ فردٍ كان ، وتحقّق العصيان للأمر الثانوي النذري لا يستوجب خللاً في ذلك بوجه.

وعليه ، فلو خالف النذر ودفع الزكاة لمستحقّ آخر برأت ذمّته عن أصل الزكاة ، إذ الانطباق بعد البقاء على الإطلاق قهري ، والإجزاء عقلي ، وبه ينعدم موضوع النذر بطبيعة الحال ، لأنّ موضوعه دفع الزكاة ، ولا موضوع لها بعد فراغ الذمّة منها ، إذ لا معنى للامتثال عقيب الامتثال.

وأمّا الثاني : فلحديث رفع النسيان ، فإنّ مخالفة النذر تستوجب الكفّارة ، وهذا الأثر مرفوع بالحديث. هذا أوّلاً.

وثانياً : إنّ الكفّارة تتبع المخالفة ليتحقّق بها الحنث ، والمخالفة تتبع كيفيّة النذر ، وحيث إنّ النذر التزام من الناذر على نفسه والالتزام لا يتعلّق إلّا بالأمر الاختياري فلا جرم يختصّ متعلّقه بالحصّة الاختياريّة الناشئة عن العمد والإرادة. إذن فالمخالفة السهويّة غير مشمولة للنذر من أوّل الأمر ، فلو دفع الناذر زكاته لغير المنذور له نسياناً لم يتحقّق الحنث لتجب الكفّارة.

والمتحصّل : أنّه لا ينبغي الإشكال في حصول الامتثال بالإعطاء لغير المنذور له نسياناً كما لا كفّارة عليه حسبما عرفت.

١٢٧

ولا يجوز استرداده وإن كانت العين باقية (١) ، بل لو كان ملتفتاً إلى نذره وأعطى غيره متعمّداً أجزأ أيضاً (٢)

______________________________________________________

(١) لأنّ الفقير قد ملكها بالقبض ، وقد عرفت حصول الامتثال وسقوط موضوع النذر ، فلا مجال لتداركه بالاسترداد.

(٢) أمّا الإجزاء فلمّا عرفت من تحقّق الامتثال بعد عدم استيجاب النذر للتقييد ، وأمّا الإثم فلتعمّد الحنث ، وأمّا الكفّارة فلحصول المخالفة عن التفات وإرادة ، فهو كمن تعمد الصلاة فرادى وقد نذرها جماعة في حصول الإجزاء للامتثال وثبوت الكفّارة للمخالفة ، فالإجزاء للأمر وجودي وهو الإتيان بأصل الطبيعة ، والكفّارة لأمر عدمي وهو عدم تطبيقها على الفرد المنذور ، ولا تنافي بين الأمرين بوجه.

ودعوى أنّ التطبيق على غير المنذور مفوّت للواجب فيكون حراماً ومبغوضاً فكيف يتحقّق به الامتثال؟! مدفوعة بما هو المقرّر في محلّه من عدم التمانع بين الضدّين ، ولا يكاد يتوقّف وجود أحدهما على عدم الآخر ولا العكس ، فلا مقدّميّة في البين ، بل هما متلازمان وفي مرتبة واحدة ، والأمر بالشي‌ء لا يقتضي الأمر بملازمة ولا النهي عن ضدّه. إذن فالأمر النذري وإن أوجب تطبيق الطبيعة على الفرد المنذور لكنّه لا يقتضي النهي عن ضدّه وهو الفرد الآخر ، بل هو باقٍ على ما كان عليه من الإباحة والوفاء بالغرض الكامن في الطبيعة المقتضي لجواز تطبيقها عليه أيضاً كغيره.

وربّما يقال برجوع النذر في أمثال المقام إلى نذر عدم تفريغ الذمّة إلّا بهذا الفرد الخاصّ أو عدم تطبيق الطبيعة إلّا عليه ، فالتطبيق أو التفريغ بغيره بما أنّه مخالفة للنذر فهو حرام بل وباطل ، إذ النهي عن العبادة موجب لفسادها ، فكيف

١٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يمكن الجمع بين الحنث وبين الإجزاء؟!

وبعبارة اخرى : فرض المخالفة للنذر مساوق لفرض عدم التفريغ ، وفرض عدمه مساوق لعدم المخالفة ، فيلزم من فرض المخالفة عدمها. إلّا إذا كان نذر المصداق الخاصّ منوطاً ببقاء اشتغال الذمّة ومن قبيل شرط الوجوب لا الواجب.

