ثمرات الأعواد - ج ١

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

الفؤاد ، وتقلّ عنه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك ، وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عمّن سواك ففرّجته وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كل رغبة.

قال علي بن الحسين عليه‌السلام : فجعل القوم يجولون حول الخيم فرأوا الخندق وقد اضرمت فيه النار.

قال الراوي : ونادى شمر بن ذي الجوشن لعنه الله بأعلى صوته : تعجّلت بالنار يا حسين قبل يوم القيامة! فقال الحسين عليه‌السلام : من هذا كأنه الشمر؟ فقيل له : نعم ، فقال : يابن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليّاً.

قال : وأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين عليه‌السلام ، فقال له : سيدي دعني أرميه فإنّه فاسق ، فقال له الحسين عليه‌السلام : إنّي أكره أن أبدئهم (١) بالقتال.

وقال محمّد بن أبي طالب : وأمر الحسين بإحضار جواده ، فقرب إليه واستوى عليه ، وتقدّم في نفر من أصحابه وبين يديه برير بن خضير الهمداني (٢) ، فقال له الحسين : يا برير كلّم القوم ، فتقدّم برير وقال : يا قوم اتقوا الله فإنّ ثقل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذريّته وعترته وبناته وحرمه ، وما الذي تريدون أن تصنعون بهم؟ فقالوا : نريد أن نمكن منهم الأمير زياد ـ لعنه الله ـ فيرى

__________________

(١) نفس المهموم : ٢٣٩.

(٢) من أقادم أصحاب مولانا الحسين عليه‌السلام ، وصفه الشيخ السماوي في ص ٧٠ من كتابه الجليل «أبصار العين في أنصار الحسين» بقوله «كان بُرير شيخاً ناسكاً قارئاً للقران من شيوخ القراء ...»

ووصفه الشيخ عباس القمي في ص ٢٦٦ من الجزء الأول من كتابه «سفينة البحار» بقوله : «كان من عباد الله الصالحين ، وكان شيخاً جليلاً من أشراف الكوفة من همدان الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليه‌السلام :

فلو كنتُ بوّاباً على باب جنّة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

٢٦١

رأيه فيهم. فقال لهم برير : أفلا تقبلون أن يرجعوا إلى مكان الذي أتوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة أنسيتم كتبكم التي كتبتموها وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟ ويلكم دعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم حتى إذا أتوكم أسلمتموهم عن ماء الفرات ، بئسما خلفتم نبيّكم في ذريّته ، مالكم لا سقاكم الله يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم.

فقال رجل منهم : يا هذا ما ندري ما تقول. فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة ، اللهم إني أبرء إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللهم إلق بئسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان (١).

قال : فجعل القوم يرمونه بالسهام : فرجع برير الى وراءه (٢) ، وتقدّم الحسين حتى وقف بإزاء القوم ، وجعل ينظر الى صفوفهم وكأنّهم السيل (٣) ، ونظر الى ابن سعد لعنه الله واقفاً وحوله صناديد أهل الكوفة ، فقال : الحمدلله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور عن غرّته ، والشقي من قتلته ، أيّها الناس فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب من طمع فيها ، رأراكم قد اجتمعتم على أمر قد اسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أنكم زحفتم على ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولما تريدون وإنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء

__________________

(١) مقتل الحسين اللخوارزمي : ١ / ٢٥٢.

(٢) تظلّم الزهراء : ١٨٠.

(٣) البحار : ٤٥ / ٥.

٢٦٢

قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين (١).

فقال عمر بن سعد لعنه الله : كلّموه فإنه ابن أبيه ووالله لو وقف فيكم هذا يوماً كاملاً لما انقطع (٢). فتقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن وقال : يا حسين مالذي تقول؟ أفهمنا حتى نفهم.

فقال عليه‌السلام : أقول أتقوا الله ربك ولا تقتلونني فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ، ولا انتهاك حرمتي ، فإنّي ابن بنت نبيكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم ، ولعله قد بلغكم قول نبيكم : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (٣).

فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن أنزل على حكم الأمير ابن زياد.

فقال الحسين عليه‌السلام : لا والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقر لكم إقرار العبيد (٤).

رامت تسوق المصعب

الهدار مستاق الذلول

ويروح طوع يمينها

قود الجنيب أبو الشبول

خلط الشجاعة بالبرا

عة فالصليل عن الدليل

لفّ الرجال بمثلها

وثنى الخيلول على الخيول

لسانه ولسانه

صدقان من طعن وقيل

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب : ٤ / ١٠٠.

(٢) نفس المهموم : ٢٤٥.

(٣) بحار الأنوار : ٤٥ / ٦.

(٤) الإيقاد : ١٠٣.

