موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

ويقع الكلام في المقام على كلٍّ من التقديرين :

أمّا على تقدير القول بعدم المالكية ، فعدم وجوب الزكاة حينئذٍ لا يحتاج إلى الدليل ، لأنّ موضوعه المال ، ولا مال للعبد حسب الفرض ، فالقضيّة سالبة بانتفاء الموضوع ، نظير أن نقول بعدم وجوب الزكاة على الجار الفقير ، وهذا ظاهر من غير حاجة إلى ورود رواية تدلّ عليه.

وهل تجب الزكاة على هذا القول على المولى لكونه المالك الواقعي حقيقةً وشرعاً وإن أُضيف المال إلى العبد مجازاً وصورةً؟

أو لا تجب عليه أيضاً؟

فيه وجهان بل قولان.

والأظهر : الوجوب ، إذ ليس في الروايات الواردة في المقام عدا التعرّض لنفي وجوب الزكاة على المملوك من حيث كونه مالاً للمملوك ، وأمّا المولى الذي فرضناه هو المالك الحقيقي فليس في شي‌ء من الروايات ما يقتضي عدم الوجوب بالإضافة إليه لدى تحقّق سائر الشرائط ، ومجرّد كون المال بيد العبد ومضافاً إليه بإضافة مجازيّه أو بملكيّة عرفيّة مسامحيّة لا يستدعي سقوط الزكاة عن المولى ، الذي هو المالك الشرعي كما عرفت ، فالمال لدى التحقيق أمانة بيد العبد ، كالمال الذي بيد الوكيل أو بيد أخيه ، ونحو ذلك ، فهو ملك للمولى كسائر أمواله التي هي بيد العبد أو غيره.

والحاصل : أنّه ليس في شي‌ء من هذه الروايات ما يدلّ على عدم الوجوب على المولى ، ومقتضى الإطلاقات هو الوجوب بعد أن كان ملكاً له وتحت سلطانه وتصرّفه.

وأمّا صحيحة عبد الله بن سنان الدالّة على عدم الوجوب على العبد والمولى معاً قال : قلت له : مملوك في يده مال ، أعليه زكاة؟ «قال : لا» قال : قلت :

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

فعلى سيّده؟ «فقال : لا ، لأنّه لم يصل إلى السيّد وليس هو للمملوك» (١).

فهي أجنبيّة عمّا نحن فيه ، فإنّ محلّ الكلام : ما إذا كان المال للمملوك إمّا حقيقةً أو مجازاً على القولين ومورد الرواية : أنّ هناك مالاً بيد العبد من غير أن يفرض أنّه مال العبد ومضافٌ إليه ، ومن الجائز أنّه مالٌ للمولى كان بيد العبد للتجارة ، فاتّجر وربح ولم يطّلع عليه المولى ، فحينئذٍ لا تجب الزكاة : لا على العبد ، لعدم كونه ملكاً له ، ولا على المولى ، لأنّه لم يصل إليه ، كما علّل بذلك في الصحيحة ، لما سيجي‌ء من أنّ من شرائط وجوب الزكاة : كون المال تحت السلطنة والتصرّف (٢) ، فلا زكاة فيما لا سلطنة عليه ، كالمال الغائب أو المدفون في مكان وهو لا يدري ، أو من انتقل إليه مالٌ بإرثٍ وهو لا يعلم ، أو بتجارةٍ من وكيله أو أمينه وهو جاهل بذلك. ففي جميع هذه الموارد بما أنّ المال لم يصل إليه مالكه ولم يكن تحت تصرّفه وسلطانه لا زكاة عليه.

وبالجملة : فالظاهر أنّ الصحيحة ناظرة إلى مثل هذا المال ، وليس موردها مال العبد ، بل مال بيد العبد كما عرفت.

إذن فلا توجب الصحيحة تخصيص العمومات المقتضية لوجوب الزكاة على المولى بوجه.

فعلى هذا القول أعني عدم مالكيّة العبد وإن كان ضعيفاً عندنا وجبت الزكاة على مولاه ، لإطلاق جميع أدلّتها ممّا وردت في النقدين وفي الأنعام والغلّات كما هو ظاهر.

وأمّا على القول بمالكيّة العبد كما هو الصحيح على ما مرّ (٣) فالمعروف

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٩٢ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٤ ح ٤.

(٢) انظر ص ٣٣.

(٣) في ص ٢٠.

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والمشهور : عدم وجوب الزكاة عليه أيضاً ، فإنّ المقتضي وإن كان حينئذٍ موجوداً وهو المالكيّة فلا محذور من هذه الجهة ، إلّا أنّه مقرونٌ بالمانع وهو المملوكيّة فلا تجب على العبد ، كما لا تجب على الصغير والمجنون ، وذلك للأخبار المعتبرة المستفيضة المتضمّنة أنّه : لا زكاة في مال المملوك ولو كان ألف ألف (١).

وقيل بالوجوب ، وقد اعترف في الجواهر بعدم معروفيّة القائل به صريحاً ، غير أنّه يستظهر ذلك من ابن حمزة في الوسيلة (٢) ، حيث إنّه لم يذكر الحرّيّة هنا من الشرائط ، بضميمة ما يظهر منه في باب العتق من أنّ العبد يملك ، فيستظهر من ضمّ هاتين المقدّمتين أنّه يرى وجوب الزكاة على العبد.

وكيفما كان ، فقد نسب المحقّق الهمداني هذا القول إلى العلّامة في المنتهي والمحقّق في النافع وإلى إيضاح النافع ، وأنّهم ذهبوا إلى الوجوب على القول بالملكيّة (٣).

