موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

.................................................................................................

______________________________________________________

الأحكام (١)؟!

أضف إلى ذلك كلّه : قيام سيرة المسلمين قاطبةً خَلَفاً عن سلف على عدم مؤاخذة الكفّار حتى الذمّي منهم بشي‌ءٍ من الأحكام ، فلا يؤمَرون بالصلاة ولا بالصيام ولا بالحجّ ، كما لا يُنهَون عن شرب الخمر أو القمار أو الإفطار في شهر رمضان ، ولا تجري عليهم الحدود إلّا فيما دلّ عليه دليلٌ بالخصوص ، مع أنّهم لو كانوا مكلّفين بالفروع لوجب ذلك ولو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فالحقّ : أنّ الكفّار غير مكلّفين إلّا بالأُصول ، ولم يوضع عليهم قلم التكليف بالفروع التي منها الزكاة إلّا بعد اعتناق الإسلام ، فيؤمَرون عندئذٍ بسائر الأحكام ، وأمّا قبل ذلك فهم يقرّون على أديانهم ومذهبهم.

نعم ، لا يسوغ لهم الإجهار بالمنكرات في بلد المسلمين كشرب الخمر علناً ونحو ذلك ، ويُردعون عن ارتكابها ، حفظاً لشعائر الإسلام. وهذا مطلبٌ آخر غير مرتبط بمحل الكلام.

ولم يُنقَل في تأريخٍ أو روايةٍ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أو أحد المعصومين

__________________

(١) هكذا ذكره في الحدائق [٣ : ٤٠] أيضاً ، بزيادة توصيف الأحكام بأنّها متلقّاة من الإمام (عليه السلام).

ولكنّه يمكن إبداء الفارق بأنّ الإذعان بالولاية بمعناها الخاصّ متقوّم في جوهر ذاته بالإذعان بالرسالة ، فإنّ معرفة الإمام بوصفه العنواني تتوقّف في تكوينها الخارجي على معرفة الإسلام كما أُشير إلى ذلك في نفس الصحيحة ، وليس كذلك سائر الأحكام ، فلا تقاس بقيّة الفروع بمثل هذا الفرع الذي يعدّ من العقائد ومن أُصول المذهب ، وأمّا التلقّي من الإمام فلا يطّرد في جميع الفروع ، فلاحظ.

١٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

(عليهم السلام) المبسوطة أيديهم جبايةُ الزكوات من الكفّار ومطالبتهم إيّاها ، ولو كان لبان ونُقِل إلينا بطبيعة الحال ، بل كانوا يقرّون على مذاهبهم كما يقرّون على سائر أموالهم وإن لم يكن مالاً بنظر الإسلام ، كثمن الخمر والخنزير ، وما يكسبون من الربا والقمار ، وما يرثونه على خلاف قانون الإسلام ممّا يثبت في أديانهم ، ونحو ذلك ممّا لا يخفى.

وأمّا الاستدلال على تعلّق الزكاة بهم برواية صفوان وابن أبي نصر ، قالا : ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته «فقال : من أسلم طوعاً تُرِكت أرضه في يده إلى أن قال : وما أُخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بخيبر ، وعلى المتقبّلين سوى قبالة الأرض العُشر ونصف العشر في حصصهم» (١) ، حيث إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وضع على المتقبّلين من يهود خيبر سوى الخراج العُشر ونصفه الذي هو الزكاة.

فيرده أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة السند بعليّ بن أحمد بن أشيم ، فإنّه لم يوثّق ولم يُمدَح (٢).

وثانياً : أنّه لم يظهر منها كفر المتقبّل ، ولعلّ القبالة كانت مع من أسلم منهم ، فإنّها مجملة من هذه الناحية كما لا يخفى.

وثالثاً : سلّمنا كون الطرف كافراً ، ولكن مفادها وجوب العشر عليهم بمقتضى الشرط في ضمن العقد الواقع على قبالة الأرض ، وهو أجنبي عن تعلّق الزكاة

__________________

(١) الوسائل ٩ : ١٨٨ / أبواب زكاة الغلّات ب ٧ ح ٢.

(٢) نعم ، ولكنّه من رجال كامل الزيارات ، على أنّها رُويت بسندٍ آخر صحيح ، لاحظ الوسائل ١٥ : ١٥٨ / أبواب جهاد العدو ب ٧٢ ح ٢.

١٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عليهم ابتداءً الذي هو محلّ الكلام ، فلا مساس لها بتكليف الكفّار بالفروع بوجه.

هذا كلّه ، مع أنّ في إمكان توجيه الخطاب بوجوب الزكاة نحو الكافر إشكالاً جيّداً جدّاً قد تقدّم التعرّض لنظيره من صاحب المدارك في مبحث قضاء الصلوات (١) ولعلّه أوّل من تنبّه إليه.