٢٦٣

المطلب الخمسون

في خطبة الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء

قال أهل السير : لمّا عبّأ الحسين عليه‌السلام أصحابه وعبّأ ابن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليه‌السلام ، ورتّب مراتبم وأقام الرايات في مواضعها ، خرج الحسين عليه‌السلام عند ذلك ممتطياً جواده حتّى أتى نحو القوم فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا فصاح بهم : ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا فتسمعوا قولي وإنّما أعدوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من المرشدين ، ومن عصاني كان من المهلكين ، وكلّكم عاص لأمري غير مستمع لقولي ، فقد ملئت بطونكم من الحرام ، وطبع على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون ، ألا تسمعون ، فتلاوموا فيما بينهم وقالوا : انصتوا له (١). فلمّا رآهم الحسين عليه‌السلام قد سكتوا ، قال :

تباً لكم أيّتها الجماعة وترحا ، أحين استصرختمونا والهين ، فاصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفاً في إيمانكم ، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم البا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم ، فهلّا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لما يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبى ، وتداعيتم إليها كتهافت

__________________

(١) الإيقاد : ١٠٤.

٢٦٤

الفراش ، فسحقاً لكم يا عبيد الأُمّة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الأنام ، ومحرّفي الكتاب ، ومطفىء السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمّة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين ، وأنتم على ابن حرب واشياعه تعتمدون ، وإيّانا تخاذلون ، أجل والله ، غدر فيكم ، وشجت عليه اُصولكم ، ونازرت عليه فروعكم ، فكنتم أخبث ثمر شجي للناظر ، وأكلة للغاصب ، ألا وإنّ الدّعي بن الدّعي قد ركز بين أثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، واُنوف حمية ونفوس أبيه من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، ألا وقد اعذرت ، ألا قد أنذرت ، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ، ثم أنشأ يقول :

فإن نهزم فهزّامون قدماً

وإن تهزم فغير مهزّمينا

وما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

ثم قال : أمّا والله لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس حتّى تدور بكم دوران الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إليَّ أبي عن جدّي ، فأجمعوا أمركم وشركائكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثم أقضوا إليّ ولا تنظرون (إِنّي تَوَكّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَبّكُم مَا مِن دَابّةٍ إِلّا هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا إِنّ رَبّي عَلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، اللّهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف ، يسقيهم كأساً مصبرة ، ولا يدع فيهم أحداً إلّا قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولآبائي وأهل بيتي وأشياعي منهم ، فإنّهم

__________________

(١) إقتباس من الآية ٥٦ من سورة هود.

٢٦٥

غرونا وكذبونا وخذلونا ، أنت ربّنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (١).

ثم قال عليه‌السلام : أين عمر بن سعد لعنه الله؟ فجاء إليه فقال : يا عمر ، أنت تقتلني وتزعم أنّه يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان؟! والله لا تتهنأ بذلك أبداً ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فأنت لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة قد نصبت بالكوفة يتراماه الصبيان ، ويتخذونه غرضاً بينهم.

فاغتاض اللعين من كلام الحسين عليه‌السلام ثم صرف بوجهه عنه ونادى بأصحابه : ما تنتظرون ، احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة (٢) ، ثم أخذ سهماً ووضعه في كبد القوس ورمى به نحو مخيّم الحسين ، وقال : اشهدوا لي عند الأمير ابن زياد ـ لعنه الله ـ فإني أول من رمى الحسين (٣) ، ثم رمى العسكر كلّه.

قال الراوي : فما بقي من أصحاب الحسين أحد ، إلّا وأصابه سهم أو سهمين ، من تلك السهام (٤) فقال الحسين عليه‌السلام لأصحابه ، قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لابدّ منه ، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم (٥).

قال فحملوا أصحاب الحسين حملة واحدة ، وجعلوا يقاتلون حتى اقتتلوا ساعة من النهار. قال الراوي : فقتل من أصحاب الحسين عليه‌السلام خمسين رجلاً. قال : ثم أمر أصحابه أن يحملوا على القوم واحداً بعد واحد ، وكان الرجل منهم إذا أراد البراز يستأذن الحسين عليه‌السلام فيأذن له ، ثم يقول : السلام عليك يا أبا عبدالله ، فيقول الحسين : وعليك السلام ، ثم يحمل على القوم حتى أن عابس بن شبيث

__________________

(١) الملهوف على قتلى الطفوف : ١٥٧.

(٢) الإيقاد : ١٠٥.

(٣) مثير الأحزان لابن نما : ٥٦.

(٤) تظّلم الزهراء : ١٥٨.

(٥) نفس المهموم للشيخ عباس القمي : ٢٥٠.

٢٦٦

الشاكري (١) لشوقه واشتياقه للقتل ، خرج من الخيام حاسراً (٢) وانحدر نحو القوم ، فقيل له : عابس أجننت؟ قال : نعم ، إنّ حب الحسين عليه‌السلام أجنني.