وهذا على تقدير صدق النسبة لم يظهر له وجه صحيح أبداً ، بعد تظافر الأخبار كما عرفت بأنّه ليس في مال المملوك شي‌ء ، فإنّ ظاهر الأخبار عدم تعلّق الزكاة وإن ملك العبد باعتبار إضافة المال إليه ، لا نفي الملكيّة حتى يلتزم بالوجوب على تقدير القول بالملك.

ومقتضى الإطلاق في هذه النصوص : عدم الفرق بين ما إذا كان العبد مأذوناً في التصرّف من قبل المولى أم لا ، بل ربّما يظهر من بعضها زيادةً على الإطلاق نوع ظهور في المأذونيّة.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٩١ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٤.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٣١ ٣٢.

(٣) مصباح الفقيه ١٣ : ٣٧.

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وهي موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم أو أقلّ أو أكثر فيقول : حلّلني من ضربي إيّاك ومن كلّ ما كان منّي إليك وممّا [أخفتك] (١) وأرهبتك ، فيحلّله ويجعله في حلٍّ رغبةً فيما أعطاه ، ثمّ إنّ المولى بعدُ أصاب الدراهم التي كان أعطاه في موضعٍ قد وضعها فيه العبد ، فأخذها المولى ، إحلالٌ هي له؟ قال : «فقال : لا تحلّ له ، لأنّه افتدى بها نفسه من العبد مخافة العقوبة والقصاص يوم القيامة» قال : فقلت له : فعلى العبد أن يزكّيها إذا حال عليه الحول؟ «قال : لا ، إلّا أن يعمل له فيها ولا يعطى العبد من الزكاة شيئاً» (٢).

دلّت على عدم جواز الرجوع في هبته ، لأنّها كانت بإزاء التحليل ، فكانت في حكم الهبة المعوّضة التي لا رجوع فيها ، ومعلومٌ أنّ ما يقع بإزاء التحليل ليس مجرّد الملكيّة ، إذ لا أثر لها ولا ينتفع منها العبد ليحلّل مولاه ، بل ما كانت مقرونة بالمأذونيّة والتسلّط على التصرّف كما لا يخفى.

ولكن المحقّق الأردبيلي والفاضل القطيفي فصّلا في المسألة بين صورتي الإذن وعدمه ، وحملا الروايات على صورة عدم الإذن ، فتجب الزكاة في فرض الإذن وعدم الحجر (٣).

ولا شكّ أنّ هذا التفصيل منافٍ لإطلاق النصوص ، بل ظهور موثّق إسحاق كما عرفت.

فبالنظر إلى الروايات لم يُعرَف وجهٌ لذلك أبداً.

__________________

(١) في المطبوع : افضتك ، وما أثبتناه من الفقيه ٣ : ١٤٦ / ٦٤٤ ، والتهذيب ٨ : ٢٢٥ / ٨٠٨.

(٢) الوسائل ٩ : ٩٢ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٤ ح ٦.

(٣) حكاه عنهما الهمداني في مصباح الفقيه ١٣ : ٣٨.

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا بدّ وأن يكون منشأ التفصيل : محجوريّة العبد عن التصرّف ، التي ترتفع بالإذن ، وسيجي‌ء إن شاء الله اعتبار التمكّن من التصرّف في وجوب الزكاة (١) ، فالعبد المأذون مالكٌ متمكّنٌ من التصرّف في ماله ، فتجب عليه الزكاة كسائر الملّاك ، دون غير المأذون الذي لا سلطنة له على ماله.

فالتفصيل المزبور مبنيٌّ على ذلك مع الغضّ عن الأخبار.

ومع ذلك لا يتمّ ، والوجه فيه : أنّ المنع عن التصرّف المانع عن تعلّق الزكاة إنّما هو فيما إذا كان المنع من جهة قصورٍ في المال لا قصورٍ في ناحية المالك المتصرّف.

فإنّ القصور تارةً : يكون في ناحية المال ، كما لو كان غائباً أو مدفوناً في مكانٍ مجهول ، أو إرثاً لا يدري به الوارث ، أو مسروقاً أو مرهوناً فيما لو تعدّينا عن المنع العقلي إلى الشرعي. ففي جميع هذه الموارد تكون الممنوعيّة العقليّة أو الشرعيّة عن التصرّف مستندة إلى قصورٍ ونقصٍ في ذات المال ، وإلّا فلا قصور في طرف المالك أبداً.

وأُخرى : يكون في ناحية المالك ، كما لو كان سفيهاً ، أو محجوراً عليه ، أو عبداً ، أو صغيراً ، ونحو ذلك. والذي ثبتت مانعيّته عن تعلّق الزكاة إنّما هو الأوّل ، وإلّا فلم يدلّ أيّ دليل على أنّ الحجر من ناحية المالك من حيث إنّه حجرٌ وإنّه ممنوعٌ عن التصرّف ، لا من حيث عنوان آخر ملازم معه كالصغر مانع عن تعلّق الزكاة كما لا يخفى.

فلو فرضنا أنّا لم نعمل بالروايات المتقدّمة كان مقتضى القاعدة على القول بالملكيّة وجوب الزكاة على العبد مطلقاً ، أي سواء كان مأذوناً أم لا ، لأنّ النقص إنّما هو من ناحية المالك ، لأنّه عبدٌ (كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) كما في السفيه ، وقد

__________________

(١) انظر ص ٣٣.

٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

علمت أنّ مثله لا يضرّ بوجوب الزكاة.

فهذا التفصيل لم يُعرَف له أيّ وجهٍ صحيح.

ثمّ إنّا لو بنينا على تماميّة هذه الروايات المتضمّنة : أنّه لا زكاة في مال المملوك ، وهي كثيرة جدّاً تامّة سنداً ودلالةً فلا موجب لرفع اليد عن ظهورها في أنّ العبد مالكٌ حقيقةً وإن كان ممنوعاً عن التصرّف ، لكونه كَلّاً على مولاه لا يقدر على شي‌ء ، فهو ممنوعٌ عن التصرّف في ماله بغير إذن مولاه كما أنّه ممنوعٌ عن التصرّف في نفسه بالتزويج ، فكما أنّه لو تزوّج مع الإذن فهو زوجٌ حقيقةً فكذلك هو مالكٌ لماله حقيقةً وإن كان محجوراً من جهة أنّ الرقّيّة من أسباب الحجر.

وعليه ، فاشتراط الحرّيّة واستثناء العبد عن الملّاك الذين تجب عليهم الزكاة صحيحٌ وفي محلّه.

وأمّا لو فرضنا أنّ العبد لا يملك وأنّ ملكه لمولاه حقيقةً ، فاشتراط الحرّيّة حينئذٍ غير وجيه ، فإنّ الشرط موجودٌ إذ المالك حرّ ، غايته أنّ هذا الملك الذي هو ملك للمولى حقيقةً يضاف إلى العبد بإضافة مجازيّةٍ وبنحوٍ من العناية ، كما يقال : هذا الجُلّ للفرس ، أو هذا الفرش للغرفة الفلانيّة. فلو أُريد نفي الزكاة عن هذا المال لم يحسن التعبير عنه باشتراط الحرّيّة ، بل كان اللّازم أن يُعبّر باشتراط عدم إضافة المال إلى العبد إضافةً مجازيّة ، لرجوع الشرط حينئذٍ إلى المال نفسه دون مالكه ، وأنّ هذه الإضافة التي يتّصف بها المال توجب سقوط الزكاة.

وبعبارةٍ اخرى : أموال المولى على قسمين :

قسم لا يرتبط بالعبد بوجه.

وقسم تحت يده ومضاف إليه عرفاً وملك له مجازاً.

٢٦

من غير فرق بين القنّ ، والمدبّر ، وأُمّ الولد (١) والمكاتب المشروط ، والمطلق الذي لم يؤدّ شيئاً من مال الكتابة. وأمّا المبعّض فيجب عليه إذا بلغ ما يتوزّع على بعضه الحرّ النصاب.

______________________________________________________

فلو كانت النصوص ناظرة إلى نفي الزكاة عن هذا القسم من أموال المولى ، كان اللّازم أن يقال : بأنّ ما يضاف إلى العبد من المال ولو إضافة مجازيّة لا زكاة فيه.

وهذا وإن احتمله بعضهم كما ذكره المحقّق الهمداني (قدس سره) (١) ولكن لا وجه له أبداً ، إذ لا موجب لرفع اليد عن هذه الأخبار الظاهرة في ملكيّة العبد ، ولا سيّما الموثّقة الدالّة على عدم جواز الرجوع فيما وهبه إليه عوض الاستحلال خوفاً من العقاب كما تقدّم (٢).

(١) لإطلاق الأدلّة الشامل لجميع هذه الأقسام ، فإنّ بعضها وإن كان في معرض التحرير كالمدبّر وأُمّ الولد والمكاتب المشروط أو المطلق الذي لم يؤدّ شيئاً من مال الكتابة إلّا أنّه بالفعل عبدٌ محض فيشمله الإطلاق.

إنّما الكلام في المبعّض ، كالمكاتب المطلق الذي أدّى مقداراً من مال الكتابة فتحرّر بعضه وبقي البعض الآخر على الرقّيّة ، فهل تجب عليه الزكاة بمقدار حرّيّته أو تجب في جميع أمواله؟

المعروف والمشهور بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه ـ : أنّه يوزّع المال ، فما يملكه بإزاء الجزء الحرّ تجب فيه الزكاة إذا بلغ النصاب ، دون ما يقع بإزاء الجزء

__________________

(١) مصباح الفقيه ١٣ : ٤١ ٤٢.

(٢) في ص ٢٤.

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الرقّ. وعلّله في الجواهر بوجود المقتضي وهو بلوغ المال حدّ النصاب وعدم المانع (١) ، إذ المانع هي المملوكيّة المنتفية بنسبة هذا المال.

وناقش فيه بعضهم بما يرجع إلى ما ذكره في الحدائق من أنّ الروايات المانعة عن تعلّق الزكاة في مال المملوك منصرفة إلى المملوك التامّ والعبد المحض (٢) ، فالمبعّض الذي هو فرد نادر غير مشمول لتلك الأخبار ، وعليه فمقتضى القاعدة : وجوب الزكاة في تمام ما يملكه ، فلا يتوزّع ولا يختصّ بحصّة الجزء الحرّ ، لعدم دخول المبعّض في دليل الاستثناء بتاتاً.

ولكن الصحيح ما ذكره في الجواهر ، فإنّ مناسبة الحكم والموضوع تدلّنا على أنّ وجوب الزكاة إنّما هو من جهة الحرّيّة وعدم الرقّيّة ، وذلك يقتضي التقسيط والتوزيع في فرض التبعيض بطبيعة الحال كما لا يخفى.

