ثمرات الأعواد - ج ١

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

فقال لها : اُمّاه شمي فمي ، هل تجدين فيه رائحة يكرهها جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فشمّته في فمه فإذا هو أطيب من المسك ، ثم جاءت به إلى أبيها فقالت له : أبه لم كسرت قلب ولدي حسين عليه‌السلام؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ممَّ؟ قالت : تشمّ أخاه في فمه وتشمّه من نحره ، فلمّا سمع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى ، وقال : «بنية أمّا ولدي الحسن عليه‌السلام فإنّي شممته في فمه لأنّه يسقى السم فيموت مسموماً ، وأمّا الحسين عليه‌السلام فإني شممته من نحره لأنّه يذبح من الوريد إلى الوريد» ؛ فلمّا سمعت فاطمة بكت بكاءاً شديداً وقالت : أبة متى يكون ذلك؟ فقال : «بنية في زمان خال مني ومنك ومن أخيه وأخيه» فاشتدّ بكاؤها ثم قالت : أبه فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء عليه؟ فقال له : «بنية فاطمة إنّ نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي ورجالهم يبكون على ولدي الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، ويجددون عليه العزاء جيلاً بعد جيل ، فإذا كان يوم القيامة أنت تشفعين للنساء وأنا أشفع للرجال وكل من يبكي على ولدي الحسين عليه‌السلام أخذنا بيده وأدخلناه الجنة» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على الحسين فلتشق القلوب لا الجيوب».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا وصلّى الله على الباكي على ولدي الحسين عليه‌السلام».

فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تراه تارة يدعو للباكي على ولده الحسين واُخرى يخبر بفضل الباكي عليه وما له يوم القيامة من الأجر ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل عين باكيه يوم القيامة إلّا عين بكت على ولدي الحسين ، فإنّها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة» (٢).

_________________

(١) الخبر ذكره الفاضل الدربندي رحمه الله في أسرار الشهادات : ٢ / ٧٢٠ ، وهو خبر طويل ومفصّل وأورده هنا المؤلف رحمه الله على وجه الاختصار.

(٢) انظر أسرار الشهادات للدربندي : ٢ / ٤٩٦.

٤١

وروى المجلسي رحمه الله قال :

حكى السيد علي الحسيني قال : كنت مجاوراً في مشهد علي بن موسى الرضا عليه‌السلام مع جماعة من المؤمنين فلما كان يوم العاشر من المحرم عقدنا مأتماً للحسين عليه‌السلام فابتدأ رجل منا يقرأ مقتل الحسين عليه‌السلام فقرأ رواية عن الباقر عليه‌السلام إنه قال : «من ذرفت عيناه بالدموع على مصاب الحسين عليه‌السلام ولو كان مثل جناح البعوضة غفر الله ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر» ، وكان في المجلس معنا رجل يدعي العلم ولا يعرفه ، فقال : ليس هذا صحيح وأنّ العقل لا يقبله.

قال : وكثر البحث بيننا ثم افترقنا وهو مصرّ على ماهو عليه ، فلمّا نام تلك الليلة رأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت وحشر الناس في صعيد واحد ، وقد نصبت الموازين وامتد الصراط ، ووضع للحساب ونشرت الكتب ، واسعرت النيران وزخرفت الجنان ، واشتد الحر عليه وعطش عطشاً شديداً ، فجعل يطلب الماء فلا يجده ، فالتفت هناك وإذا بحوض عظيم الطول والعرض ، فقال في نفسه : هذا هو الكوثر ؛ فأقبل إليه وإذا عليه رجلان وامرأة أنوارهم مشرقة لابسين السواد ، قال : فسألت عنهم فقيل لي : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا علي عليه‌السلام ، وهذه فاطمة عليها‌السلام ، فقلت : اذا لماذا لابسين السواد فقيل لي أليس هذا اليوم يوم قتل فيه الحسين عليه‌السلام ، قال : فدنوت إليهما وقلت لفاطمة : سيدتي إني لعطشان ، فنظرت إليّ شزراً ، وقالت لي : أن الذي تنكر فضل البكاء على ولدي الحسين عليه‌السلام ، لن تذوق منه قطرة واحدة حتى تتوب ما أنت عليه ؛ قال : فانتبه من نومه فزعاً مرعوباً وجاء إلى أصحابه ، وقص عليهم رؤياه وقال والله يا أصحابي أنا ندمت ممّا صدر منّي ، وأنا تائب عمّا كنت عليه (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢٩٣ ـ الحديث (٣٨).

٤٢

أقول : فليتها كانت حاضره يوم عاشوراء ومعها جرعة من ماء الكوثر وتسقي ولدها الحسين عليه‌السلام ، لمّا نادى : يا قوم وحق جدّي أنا عطشان. قال رجل من القوم : رأيت شفتيّ أبي عبد الله تتحركان بكلام لم أفهمه ، فقلت : إن كان الحسين عليه‌السلام يدعو علينا هلكنا ورب الكعبة. فأقبلت إليه فسمعته ينادي إسقوني جرعة من الماء ، وقال : فأتيت إلى ابن سعد (لعنه الله) وقلت له : يا أمير إنّ الرجل قد ضعف عن القتال ولا قابلية له على حمل السلاح ، ما يضرك لو سقيته جرعة من الماء؟ قال : فسكت اللعين ، فعلمت أنّ السكوت من الرضا ، فأقبلت إلى خيمتي وأخذت ركوة فملئتها ماء وأتيت مسرعاً إلى الحسين فبينا أنا في بعض الطريق وإذا بالكون قد تغيّرت ، وهبت ريح سوداء مظلمة ، وتزلزلت الأرض ، وإذا بالمنادي ينادي : قتل الإمام ابن الإمام أخو الإمام أبو الأئمّة. فنظرت وإذا برأس الحسين عليه‌السلام على رأس رمح طويل.