يتهادون الى الحرب سكارى

طرباً فيه وما هم بسكارى

__________________

(١) وصفه الشيخ المامقاني في ج ٢ ص ١١٢ من كتابه «تنقيح المقال» بقوله : «كان عابس من رجال الشيعة رئيساً شيخاً خطيباً ناسكاً متهجّداً ...»

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٢٣.

٢٦٧

المطلب الواحد والخمسون

في وحدة الحسين عليه‌السلام وخطبته يوم العاشر

لمّا كانت اليوم العاشر من المحرم وتقدّمت أنصار الحسين عليه‌السلام فقتلوا ، ثمّ تقدمت إخوته وأولاده فقتلوا وبقي وحيداً فريداً ، أقبل الى الخيمة ودعى أُخته الحوراء زينب ، فجاءت فقال لها : اختاه عَلَيَّ بفرس رسول الله المرتجز (١) وسيفه وعمامته ، فجاءت بها إليه فتعمّم بعمامة رسول الله وتقلّد بسيف رسول الله ، وركب فرس رسول الله ، ثم انحدر نحو القوم ونادى بأعلى صوته : أُنشدكم الله هل تعرفونني من أنا؟ قالوا : اللهم نعم ، أنت ابن رسول الله حقّاً. قال أنشدكم الله هل تعلمون أنّ جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قالوا : اللهم نعم. قال : اُنشدكم الله هل تعلمون أنّ أبي أبي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟ قالوا : اللهم نعم. قال : انشدكم الله هل تعلمون أنّ اُمّي فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قالوا. اللهم نعم. قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الاُمّة أسلاماً؟ قالوا : اللهم نعم. قال : انشدكم الله هل تعلمون أنّ جعفر الطيار في الجنّة عمّي؟ قالوا : اللهم نعم. قال. انشدكم الله هل تعلمون هذا سيف رسول الله أنا متقلّده؟ قالوا : اللهم نعم. قال : انشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا لابسها؟ قالوا : اللهم نعم. قال : انشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب أول القوم إسلاماً

__________________

(١) الملهوف على قتل الطفوف : ١٥٨.

٢٦٨

وأكثرهم علماً وأرجحهم حلماً وأنّه ولي كلّ مؤمن ومؤمنة؟ قالوا : اللهم نعم. قال إذاً بم تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء ، ولواء الحمد بيده يوم القيامة؟

قالوا : قد علمنا ذلك كلّه ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً. فأخذ الحسين بطرف كريمته المباركة وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة ، قال : اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا العزيز ابن الله ، واشتدّ غضبه على النصارى حين قالوا : المسيح ابن الله ، واشتدّ غضبه على المجوس حين عبدو النار من دون الله ، واشتدّ غضبه على قوم قتلوا نبيّهم ، واشتدّ غضبه على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن بنت نبيهم (١).

قال الراوي : ولمّا رأى الحسين إصرارهم على قتله أخذ المصحف ونشره على يده ونادى : يا قوم بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يا قوم بم تستحلّون دمي؟ ألست أنا ابن بنت نبيّكم؟ أو لم يبلغكم قول جدّي فيّ وفي أخي الحسن ، هذان ولداي سيّدا شباب أهل الجنّة ، فإن لم تصدّقوني فاسئلوا جابر بن عبدالله الأنصاري ، وزيد بن أرقم ، وأبا سعيد الخدري ، فوالله ما تعمّدت الكذب أبداً مذ علمت أنّ الله يمقت أهله ، والله ليس في مشرق ومغرب ابن بنت نبيّ فيكم غيري.

فأجابه الشمر قائلاً : انزل على حكم ابن زياد. فقال الحسين عليه‌السلام : لا والله ثمّ حمل عليهم بسيفه وهو يقول (٢).

أنا ابن علي الطهر من آل هاشم

كفاني بهذا مفخراً حين أفخر

وجدّي رسول الله أفضل من مشى

ونحن سراج الله في الأرض نزهر

__________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق : ٢٢٢ وما بعدها.

(٢) كما في ج ٤٥ ص ٤٩ من بحار الأنوار للشيخ المجلسي.

٢٦٩

فانكشفوا من بين يديه انكشاف المعزي إذا شدّ فيها الذئب ، ثمّ انحدر نحو المشرعة وكان عليها أربعة آلاف ، فكشفهم عن المشرعة واقتحم الفرس في الفرات ونزل في الماء. قال : فمدّ الحسين يده وغرف غرفة ليشرب وإذا بمنادي ينادي : يا حسين أتلتذ بالماء وقد هتكت حريمك؟ فرمى الماء من يده وخرج من الفرات (١) فحمل الى القوم فكشفهم على وجهه ونظر إلى الخيمة فإذا بها سالمة ، فعلم إنّها مكيدة ، وناداه رجل آخر : ألا ترى الفرات يجري في بطون الحيات والله لن تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشا (٢) ، ثم حمل على القوم مرّة ثانية وهو يقول :

أنا الحسين بن علي

آليت أن لا أنثني

فلم يزل يقاتل حتى قتل جمعاً كثيراً من الأعداء ، ثمّ رجع إلى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم (٣).