أقول : تارةً يفرض تعلّق النذر بالعنوان الوجودي كإعطاء الزكاة إلى زيد أو تفريغ الذمّة بالدفع إليه. وأُخرى بالعنوان العدمي كعدم الإعطاء لغيره. وقد عرفت أنّه على التقديرين لا يسري الأمر النذري إلى لازمه أعني : عدم الضدّ الآخر الذي هو عدم الإعطاء لغير زيد في الأوّل والإعطاء لزيد في الثاني ، لأنّ الأمر بأحد الضدّين لا يستلزم الأمر بترك الآخر ولا العكس ، لعدم لزوم اشتراك المتلازمين في الحكم ، وقد عرفت عدم المقدّميّة بينهما ، والأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه.

إذن فلا مانع من تحقّق الامتثال بالفرد الآخر في الفرض الأوّل بعد ما تقدّم من عدم حصول التقييد في موضوع الأمر الأوّل.

وأمّا في الفرض الثاني : فالظاهر عدم انعقاد النذر ، إذ لا رجحان في عدم التطبيق أو عدم التفريغ بعد ما عرفت من أنّ لازم عدم التقييد اشتراك الجميع في الاشتمال على الرجحان والوفاء بالغرض القائم بالطبيعة.

نعم ، يمكن أن يكون فرد خاصّ مشتملاً على مزيّة ، ككونه عالماً أو ذي رحم ، ولأجله يقع مورداً لنذر التطبيق أو التفريغ ، وأمّا العنوان العدمي فلا رجحان فيه كما لا يخفى.

أضف إلى ذلك : أنّه مع الغضّ أو افتراض مصلحة في ذلك فانعقاد نذر عدم التفريغ مشكل من ناحية أُخرى ، حيث إنّه يلزم من فرض وجوده عدمه ، نظراً إلى اعتبار القدرة في متعلّق النذر بحيث يتمكّن بعد انعقاده من امتثاله أو مخالفته ، كما هو الحال في سائر الواجبات ، مع أنّه بعد فرض الانعقاد عاجز عن المخالفة ،

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لعدم تمكّنه بعدئذٍ من تفريغ الذمّة بالإعطاء إلى الغير ، ضرورة أنّ نفوذ النذر أوجب حرمته ، وبما أنّ الزكاة عبادة فتحريمها مساوق لفسادها ، ومعه يستحيل التفريغ ، فيلزم من انعقاد النذر عدم انعقاده. وهو كما ترى.

ولا يقاس ذلك بنذر التفريغ بالدفع لخصوص زيد ، لما عرفت من أنّ الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه. أمّا في المقام فنفس العبادة متعلّق للنهي الذي هو مصبّ النذر ومفاده.

كما لا يقاس بمثل نهي الحائض عن العبادة ، إذ المنهي هناك هو الذات القابلة للفساد ، أمّا في المقام فالمنهي هو الوصف العنواني ، لأنّه الذي يكون مصداقاً للتفريغ ، ومثله يمتنع اتّصافه بالفساد ، إذ لا تفريغ إلّا بعبادة صحيحة ، فيلزم من وجوده عدمه كما عرفت.

ودعوى أنّ المنذور تركه بالآخرة مصداق للطبيعة ، وانطباقها على أفرادها قهري ، كما أنّ التخيير بينها عقلي ، فلا مانع من حصول الإجزاء وإن ارتكب الإثم بمخالفة النذر.

مدفوعة بأنّ أفراد الطبيعة هي نفسها بالذات ، والكلّ موجود بوجود واحد يضاف إلى الطبيعي مرّة وإلى الأفراد اخرى ، والخصوصيّات المفردة لا تزيد عليه بشي‌ء ، ومعه يمتنع أن يكون الوجود الواحد محكوماً بحكمين ، وإنّما يتّجه ذلك فيما إذا كان الفرد مشتملاً على خصوصيّة زائدة على ما يقتضيه أصل الطبيعة بحيث تكون منحازة ومفارقة عنها وموجودة بوجود آخر ، كالصلاة مكشوف الرأس ، فإنّه لا مانع من انعقاد النذر بترك هذه الخصوصيّة ، فلو صلّى مكشوفاً كان مطيعاً وعاصياً كلّ من جهة ، ولا ضير فيه.