وشيبته مخضوبة بدمائه

يلاعبها غادي النسيم ورائحه (١)

__________________

(١) وزينب عليها‌السلام كأني بلسان حالها :

(نصاري)

يشيال راسه لا تلوحه

وهبّط من بگايا الروس رمحه

أخاف ايفوت ريح الهوى بجرحه

وجرحه عليه يگوم يسعر

(دكسن)

يشال راس حامينه او ولينه

دريّض خلي اتودّعه اسكينه

ليش احسين ساچت عن ونينه

گلّي تعب لو جرحه تخدّر

كأني بها تخاطب رأس الحسين عليه‌السلام بلسان الحال :

(عاشوري)

يحسين لا تلتفت لينه

واتشوفنه نشگف بدينه

نسوان تدري وانولينه

وعليلك المچتّف ولينه

٤٣

المطلب الثامن

في مكارم أخلاق الحسين عليه‌السلام

جمع الحسين بن علي عليه‌السلام الفضائل أجمع ، كالعلم وأسراره ، وفصاحة اللسان وبيانه ، ومنتهى الشجاعة ، وأقصى غاية الجود والعدل والصبر والحلم والعفاف والمروءة والورع والزهد ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، كما خصّه الله عزوجل بسلامة الفطرة ، وجمال الخلقة ، ورجاحة العقل ، وقوة الجسم ، وأضعف إلى هذه المحامد كلّها كثرة العبادة ، وأفعال الخير ، كالصلاة والصوم والحج ، والجهاد في سبيل الله ، والأحسان للناس ، وكان عليه‌السلام سخياً بماله ، متواضعاً للفقراء ، معظماً عند الخلفاء ، مواصلاً للصدقة على الأيتام والمساكين ، منتصفاً للمظلومين ، وكان عليه‌السلام علم المهتدين ، وهدى للمسترشدين بأنوار محاسنه وآثار فضله.

أمّا علمه فإنّه كان يغر العلم غرا ، وأنه ورث العلم من جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن أبيه علي عليه‌السلام ، ومن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلمه ومن كان ابوه علي بن أبي طالب

__________________

(تخميس)

رأت الرمح زينبُ حين مالا

وعليه رأس الحسين تلالا

خاطبته مذ راح يزهو هلالا

يا هلالاً لما استتم كمالا

غاله خسفه فأبدى غروبا

٤٤

واُمّه فاطمة الزهراء ناشئاً في أصحاب جدّه وتلامذة أبيه فلا شك أنّه كان يغرُّ العلم غرّاً ، ومنه أخذ علم الجفر والجامعة الأئمّة التسعة صلوات الله عليهم.

وكان الناس يقدمون على الحسين عليه‌السلام وينتفعون بما يسمع منه ، ويضبطون ما يروون عنه من الأحاديث والفتيا.

وأمّا فصاحته ، ناهيك عن خطبته التي خطبها بالمدينة ومكّة قبل خروجه إلى العراق ، والتي سجلها له التاريخ في كربلاء ، فمن خطبته الشهيرة بمكّة إذ يقول في أولها :

«خطّ الموت علي ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ... إلى آخرها» (١).

وخطبته يوم عاشوراء التّي في أولها يقول :

«ألا إنّ الدعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين ، بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ، ورسوله ، والمؤمنون ، وحجور طابت ، وبطون طهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» (٢).

وأمّا شجاعته فصارت يضرب بها المثل ، قال صاحب اسعاف الراغبين : «كان الحسين شجاعاً مقداماً من حين كان طفلاً» (٣).

وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج قال : فيما أفتخرت به بنو هاشم على بني أُميّة قولهم : من مثل الحسين بن علي عليه‌السلام يوم الطف ، ما رأينا مكثوراً (٤) قد فرق من اُخوته وأهله وأنصاره أشجع منه ، كان كالليث الوجوب يحطم الفرسان حطماً ، وما ظنك برجل أبت نفسه الدنيا الدنيه وأن يعطي بيده ، فقاتل حتى قتل

__________________

(١) كشف الغمة في معرفة الأئمة : ٢ / ٢٩.

(٢) الملهوف على قتلى الطفوف : ١٥٥ ، واظر تاريخ ابن عساكر : ٣١٧.

(٣) اسعاف الراغبين : ٢٠٢ «بهامش نور الأبصار للشبلنجي».

(٤) المكثور : المغلوب.

٤٥

هو وبنوه واُخوته وبنو عمّه ، بعد بذل الأمان لهم والتوثقة بالإيمان المغلظة ، وهو الذي سنّ للعرب الإباء ، واقتدى به أبناء الزبير وبنو الملهب ، وغيرهم (١).