قال : واصيب بجراحات عديدة ، جاء إلى مخيمه وصاح بالنساء ، فخرجت إليه الحوراء زينب ، فقال لها : أُخيه ، عَلَيَّ بالمنديل لأشدّ به هذا الجرح ، فجاءت إليه بمنديل لتشدّ له جرحه ، وإذا ببدنه كله يشخب دماً ، فقالت له : أخي ، ايّ جرح اشدّه لك ، الجرح الذي في رأسك؟ أم الجرح الذي في جبهتك؟ أم الجرح الذي في صدرك؟ فرفع الثوب عن خاصرته وقال لها : اخية هذا الجرح ضرّني ، فصاحت وا أخاه وا حسيناه.

سهم أصابك يابن بنت محمد

قلباً أصاب لفاطم وفؤادا

__________________

(١) البحار : ٤٥ / ٥١.

(٢) فقال الحسين عليه‌السلام ، اللهم أمتُه عطشاً. قال الراوي : فكان ذلك اللعين يقول اسقوني ماء فيأتون إليه الماء فيشرب حتّى يخرج من فيه حتى هلك.

(٣) نفس المهموم : ٣٥٤.

٢٧٠

بقية المجلس في حملات الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء

بأبي ابن فاطمة والسيف في يده

إنّ ابن ميمون سرّاً يعبد الصنما

أو رأسه يتجلّى للهدى قمراً

على الأسنّة يجلو نوره الظلما

قال أرباب المقاتل : ولمّا أراد الحسين عليه‌السلام أن يحمل على القوم حملته الأخيرة ، جعل يودع عياله وأطفاله ، فتصارخت العيال والأطفال ودرن حوله ؛ فمنهنّ من تقبل رأسه ، ومنهنّ من تقبل وجهه ، ومنهنّ من تقبل يده ورجليه ، وإذا بالمنادي ينادي من القوم : يا حسين ، جبنت عن الحرب وجلست في خيمة النساء ، فقام وركب الجواد وانحدر نحو القوم ، فبينما هو يسير وإذا بصوت من خلفه : أبة لي إليك حاجة ، التفت وإذا هي سكينة ، فقال لها : بنيّة ما حاجتك؟ قالت : أبه حاجتي أن تنزل من على ظهر جوادك الى الأرض وأُريد أن أوَدِّعك وداع اليتامى. فنزل الحسين عليه‌السلام من على ظهر جواده وجلس على الأرض فجعلت سكينة تبكي ، فقال الحسين عليه‌السلام :

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة

ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قُتلت فأنت أولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوان

قال الراوي : وأقبلت إليه أخته الحوراء زينب ، فقالت له أخي أكشف لي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٠٩.

٢٧١

عن صدرك وعن نحرك ، فكشف لها الحسين عليه‌السلام صدره وعن نحره ، شمّته في نحره وقبلته في صدره ، ثمّ حوّلت وجهها نحو المدينة وصاحت : يا اُمّاه قد استرجعت الأمانة ، فتعجّب الحسين عليه‌السلام من كلامها ، فقال لها : اُخية ، وما الأمانة؟ قالت : اعلم يابن والدي ، لما دنت الوفاة من اُمّنا فاطمة ، قرّبتني إليها وشمّتني في نحري وقبلتني في صدري وقالت لي : بنية زينب ، هذه وديعة لي عندك ، فإذا رأيت أخاك الحسين وحيداً فريداً ، شمّيه في نحره وقبليه في صدره ؛ أمّا نحره فإنّه موضع السيف ، وأمّا صدره فإنّه موضع حوافر الخيول.

قال الراوي : والله لقد سمعنا منادياً ينادي بين السماء والأرض ، وا والداه وا حسيناه ، ثم ودّعهم وحمل على القوم فجعل يضرب فيهم بسيفه وهو يقول (١) :

الموت أولى من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

قال بعض الرواة : ما رأيت مكثوراً (٢) قط قد قتل منه ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه عليه‌السلام ، وإن كانت الرجال لتشدّ عليه ويشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان يحمل عليهم وقد تكاملوا ثلاثين ألف ، فينهزمون من بين يديه كالجراد المنتشر (٣) ، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فكان كما قال المتنبي (٤) :

واستعار الحديد لوناً وألقى

لونه في ذوائب الأطفال

هذا والعطش قد أثر بعينه حتّى صار لا يبصر بهما ، وأثر بلسانه حتّى صار

__________________

(١) كما في صفحة ١٧٠ من كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف».

(٢) المكثور : المغلوب.

(٣) تاريخ الطبري : ٤ / ٣٤٥.