ويؤكّده ما ورد في غير واحدٍ من نصوص باب الحدود والقصاص من التوزيع فيما لو كان الجاني أو المجني عليه مبعّضاً ، فلو زنى المبعّض وُزِّع الجَلد عليه بنسبة الحرّ والعبد ، فلو كان نصفه حرّا ونصفه عبداً يُجلَد بمقدار النصف من كلٍّ من الحدّين (٣).

ولو قتل أحدٌ مكاتباً قد تحرّر نصفه مثلاً يؤخذ منه نصف دية الحرّ ونصف دية العبد (٤).

إلى غير ذلك من سائر الأحكام المذكورة في الموارد المتفرّقة من البابين المزبورين ، التي هي كثيرة جدّاً ، ومذكورة في غير واحد من الأخبار ، بحيث

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣٤.

(٢) الحدائق ١٢ : ٢٩.

(٣) الوسائل ٢٨ : ١٣٦ / أبواب حدّ الزنا ب ٣٣.

(٤) الوسائل ٢٩ : ٢١٣ / أبواب ديات النفس ب ١٠.

٢٨

الرابع : أن يكون مالكاً (١) ، فلا تجب قبل تحقّق الملكيّة ، كالموهوب

______________________________________________________

يظهر منها المفروغيّة عن التوزيع ، الذي هو الصحيح الموافق للمتفاهم العرفي بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع حسبما عرفت.

(١) ذكر (قدس سره) أنّ من جملة الشرائط : الملكيّة ، فلا زكاة على غير المالك ، ورتّب عليه أنّ القبض لو كان دخيلاً في الملكيّة كما في الهبة فما لم يقبض لا زكاة عليه ، لعدم تحقّق الملك ، ولذا لو مات الواهب قبل القبض انتقل إلى وارثه دون الموهوب له ، فلا تجب الزكاة عليه ، بل تجب على الواهب إن كان واجداً للشرائط ، وإلّا فلا تجب عليهما ، كما لو فرضنا أنّ شخصين ملك كلٌّ منهما كمّيّة من الدينار غير بالغة حدّ النصاب ، فوهباه من زيد ، ولم يقبض ، فإنّه لا تجب الزكاة على الموهوب له ، لعدم القبض ، ولا على الواهبين ، لعدم بلوغ حصّة كلّ منهما النصاب على الفرض ، وستعرف أنّ النصاب يعتبر أن يكون في ملك مالك واحد (١).

وهذا الذي ذكره (قدس سره) ممّا لا ينبغي الشكّ فيه ، بل لا إشكال فيه ولا خلاف ، كما عن غير واحد.

وتدلّ عليه قبل التسالم والنصوص المتظافرة ظاهر الآية المباركة ، قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (٢) دلّت على أنّ موضوع الزكاة إنّما هو أموال الناس ، فمن كان ذا مالٍ تتعلّق به الزكاة ، وغير المالك غير مأمور بشي‌ء ، فالأمر مشروطٌ بالملكيّة ، ولا زكاة في غير المملوك. وهذا يُتصوّر على أقسام :

إذ تارةً : لا يكون الشي‌ء ملكاً لأحد ، كما في المباحات الأصليّة.

__________________

(١) في ص ١٧٥ ١٧٧.

(٢) التوبة ٩ : ١٠٣.

٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأُخرى : مملوك لكن لا لشخص خاصّ ، وإنّما هو ملك للجهة ، كما في نماء الوقف ، كالبستان الموقوف للمسجد أو لتعزية الحسين (عليه السلام) ، أو للعنوان والجهات العامّة ، كالفقراء والعلماء ، ونحو ذلك من المصارف المشروعة. فلو بلغ حاصلها حدّ النصاب لا تجب الزكاة فيه ، فإنّ الوقف وإن كان تمليكاً على ما هو المعروف ولكنّه مملوك للجهة أو للعنوان لا لشخص معيّن ليؤمر بالزكاة على ما تقتضيه الآية (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ، الظاهرة في كون الشي‌ء ملكاً لمالكٍ مشخّصٍ معيّن ، بمقتضى مقابلة الجمع بالجمع كما لا يخفى.

وعلى الجملة : فمثل هذه الأوقاف التي هي وقف على الجهات العامّة بنحو الصرف أو ملكيّة العنوان لا زكاة فيها إذا لم يقبضها شخصٌ معيّن.

نعم ، بعد القبض وحصول الملكيّة للشخص على القول بأنّ الوقف تمليك وجبت الزكاة حينئذ.

وتؤكّد الآية عدّة من الأخبار المتضمّنة أنّه : لا زكاة إلّا على صاحب المال (١) ، الظاهر في الصاحب المعيّن المتشخّص خارجاً.

ومن هذا القبيل : باب الوصيّة فيما إذا أوصى أن يُصرَف نماء هذه النخيل مثلاً في جهة خاصّة ، فإنّ الصحيح في باب الوصيّة أنّ المال الموصى به قبل أن يُصرَف في مصرفه باقٍ على ملك الميّت ، وأنّه مالكٌ لثلث ماله والباقي للوارث ، ولا مانع من اعتبار الملكيّة حال الممات كالحياة .. كما لا يخفى ، ولكن بما أنّ الميّت لا يخاطَب ولا يكلّف بشي‌ء فلأجله لا تتعلّق به الزكاة ، ضرورة أنّ الحياة من الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل.

فتحصّل : أنّه يُعتبَر في الزكاة أن يكون مملوكاً ، فلا زكاة على المباحات. وأن يكون مملوكاً لشخص ، فلا زكاة على ما هو مملوك للعنوان ، كالأوقاف.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ١٠٣ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٩.