وقال ابن أبي الحديد أيضاً : سيد أهل الإباء ، الذي علّم الناس الحميه والموت تحت ظلال السيوف ، اختيارا له على الدنية ، أبو عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام ، عرض عليه الأمان وأصحابه ، فأنف من الذل وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع أنه لا يقتله ، فاختار الموت على ذلك ، قال : وسمعت النقيب أبا زيد يحيى ابن زيد العلوي البصري يقول كأبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت الى في الحسين عليه‌السلام :

وقد كان فوت الموت سهلا فرده

إليه الحفاظ المر والخلق والوعر

ونفس تعافي الضيم حتى كأنه

هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله

وقال لها من تحت أخمصك الحشر

تردّى ثياب الموت حمراً فما أتى

لها الليل إلّا وهي من سندس خضر

وقال صاحب كشف الغمة : شجاعة الحسين يضرب بها المثل ، وصبره في الحرب أعجز الأواخر والأول ـ وأمّا سخاءه وجوده ، فإنّه كان يهب الألوف من الدنانير حتى عد من سادات أجواد العرب ، (٣).

روى «ابن عساكر» في تأريخه عن أبي هشام القناد أنّه كان يحمل إلى الحسين عليه‌السلام بالمتاع من البصرة ، ولعلّه لا يقوم حتى يهب عامته ، ودخل عليه‌السلام يوماً على اُسامة بن زيد وهو مريض فسمعه يقول : واغمّاه ، فقال له الحسين عليه‌السلام : وما غمّك يا أخي؟ قال : ديني وهو ستون ألف درهم ؛ فقال الحسين عليه‌السلام : هو عليَّ ، قال : إني

__________________

(١) و (٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

(٣) كشف الغمة في معرفة الأئمة : ٢ / ٢٠.

٤٦

أخشى أن أموت؟ فقال عليه‌السلام : لن تموت حتى أقضيها عنك ، فقضاها قبل موته (١).

أما جماله وحسنه : فقد كان يشبه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجمال وجهه الشريف ، قال «صاحب الخزانة» في ترجمة «عبيدالله ابن الحر الجعفي» أنّه قال : ما رأيت أحداً قط أحسن ولا املأ للعين من الحسين عليه‌السلام (٢).

وعن أنس بن مالك : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي عليه‌السلام ، فجعل في طشت فجعل ابن زياد ينكث ثناياه ، وقال في حسنه شيئاً : رحمك الله يا حسين فلقد كنت حسن الثغر ، فقال أنس إبن مالك : كان أشبههم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وأمّا عبادته : فإنّه كان ينهج نهج أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام في عبادته ، فقد ذكر «الملك المؤيد أبو الفداء» في تاريخه قال : كان الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وقد حج خمس وعشرين حجّة ماشياً على قدميه ونجائبه تقاد بين يديه ، إلى غير ذلك من عبادته (٤).

وأمّا تواضعه : فقد ذكر «ابن عساكر» في التأريخ الكبير : أنّ الحسين عليه‌السلام مرّ بمساكين يأكلون في الصفة ، فقالوا : الغداء ؛ فنزل عليه‌السلام وقال : إنّ الله لا يحب المتكبرين ، فتغدى ، ثم قال لهم : قد أجبتكم فأجيبوني ، قالوا : نعم ، فمضى بهم إلى منزله وقال للرباب خادمته : اخرجي ما كنت تدخّرين (٥).

أقول يظهر من الرواية أنّ ابن عساكر اشتبه في الرباب خادمة الحسين عليه‌السلام ،

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر.

(٢) خزانى الادب للبغدادي : ١ / ٢٩٨.

(٣) انظر تاريخ ابن عساكر «ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام» : ٤٦ / ٤٩ ، ٥٠ ، ٥١.

(٤) تاريخ أبي الفداء. وذكر ذلك ايضا : ابن عساكر في تأريخه) ترجمة الامام الحسين عليه‌السلام (: ٢١٥ و ٢١٦.

(٥) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الامام الحسين عليه‌السلام) : ٢١٨ / ١٩٨.

٤٧

وما سمعنا أنّ للحسين خادمة اسمها رباب ، لكن رباب زوجته وهي بنت امرء القيس الكندي الذي يقول فيها :

لعمرك إنني لأحب داراً

تحل بها السكينة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالي

وليس لعاتب عندي عتاب (١)

__________________

(١) كتاب الأغاني : ١٦ / ١٣٨.

نعم ، إنّ الحسين عليه‌السلام آلت ان لا تستظل تحت ظل بعد شهادة أبي عبد الله عليه‌السلام وذلك لمّا رجعت مع النسوة إلى المدينة أمرت البناء أن يرفع السقف وكان لها بكاء ونحيب على فقد الإمام الحسين عليه‌السلام وولدها عبدالله الرضيع ، ولسان حالها :

(الموشح)

دايك ما يطيب وداي أبوك النوب

داي اللي يفلّش ولو سبع اگلوب

حسبت احساب واحسابي طلع مگلوب

سكنة اميسّرة وانته الفگد يرجاي

يا رجواي يلغيّرك بعد ما لوليت

اخلاف احسين عيب اگعد تحت ظل بيت

يبني لكربلا يبني عسن لاجيت

يبني اتموت يبني ما شربت الماي

(تخميس)

سألت ربع الندى والدمع ينهملُ

عن معشر هاهنا عهدي بهم نزلوا

أين استقلّوا عن الأوطان وارتحلوا

بالأمس كانوا معي واليومَ قد رحلوا

وخلّفوا في سويد القلب نيرانا

٤٨

المطلب التاسع

في ترجمة يزيد وكفره

ذكر «القرماني» في تأريخه : عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «أوّل من يبدل سُنّتي رجلٌ من بني اُمية يقال له يزيد ابن معاوية واُمّه ميسون الكلبية» (١).