(٤) في قصيدته التي يمدح بها عبدالرحمن بن المبارك الإنطاكي ومطلعها :

حيلةُ الهجر لي وهجرُ الوصالِ

نكّساني في السُّقمِ نُكسَ الهلالِ

٢٧٢

كالخشبة اليابسة ، وأثر بأحشائه حتى صار الغبار يدخل في فيه وينزل الى جوفه ثمّ يخرج مثلما دخل ، وأثر العطش في قواه وهو مع ذلك يضرب فيهم بسيفه ، فصاح عمر بن سعد بأصحابه : الويل لكم يا حمقاء ، أتدرون من تقاتلون ، هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، فاحملوا عليه حملة رجل واحد (١). ثم إنّهم افترقوا عليه أربعة فرق : ضرباً بالسيوف ، طعناً بالرماح ، رمياً بالسهام ، رضخاً بالحجارة والخشبة ، فبينما هو كذلك إذ أتاه حجر مشوم فرقع في جبهته ، وسالت الدماء على كريمته المباركة (٢) ، أخذ ثوبه ليمسح الدم ، بان صدره الشريف إلى الأعداء فرماه أبو الحتوف الجعفي لعنه الله بسهم محدّد مسموم له ثلاث شعب ، فوق في لبّة قلبه (٣) ، فرفع رأسه إلى السماء وقال : الهي أنت تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الارض ابن نبيّ غيره (٤) ، وكلّما عالج وأراد أن ينتزعه من موضعه ما تمكّن ، انحنى على قربوس سرج فرسه قائلاً : بسم الله وبالله وعلى ملّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستخرج السهم من قفاه وجرى الدم كالميزاب (٥).

قال الراوي : وخرج ثلثا كبده مع السم ، فخرّ صريعاً إلى الأرض ، فجعل جواده يدور حوله ويأخذ عنانه بأسنانه ويضعه بيد الحسين عليه‌السلام مشيراً إليه بالقيام ، فلمّا رأى الجواد أنّ الحسين لا قابلية له على النهوض ، خضب ناصيته بدمه ورجع نحو خيمه كي يعلم النساء بقتله ، وهو يصهل ويحمحم ويقول في صهيله :

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب : ٤ / ١١٠.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٣٤.

(٣) تظلم الزهراء : ٢٠٩.

(٤) مثير الأحزان لابن نما : ٧٣.

(٥) الملهوف على قتلى الطفوف : ١٧٢.

٢٧٣

الظليمة الظليمة الهضيمة الهضيمة من اُمّة قتلت ابن بنت نبيها (١) ، فدرن الهاشميّات حوله وجعلن يتصارخن ويبكين وكأنّي بالحوراء زينب تخاطبه :

يا جواد الحسين أين الحسين

أين من كان لي عماداً ضلالا

قال أرباب المقاتل : ولما صرع الحسين عليه‌السلام سقط عن ظهر جواده إلى الأرض ، وعمل له وسادة من التراب ، فنام عليها ثلاث ساعات من النهار ، ثمّ أنه عليه‌السلام أراد النهوض فلم يتمكن ، احتبى بحمائل سيفه وجلس محتبيا.

قال الراوي : وخرج غلام صغير من المخيّم وهو عبدالله بن الحسن عليه‌السلام (٢) وقرطاه يتذبذبان على خدّيه ، فلحقته زينب بنت علي لتحبسه ، فأبى وامتنع امتناعاً شديداً ، فقال : لا والله ، لا افارق عمّي الحسين حتّى إذا جاء الى مصرع عمّه الحسين عليه‌السلام وجلس في حجره فصاح به الغلام : ويلك أتضرب عمّي ، ثم رفع يده ليمنع الضربة عن عمّه فضربه اللعين فاتّقاها الصبي بيده فأطنها الى الجلدة وإذا هي مطلقة ، فنادى الغلام : يا عمّاه ، فأخذه الحسين وضمه إليه وقال له : يابن أخي أصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين. قال : فرماه حرملة بن كاهل بسهم فوقع الغلام إلى جنب عمه الحسين قتيلاً (٣).

قال الراوي : ورمق الحسين عليه‌السلام السماء بطرفه وجعل يقول :

تركت الخلق طرّاً في هواكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني بالحب أرباً

لما مال الفؤاد الى سواكا

__________________

(١) مقتل الحسين للمحقق الثبت السيد عبدالرزاق المقرم رحمه الله : ٢٨٣.

(٢) حسب ما جاء في ج ٢ ص ١١٠ من كتاب الإرشاد للشيخ المفيد.

(٣) بحار الأنوار : ٤٥ / ٥٤.