وملخّصه : أنّ تكليف الكافر بالأداء في الوقت ممكنٌ بأن يختار الإسلام فيصلّي أداءً ، وأمّا تكليفه بالقضاء فمتعذّر ، لعدم التمكّن من امتثاله لا في حال الكفر لعدم صحّته منه بعد فقد شرط الطهارة وعدم قصد القربة ، مضافاً إلى اشتراط العبادة بالولاية فضلاً عن الإسلام ولا في حال الإسلام ، لسقوطه عنه عندئذٍ بمقتضى حديث الجبّ (٢) ، فالتكليف غير قابل للامتثال في كلتا الحالتين ، ومعه كيف يصحّ تعلّقه به؟! وعلى ضوء ذلك يناقش في المقام : بأنّه إن أُريد من تكليف الكافر بالزكاة وجوب أدائها حال الكفر فهو تكليفٌ بما لا يصحّ ، لما عرفت من اشتراط صحّة العبادة بالولاية فضلاً عن الإسلام. وإن أُريد بعد الإسلام فهو منافٍ لحديث جبّ الإسلام لما قبله. وهذا الإشكال حسنٌ لا مدفع عنه.

أجل قد يجاب عنه :

تارةً : بأنّه كان متمكّناً من القضاء باختيار الإسلام في الوقت فيصلي أداءً وإن فاته فقضاءً ، كما كان متمكّناً من الزكاة بإسلامه قبل أوان تعلّق الزكاة ، وقد فوّت على نفسه هذا التكليف بسوء الاختيار المستند إلى عدم قبول الإسلام ،

__________________

(١) المدارك ٤ : ٢٩٢ ، ٥ : ٤٢.

(٢) مستدرك الوسائل ٧ : ٤٤٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٥ ح ٢.

١٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ومن الواضح أنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإن نافاه خطاباً ، فالتكليف وإن كان ساقطاً بمناط امتناع خطاب العاجز إلّا أنّ الملاك الفعلي الملزم موجود ، وتفويته مستوجب للعقاب بحكومة العقل ، ولأجله لا مانع من تعلّق الزكاة كالقضاء بالكافر كالمسلم بمناطٍ واحد.

ويندفع : بأنّ هذا وإن كان ممكناً ثبوتاً إلّا أنّه عارٍ عن الدليل في مرحلة الإثبات ، إذ لا طريق لنا إلى استعلام ملاكات الأحكام من غير ناحية الأوامر أنفسها ، والمفروض امتناع تعلّق الأمر في المقام ، لعدم قبوله للامتثال في حالٍ من الحالات كما عرفت ، ومعه كيف يستكشف تحقّق المناط والملاك ليكون تفويته المستند إلى سوء الاختيار مستوجباً للعقاب؟! وهل يمكن دلالة قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (١) ولو مع الغضّ عن ذيلها على ثبوت الأمر بالزكاة الذي هو أمرٌ مستحيل كما عرفت؟!

وأُخرى : بأنّ دليل التكليف بالزكاة وإن كان قاصر الشمول بالإضافة إلى الكافر كما ذكر ، إلّا أنّ أدلّة الوضع التي مرجعها إلى شركة الفقراء معه في المال غير قاصر الشمول له ، لعرائه عن أيّ محذور ، ونتيجته جواز انتزاع المال منه قهراً أو اختياراً.

ويندفع أيضاً : بما مرّ مراراً من عدم الإطلاق في هذه الأدلّة ، لعدم كونها في مقام البيان إلّا من ناحية المقدار بعد الفراغ عن أصل تعلّق الزكاة وأنّها في أيّ مورد ثبتت فمقدارها هكذا ، وأمّا أنّها في أيّ مورد تثبت وتجب وفي أيّ مورد لا تجب فليست في مقام البيان من هذه الناحية أبداً ليُتمسّك بإطلاقها ويُدّعى شمولها للكافر.

__________________

(١) فصّلت ٤١ : ٦ ، ٧.

١٢٤

نعم ، للإمام (عليه السلام) أو نائبه أخذها منه قهراً (١) ، ولو كان قد أتلفها فله أخذ عوضها منه.

______________________________________________________

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّه لا دليل على تكليف الكفّار بالزكاة ولا بغيرها من سائر الأحكام المختصّة بالإسلام وأنّها إنّما تتعلّق بالمسلمين خاصّة.

وأمّا الكفّار حتى الذمّي منهم فلم يكلّفوا إلّا بالأُصول ، إلّا إذا اشتُرِطت عليهم الزكاة كما احتملناه في الرواية المتقدّمة الواردة في قبالة خيبر (١).

نعم ، لا يجوز للذمّي الإجهار بالمنكرات ونحو ذلك ممّا يخالف شرائط الذمّة ، وهو أجنبي عمّا نحن بصدده كما هو ظاهر.