وذكر أرباب التاريخ : انه دخل معاوية ابن أبي سفيان يوما على زوجته ميسون بنت بجدل بن أنيف الكلبي فسمعها تنشد هذه الابيات :

للبس عباءة وتقرّ عيني

أحب إليّ من لبس الشفوف

وبيت تخفق الارياح فيه

أحب إليّ من قصر منيف

وبكر يتبع الأضعان صعب

أحب إليّ من بغل زفوف

وكلب ينبح الأضياف دوني

أحب إليّ من هرٍّ ألوف

وخرق من بني عمّي فقير

أحب إليّ من علج عنيف

فقال لها معاوية : مارضيت يا ابنة بجدل حتى جعلتيني علجا عنيفاً ، إلحقي بأهلك. فمضت إلى أهلها مع عبد أبيها (٢).

وروى المداءني في كتاب بهجة المستفيد : أن يزيد ابن معاوية اُمّه ميسون

__________________

(١) و (٢) أخبار الدول وآثار الاول للقرماني : ١٣٠.

٤٩

بنت بجدل الكلبية امكنت عند أبيها من نفسها فحملت بيزيد ، وإلى هذا أشار النسابة البكري من علماء السنة بقوله :

فإن يكن الزمان أتى علينا

لقتل الترك والموت الوحيي (١)

فقد قتل الدعي وعبد كلب

بأرض الطف أولاد النبي

اراد بالدعي عبيد الله ابن زياد ، فإنّ أباه زياد بن سمّية ، وهذه كانت عاهرة ذات علم ، ولدت زيادا على فراش أبي عبيد من بني علاج ، فادعى معاوية أنّ أبي سفيان زنى بام زياد وأنه أخوه وكان اسمه «الدعي» حتى أن عايشة كانت تسميّه زياد ابن ابيه لأنّه ليس له أب معروف ، (٢) ومراده بعبد كلب وهو يزيد بن معاوية لأنّه من عبد بجدل الكلبي.

وكانت ولادته في أيام عثمان ابن عفان ، سنة خمس وعشرين في بادية طب بني أخواله ، وهم نصارى ، وتربى هناك تربيه نصرانية حتى إذا ترعرع جيء به إلى أبيه ، وكان لا يشابه أباه ، ضخم الجسم ، كثير اللحم ، اسمر ، في وجهه اثار الجدري ، ولقد بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه معاوية ، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر.

ففي السنة الأولى : قتل الحسين بن علي بي أبي طالب عليهم‌السلام سيد شباب أهل الجنة.

__________________

(١) موت وحي [أي] سم حي : سريع : انظر :

(٢) نقول : قال الذهبي في سير أعلام النبلاء :

يقال : «إن أبا سُيان أتى الطائف ، فَسكر ، فطلب بغيّاً ، فواقع سُميّة ، وكانت مزوّجةً بعبيد ، فولدت من جُماعه زيادا ، فلما رآه معاوية من أفراد الدهر ، أستعطفه وادّعاه ، وقال : نزل من ظهر أبي». انظر سير اعلام النبلاء للذهبي : ٣ / ٤٩٥.

وفي صحيح البخاري في (الفرائض) / باب (من ادعى الي غير أبيه) : ٨ / ١٩٤ ، وفيه : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى الى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه فالجنة عليه حرام».

٥٠

وفي السنة الثانية : نهب المدينة ، وأباحها ثلاثة أيّام ، وفتك الفتك العظيم بأهلها حتى قتل في الوقعة (١) جماعة من الصحابة ، ولم يبقي بدري بعد ذلك ، وقتل من سائر الناس من الموالي والعرب والتابعين عشرة آلاف ، وافتضت ألف عذراء (٢).

وفي السنة الثالثة : غزا الكعبة فهدمها.

قال المسعودي : شمل الناس جور يزيد بن معاوية وعمّاله ، وعمّهم الظلم وما ظهر من فسقه ، ومن قتل ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ظهر من شرب الخمور ، وسيرته سيرة فرعون ، بل كان فرعون أعدل منه في الرعية (٣) (٤).

وقال محمد بن علي ـ المعروف بالطقطقي ـ في كتابه «الفخري» : إنّ يزيد بن معاوية كان موفر الرغبة في اللهو ، والقنص ، والخمر ، والنساء ، والشعر (٥).

وفي أيامه ظهر الغناء بمكّة والمدينة ، واستعملت الملاهي (٦) ، ومن قوله في الخمرة :

__________________

(١) انظر أخبار «وقعة الحرّة» في : الفخري في الآداب السلطانية.

(٢) قال ياقوت في معجم البلدان (حرة) : واستباحوا الفروج ، وحملت منهم ثمانمئة حرة وولدن وكان يقال لأولئك الأولاد أولاد الحرة.