٢٧٤

ثمّ أُغمي على الحسين عليه‌السلام ، هذا والأعداء واقفون بإزائه يحجمون عن الإقدام (١) ، ويختلفون في الكلام ؛ فقائل يقول : إنّه عمل حيلة ، والآخر يقول : ضعف ولا قابلية له على القيام ، قال الشمر لعنه الله : فإن أردتم أن تعلموا ذلك فاهجموا على المخيّم ؛ فإن كانت به قوّة فستنهض به غيرته للذبّ عن الحرم ، فهجموا على المخيّم فتصارخت العيال وتهاتفت به ؛ فصاح الحسين عليه‌السلام : «ويلكم! أنا الذي أُقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن ذمام» (٢).

فصاح الشمر : دعوا النساء واقصدوا الرجل بنفسه ، فلعمري لهو كفو كريم (٣) ؛ فتركوا النساء ورجعوا إليه ، فجاء إليه مالك بن النسر ، أوّل ما صنع اللعين شتم الحسين عليه‌السلام وضربه بالسيف على رأسه ، وكان على رأس الحسين برنساً فأمتلأ البرنس دماً ، وأخذ الحسين عليه‌السلام من دم رأسه وخضّب به وجهه ، وقال : «هكذا ألقى الله وأنا مخضّب بدمى» (٤). ثمّ جاء إليه سنان بن أنس وطعنه بالرمح في خاصرته ، وطعنه صالح بن وهب في ترقوته ، وضربه زرعة بن شريك على حبل عاتقه ، ورماه حرملة بن كاهل بسهم فأُغمي عليه (٥).

قال : وصالح عمر بن سعد لعنه الله : مَنْ يأتيني برأس الحسين وله الجائزة؟

فانحدر إليه مالك بن النسر فأحسّ به الحسين فرمقه بطرفه ، فرمى السيف من يده وولّى هارباً. فقال له شبث بن ربعي : أنا له ، فقال ابن سعد لعنه الله : أنت له ، فحمل سيفه وأقبل إلى الحسين عليه‌السلام فرمقه الحسين بطرفه ، فرمى السيف من يده

_________________

(١) الأخبار الطوال للدينوري : ٣٥٨.

(٢) الملهوف علي قتلي الطفوف : ١٧١.

(٣) نفس المهموم : ٣٥٥.

(٤) مقتل العلوالم للشيخ عبدالله البحراني : ٢٩٦.

(٥) نفس المصدر : ٢٩٩.

٢٧٥

وولّى هارباً (١). فنادى ابن سعد لعنه الله : أما فيكم مَنْ يذبح الحسين ويأتيني برأسه؟!

فغضب الشمر وأقبل إلى الحسين ، وكان الحسين يُغمى عليه تارة ويفيق أُخرى ، فجاء إليه اللعين وتربّع على صدره ، أفاق الحسين عليه‌السلام من غشوته وفتح عينيه ، وإذا بالشمر جاثٍ على صدره ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «يابن ذي الجوشن أتعرفني مَنْ أنا؟!». قال : نعم ، أعرفك ، جدّك المصطفى ، أبوك المرتضى ، أُمّك الزهراء ، أخوك الحسن ، أقتلك ولا أُبالي (٢). فقال له الحسين عليه‌السلام : «أجل ، اسقني قطرة من الماء فقد تفتّت كبدي من الظماء». فقال اللعين : بل أسقيك كأس الحمام (٣). ثمّ وضع اللعين سيفه على رقبة الإمام ، وأراد أن يحزّ نحره فلم يعمل السيف ، فقيل له : ويلك هذا موضع شمّ رسول الله! اقلبه على وجهه ، فقلب الحسين على وجهه.

وأقبل الشمر والهنديّ في يده

فكان ما كان من إنفاذٍ مسطور

وكان كلّما قطع عرقاً صاح الحسين : « واجداه وا محمداه ».

قال الراوي أدركت الحوراء زينب أخاها وشمر يحزّ نحره ، فجعلت

_________________

(١) نعم ، لا مبالغة في هذا ، فهؤلاء أرباب المقاتل يقولون ما نصّه : «وكلّما انتهي رجلٌ من الناس إليه ـ أي إلي الحسين عليه‌السلام ـ انصرف عنه» وقالوا أيضاً بعد كلام : «وقد تاواه الناس» كلّ ذلك خوفاً وفرقاً منه عليه‌السلام ، يقول السيد حيدر الحلّي ولقد أحسن كلّ الإحسان :

عفيراً متي عافيته الكماة

يختطف الرعبُ ألوانها

فما أجلت الحربُ عن مثله

صريعاً يجبّن شجاعتها

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٣٧.

(٣) أسرار الشهادة للدربندي : ٤٢٦.

٢٧٦

تمانعه وتوبّخه ، وربما تتوسّل به ، وتقسم عليه بجدّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، فقام إليها اللعين وضربها ، فخرّت مغشيّاً عليها ، فلمّا أفاقت من غشوتها رأت رأس أخيها الحسين عليه‌السلام (٢) على رأس رمح طويل ، والمنادي ينادي بين السماء والأرض : قُتل الإمام ابن الإمام أخو الإمام أبو الأئمّة (٣) ، وكُسفت الشمس ، وتزلزلت الأرض ، وهبّت عجاجة سوداء مظلمة ، وأخذت الناس الدهشة.