٣٠

قبل القبض ، والموصى به قبل القبول (*) (١) أو قبل القبض. وكذا في القرض لا تجب إلّا بعد القبض.

______________________________________________________

وأن يكون الشخص حيّاً ، فلا زكاة على الميّت كما في الوصيّة ، لا لعدم الملكيّة ، بل لعدم قابليّة المالك لتعلّق الأمر به حسبما عرفت.

(١) وممّا فرّع (قدس سره) على اعتبار الملكيّة : عدم تعلّق الزكاة بالموصى به قبل قبول الوصي ، فلو أوصى أن يكون نماء البستان لزيد ، فمات ، وبعده خرج النماء ولم يقبل زيد ، لا زكاة عليه ، لعدم دخوله في ملكه قبل قبوله ، وقد عرفت عدم وجوب الزكاة على الميّت ، فهذا المال ممّا لم تتعلّق به الزكاة أصلاً.

وما ذكره (قدس سره) وجيه ، بناءً على اعتبار القبول في الوصيّة ، ولم ترد فيه أيّة رواية ولو ضعيفة ، وإنّما ادُّعي عليه الإجماع وبعض الوجوه الاعتباريّة غير القابلة للاعتماد ، مثل : أنّه كيف يملك من غير رضاه مع أنّ الناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم ، والتملّك من غير القبول منافٍ للسلطنة على النفس ، وهو كما ترى ، لوضوح عدم التنافي بين السلطنة والملكيّة غير الاختياريّة كما في الإرث ونحوه.

والحاصل : أنّه لا دليل على اعتبار القبول في نفوذ الوصيّة بوجه ، غايته أنّ الموصَى له له حقّ الردّ ، كي لا ينافي السلطنة ، وهذا أمر آخر لا نضايق عن الالتزام به ، فالاشتراط بعدم الردّ شي‌ء ، والاشتراط بالقبول شي‌ء آخر ، والذي ثبت إنّما هو الأوّل دون الثاني ، فهو مالك ما لم يردّ ، ومعه ينكشف عدم الملكيّة من الأوّل كما لا يخفى.

__________________

(*) لا يبعد عدم توقّف حصول الملكيّة في الوصيّة على القبول ، وأمّا توقّفه على القبض فمقطوع العدم ، ولعلّ ذكره من سهو القلم.

٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه ، فلا يترتّب ما ذكره (قدس سره) على هذا الاشتراط ، بل تجب الزكاة قبل القبول ، لحصول الملك.

وممّا يؤكّد عدم احتياج الوصيّة إلى القبول ما دلّ من الروايات على أنّ الموصى له إذا مات قبل القبول أو قبل أن يعلم يُعطَى لورثته (١) ، فإنّ هذا لو كان حكماً تعبّديّاً في مورده لم يكن به بأس ، ولكن بناءً على عدم اشتراط القبول فهو حكمٌ على القاعدة ، لأنّه ملكٌ للموصى له فينتقل إلى وارثه.

وكيفما كان ، فما ذكره (قدس سره) مبنيٌّ على اعتبار القبول ، وهو غير تامّ (٢) ، وتمام الكلام في محلّه.

وأمّا ما ذكره (قدس سره) من اعتبار القبض في الملكيّة في باب الوصيّة ولأجله حكم (قدس سره) بعدم الزكاة قبل القبض فهو باطل ، بل وغير محتمل قطعاً ، لعدم اعتبار القبض في هذا الباب بلا شبهة ولا إشكال ، ولا قائل به معروف ، بل ولا غير معروف.

نعم ، نسب ذلك إلى بعض كلمات الشيخ ، ولم تثبت النسبة ، ولا دليل عليه بوجه ، فلو قلنا باعتبار القبول لا نقول باعتبار القبض بتاتاً.

والظاهر أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ هذه الجملة أعني قوله : أو قبل القبض سهوٌ من قلمه الشريف أو من النسّاخ.

نعم ، هو معتبر في القرض كما ذكره (قدس سره) بعد ذلك ، فلا يملك المقترض ما لم يقبض ، ولا زكاة عليه وإن بقي سنة ، لعدم حصول الملك ، وتفصيل الكلام موكولٌ إلى محلّه.

__________________

(١) لاحظ الوسائل ١٩ : ٣٣٣ / كتاب الوصايا ب ٣٠.

(٢) بل ومنافٍ لما بنى (قدس سره) عليه في كتاب الوصيّة ، من عدم اعتبار القبول في الوصيّة التمليكيّة.

٣٢

الخامس : تمام التمكّن من التصرّف ، فلا تجب في المال الذي لا يتمكّن المالك من التصرّف فيه (١) ، بأن كان غائباً ولم يكن في يده ولا في يد وكيله ، ولا في المسروق ، والمحجور ، والمدفون في مكان منسي ، ولا في المرهون ، ولا في الموقوف ، ولا في المنذور التصدّق به (*).

______________________________________________________

(١) رتّب (قدس سره) على هذا الاشتراط عدم وجوب الزكاة في موارد سبعة :

أربعة منها يجمعها عدم التمكّن من التصرّفات التكوينيّة الخارجيّة ، وهو المال الغائب بحيث لا يكون في يده ولا في يد وكيله ، والمسروق ، والمدفون في مكان منسي ، والمحجور إمّا غصباً أو اشتباهاً.