(٣) مروج الذهب للمسعودي : ٣ / ٦٨.

(٤) وروى ابن سعد في «الطبقات» ـ ترجمة عبدالله بن حنظلة :

«أنّه بايع أهل المدينة ـ ليلة الحرة ـ على الموت ، وقال : ياقوم ، اتقوا الله وحده لا شريك له ، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، إنّ رجلاً ينكح الامهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءاً حسناً». انظر طبقات ابن سعد : ٥ / ٦٦.

(٥) الفخري في الآداب السلطانية : ٩٨.

(٦) مروج الذهب للمسعودي : ٣ / ٦٧.

٥١

أقول لصحب ضمت الكأس شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنّم

خذوا بنصيب من نعيم ولذه

فكلٌّ وإن طال المدى يتصرّم

وهو القائل لما نهاه أبوه عن شرب الخمر الكثير :

أمن شربة من ماء كرم شربتها

غضبت عليَّ اليوم طاب لي الخمر

سأشرب فاسخط او رضيت كلاهما

حبيب إلى قلبي عقوقك والسكر

يروى أنّ معاوية أرسل سرية إلى قسطنطنية الروم وأمّر عليها سفيان بن عوف ثم ورد الخبر أنهم أصابهم جوع ومرض شديد ، فأنشأ يزيد يقول :

إذا ارتفعتُ على الأنماط مصطبحاً

بِدَير مُرّان عندي اُمّ كُلثُوم

فَما اُبالي بما لاقَت جُنودُهم

بالغَذ قَذونة من حُمّى ومُوم (١)

وكان له قرد يكنى بأبى قيس ، يحضره في مجلس منادمته ، ويطرح له متكأ ، وكان قرداً خبيثاً ، وكان يحمله على أتان وحشية ، قد ريّضت وذُللّت لذلك بسرج ولجام ، وكان يسابق بها الخيل يوم الحلبة \' فجاء في بعض الأيام سابقاً ، فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيل ، وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر ، منقوش يلمع بأنواع الألوان ، فقال في ذلك بعض شعراء الشام :

تمسك أبا قبيس بفضل عنانها

فليس عليها إن سقطت ضمان

ألا من رأى القرد الذي سبقت به

جياد امير المؤمنين أتان (٢)

وقال المسعودي في «مروج الذهب» : كان يزيد صاحب طرب ، وجوار ، وكلاب ، وقرود ، وفهود ، ومنادمة علي الشراب ، وجلس ذات يوم على شرابه

__________________

(١) انظر كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني : ١٧ / ٢١٠.

(٢) مروج الذهب للمسعودي : ٣ / ٦٨.

٥٢

وعن يمينه عبيد الله بن زياد (١) ، وذلك بعد قتل الحسين عليه‌السلام فأقبل على ساقيه فقال :

أسقني شربة تروي حشاشتي

ثم قم فاسق بعدها ابن زياد

صاحب السر والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

قاتل الخارجي اعني حسيناً

ومبيد الأعداء والحساد

ويروى أيضاً إنّه لمّا جيء أليه برأس الحسين عليه‌السلام وهو في طشت من لجين وضع بين يديه ، فجعل يشرب الخمر ويصب فضلته حول الطشت ألذي فيه رأس الحسين عليه‌السلام وهو يتمثل بأبيات ابن الزبعري :

ليت اشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل (٣)

ويروى أنّه لمّا وضعوا الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسين عليه‌السلام جعل يقول :

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

قواظب في ايماننا تقطر الدما

نفلق هاماً من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

__________________

(١) هوعبيد الله بن زياد : كان يكنى أبا حفص ، وكان أباه زياد قد طلّق اُمّه (مرجانة) وزوّجها من شيروية الأسواري ودفع اليها عبيد الله ، فنشأ بين الأساورة ومن هنا جاءته اللكنة ، وكان ولّاه معاوية خراسان ثم ولي البصرة خمس سنين ، ولمّا هلك أبوه ضمت اليه الكوفة فكانت ولايته على العراقيين ثمان سنين ، بعد هلاك يزيد أخرجه أهل البصرة من داره واستجار بمسعود بن عمرو الأزدي ، ولما قتل مسعود هرب الى الشام فكان مع مروان بن الحكم وكان يوم «مرج راهط» على إحدى مجنبتي عسكره ، فلمّا ظفر مروان بالضحاك بن قيس الفهري وقتله وردّه مروان إلى العراق فبينا هو قد قرب من الكوفة إلتقى به إبراهيم بن الأشتر النخعي على جيش من جيوش المختار بن عبيد الثقفي فناجزه الحرب فظفر به وقتله ، وكان قتله يوم عاشوراء سنة (٦٧ هـ). راجع ترجمة (عبيدالله بن زياد) في :

(٢) مروج الذهب للمسعودي : ٣ / ٦٧.

(٣) هذه الأبيات نسبها السيد ابن طاووس في اللهوف إلى ابن الزبعري.

٥٣

فقام يحيى بن الحكم وهو يقول :

لهام بجنب الطف أدنى قرابة

من ابن زياد النغل ذي الحسب الوغل

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليست بذي نسل

وجعل يزيد ينكث ثنايا الحسين عليه‌السلام بعود الخيزران بمنظر من بناته وأخواته.