ولمّا قطع الشمر رأسه دفعه إلى خولي ؛ ليوصله إلى ابن سعد ، ثمّ أقبلوا على سلب الحسين ؛ فأخذ قميصه إسحاق بن حوية ، وأخذ سراويله بحر بن كعب ، وأخذ عمامته الأخنس الحضرمي ، وأخذ نعليه الأسود بن خالد ، وأخذ خاتمة بجدل بن سليم الكلبي وقطع أصبعه مع الخاتم ، وأخذ قطيفة كانت له من خزّ قيس بن الأشعث ، وأخذ درعه البترآء عمر بن سعد ، وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأزدي ، وقيل : من بني دارم ـ وهؤلاء كلّهم انتقم الله منهم شرّ انتقام (٤) ، وصاح الشمر عَليَّ بالنار ؛ لأحرق المخيّم ، فهجموا على المخيّم وأشعلوا النار فيها ؛ فخرجن الفاطميات ناشرات الشعور ، لاطمات الخدود ، مشقّقات الجيوب ، ينادين : وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله ، وجعل القوم ينتزعون الملاحف من على

_________________

(١) قال المغفور له الحاج هاشم الكعبي رحمه‌الله في إحدي قصائده العامرة :

وجاءت لشمرٍ زينبُ ابنةُ فاطم

تعنّفه عن أمره وتُعذّلُ

تدافعهُ بالكف طوراً وتارةً

إليه بطه جدّها تتوسّل

أيا شمرُ لا تعجل علي ابن محمّدٍ

فذو ترةٍ في مثله ليس يَعجلُ

أيا شمر هذا حجّةُ الله في الورى

أعد نظراً يا شمرُ إن كنت تعفل

فمرَّ يحزُّ النحر غير مراقب

من الله لا يخشي ولا يتوجّلُ

(٢) أسرار الشهادة : ٤٢٩.

(٣) الإيقاد : ١٣٥.

(٤) انظر بحار الأنوار : ٤٥ / ٥٧ وما بعدها.

٢٧٧

ظهور الفاطميات (١) وهنّ يلذن بعضهنّ ببعض ، ومنادي القوم ينادي : احرقوا بيوت الظالمين. قال : وجئن النسوة إلى مصرع الحسين عليه‌السلام.

فواحدةٍ تحنو عليه تضمه

وأُخرى عليه بالرداءِ تظلّلُ

وأُخرى بفيضِ النحرِ تصبغُ وجهها

وأُخرى لما قد نالها ليس تعقل (٢)

فائدة : وفي كتب بعض العلماء قال : إنّه لمّا خمدت النيران يوم عاشوراء افتقدت زينب الأطفال ففقدت طفلتين للحسين ؛ فجعلت تدور في المعركة إلى أن وصلت إلى تلّ من الرمل ، وجدت الطفلتين قد كشفتا عن صدريها ، وقد حفرتا الأرض وجعلتا صدريها على الرمل الرطب من شدّة العطش ، حركتهما وإذا بهما ميّتين. صاحت : يا أُمّ كلثوم! ويا فضّة! هلمن لنحملنّهما ، فحملنهنّ إلى السجّاد وصحن صيحة واحدة ، فاندهش العسكر. فسأل عمر بن سعد : ما الخبر؟ قالوا له : طفلتين ماتتا من العطش. فاجتمع رؤساء عسكره عنده وجعلوا يوبّخونه ويلومونه على منعه : ويلك! إن لم تسقِ الأطفال الماء يهلكوا عن آخرهم. فأمر السقائين أن يحملوا القرب ، ويعرضوا عليهم الماء فأمر أربعمئة سقّاء فحملوا القرب ، وجاؤوا بها إلى الأطفال والعيال [وهم] ينادون : هلمّوا واشربوا الماء. فلمّا رأوا الأطفال الماء وقد أُبيح لهم ، تصارخوا وهرعوا في البيداء ينادون : نحن لا نشرب الماء وسيّدنا قُتل عطشانا. انتهى.

فائدة : ولقد رأوا ذلك اليوم شخصاً عليه طمار بيض يصرخ ويبكي ، فقالوا له : أجُننت؟! قال : ما جُننت ، ولكنّي أرى ما لا ترون ، أرى رسول الله واقفاً

__________________

(١) انظر أمالي الشيخ الصدوق : ٢٢٨.

(٢) من قصيدةٍ عصماء لا زالت تُردّد من على صهوات المنابر للمغفور له الشيخ هاشم الكعبي رضوان الله عليه ومطلعها :

أما طلل يا سعدُ هذا فتسأل

تزال فهذي الدار إن كنت تنزل

٢٧٨

على مصرع الحسين عليه‌السلام واضعاً سبّابته في فيه ، أخاف يدعو على هذه الأُمّة فتهلك وأهلك معها. فسُئل السجّاد عن هذا الشخص ، قال : «ما أراه ألّا جبرئيل ، ولو أُذن له لصرخ صرخة جعل عاليها سافلها».