(١) قد عرفت أنّ الأقوى عدم وجوب الزكاة على الكافر ، وأمّا لو بنينا على الوجوب لتكليفه بالفروع كالأُصول كما عليه المشهور فقد ذكر الماتن تبعاً لجماعة من الأصحاب ، أنّ للإمام (عليه السلام) أو نائبه أخذها قهراً ، فتبرأ بذلك ذمّة الكافر بطبيعة الحال ، لانتفاء الموضوع.

وقد يناقَش فيه :

تارةً : بأنّ الزكاة عبادةٌ تفتقر إلى قصد التقرّب المتعذّر من الكافر ، فكيف يسوغ أخذها قهراً ممّن لا تصحّ عبادته؟! والجواب : إنّ تعذّر رعاية العباديّة لا تسوّغ إهمال حقوق الفقراء وعدم استنقاذها من الممتنع بعد أن كان الحاكم الشرعي وليّاً عليهم في استيفاء أموالهم ، كما هو الحال في المسلم الممتنع.

__________________

(١) راجع ص ١٢٢.

١٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارةٍ اخرى : إنّ في الزكاة حيثيّتين ، حيثيّة الصدور عبادةً ، وحيثية الوصول إلى المستحقّ ، فإن أمكن الجمع وإلّا فامتناع الأوّل لا يسوّغ إهمال الثاني ممّن وظيفته التصدّي لحقوق الفقراء واستنقاذها من أيدي الممتنعين من غير فرق بين الكافر والمسلم. ونتيجة ذلك براءة ذمّة الممتنع ، لزوال الموضوع بطبيعة الحال.

وأُخرى : بأنّ الزكاة تتعلّق بالعين ، على الخلاف في كيفيّة التعلّق من الإشاعة أو الكلّي في المعيّن أو الشركة في الماليّة ، وعلى أيّ تقدير فاختيار التطبيق والتعيين في المدفوع بيد صاحب المال دون غيره ، فكيف يعيّنه الحاكم الشرعي فيما يأخذه منه قهراً ، وما هو الدليل على صحّة هذا التعيين الصادر من غير صاحب المال؟

ويندفع : بإمكان الاستدلال عليه بأدلّة التقاصّ من الممتنع وفي بعضها أنّه يدعو بالمأثور إذ لا قصور في شمولها للمقام ، الذي هو في الحقيقة من صغريات ذاك الباب ، فكما أنّ المالك أو من له الولاية على المال المغصوب كولي الصغير يجوز له الاستنقاذ والتقاصّ ولو من غير الجنس ممّا يعادله في المالية ، وتعيين الحقّ فيه نافذ وممضى بمقتضى تلك الأدلّة ، فكذا فيما نحن فيه ، لوحدة المناط كما لا يخفى.

نعم ، تمكن المناقشة بوجه ثالث ، وهو أنّا ولو سلّمنا تكليف الكفّار بالفروع إلّا أنّ المفروض سقوط الزكاة بمجرّد اختيار الإسلام ، ولا سيّما إذا كانت العين تالفة ، إذ في السقوط مع البقاء تأمّل كما ستعرف ، وأمّا مع التلف فلا كلام ولا خلاف في السقوط ، وعليه فبأيّ موجب يؤخذ الزكاة منه قهراً بعد أن لم تصحّ منه حال الكفر ولم يطلب منه حال الإسلام؟!

١٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إذن فتكليفه بالزكاة لو سُلِّم لا يستدعي المطالبة منه قهراً بوجه ، ولا سيّما بعد ما ورد في جملة من النصوص (١) من أنّ الكافر ليس عليه شي‌ء غير الجزية ، التي منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) : في أهل الجزية يؤخذ من أموالهم ومواشيهم شي‌ء سوى الجزية؟ «قال : لا» (٢).

فأخذ الزكاة منه منافٍ لصراحة هذه النصوص في أنّه لا شي‌ء عليه ما عدا الجزية الشامل نفي الجنس للزكاة ، بل لعلّها أظهر الأفراد.

على أنّ السيرة العمليّة خَلَفاً عن سَلَف قائمة على عدم مطالبته بها ، إذ لم يُعهَد لا في عصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ولا في عهد الخلفاء جباية الزكوات من الكفّار ، ولم ينقل ذلك في تأريخٍ ولا رواية ، بل كانت الجباية خاصّة بمن يعتنق الإسلام فحسب.

وعلى الجملة : فأخذ الزكاة من الكافر منافٍ لمقتضى القاعدة وللنصوص الحاصرة وللسيرة العمليّة حسبما عرفت.

وأشكلُ من ذلك : أخذُ عوضها منه لو أُتلف والحكم بضمانه لها ، ضرورة أنّ القدر المتيقّن من السيرة المزبورة وكذا من حديث جبّ الإسلام هو صورة التلف وعدم بقاء العين ، إذ لم تُعهَد مطالبة الكافر ولا سيّما بعد أن أسلم بزكوات السنين الماضية يقيناً ، فما ذكره في المتن من الحكم بأخذ العوض منه لو أُتلف مشكلٌ جدّاً.