أتضربها شلّت يمينك إنّها

وجوه لوجه الله طال سجودها (١)

__________________

(١) وزينب عليها‌السلام كأني بها :

(نصاري)

يحسين راسك حين شفتة

تلعب عصى ايزيد على شفته

ذاك الوكت وجهي لطمتة

صدّيتله ابحرگه وندهتة

شلت يمينك يالضربته

(ابوذية)

هضمنه ما جرى اعلى احد وشافه

برى بينه العدو وجرحه وشافه

على راس السبط تلعب وشافه

عصى ايزيد ويسب حامي الحميّه

* * *

أيهدى إلى الشامات رأس ابن فاطم

وينكته بالخيزرانة كاشحه

٥٤

المطلب العاشر

في سبب عداوة يزيد بن معاوية مع الحسين عليه‌السلام

الأضغان أصلية وفرعية ، أمّا الأصلية فهي ما وقع بين هاشم وعبد شمس ، لأنّهما ولدا توأمين وقد إلتصقت إبهام رجل هاشم بجبهة عبد شمس ، ففرق بينهما بالسيف وخرج الدم فتفؤل بوقوع عداوة بين ذريتهما ، ومن هنا كانت العداوة بين حرب ابن اُمية وبين عبد المطلب بن هاشم ، وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أبي سفيان بن حرب ، وبين علي عليه‌السلام وبين معاوية.

وأمّا سبب عداوة يزيد بن معاوية مع الحسين فأنّها فرعية (١).

يروى أنّه كانت امرأة تسمة ارينب بنت اسحاق زوجة لعبد الله بن سلام ، بارعة في الجمال ، وكانت مثلاً لأهل زمانها لحسنها وجمالها ، فعشقها يزيد بن

__________________

(١) ذكر هذه القصة «محمّد بن مسلم بن قتيبة» في كتاب) الإمامة والسياسة) و (النويري) في (نهاية الإرب) ، وذكرها صاحب (المستطرف) وغيرهم من المؤرخين على اختلاف بسيط شأن أرباب التاريخ ، انظر : الامامة والسياسه : ١ / ٢١٦ ، وثمرات الاوراق (بهامش المستطرف) : ١ / ١٦٩ ، ونهاية الإرب : ٦ / ١٨٠ ـ ١٨٥ ، وتاريخ الطبري : ٢ / ٢٥٢ ـ ٢٥٤ ، وطبقات ابن سعد : ١ / ٧٦ ، والمستطرف : وفصل النزاع والتخاصم فيما بينى بني اُميه وبني هاشم المقريزي : (٦ ، ١٨ ، ٣٨) ، والنصائح الكافية للشريف اليمني السيد ابن عقيل : (هامش ص ٩٧) ، والأرجوزه اللطيفة لأحمد خيري : ٢٠ ـ ٢١ (الأبيات ٣٧ ـ ٣٩).

٥٥

معاوية وهام بها حتى مرض مرضا ً شديداً ، فلمّا نظر إليه معاوية وهو بتلك الحالة ظن أنّه قد أصابه مرض اعيى الأطباء عن معالجته ، وقد قيل له : إنّ ولدك هذا عاشق ، ولا تنفعه معالجتنا ، وهو لا يبرء حتى تأتيه بطلبته ، فانظر ما بُغيته وما طلبته ، فاذا أتيت به إليه فإنه يبرء ؛ فدعا معاوية عبداً له يدعى سرجون ، وقال له : اختل مع يزيد واسأله ما بغيته وما طلبته؟ فاختلى به سرجون وأخبر فأطلعه يزيد على ذلك ، فجاء سرجون وأخبر معاوية أنّه عاشق لأرينب بنت إسحاق ، فاخذ معاوية يدبر الحيلة في إيصالها له بكل طريق ، فأرسل الى زوجها عبدالله بن سلام «أني قلبت الأمر ظهراً لبطن (١) ونظرت فرأيت أنّ أهل الشام أوباش ، وأنّهم لا يليقون لهذا الأمر وقد وجدتك مستحقاً للخلافة فأقدم إلينا حتى أجعلك ولي عهدي».

فلما ورد الكتاب على عبدالله بن سلام فرح وسرّ سروراً عظيماً ، وتجهز من وقته وساعته وجعل يجدّ السير ليلاً ونهاراً ، حتى إذا وصل الشام وبلغ معاوية قدومه خرج لاستقباله هو وحفدته كأبي الدرداء وأبي هريرة ونظائرهما ، فلمّا نظر عبدالله إلى ذلك اطمأن قلبه وفرح ، ثمّ جيء به الى دار من دور معاوية فأنزل فيها ، وبقى في الشام مدّة من الزمن ، فقال له معاوية يوماً : أريد أن أزوّجك أبنتي حتى تكون الخلافة لك من بعدي ، ـ وكان ذلك على يد أبي الدرداء (٢) وأبي هريرة ـ

__________________

(١) يعني أمر الخلافة وولاية العهد.