أمّا في المقام فالخصوصية من قبيل الأوّل ، ومرجع النذر إلى نذر عدم إيجاد الطبيعة وعدم امتثال أمر الزكاة في ضمن ذاك الفرد ، وقد عرفت أنّه إذا تعلّق بعدم التفريغ فهو غير قابل للانعقاد من أصله ، إذ يلزم من وجوده عدمه ، فلاحظ.

١٣٠

وإن كان آثماً في مخالفة النذر (١) وتجب عليه الكفّارة ، ولا يجوز استرداده أيضاً لأنّه قد ملك بالقبض.

[٢٧٣٠] مسألة ٣٢ : إذا اعتقد وجوب الزكاة عليه فأعطاها فقيراً ثمّ تبيّن له عدم وجوبها عليه جاز له الاسترجاع (٢)

______________________________________________________

هذا كلّه فيما إذا كان نذر الإعطاء لشخص خاصّ فعليّاً ومنجّزاً.

وأمّا إذا كان مشروطاً ومنوطاً باشتغال الذمّة على نحو الواجب المشروط بحيث يكون الاشتغال شرطاً في الوجوب لا في الواجب ، فينبغي التفصيل حينئذٍ بين ما إذا كان الشرط حدوث الاشتغال وبين ما إذا كان بقاؤه.

ففي الأوّل لا يجوز الدفع لشخص آخر ، ضرورة أنّ الشرط حاصل والتكليف فعلي والدفع المزبور مفوت لمحلّ النذر ، فلا يجوز.

وهذا بخلاف الثاني ، إذ المنذور حينئذٍ هو الدفع على تقدير بقاء الزكاة في الذمّة ، ومع الدفع لشخص آخر وفراغ الذمّة لا موضوع للنذر ، ومن البيّن أنّ الوجوب المشروط بشي‌ء لا يقتضي حفظ شرطه.

ونتيجة ذلك : هو التخيير بين الدفعين ، فلا حنث إلّا إذا خالف ولم يدفع أصلاً كما لا يخفى.

ولمزيد التوضيح راجع المسألة في كتاب الصلاة (١) فيمن نذر الجماعة فخالف وصلّى فرادى.

(١) وقد عرفت عدم التنافي بين الإجزاء وبين الإثم والحنث.

(٢) لاستكشاف بقائها على ملكه بعد أن كان الدفع في غير محلّه.

__________________

(١) شرح العروة (كتاب الصلاة ٢) : ٢٦.

١٣١

إذا كانت العين باقية (١) ، وأمّا إذا شكّ في وجوبها عليه وعدمه فأعطى احتياطاً ثمّ تبيّن له عدمه فالظاهر عدم جواز الاسترجاع وإن كانت العين باقية (٢).

______________________________________________________

(١) أمّا مع التلف فإن كان الفقير عالماً بالحال ضمن ، لقاعدة اليد ، وإلّا فلا شي‌ء عليه بعد أن استلمها بعنوان المجّان.

(٢) ونحوه ما لو شكّ في الأداء وبعد الدفع احتياطاً علم أنّه كان مؤدّياً (١) ، فإنّه ليس له الاسترجاع في هاتين الصورتين حتّى مع بقاء العين ، نظراً إلى انبعاث الأداء عن احتمال الأمر ورجاء المطلوبيّة ، وهو بنفسه عمل قربي عبادي صادر لوجه الله أصاب الواقع أم لا ، بل من أعلى مراتب الانقياد والامتثال ، لانبعاثه عن مجرّد الاحتمال ، وقد دلّت جملة من الأخبار على أنّ ما كان لله فلا رجعة فيه ، كقوله (عليه السلام) في موثّقة الحسين بن علوان : «... لم يرجع في الأمر الذي جعله لله» إلخ (٢).

وقوله (عليه السلام) في موثّقة عبيد بن زرارة «... ولا ينبغي لمن أعطى شيئاً لله عزّ وجلّ أن يرجع فيه» (٣) ، ونحوهما غيرهما.

ومنه يظهر الفرق بين المقام وبين الصورة السابقة ، ضرورة أنّ الدفع ثَمّة كان مستنداً إلى اعتقاد الأمر وتخيّل ثبوته واقعاً فانكشف عدمه. وأمّا في المقام فالمحرّك والمقرّب هو احتمال الأمر لا واقعة ، وهذا ليس له انكشاف الخلاف ، بل قد صدر لله ولا ينقلب عمّا وقع عليه ، وفي مثله لا رجعة فيه حسبما عرفت ، فليتأمّل جيّدا.