__________________

(١) مورد هذه النصوص هو الكافر الذمّي ، وعدم مطالبته بشي‌ء هو مقتضى كونه في الذمّة فلا يقاس به غيره.

(٢) الوسائل ١٥ : ١٥١ / أبواب جهاد العدو ب ٦٨ ح ٣.

١٢٧

[٢٦٢٩] مسألة ١٧ : لو أسلم الكافر بعد ما وجبت عليه الزكاة ، سقطت عنه وإن كانت العين موجودة ، فإنّ الإسلام يجبّ ما قبله (١).

______________________________________________________

(١) لا إشكال كما لا خلاف في السقوط لو أسلم وكانت العين تالفة ، للسيرة القطعيّة القائمة على ذلك في عصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والوصيّ (عليه السلام) وغيرهما من المتصدّين للأمر ، إذ لم يُعهَد من أحدٍ منهم مطالبة من أسلم بدفع ما فاته من الزكوات في حال الكفر ، لا زكاة أموالهم ولا زكاة أبدانهم أي زكاة الفطرة ولم يُنقَل ذلك ولا في رواية ضعيفة ، بل كانوا يقرّون على ما كانوا عليه آن ذاك ولا يُسألون عمّا كانوا يفعلون ، وهذا واضح لا سترة عليه ولا شبهة تعتريه.

وأمّا لو أسلم والعين الزكويّة بعدُ باقية ، فلا إشكال أيضاً في عدم الوجوب لو قلنا بعدم تعلّق الزكاة حال الكفر ، لعدم تكليف الكفّار بالفروع على ما هو الصحيح كما مرّ إذ على هذا المبنى لا مقتضي للوجوب ، لأنّ المقتضي هو حولان الحول أو انعقاد الحبّ وصدق الاسم ونحو ذلك ، والمفروض أنّه كان في حال الكفر المرفوع عنه التكليف آن ذاك ، ولم يحدث موجبٌ آخر ومقتضٍ جديد لتعلّق الزكاة حسب الفرض ، وهذا ظاهر.

وأمّا لو قلنا بمقالة المشهور من وجوب الزكاة عليه لتكليفه بالفروع كالأُصول ، فالمشهور والمعروف سقوط الزكاة عنه أيضاً بعد ما أسلم وإن كانت العين موجودة ، بل ادُّعي عليه الإجماع في بعض الكلمات.

ويُستَدلّ له بالنبويّ المشهور : «الإسلام يجبّ ما قبله ويهدم» (١) لكنّه من

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٧ : ٤٤٨ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١٥ ح ٢ ، عوالي اللآلي ٢ : ٥٤ / ١٤٥ ، وليس فيهما : ويهدم.

١٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أجل ضعف السند غير صالح لأن يُستَند إليه ، لعدم روايته من طرقنا لا في كتب الحديث ولا في الكتب الاستدلاليّة للفقهاء المتقدّمين كالشيخ ومن سبقه ولحقه ، ما عدا ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي ، الذي لا يخفى ما في المؤلِّف والمؤلَّف ، حتى طَعَن فيه من ليس من شأنه الطعن كصاحب الحدائق.

ودعوى الانجبار موهونة جدّاً ، بل غير قابلة للتصديق ، إذ كيف يُحتَمل استنادُ المشهور إلى روايةٍ لم يذكروها لا في كتبهم الروائيّة ولا الاستدلاليّة كما سمعت ، على أنّ الانجبار ممنوعٌ كُبرويّاً كما هو المعلوم من مسلكنا.

ويؤيّد ما ذكرناه من أنّ الرواية إنّما هي من طرق العامّة لا من طرقنا ما رواه الشيخ بإسناده عن جعفر بن رزق الله ، قال : قُدِّم إلى المتوكّل رجلٌ نصراني فجر بامرأة مسلمة وأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله ، وقال بعضهم : يُضرَب ثلاث حدود ، وقال بعضهم : يُفعَل به كذا وكذا ، فأمر المتوكّل بالكتاب إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وسؤاله عن ذلك ، فلمّا قدم الكتاب كتب أبو الحسن (عليه السلام) : «يُضرَب حتى يموت» فأنكر يحيى بن أكثم وأنكر فقهاء العسكر ذلك ، وقالوا : يا أمير المؤمنين ، سله عن هذا ، فإنّه شي‌ءٌ لم ينطق به كتاب ولم تجئ به السنّة ، فكتب : إنّ فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا وقالوا : لم تجئ به سنّة ولم ينطق به كتاب ، فبيّن لنا بما أوجبت عليه الضرب حتى يموت؟ فكتب (عليه السلام) : «بسم الله الرّحمن الرّحيم (فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (١) قال : فأمر به المتوكّل فضُرِب حتى مات (٢).

__________________

(١) غافر ٤٠ : ٨٤ ، ٨٥.

(٢) الوسائل ٢٨ : ١٤١ / أبواب حدّ الزنا ب ٣٦ ح ٢ ، التهذيب ١٠ : ٣٨ / ١٣٥.