(٢) أبو الدرداء هو : عامر بن زيد الانصاري \' كان صحابياً وكان يعد من ثلاثة علماء أهل الأرض قال بن قتيبة : إنّ أبا الدرداء وأبي هريرة جاءا لعلي ـ ولقد بعثهما معاوية ـ فقالا لعلي : إنّ لك فضلاً لا يدفع ، وقد سرت مسيرة فتى الى سفيه من السفهاء ، ومعاوية يسألك أن تدفع إليه قتلة عثمان ، فإن فعلت ذلك وقاتلك كنا معك ؛ فقال عليه‌السلام : أتعرفانهم :؟ قالا : نعم ، فقال عليه‌السلام : فخذاهم ، فأتيا محمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر والأشتر فقال : أنتم من قتلة عثمان قد أمرنا بأخذكم ، قال : فخرج إليهم أكثر من عشرة الاف رجل فقالوا : نحن قتلة

٥٦

فقبل عبدالله ، فأخبر معاوية بذلك وجاء معاوية إلى ابنته وقال لها : إذا أتاك أبو الدرداء وأبو هريرة ليخطباك لعبدالله فقولي لهما : إن عبد الله كفؤ كريم ، وقريب حميم ، غير أنه تحت ارينب بنت إسحاق وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء ، فأتولي منه ما أسخط الله فيه فيعذبني عليه ، ولست بفاعلة حتى يفارقها ، وإذا طلقها رضيت به بعلاً.

ثم إنّ أبي الدرداء وأبي هريرة جاءا إلى معاوية وقالا له : قد أخبرنا عبدالله وسر سروراً عظيماً ، فقال لهما معاوية ، أن ادخلا على إبنتي وكلماها في هذا الأمر ؛ فدخلا عليه ، وعرضا عليه ما ارتضاه لها أبوها ، فقالت لهما بالذي علمها أبوها ، فجاءا لمعاوية وأخبراه بذلك ، قال : أمضيا وأعلماه عبد الله ببغيتها ؛ فدخلا على عبد الله وأعلما ببغيتها قال : نعم إنّ زوجتي بنت اسحاق طالق ، فطلقها بشهادتهما فرجعا لمعاوية وأخبراه ، ولما بلغ لارينب الخبر اعدت بعدتها ، وبقي عبد الله باشام راجياً أن يزوجه معاوية ابنته وأن يجعله ولي عهده ، فصار معاوية بعد ذلك لا يعبأ به ولا يلتفت إليه.

ولما أن قضت عدت ارينب ، دعا معاوية أبي الدرداء وقال له : تمضى إلى المدينة خاطبا ارينب لولدي يزيد ، وليكن المهر حكمها بالغاً ما بلغ ؛ فسار أبو الدرداء حتى إذا وصل المدينة فقال في نفسه : والله لا ابتدأ بشيء قبل أن ازور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء ودخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم خرج وقال في نفسه : لأمضين إلى زيارة سيدي ومولاي الحسين عليه‌السلام ، فلمّا رآه رحب به وقال

__________________

عثمان فقالا : لنرى امراً شديداً.

وذكر نصر بن مزاحم أنّ أبا الدرداء رجع من صفين ولم يشهد القتال. انظر : الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ١٢٨ ، ووقعة صفين للمنقري : ١٩٠.

٥٧

له : من أين أقبلت يا أبا الدرداء؟ قال؟ سيدي من الشام ، فقال له الحسين عليه‌السلام : ما حاجتك؟ قال : خاطباً اُرينب ليزيد ابن معاوية ، فقال له الحسين عليه‌السلام : أجل اذكرني عندها ، واجعل مهرها حكم لسانها بالغاً ما بلغ ؛ فقال : اعرض عليها انشاء الله.

ثم خرج من عند الحسين عليه‌السلام ، فلقيه القثم بن العباس ابن عبد المطلب (١) ، فسأله عن سبب مجيئه فأخبره بما جاء فيه ، فقال : اذكرني عندها ؛ ثم لقيه عبدالله بن الزبير فسأله عن سبب قدومه الى المدينة ، فأخبره بذلك فقال له : اذكرني عندها ؛ قال : افعل. ثم أقبل حتى دخل عليها ، فسلم فردت عليه‌السلام ، ورحّبت به ، فلمّا استقرّ بها المجلس قال لها : يا اُرينب إني اتيت خاطباً لك ؛ قالت : لمن؟ قال : لأربعة نفر للحسين بن علي بن ابي طالب ، وليزيد ابن معاوية ، وللقثم بن العباس ، ولعبد الله بن الزبير ، والصداق ما تحكمين به أنت بالغاً ما بلغ. فتبسمت ، فقال لها : لا تتبسمي ولي فيك رغبة ، فقالت له : أستشيرك والمستشار لا يخون ، فقال : أنا أشير عليك ، واعرض لك الحقيقة ، أمّا اذا أردت الدنيا بلا لآخرة فعليك بيزيد ابن معاوية ، وإن كنت تريدين الجمال والبهاء فعليك بالقثم ابن العباس ، وإن كنت تريدين الشجاعة والبسالة فعليك بابن الزبير إلّا أنّه بخيل ، وإن كنت تريدين شرف الدنيا والآخره فعليك بالحسين بن علي بن ابي طالب عليه‌السلام ، وان كنت

__________________

(١) القُثَم ابن العباس بن عبد المطلب : ولد على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليست له رواية عنه لأنّه كان صغيراً ، وكان من خواص امير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان عامله على مكّة ، وكتب إليه في بعض كتبه : «اقم للناس الحج ، وذكرهم بأيّام الله ، واجلس لهم العصرين ، فأفت المستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم ... إلى اخر كلامه عليه‌السلام» ومنها يُعرف جلالة قدره وعدالته وثقة أمير المؤمنين عليه‌السلام به ، [انظر نهج البلاغة : ٣ : ١٤٠ / ٦٧]. وفي رجال الشيخ الطوسي؟ ٥٥ / ٧ ، وفيه : في بعض النسخ المعتبرة قبره بسمرقند ؛ وفي المعارف : ١٢٢ ، قال ابن قتيبة : قتل بسمرقند.