ففي هذه الموارد لا يتمكّن المالك من التصرّفات الخارجيّة ، لخروج الملك عن تحت يده وسيطرته ، وإن كان متمكّناً من التصرّفات الاعتباريّة ، من هبةٍ أو صلحٍ أو بيعٍ ممّن يتمكّن من تسلّمه.

وثلاثة منها يجمعها عدم التمكّن من التصرّف الاعتباري شرعاً وإن تمكّن خارجاً ، وهي : العين الموقوفة ، والمرهونة ، والمنذور بها التصدّق.

فإنّ الوقف ملكٌ للطبقة الحاضرة ، فلهم التصرّف فيه تكويناً ، ولكنّه ملك غير طلق ، فلا يجوز لهم التصرّف الاعتباري من بيعٍ أو هبةٍ ونحو ذلك من التصرّفات الناقلة.

وكذلك العين المرهونة ، فإنّه ربّما يتمكّن الراهن من التصرّف الخارجي كما

__________________

(*) لا يبعد ثبوت الزكاة فيه ، فإنّ وجوب الوفاء بالنذر حكمٌ تكليفي ، وهو لا يمنع من التمكّن من التصرّف المعتبر في وجوب الزكاة.

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لو جعلها المرتهن بعد قبضها عند الراهن لكنّه ممنوعٌ عن التصرّف شرعاً ببيعٍ ونحوه.

وهكذا الحال في منذور التصدّق من النقدين أو الأنعام ونحو ذلك ، فلو نذر أثناء الحول أن يتصدّق بها على الفقراء أو على جهة خاصّة ، فقد سُلِبت قدرته الشرعيّة على التصرّفات الاعتباريّة دون الخارجيّة ، وبذلك ينقطع الحول وتسقط عنه الزكاة في هذه الموارد بأجمعها ، لعدم كون المالك تامّ التصرّف فيها إمّا تكويناً أو تشريعاً حسبما عرفت.

والذي ينبغي أن يقال في المقام بعد أن كانت كلماتهم مختلفة في بيان هذا الشرط جدّاً ، فهذا المحقّق في الشرائع يذكر اعتبار الملكيّة أوّلاً ثمّ تمام الملك ثمّ جواز التصرّف أي التمكّن منه (١) ، وغيره يذكر غير ذلك كما لا يخفى على المتتبّع ـ :

إنّ المتّبع هو الروايات الواردة في المقام ، فقد ورد في عدّة من الأخبار عدم الزكاة في مالٍ لم يصل إلى صاحبه ، أو الذي دفنه في مكانٍ لا يعلم به ، أو أنّه لا زكاة في مالٍ حتى يكون عنده ، ونحو ذلك من التعابير.

منها : معتبرة سدير الصيرفي ، قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ما تقول في رجلٍ كان له مالٌ فانطلق به فدفنه في موضع ، فلمّا حال عليه الحول ذهب ليخرجه من موضعه فاحتفر الموضع الذي ظنّ أنّ المال فيه مدفون فلم يصبه ، فمكث بعد ذلك ثلاث سنين ، ثمّ إنّه احتفر الموضع الذي من جوانبه كلّها فوقع على المال بعينه ، كيف يزكّيه؟ «قال : يزكّيه لسنة واحدة ، لأنّه كان غائباً عنه وإن كان احتبسه» (٢).

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٦٦ ١٦٧.

(٢) الوسائل ٩ : ٩٣ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٥ ح ١ ، الكافي ٣ : ٥١٩ / ١.

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

قوله : «وإن كان احتسبه» كما في الوسائل والكافي أي وإن كان هو المتصدّي لحبس المال ودفنه. وذكر المحقّق الهمداني : أنّ النسخ مختلفة ، وفي بعضها «احتسب» أي وإن كان المالك حسب المدفون من أمواله. وكيفما كان فلا دخل لهذه الجملة فيما نحن بصدده.

وقد دلّت على أنّ المال الذي لا يتمكّن صاحبه من التصرّف فيه خارجاً لعدم السلطة عليه تكويناً وإن تمكّن من التصرّف اعتباراً من بيع أو جعله مهراً ونحو ذلك لا زكاة فيه.

وموثّقة إسحاق بن عمّار : عن الرجل يكون له الولد ، فيغيب بعض ولده فلا يدري أين هو ، ومات الرجل ، كيف يصنع بميراث الغائب من أبيه؟ «قال : يعزل حتى يجي‌ء» ، قلت : فعلى ماله زكاة؟ «قال : لا حتى يجي‌ء» ، قلت : فإذا هو جاء أيزكّيه؟ «فقال : لا ، حتى يحول عليه الحول في يده» (١).

فإنّ من المعلوم أنّ المراد باليد ليس هو العضو والجارحة الخاصّة ، بل المراد ما هو المتعارف من استعمالها ، أي يكون تحت استيلائه وسلطانه ، بحيث يتمكّن من التصرّف التكويني خارجاً.

وموثّقته الأُخرى وإن اشتمل سندها على إسماعيل بن مرار ، لكنّه مذكور في أسناد تفسير عليّ بن إبراهيم ـ : عن رجلٍ ورث مالاً والرجل غائب ، هل عليه زكاة؟ «قال : لا ، حتى يقدم» ، قلت : أيزكّيه حين يقدم؟ «قال : لا ، حتى يحول عليه الحول وهو عنده» (٢).

فإنّ قوله (عليه السلام) : «وهو عنده» عبارة أُخرى عن كونه تحت تصرّفه لا مجرّد كونه عنده ولو اغتصبه ظالم وجعله وديعة عند مالكه.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٩٣ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ٩ : ٩٤ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٥ ح ٣.