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّها صريحةٌ في عدم اعتناء الإمام بمضمون حديث الجبّ (١) ، وإنّما هو أمرٌ معروفٌ عند العامّة ومرويٌّ من طرقهم ، ولذا أنكروا عليه (عليه السلام) حكمه ، ولم يثبت عندنا ، والمسألة التي تضمّنتها هذه الرواية محرّرة في الفقه ، وقد أفتى الأصحاب بعدم سقوط الحدّ عن الزاني ، سواء أسلم قبل صدور الحكم من الحاكم أم بعده.

إذن فالحديث المزبور ساقطٌ لا يمكن الاستناد إليه في حكمٍ من الأحكام ، بل المتّبع في كلّ موردٍ قيامُ الدليل على مضمون الجبّ وسقوط ما وجب باختيار الإسلام من نصّ كما في قضاء الصلوات أو سيرة كما في الزكوات فإن ثبت وإلّا كان التكليف باقياً لو قلنا بأنّهم مكلّفون بالفروع كالأُصول.

ثمّ إنّا لو بنينا على تماميّة الحديث ، فلا شكّ في أنّه ناظرٌ إلى الأحكام المختصّة بالإسلام ، فهي المجبوبة والمحكومة بالسقوط لو حصل مناشئوها حال الكفر ، كفوات الصلوات أو حولان الحول الحاصل قبل الإسلام ونحو ذلك ، وأمّا الأحكام المشتركة بين جميع الأديان فضلاً عمّا يعمّ المتديّن ومن لا يعتنق الدين ممّا جرت عليه سيرة العقلاء كالعقود والإيقاعات والديون والضمانات وما شاكلها فالحديث غير ناظر إلى جبّها جزماً ، فالإشكال عليه بأنّ البناء على عموم حديث الجبّ يستوجب تخصيص الأكثر في غير محلّه ، ولا ينبغي الالتفات إليه.

ثمّ لا يخفى أنّ الحديث رواه في مجمع البحرين بمتنٍ آخر ، وهو «الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب» (٢).

__________________

(١) لعلّ الوجه في عدم الاعتناء عدم انطباق مضمون الحديث على مورد السؤال لخصوصيّةٍ فيه ، لا أنّه موضوعٌ من أساسه.

(٢) مجمع البحرين ٢ : ٢١ (جبب).

١٣٠

[٢٦٣٠] مسألة ١٨ : إذا اشترى المسلم من الكافر تمام النصاب بعد تعلّق الزكاة ، وجب عليه إخراجها (١).

______________________________________________________

وقصور الدلالة على هذا وكونها أجنبيّة عمّا نحن بصدده واضحٌ لا يخفى ، فإنّها تشير حينئذٍ إلى مطلبٍ آخر ، وهو الغفران عن ذنب الكفر كما أنّ التوبة توجب العفو عن سائر الذنوب ، فيكون الإسلام بعد الكفر نظير الارتداد بعد الإسلام ، فكما أنّ الثاني يوجب الحبط ومحو الأعمال السابقة بمقتضى قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) فكذلك الأوّل يوجب العفو عمّا سبق وجبّ ما وقع.

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ الأظهر عدم تعلّق الزكاة بالكفّار من أصلها ، لعدم تكليفهم بالفروع. وعلى تقدير القول بالوجوب ، فلا يسقط بالإسلام لو كانت العين باقية كما نبّه عليه الأُستاذ في تعليقته الشريفة.

(١) فإنّ الزكاة حقٌّ ثابتٌ في العين على الخلاف في كيفية التعلّق ، ولا يكاد يسقط بالبيع ، بل العين الزكويّة مشتركةٌ بين المالك والفقير ، فلا ينفذ البيع إلّا في حصّته ، ويكون فضوليّاً في حصّة الفقير ، فلا محيص من إخراجها ودفعها إليه.

نعم ، في باب الخمس لا يجب إخراجه لو انتقل ما فيه الخمس ممّن لا يعتقد وجوبه كالكافر ونحوه ، لنصوص التحليل وأنّهم (عليهم السلام) أباحوا لشيعتهم ذلك (٢) ، وأمّا في باب الزكاة فلم يرد مثل تلك النصوص ، فلا جرم وجب إخراجها على المشتري.

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٦٥.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٤٣ / أبواب الأنفال ب ٤.

١٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه بناءً على المشهور من وجوب الزكاة على الكافر.

وأمّا بناءً على ما هو الأظهر من عدم الوجوب كما مرّ فلا مقتضي للإخراج ، لأنّه انتقل إلى المشتري مالٌ سليمٌ عن الزكاة عند البائع ، ولم يحدث موجبها عند المشتري حسب الفرض ، فلا شي‌ء عليه.

١٣٢

فصل

في الأجناس التي تتعلّق بها الزكاة

تجب في تسعة أشياء (١) : الأنعام الثلاثة وهي الإبل والبقر والغنم والنقدين وهما الذهب والفضّة والغلّات الأربع وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب ولا تجب فيما عدا ذلك على الأصحّ.