__________________

(١) الظاهر لحوق هذا الفرع بالفرع السابق ، لاشتراكهما في الانبعاث عن أمر جزمي ، غايته أنّه ظاهري لا واقعي ، فيشتركان في مناط انكشاف الخلاف كما لا يخفى.

(٢) الوسائل ٩ : ٤٢٢ / أبواب الصدقة ب ٢٤ ح ١.

(٣) الوسائل ١٩ : ٢٤٣ / كتاب الهبات ب ١٠ ح ١.

١٣٢

فصل

في أوصاف المستحقّين

وهي أُمور :

الأوّل : الإيمان ، فلا يعطى الكافر بجميع أقسامه (١) ، ولا لمن يعتقد خلاف الحقّ من فرق المسلمين (٢) ،

______________________________________________________

(١) هذا الحكم مضافاً إلى استفادته في غير السهمين الآتيين من فحوى النصوص الآتية المانعة عن دفع الزكاة للمخالفين ممّا ادّعي عليه الإجماع بقسميه ، بل في الجواهر يمكن دعوى كونه من ضروريّات المذهب بل الدين (١).

(٢) بلا خلاف فيه ، وتدلّ عليه بعد الإجماع نقلاً وتحصيلاً طائفة من الأخبار وأكثرها صحاح :

منها : ما ورد في المستبصر من صحّة أعماله السابقة إلّا الزكاة فإنّه يعيدها ، لأنّه وضعها في غير موضعها :

كصحيحة بريد بن معاوية العجلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث ـ : «قال : كلّ عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته ثمّ منّ الله عليه وعرّفه الولاية فإنّه يؤجر عليه إلّا الزكاة ، لأنّه يضعها في غير مواضعها ، لأنّها لأهل الولاية ، وأمّا الصلاة والحجّ والصيام فليس عليه قضاء» (٢).

وصحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنّهما قالا في

__________________

(١) الجواهر ١٥ : ٣٧٨.

(٢) الوسائل ٩ : ٢١٦ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٣ ح ١.

١٣٣

حتّى المستضعفين منهم (١) إلّا من سهم المؤلّفة قلوبهم (٢) وسهم سبيل الله في

______________________________________________________

الرجل يكون في بعض هذه الأهواء الحروريّة والمرجئة والعثمانيّة والقدريّة ثمّ يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه ، أيعيد كلّ صلاة صلّاها أو صوم أو زكاة أو حجّ ، أو ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك؟ «قال : ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك غير الزكاة ، ولا بدّ أن يؤدّيها ، لأنّه وضع الزكاة في غير موضعها وإنّما موضعها أهل الولاية» (١).

ونحوها صحيحة ابن أُذينة (٢).

ومنها : ما دلّ على عدم جواز صرف الزكاة في غير المؤمن ، كصحيحة سعد ابن سعد الأشعري عن الرضا (عليه السلام) ، قال : سألته عن الزكاة هل توضع فيمن لا يعرف؟ «قال : لا ، ولا زكاة الفطرة» (٣) ، وهي كثيرة.

وبعضها دلّ على حصر الصرف في المؤمن ، كمكاتبة علي بن بلال ، قال : كتبت إليه أسأله : هل يجوز أن أدفع زكاة المال والصدقة إلى محتاج غير أصحابي؟ فكتب : «لا تعطِ الصدقة والزكاة إلّا لأصحابك» (٤).

فالحكم ممّا لا إشكال فيه.

(١) أخذاً بإطلاق النصوص المتقدّمة.

(٢) لأنّ الغاية من الدفع هو تأليف القلب والجلب إلى الإسلام أو الإيمان ، على الخلاف في تفسيره من الاختصاص بالكفّار أو الشمول للمخالفين ، فلا جرم يكون مصرفه غير المؤمن فلا تشمله النصوص المتقدّمة.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢١٦ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ٩ : ٢١٧ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٣ ح ٣.

(٣) الوسائل ٩ : ٢٢١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٥ ح ١.

(٤) الوسائل ٩ : ٢٢٢ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٥ ح ٤.

١٣٤

الجملة (١) ومع عدم وجود المؤمن والمؤلّفة وسبيل الله يحفظ إلى حال التمكّن (٢).