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وصحيحة عبد الله بن سنان : «لا صدقة على الدين ولا على المال الغائب عنك حتى يقع في يديك» (١).

وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود : الرجل يكون له الوديعة والدين فلا يصل إليهما ثمّ يأخذهما ، متى تجب عليه الزكاة؟ «قال : إذا أخذهما ثمّ يحول عليه الحول يزكّي» (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار كما لا يخفى على المراجع.

وهذه النصوص كما ترى تدلّنا بأجمعها على أنّ المعتبر في تعلّق الزكاة : الاستيلاء الخارجي على العين الزكويّة ، بإتلافٍ أو أكلٍ أو نقلٍ إلى مكان آخر ونحو ذلك من التصرّفات التكوينيّة ، بحيث تكون تحت يده وسلطته.

وأمّا التمكّن من التصرّفات الشرعيّة الاعتباريّة مثل : البيع أو الهبة أو الصلح ونحو ذلك فهي أجنبيّة عن التعرّض لذلك رأساً ، ولا دلالة في شي‌ء من هذه الأخبار على اعتبار التمكّن من ذلك أو عدم اعتباره في تعلّق الزكاة بتاتاً.

وبذلك يندفع الإشكال المعروف من أنّه إن أُريد التمكّن من جميع التصرّفات فهذا غير متحقّق في كثير من موارد تعلّق الزكاة ، ولا إشكال في عدم اعتباره فيها ، فلو اشترى مقداراً من الأنعام واشترط البائع أن لا يهبها أو لا يبيعها أو لا يؤجرها من زيد سنة واحدة ، لا يمنع ذلك عن تعلّق الزكاة قطعاً.

وإن أُريد التمكّن من التصرّف ولو في الجملة ، فهذا متحقّق في كثير من الموارد المتقدّمة ، من المسروق أو المحجور أو الغائب ونحو ذلك ، بأن يهبه أو يبيعه من

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٩٥ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٥ ح ٦.

(٢) الوسائل ٩ : ٩٥ / أبواب من تجب عليه الزكاة ب ٦ ح ١.

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

السارق أو من غيره المتمكّن من تسلّمه كابنه مثلاً أو يبيع المال الغائب أو المحجور من شخصٍ آخر.

وجه الاندفاع : ما عرفت من أنّ هذه الأخبار بأسرها ناظرة إلى التصرّفات الخارجيّة والتمكّن من القلب والتقليب التكويني في قبال المال الغائب مثلاً الذي لا يتيسّر فيه ذلك ، ولا نظر فيها بوجهٍ إلى التصرّفات الاعتباريّة حتى يقال : إنّ الاعتبار بجميع تلك التصرّفات أو بعضها. فلا يرد شي‌ء من الإشكالين المبنيّين على توهّم شمول الأخبار للتصرّف الاعتباري.

ودعوى : أنّ الممنوع الشرعي ملحق بالممتنع العقلي.

مدفوعةٌ بعدم الدليل على هذا الإلحاق على سبيل الإطلاق.

نعم ، ثبت ذلك في باب التكاليف بحكومة العقل ، فكما لا يمكن التكليف بغير المقدور عقلاً فكذا لا يمكن الأمر بما هو ممنوع شرعاً ، إذ لا يعقل البعث نحو الحرام ، فالممنوع شرعاً كالممنوع عقلاً من هذه الجهة ، وأمّا لو جُعِلَ المنع العقلي في موردٍ موضوعاً لحكم شرعي كما في المقام فلا دليل على إلحاق المنع الشرعي به في موضوعيّته للحكم أو كونه شرطاً فيه كما لا يخفى.

والمتحصّل من جميع ما سردناه لحدّ الآن : أنّ هذا الاشتراط تامٌّ في الأربعة المذكورة أوّلاً أعني موارد العجز التكويني فلا تجب الزكاة فيها لأجل هذه الأخبار.

وأمّا الثلاثة الأُخر التي يجمعها العجز التشريعي والممنوعيّة عن التصرّف الاعتباري فلا بدّ من التعرّض لكلّ واحدٍ منها بحياله بعد عدم اندراجها تحت هذه الأخبار كما عرفت ، فنقول :

أمّا الوقف : فلا تجب الزكاة فيه ، لا لعدم التمكّن من التصرّف ، بل لقصور الملك من الأوّل ، فإنّ الوقف وإن تضمّن التمليك على الصحيح إلّا أنّه نوع ملكيّة

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

محدودة مقصورة من جهة الانتفاع فقط ، وليس للموقوف عليه السلطنة على العين من حث البيع أو الهبة أو الرهن ونحو ذلك ممّا يتمتّع الملّاك من أملاكهم ، فإنّه على ما قيل في تعريفه : تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. فمفهوم الوقف متقوّم بالبقاء والسكون وعدم الحركة ، كأنه واقفٌ في مكانه في عالم الاعتبار.

ولا شكّ أنّ أدلّة الزكاة منصرفة عن مثل هذه الملكيّة ، فإنّ الأمر بالأخذ في مثل قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (١) ظاهرٌ في اختصاصه بموردٍ يتمكّن المالك من إعطاء العين عن رضى ورغبة دون ما لا يتمكّن من إعطائها كالوقف فإنّه منصرفٌ عن مثل ذلك جزماً.

ولو لم يكن بعض عبارات المحقّق (٢) لأمكن أن يقال : إنّه يريد بقوله : تمام الملك ، في قبال هذه الموارد التي يكون الملك فيها ناقصاً وقاصراً.