نعم ، يستحبّ إخراجها من أربعة أنواع أُخر :

______________________________________________________

(١) بلا إشكالٍ ولا خلاف فيه بين المسلمين ، بل عُدَّ من ضروريّات الدين ، وقد نطقت به جملة وافرة من النصوص قد ادّعى في الجواهر تواترها (١).

لكن دعوى التواتر مشكلة ، لاستدعائها أن يبلغ عدد الرواة في كلّ طبقة حدّا يمتنع عادةً اشتباههم أو تواطؤهم على الكذب ، وليس في المقام كذلك ، فإنّ الرواة في طبقة الإمام (عليه السلام) لا يزيدون على أربعة عشر ، على أنّ الطبقة في أوّل السند لا تشتمل على أكثر من ثلاثة أنفار الشيخ والكليني والصدوق فإنّ كلّها تنتهي إليهم ، وما بينهما من الطبقات متوسطات ، وهذا المقدار لا ينطبق عليه ضابط التواتر كما لا يخفى.

__________________

(١) الجواهر ١٥ : ٦٥.

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، الروايات مستفيضة ومتظافرة لا أنّها متواترة دلّت على وجوب الزكاة في التسعة دون غيرها.

فمنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سئل عن الزكاة «فقال : الزكاة على تسعة أشياء : على الذهب والفضّة ، والحنطة والشعير والتمر والزبيب ، والإبل والبقر والغنم ، وعفا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عمّا سوى ذلك» (١).

وصحيحة أبي بصير والحسن بن شهاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : وضع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الزكاة على تسعة أشياء وعفا عمّا سوى ذلك : على الذهب والفضّة ، والحنطة والشعير والتمر والزبيب ، والإبل والبقر والغنم» (٢) ، ونحوها غيرها.

وفي بعضها كرواية الطيّار بعد الحصر في التسعة والعفو عمّا سواها يسأل الراوي عن الأرز أفيه الزكاة؟ قال : فزبرني «ثمّ قال : أقول لك : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عفا عمّا سوى ذلك وتقول : إنّ عندنا حبّا كثيراً أفيه الزكاة؟!» (٣).

وبإزائها طائفة أُخرى دلّت على ثبوت الزكاة في كلّ ما يكال أو يوزن أو ما أنبتت الأرض إلّا الفواكه.

كصحيحة محمّد بن مسلم قال : سألته عن الحبوب ما يزكّى منها؟ «قال (عليه السلام) : البرّ والشعير والذرة والدخن والأرز والسلت والعدس والسمسم ،

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٨ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٨ ح ١١.

(٢) الوسائل ٩ : ٥٧ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٨ ح ١٠.

(٣) الوسائل ٩ : ٥٨ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٨ ح ١٢.

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

كلّ هذا يزكّى وأشباهه» (١).

وصحيحة زرارة : «كلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة. وقال : جعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الصدقة في كلّ شي‌ء أنبتت الأرض إلّا ما كان في الخضر والبقول وكلّ شي‌ء يفسد من يومه» (٢).

وصحيحة أبي بصير : هل في الأرز شي‌ء؟ «فقال : نعم ، ثمّ قال : إنّ المدينة لم تكن يومئذٍ أرض أُرز ، فيقال فيه ، ولكنّه قد جعل فيه ، وكيف لا يكون فيه وعامّة خراج العراق منه؟!» (٣).

وصحيحة زرارة قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : في الذرة شي‌ء؟ «فقال : في الذرة والعدس والسلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشعير ، وكلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي يجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة» (٤) ، وغيرها.

وقد نُقِل عن ابن الجنيد أنّه أفتى بالوجوب استناداً إليها (٥) ، ولكن المشهور حملوها على الاستحباب ، جمعاً بينها وبين الطائفة الأُولى الحاصرة في التسعة والعافية عمّا عداها.

ولا يخفى أنّ هذا النوع من الجمع وإن كان مطّرداً في أبواب الفقه ، ولكنّه غير منطبق على المقام ، للتدافع بين مضمون الطائفتين وكونهما من المتناقضين في نظر العرف ، بحيث لا قرينيّة لإحداهما على الأُخرى أبداً ، فإنّا لو جمعنا في

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٦٢ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٩ ح ٤.

(٢) الوسائل ٩ : ٦٣ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٩ ح ٦.

(٣) الوسائل ٩ : ٦٤ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٩ ح ١١.

(٤) الوسائل ٩ : ٦٤ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٩ ح ١٠.

(٥) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٠٦.

١٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كلامٍ واحد بين قولنا : فيه الزكاة ، و : ليس فيه الزكاة ، أو بين قولنا : عفا عن الزكاة ، و : أنّه فيه الزكاة ، لكان الصدر منافياً ومضادّاً للذيل بحسب الفهم العرفي بالضرورة.