______________________________________________________

(١) كما إذا كان الصرف على غير المؤمن لمصلحة المؤمن فيكون هو في الحقيقة من الصرف على المؤمن فتدخل في النصوص المتقدّمة ، وأمّا من دون ملاحظة ذلك ، فلا يجوز الصرف ، لإطلاق النصوص المانعة.

(٢) فلا يعطى لغير المؤمن حتّى في هذه الحالة ، عملاً بإطلاق الأدلّة ، بل في رواية إبراهيم الأوسي التصريح بذلك ، فقد روى عن الرضا (عليه السلام) : «قال : سمعت أبي يقول : كنت عند أبي يوماً فأتاه رجل فقال : إنّي رجل من أهل الري ولي زكاة ، فإلى من أدفعها؟ فقال : إلينا ، فقال : أليس الصدقة محرّمة عليكم؟ فقال : بلى ، إذا دفعتها إلى شيعتنا فقد دفعتها إلينا ، فقال : إنّي لا أعرف لها أحداً ، فقال : فانتظر بها سنة ، قال : فإن لم أصب لها أحداً؟ قال : انتظر بها سنتين ، حتّى بلغ أربع سنين ، ثمّ قال له : إن لم تصب لها أحداً فصرها صرراً واطرحها في البحر فإنّ الله عزّ وجلّ حرّم أموالنا وأموال شيعتنا على عدوّنا» (١).

ولعلّ الرواية محمولة على المبالغة في حرمان غير المؤمن ، أو على تعليق المحال على المحال على حدّ تعبير صاحب الوسائل ، حيث إنّ فرض عدم الظفر بالمؤمن ولا وجود أيّ مصرف آخر للزكاة خلال أربع سنين ممتنع عادةً.

على أنّ إتلاف المال بالإلقاء في البحر ضياعٌ له من غير مسوّغ. فالرواية بظاهرها غير قابلة للتصديق ، ومقتضى القاعدة لو تحقّق الفرض حفظها وإيداعها في مكانٍ مصون ولو الدفن في موضع مأمون إلى أن يتحقّق المصرف. والعمدة أنّ الرواية ضعيفة السند بالإرسال وغيره ، فلا يعوّل عليها في نفسها.

أجل ، ربّما يظهر من رواية يعقوب بن شعيب جواز الدفع لغير الناصب ، عن

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٢٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٥ ح ٨.

١٣٥

[٢٧٣١] مسألة ١ : تعطى الزكاة من سهم الفقراء لأطفال المؤمنين (١)

______________________________________________________

العبد الصالح (عليه السلام) ، قال : قلت له : الرجل منّا يكون في أرض منقطعة ، كيف يصنع بزكاة ماله؟ «قال : يضعها في إخوانه وأهل ولايته» قلت : فإن لم يحضره منهم فيها أحد؟ «قال : يبعث بها إليهم» قلت : فإن لم يجد من يحملها إليهم؟ «قال : يدفعها إلى من لا ينصب» قلت : فغيرهم؟ «قال : ما لغيرهم إلّا الحجر» (١).

قال في الجواهر : إنّها مطروحة أو محمولة على مستضعف الشيعة (٢).

أقول : بل هي في حدّ نفسها ضعيفة السند ، لا أنّها مطروحة لعدم العامل بها ، ووجه الضعف هو إبراهيم بن إسحاق ، حيث إنّ المراد به بقرينة روايته عن عبد الله بن حمّاد الأنصاري وكونه من رواة كتابه هو النهاوندي ، وهو ضعيف في حديثه ودينه كما صرّح به النجاشي (٣) ، ولا يحتمل أن يراد به إبراهيم بن إسحاق الثقة الذي هو من أصحاب الصادق (عليه السلام) ، لاختلاف الطبقة كما لا يخفى.

(١) بلا خلاف ولا إشكال ، لجملة من الأخبار ورد بعضها في اليتيم وبعضها في مطلق الصغير.

فمن الأوّل : صحيح أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل يموت ويترك العيال ، أيعطون من الزكاة؟ «قال : نعم ، حتّى ينشئوا ويبلغوا ويسألوا من أين كانوا يعيشون إذا قطع ذلك عنهم» فقلت : إنّهم لا يعرفون «قال : يحفظ فيهم ميّتهم ويحبّب إليهم دين أبيهم فلا يلبثون أن يهتمّوا بدين

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٢٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٥ ح ٧.