وهذا كما ترى أجنبي عن عدم التمكّن من التصرّف ، للتمكّن من التصرّف في الوقف بما لا ينافيه ، غير أنّ الملكيّة في حدّ ذاتها قاصرة من الأوّل كما عرفت ، لعدم كونه من الأموال التي يتمكّن المالك من أن يعطيها باختياره وطوعه ورغبته ، فهناك قصور في المالكيّة ذاتاً لا تشريعاً ، إذ لا يترتّب عليها إلّا الانتفاع بالمنافع فحسب حسبما عرفت ، فيصحّ أن يقال : إنّ من شرائط الزكاة : الملك ، وأن يكون تامّاً لا قاصراً كما في الوقف ، نظراً إلى أنّ المالك لا يتمتّع إلّا بالنماء دون العين ، فإنّها ساكنة غير متحرّكة ، فكانت الملكيّة قاصرة ، وأدلّة الزكاة عن مثله منصرفة.

وأمّا الرهن : فالمشهور شهرة عظيمة عدم الزكاة فيه ، ونُسِبَ الخلاف إلى

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٠٣.

(٢) المتقدمة في ص ٣٤.

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الشيخ في بعض كلماته (١) ، وإن وافق المشهور في بعضها الآخر.

ونُسِبَ إلى الشهيد التفصيل : بين ما إذا كان الراهن متمكّناً من فكّ الرهن فتجب الزكاة ، وإلّا فلا (٢).

وكأنّ هذا التفصيل مبنيٌّ على ما قدّمناه من اعتبار الاستيلاء الخارجي (٣) ، إذ عليه لو لم يتمكّن من الفكّ لم يكن مستولياً على المال ، ومع التمكّن مستولٍ ، للقدرة على المقدّمة.

ولكن الظاهر عدم الزكاة مطلقاً ، لا لأجل تلك الأخبار لقصورها كما عرفت بل لأنّ موضوع الزكاة الملك التامّ كما مرّ (٤) ، والعين المرهونة بما أنّها متعلّق لحقّ المرتهن وله الاستيفاء منها وكانت وثيقة عنده فلا جرم كانت الملكيّة قاصرة ، ومجرّد القدرة على الفكّ لا يجعل الملك الفعلي طلقاً.

فكما أنّ أدلّة الزكاة منصرفة عن الوقف كذلك منصرفة عن الرهن بمناطٍ واحد ، إذ ليس للمالك بما هو مالك أن يتصرّف فيه كيفما يشاء ، فالملكيّة في نفسها قاصرة وضعاً لا أنّه مجرّد منعٍ تكليفاً.

وأمّا منذور التصدّق : فالمشهور بل المنسوب إلى الأصحاب أنّ نذر الصدقة نذراً مطلقاً غير موقّت ولا معلّق على شرط يمنع عن الزكاة.

قال في الشرائع : إنّه لو نذر في أثناء الحول الصدقة بعين النصاب انقطع الحول ، معلّلاً بأنّه متعيّن للصدقة بموجب النذر (٥).

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٥٤ ٥٥.

(٢) الدروس ١ : ٢٢٠.

(٣) راجع ص ٣٦.

(٤) في ص ٣٤.

(٥) الشرائع ١ : ١٦٧.

٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فوجوب الوفاء بالنذر يمنع عن كلّ تصرّف ينافيه ، فيوجب ذلك قصور الملك وعدم تماميّته ، فلا تشمله أدلّة الزكاة كما نصّ عليه في الجواهر بعد أن صرّح بعدم وجدان الخلاف في المسألة (١).

وتبعه المحقّق الهمداني (قدس سره) ، قال : بلا خلافٍ فيه ولا إشكال (٢).

أقول : دعوى عدم الخلاف مشكلة ، بل في غير محلّها ، فإنّ المسألة غير معنونة في كلمات القدماء من الأصحاب ، ولم يتعرّض إليها أحدٌ فيما نعلم بعد مراجعة الجوامع الفقهيّة ، عدا ما نسبه في مفتاح الكرامة (٣) إلى جماعةٍ معلومين أوّلهم الشيخ في المبسوط وبعده جماعة منهم المحقّق في الشرائع كما سمعت ، وإلّا فكلمات الأكثرين خالية عن التعرّض لهذا الشرط ، حتى أنّ صاحب الحدائق الذي دأبه التعرّض لفروع كثيرة أهمل هذه المسألة ولم يتعرّض لنذر الصدقة.

نعم ، الذي تعرّضوا له وممّا لا خلاف فيه هو اعتبار التمكّن الخارجي ، فلا زكاة في المال الغائب أو المسروق أو المدفون ، فإنّ هذا مذكورٌ في كلماتهم.

وأمّا التمكّن الاعتباري ببيعٍ وهبةٍ ونحو ذلك بحيث لا يشمل ما وجب التصدّق به كما في المقام فلم يعلم أنّ اعتباره متسالمٌ عليه بينهم ، بل مقتضى إطلاق كلامهم عند بيان شرائط الزكاة وعدم التعرّض لذلك هو عدم الاعتبار ، فلا ينقطع الحول بفقده.

وكيفما كان ، فلم يثبت أنّ المسألة ممّا لا خلاف فيها ، إذ كيف يمكن كشف عدم الخلاف في مسألةٍ لم يتعرّض لها الأصحاب؟!

__________________

(١) الجواهر ١٥ : ٤٢ ٤٣.

(٢) مصباح الفقيه ١٣ : ٥٥.

(٣) مفتاح الكرامة ٣ : ٢٢.

٤٠