ومن هنا أنكر الاستحباب في الحدائق وأصرّ على الجمع بالحمل على التقيّة (١).

والإنصاف أنّ ما ذكره (قدس سره) وجيهٌ كما ذكرناه ، غير أنّ هناك رواية واحدة من أجلها تحكم بالاستحباب ، وهي صحيحة عليّ بن مهزيار ، قال : قرأت في كتاب عبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن (عليه السلام) : جعلت فداك ، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه «قال : وضع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الزكاة على تسعة أشياء : الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، والذهب والفضّة ، والغنم والبقر والإبل ، وعفا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عمّا سوى ذلك» فقال له القائل : عندنا شي‌ءٌ كثير يكون أضعاف ذلك «فقال : وما هو؟» فقال له : الأرز «فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) : أقول لك : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا عمّا سوى ذلك ، وتقول : عندنا أُرز وعندنا ذرة ، وقد كانت الذرة على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!» فوقّع (عليه السلام) : «كذلك هو ، والزكاة على كلّ ما كيل بالصاع» وكتب عبد الله : وروى غير هذا الرجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) : انّه سأله عن الحبوب «فقال : وما هي؟» فقال : السمسم والأرز والدخن وكلّ هذا غلّة كالحنطة والشعير «فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : في الحبوب كلّها زكاة» وروى أيضاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه «قال : كلّ ما دخل القفيز فهو يجري مجرى الحنطة والشعير والتمر والزبيب» قال : فأخبرني جعلت فداك ، هل على هذا الأرز وما أشبهه من الحبوب الحمّص والعدس زكاة؟ فوقّع (عليه السلام) :

__________________

(١) الحدائق ١٢ : ١٠٨.

١٣٦

أحدها : الحبوب (١) ممّا يكال أو يوزن ، كالأُرز ، والحمّص ، والماش ، والعدس ، ونحوها.

وكذا الثمار ، كالتفّاح ، والمشمش ، ونحوهما (٢) ، دون الخضر والبقول ، كالقَتّ والباذنجان ، والخيار ، والبطّيخ ، ونحوها.

______________________________________________________

«صدِّقوا الزكاة في كلّ شي‌ء كيل» (١).

فإنّ تصديق الإمام (عليه السلام) لتلك الروايات المتعارضة المرويّة عن الصادق (عليه السلام) ليس له وجه صحيح عدا إرادة الاستحباب فيما عدا التسع ، وإلّا فلا يمكن في مثله الحمل على التقيّة بالضرورة ، إذ لا معنى للتقيّة في تصديق الخبرين المتعارضين.

وعلى الجملة : فالروايات في أنفسها لولا دليل التصديق متعارضة غير قابلة للحمل على الاستحباب ، لعدم كونه من الجمع العرفي في مثلها ، إلّا أنّه بعد ملاحظة التصديق الصادر من الإمام (عليه السلام) الذي تضمّنته هذه الصحيحة يحكم بأنّ المراد الجدّي هو الاستحباب ، وإلّا لم يكن وجهٌ للتصديق أبداً ، فتدبّر جدّاً.

إذن فما ذهب إليه المشهور من الحكم بالاستحباب في سائر الحبوب ما عدا الحنطة والشعير ممّا يكال أو يوزن هو الصحيح.

(١) كما ظهر وجهه ممّا مرّ آنفاً.

(٢) على المشهور ، بل بلا خلافٍ أجده كما في الجواهر (٢) إلّا من شيخه في

__________________

(١) أوردها في الوسائل ٩ : قطعة منها في ص ٥٥ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٨ ح ٦ ، وقطعة أُخرى في ص ٦١ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ٩ ح ١.

(٢) الجواهر ١٥ : ٦٩.

١٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كشف الغطاء (١) ، استناداً إلى صحيحة محمّد بن مسلم : في البستان يكون فيه الثمار ما لو بيع كان مالاً ، هل فيه الصدقة؟ «قال : لا» (٢).

وفيه ما لا يخفى ، إذ مقتضى الجمع بين هذه الصحيحة النافية وبين دليل الإثبات لو كان هو الحمل على الاستحباب ، بأن يكون المراد من النفي نفي الوجوب غير المنافي لثبوت الاستحباب الذي يراه المشهور ، كما هو مطّرد في كثير من الأبواب.

والصحيح ما اختاره (قدس سره) من إنكار الاستحباب ، لا لما علّله في الجواهر من إبداء المانع (٣) أعني : صحيحة ابن مسلم لما عرفت ما فيه ، بل لقصور المقتضي ، وعدم ورود دليل يقتضي تعلّق الزكاة في الثمار كي يحمل على الاستحباب.

أمّا النصوص المتضمّنة لثبوت الزكاة في الحبوب وما يكال ويقفز ، فقصور شمولها للثمار ظاهر ، لعدم كونها من الحبوب ولا من المكيل ، إذ لم يتعارَف بيع الثمار بالكيل لا في القرى ولا البلدان أبداً ، وإنّما هي تباع وزناً أو عدداً أو بالخرص والتخمين والمشاهدة ، ولم يعهَد بيعها كيلاً.