(٢) الجواهر ١٥ : ٣٨١.

(٣) رجال النجاشي : ١٩ / ٢١.

١٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أبيهم ، فإذا بلغوا وعدلوا إلى غيركم فلا تعطوهم» (١).

ومعتبرة أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : ذرّيّة الرجل المسلم إذا مات يعطون من الزكاة والفطرة كما كان يعطى أبوهم حتّى يبلغوا فإذا بلغوا وعرفوا ما كان أبوهم يعرف أُعطوا ، وإن نصبوا لم يعطوا» (٢).

ومن الثاني : صحيحة يونس بن يعقوب ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : عيال المسلمين أُعطيهم من الزكاة فأشتري لهم منها ثياباً وطعاماً وأرى أنّ ذلك خير لهم؟ «فقال : لا بأس» (٣).

ومعتبرة عبد الرّحمن بن الحجّاج ، قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : رجل مسلم مملوك ومولاه رجل مسلم وله مال (ماله) يزكيه وللمملوك ولد صغير حرّ ، أيجزي مولاه أن يعطي ابن عبده من الزكاة؟ «فقال : لا بأس به» (٤).

وهذه الأخبار واضحة الدلالة ، كما أن إسنادها معتبرة ، والتعبير عن كثير منها أو جميعها في كلمات المحقّق الهمداني والمحدّث البحراني وصاحب الجواهر وغيرهم بالخبر (٥) ، المشعر بالضعف ، في غير محلّه ، أو مبني على التسامح.

ويقتضيه أيضاً إطلاق الفقير في الكتاب والسنّة ، فإنّه شامل للكبير والصغير ، لعدم اعتبار البلوغ في صدق عنوان الفقير أو المسكين.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٢٦ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٦ ح ١.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٢٧ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٦ ح ٢.

(٣) الوسائل ٩ : ٢٢٧ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٦ ح ٣.

(٤) الوسائل ٩ : ٢٩٤ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٥ ح ١.

(٥) مصباح الفقيه ١٣ : ٥٩٩ ، الحدائق ١٢ : ٢٠٧ ٢٠٨ ، الجواهر ١٥ : ٣٨٣.

١٣٧

ومجانينهم (١) من غير فرق بين الذكر والأُنثى والخنثى ولا بين المميّز وغيره (٢) إمّا بالتمليك بالدفع إلى وليّهم ، وإما الصرف عليهم (٣) مباشرةً أو بتوسّط أمين إن لم يكن لهم ولي شرعي (*) من الأب والجدّ والقيّم.

______________________________________________________

(١) فإنّ المجنون وإن لم يرد فيه نصّ بالخصوص لكن الإطلاقات غير قاصرة الشمول له كالصغير.

والظاهر أنّ المسألة ممّا لا خلاف فيها عدا ما يظهر من صاحب المستند من المناقشة لولا الإجماع ، نظراً إلى تقييد النصوص بالعارف بالأمر غير الصادق على المجنون (١).

لكنّك خبير بأنّه لا يراد به فعليّة المعرفة ، بل هو كناية عن الشيعة في مقابل المخالفين ، كما يفصح عنه قوله في مكاتبة علي بن بلال المتقدّمة (٢) : «لا تعطِ الصدقة والزكاة إلّا لأصحابك» ، والظاهر أنّ مجانين الشيعة ملحق بهم كما هو الحال في مجانين المخالفين أو غير المسلمين ، فمن أراد إحصاء مجانين البلد صحّ القول بأنّ مجانين الشيعة كذا عدداً وكذا غيرهم ، فلا ينبغي التشكيك في الصدق.

(٢) لإطلاق النصوص المتقدّمة ، بل أنّ صحيح أبي بصير كالصريح في غير المميّز.

(٣) أمّا الأوّل فلا شبهة في كفايته وحصول إبرائه بقبضه بمقتضى ولايته فيكون ملكاً للصغير كسائر أمواله.

وأمّا الاكتفاء بالصرف عليهم مباشرةً أو بتوسّط أمين مع وجود الولي أو

__________________

(*) بل معه أيضاً على الأظهر.

(١) مستند الشيعة ٩ : ٣٠٣.

(٢) في ص ١٣٤.

١٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عدمه ففيه خلاف ، فذهب السيّد الماتن وجماعة آخرون إلى الجواز مع عدم الولي ، ومنهم من صرّح بالجواز حتّى مع وجوده ، ومنهم من منعه في كلتا الصورتين وأنّه لا بدّ من الدفع إلى الولي إن كان وإلّا فإلى الحاكم الشرعي ، وهذا القول هو خيرة صاحب الجواهر متعجّباً ممّن يجوّز الصرف عليهم لدى فقد الولي من دون مراجعة الحاكم الشرعي ، ثمّ استظهر من بعضهم جواز الصرف وعدم لزوم مراجعته حتّى مع وجود الولي ، وقال : هذا أغرب (١) ، ولعلّ الشيخ الأنصاري (قدس سره) يميل إلى هذا الرأي (٢).

وكيفما كان ، فمستند المنع عن الصرف المزبور أحد أُمور :

الأوّل : دعوى أنّ الزكاة ملك لكلّي الفقير ، ولا يملكها إلّا بقبض صحيح ، وحيث إنّ قبض الصغير كلا قبض فلا جدوى في الصرف عليه ما لم يقبضها الولي ، بل المالك باقٍ بعدُ على ملكيّته.

وبعبارة اخرى : إنّ مقداراً من العين الزكويّة ملك لأربابها من لدن تعلّقها وخارج عن ملك المالك وهو مأمور بإيصاله إليهم ، ولا يتحقّق إلّا بالقبض المعتبر شرعاً ، وهو في الفقير الصغير منوط بقبض وليّه كما في سائر أمواله.

ويندفع بقصور الأدلّة عن إثبات الملكيّة من أوّل الأمر ، وكيف يمكن الالتزام بها مع عدم حصر الزكاة في سهم الفقراء ووضوح عدم الملكيّة في سائر الأصناف الثمانية؟! وإنّما هي مصارف بحتة ، والتفكيك بالتمليك في بعضها والصرف في البعض الآخر منافٍ لاتّحاد السياق ، بل يمكن الاستظهار من هذا الاتّحاد أنّ الجعل في الجميع إنّما هو على سبيل الصرف بعد ما عرفت من التسالم على عدم التمليك في بقيّة الأصناف.

__________________

(١) الجواهر ١٥ : ٣٨٥.

(٢) كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٣٢٣.

١٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ويعضده التعبير بصيغة الجمع المحلّى باللام في الفقراء والمساكين ، الظاهر في الاستغراق ، فإنّ دعوى كونها ملكاً لجميع الأفراد كما ترى ، والحمل على إرادة الكلِّي خلاف الظاهر بعد عرائه عن الشاهد ، فلا جرم يراد من العموم جواز الصرف على كلّ واحد منهم ، ففي الحقيقة يكون المالك هو الجهة ، ومرجعه إلى مصرفيّة الفقير والمسكين كما في سائر الأصناف.

نعم ، يمتازان بجواز تمليكهما بالإقباض كجواز الصرف بالإشباع ، أمّا في غيرهما فليس إلّا بنحو الصرف.

وأمّا ما في بعض الأخبار من أنّ الله سبحانه أشرك الفقراء في أموال الأغنياء ، فليس المراد الشركة في الملكيّة ، بل في الماليّة والمصرفيّة على ما تقدّم بيانه في محلّه (١).

الثاني : ما ذكره في الجواهر من دعوى ظهور الأدلّة خصوصاً السنّة في ترتّب الملك على القبض بالنسبة إلى خصوص هذا السهم وإن لم يكن كذلك في سائر السهام ، وحيث إنّ قبض الفقير لا ينفع في حصول الملك فلا بدّ من الدفع إلى الولي (٢).

وفيه : إنّ هذه الدعوى وإن كانت دون السابقة في الضعف إلّا أنّه لا يمكن المساعدة عليها أيضاً ، لقصور الأدلّة عن إثباتها كسابقتها وإن أصرّ عليها في الجواهر.

نعم ، لا شبهة في جواز تمليك الفقير وتملّكه بالقبض الصحيح ، لكن التخصيص به بحيث لا يجزي مجرّد الصرف بإشباعٍ ونحوه لا دليل عليه ، بل مقتضى الإطلاقات أنّ العبرة في تفريغ الذمّة بوصول المال إلى الفقير تمليكاً أو صرفاً ،

__________________

(١) شرح العروة ٢٣ : ٣٢٧.

(٢) الجواهر ١٥ : ٣٨٤.

١٤٠