٥٨

تريدين لا دنيا ولا آخرة فعليك بي. قالت : إعقدها للحسين بن علي عليه‌السلام ؛ فعقدها أبو الدرداء للحسين عليه‌السلام ، وبذل لها الحسين أموالاً جزيرة ، وأفرغ لها داراً وأعزّها وأكرمها ، ولم يصل إليها ولم يدخل بها ، وأمّا عبد الله بن سلام فإنّ معاوية تركه وقكع عنه روافده لسوء قوله فيه ، وأسقط ما في يديه ، فرجع الى المدينه وقد بلغه ما فعل الحسين عليه‌السلام سرَّ سروراً عظيما ، حيث انها لم تصل الى ليزيد ابن معاوية فصادف الحسين عليه‌السلام في الطريق فسلّم عليه وقبل يده ، فقال له الحسين عليه‌السلام : يا عبد الله ما فعل بك معاوية؟ قال : سيدي ما لا خفاء به عليك. فقال له الحسين : ألك حاجة عند اُرينب؟ قال : نعم ، أودعت عندها حُقاً ، وفيه شئ من الدر ، سيدي أسألها لعلها ترده عليَّ ،. وكان يظن أنّها تجحده لطلاقها من غير سبب كان منها له ، فقال له الحسين عليه‌السلام : امض بنا إليها ، فمضى عبد الله يمشي خلف الحسين عليه‌السلام ، حتى وافيا المنزل فصاح الحسين عليه‌السلام : ربة الخدر أرسلي عليك جلبابك ؛ فأرسلت عليها جلبابها ثم سألها الحسين عليه‌السلام عن الحق ، قالت : نعم هو عندي ولا أعلم بما فيه ، وانه مختوم بخاتمه. ثم قامت ودخلت الحجرة وجاءت بالحق فوضعته بين يدي الحسين عليه‌السلام ، فلما نظر اليه عبدالله والى ختمه على حالته بكى ، فقال له الحسين : مم بكاؤك؟ قال : سيدي لحسن وفائها وأنّها لم تخنّي بشيء قط منذ كانت عندي ، وأبكي أسفاً على ما ابتليت به. فقال له الحسين عليه‌السلام : أتحب؟أن ترجع إليها؟ فسكت عبد الله ؛ فقال الحسين عليه‌السلام : أشهد الله أنّها طالق ثلاثاً ، اللّهمّ إنك تعلم أنّي لم استنكحها رغبة في مالها ولا في جمالها ولكنّي أردت احلالها لبعلها.

قال الراوي : ولم يأخذ الحسين عليه‌السلام مما ساق لها من مهرها قليلاً ولا كثيراً ، وكان عبدالله سأل ارينب التعويض على الحسين عليه‌السلام ، فأجابته إلى ذلك شكراً لما صنعه ، فلم يقبل الحسين عليه‌السلام وقال : الذي أرجو عليه الثواب خير لي منه ؛ فلمّا

٥٩

انقضت اقراؤها تزوجها عبدالله بن سلام ، وعاشا متحابين حتى قبضهما الله تعالى (١).

قال الراوي : ولمّا بلغ يزيد ابن معاوية صنع الحسين عليه‌السلام عظم ذلك عليه ، وبقي قبله يغلي على الحسين عليه‌السلام كالمرجل ، وكادت شضايا قالبه أن تخرج مع نفسه ، لذا لمّا هلك معاوية كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان والياً على المدينة أن خذ من أهل المدينة البيعة لي عامة ، ومن الحسين خاصة ، وإن أبى فليكن جواب كتابي هذا مع رأس الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ولمّا خاف الحسين عليه السام أن تهتك حرمة جدّه خرج من المدينة بأهله وعياله ، كما قال السيد جعفر رحمه الله :

خرج الحسين من المدينة خائفاً

كخروج موسى خائفاً يتكتم

أقول فلو كان الحسين خائفا من أحد للزم غير الجادة ، كما فعل ابن الزبير وأخوه فأنهما هربا على طريق الفرع ، والحسين عليه‌السلام أشاروا عليه في ذلك وقالوا له : لو تنكبت الطريق كما فعل ابن الزبير لئلا يلحقك الطلب؟ فقال : لا والله ، لا افارق الطريق الأقوم حتى يقضي الله ما هو قاض.

ولكنّه إنّما خرج ليلاً خوفاً على حرمه لئلّا تقع عليهنّ عيون الأجانب ، لذا قال السيد جعفر :

خرج الحسين من المدينة خائفاً

كخروج موسى خائفاً يتكتّم

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرفت الحطيم وزمزم

__________________

(١) انظر الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ١ / ٢١٦ ، وثمرات الأوراق في المحاضرات : ١ / ١٩٦.

٦٠