وأمّا النصوص المتضمّنة لثبوتها في كلّ شي‌ءٍ أنبتت الأرض فكذلك ، فإنّ هذا العنوان وإن كان صادقاً على الثمار ولا يصغي إلى ما ادّعاه المحقّق الهمداني (قدس سره) من الانصراف (٤) ، إذ لا وجه له كما لا يخفى إلّا أنّ تلك النصوص بأنفسها تضمّنت استثناء الخضر ، كما في صحيح زرارة : «قال : وجعل رسول الله

__________________

(١) كشف الغطاء : ٣٤٧.

(٢) الوسائل ٩ : ٦٧ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ١١ ح ٣.

(٣) الجواهر ١٥ : ٧١.

(٤) مصباح الفقيه ١٣ : ١٠٧ ١١١.

١٣٨

الثاني : مال التجارة على الأصحّ (١).

______________________________________________________

(صلّى الله عليه وآله) الصدقة في كلّ شي‌ءٍ أنبتت الأرض ، إلّا ما كان في الخضر والبقول ، وكلّ شي‌ءٍ يفسد من يومه» (١).

فإنّ الخضر شاملٌ للثمار لغةً وعرفاً ، مضافاً إلى تفسيره بها صريحاً في صحيحة أُخرى لزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) «أنّهما قالا : عفا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن الخضر» قلت : وما الخضر؟ «قالا : كلّ شي‌ء لا يكون له بقاء : البقل والبطّيخ والفواكه وشبه ذلك» إلخ (٢).

إذن لا تشمل تلك النصوص الفواكه والثمار في حدّ أنفسها ، وعليه فلا دليل على استحباب الزكاة فيها.

نعم ، لا بأس بها بعنوان مطلق الصدقة ، فإنّها برٌّ وإحسان ، وهو حسن على كلّ حال ، وأمّا الاستحباب الشرعي بعنوان الزكاة بالخصوص فغير ثابت كما عرفت.

وممّا ذكرنا تعرف عدم الاستحباب في الخضر والبقول كما ذكره في المتن.

(١) بل الأصحّ عدم الاستحباب ، لتعارض النصوص على وجهٍ لا تقبل الجمع ، فقد ورد في جملةٍ منها ثبوت الزكاة فيما لو أمسك لكي يجد الربح في مقابل من تربّص به ، لأنّه لا يجد من يشتريه برأس المال.

كصحيحة إسماعيل بن عبد الخالق ، قال : سأله سعيد الأعرج وأنا أسمع فقال : إنّا نكبس الزيت والسمن نطلب به التجارة فربّما مكث عندنا السنة

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٦٧ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ١١ ح ٤.

(٢) الوسائل ٩ : ٦٨ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ١١ ح ٩.

١٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والسنتين ، هل عليه زكاة؟ «قال : إن كنت تربح فيه شيئاً أو تجد رأس مالك فعليك زكاته ، وإن كنت إنّما تربّص به لأنّك لا تجد إلّا وضيعة فليس عليك زكاة حتى يصير ذهباً أو فضّة ، فإذا صار ذهباً أو فضّة فزكّه للسنة التي اتّجرت فيها» (١).

ونحوها صحيحة محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى متاعاً فكسد عليه متاعه ، وقد زكّى ماله قبل أن يشتري المتاع ، متى يزكّيه؟ «فقال : إن كان أمسك متاعه يبتغي به رأس ماله فليس عليه زكاة ، وإن كان حبسه بعد ما يجد رأس ماله فعليه الزكاة بعد ما أمسكه من بعد رأس المال» (٢).

وبإزائها ما دلّ على عدم الزكاة وإن قوبل برأس المال أو أكثر ما لم يبعه ويحول الحول على الثمن.

كصحيحة سليمان بن خالد : عن رجلٍ كان له مالٌ كثير فاشترى به متاعاً ثمّ وضعه فقال : هذا متاعٌ موضوع فإذا أحببت بعته فيرجع إليّ رأس مالي وأفضل منه ، هل عليه فيه صدقة وهو متاع؟ «قال : لا ، حتى يبيعه» قال : فهل يؤدّي عنه إن باعه لما مضى إذا كان متاعاً؟ «قال : لا» (٣).

وصحيحة زرارة : «إنّ أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال عثمان : كلّ مال من ذهب أو فضّة يُدار به ويعمل به ويُتّجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول ، فقال أبو ذرّ : أمّا ما يُتّجر به أو دير وعمل به فليس فيه زكاة ، إنّما الزكاة فيه إذا كان ركازاً أو كنزاً موضوعاً ، فإذا حال

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٧٠ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ١٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٩ : ٧١ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ١٣ ح ٣.

(٣) الوسائل ٩ : ٧٥ / أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ١٤ ح ٢.

١٤٠