فائدة : قال الراوي : وانتهبوا رحل الحسين وإبله وأثقاله ، وسلبوا النساء وأخرجوهنّ من الخيام مسلّبات حافيات ، حاسرات باكيات نادبات ، يلذن بعضهنّ ببعض ، وهجموا على زين العابدين اجتذبوا النطع من تحته ، وألقوه على وجهه ؛ هذا يقول : اقتلوه ، وذاك يقول : دعوه ، والآخر يقول : لا تبقوا لأهل هذا البيت بقيّة ، ثمّ تركوه على حاله.

فائدة : روى أبو مخنف قال : قال عبد الله بن العباس : حدّثني مَنْ شهد الواقعة : أنّ فرس الحسين جعل يحمحم ، ويتخطّى القتلى في المعركة ، قتيلاً بعد قتيل حتى وقف على جثّة الحسين ، فجعل يمرّغ ناصيته بالدم ، ويلطم الأرض بيده ، ويصهل صهيلاً حتى ملأ البيداء ، فتعجّب القوم من فعاله ، فلمّا نظر عمر بن سعد لعنه الله إلى فرس الحسين قال : يا ويلكم أتوني به. وكان من جياد خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فركبوا في طلبه ، فلمّا أحسّ الجواد بالطلب جعل يلطم بيده ورجليه ، ويُمانع عن نفسه حتى قتل خلقاً كثيراً ، ونكّس فرساناً من خيولهم ولم يقدروا عليه ، فصاح عمر بن سعد لعنه الله : دعوه حتى ننظر ما يصنع. فلمّا أمن الجواد من الطلب أتى إلى جُثّة الحسين وجعل يمرّغ ناصيته بدمه ، ويبكى بكاء الثكلى ، وثار يطلب الخيمة.

فلمّا سمعت زينب بنت علي عليه‌السلام صهيله أقبلت إلى سكينة وقالت لها : قد جاء أبوك بالماء ، فخرجت سكينة فرحة بذكر أبيها فرأت الجواد عارياً ، والسرج خالياً من راكبه ، فهتكت خمارها ، ونادت : وا أبتاه! وا حسيناه! وا قتيلاه! وا غربتاه! وا بعد سفراه! وا طول كربتاه! هذا الحسين بالعرى ، مسلوب العمامة والردا ، قد أُخذ

٢٧٩

منه الخاتم والحذا ، بأبي مَنْ رأسه بأرض وجثّته بأُخرى ، بأبي مَنْ رأسه إلى الشام يُهدى ، بأبي مَنْ أصبحت حرمه مهتوكة بين الأعداء ، بأبي مَنْ عسكره يوم الإثنين مضى ، ثمّ بكت بكاءً شديداً ، وأنشأت تقول :

ماتَ الفخارُ وماتَ الجودُ والكرمُ

واغبرّتِ الأرضُ والأفاقُ والحرمُ

وأغلقَ اللهُ أبوابَ السماءِ فما

ترقى لهم دعوةٌ تُجلى بها الغممُ

يا أُختُ قومي انظري هذا الجوادَ أتى

ينبئكِ أنّ ابن خيرَ الخلقِ محترمُ

ماتَ الحسينُ فيا لهفي لمصرعهِ

وصارَ يعلو ضياءَ الأُمّةِ الظلمُ

فائدة : قال أبو مخنف : ولمّا ارتفع صياح النساء ، صاح ابن سعد : ويلكم اكبسوا عليهنّ الأخبية واضرموهنّ ناراً ، فاحرقوها ومَنْ فيها. فقال رجل منهم : ويلك يابن سعد! أما كفاك قتل الحسين وأهل بيته وأنصاره عن إحراق أطفاله ونسائه؟! كأنّك تريد أن يخسف الله بنا الأرض؟! فتبادروا إلى نهب النساء الطاهرات.

قالت فاطمة بنت الحسين : كنت في ذلك الوقت واقفة في الخيمة ، إذ دخل رجل أزرق العين فأخذ ما كان في الخيمة ، ونظر إلى قرطين كانتا في أُذني فجعل يعالجهما وهو يبكي حتى نزعهما ، فقلت له : تسلبني وأنت تبكي؟! فقال : أبكي لمصابكم أهل البيت. فقلت له : قطع الله يديك ورجليك ، وأحرقك الله تعالى بنار الدنيا قبل الآخرة.

فائدة : قال أبو مخنف : ثمّ إنّ عمر بن سعد لعنه الله قال : مَنْ يبادر إلى جسد الحسين فيوطأه ، فابتدر إليه عشرة فوارس فحطّموا صدره وظهره.

إنتهي الجزء الأول من كتاب ثمرات الأعواد

٢٨٠