ثمرات الأعواد - ج ١

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

المطلب الثاني والأربعون

في ترجمة العباس بن علي عليهما‌السلام ومصرعه

قال أهل السير : يروى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إن ولدي العباس زقّ العلم زقّاً» (١).

وذكر المؤرخون : إنّ العباس بن علي كان أعلم أصحاب الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء ، وأضجعهم وأصلبهم إيماناً ، وكان بطلاً ، فارساً ، وسيماً ، جسيماً ، بين عينيه أثر السجود ، وكان إذا ركب الفرس المطهم يخطّان رجلاه في الأرض خطّاً.

وبلغ من شجاعته في كربلاء أنّ عمرو بن خالد الصيداوي ، وسعداً مولى حسان بن الحارث ، وجمع بن عبيدة العائدي ، حملوا على أعدائهم فلمّا وغلوا فيهم عطفوا عليهم واقتطعوهم من أصحابهم وأحاطوا بهم ، وقال ابن الأثير :

فانتدب لهم العباس بن علي عليه‌السلام وحده ، وحمل على القوم ففرّقهم واستنقذ أصحابه ، فلمّا رآهم وكانوا قد جرحوا عدّة جراحات ، قويت به قلوبهم فتحاملوا بجراحاتهم وجعلوا يقاتلون القوم حتى رجع العباس إلى موقفه.

ومن صلابة إيمانه أنه عليه‌السلام لمّا ضاق صدره [كان] ـ ونظر إلى حالة أخيه الحسين عليه‌السلام ، وحالة أصحابه ، وحالة عيالاته ـ ينظر الى الحسين عليه‌السلام فيشاهده

__________________

(١) انظر أسرار الشهادات (للدربندي) : ٣٢٤ ، (الطبعة الحجرية).

٢٢١

حزيناً كئيباً ، وينظر أصحاب أخيه فيشاهدهم مجزرين كالأضاحي ، وينظر عيالاته فيشاهدهنّ يتصارخن من شدّة العطش ، سئم الحياة ومنعه إيمانه أن يبرز بلا رخصة من أخيه الحسين عليه‌السلام ، فجاء الى الحسين عليه‌السلام وقال له ، أخي قد ضاق صدري وسئمت الحياة واريد أن أطلب بثاري من هؤلاء المنافقين ، فهل لي من رخصة؟ فقال الحسين عليه‌السلام : أجل اطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء ؛ فذهب الى القوم ووعظهم وحذّرهم فما افاد الوعظ ولا التحذير ، رجع الى الحسين وسمع الأطفال ينادون العطش ، أقبل إلى الخيمة ـ ومعه الحسين عليه‌السلام ـ ليودّع عياله ويأخذ القربة ليملأها لهم من الفرات ، وقد كانت زينب قالت لأختها اُم كلثوم : اُخية في هذا اليوم كلّ فرد من أخوتنا إذا أراد البراز يأتينا الى المخيّم ويودّعنا ، والآن لم يبق من اخوتنا الا الحسين والعباس ، فإذا جاء إلينا نقسم عليه بالجلوس فإذا جلسا خذي أنت بطرف رداء العباس وأنا آخذ بطرف رداء الحسين ، ولا ندعهما يخرجان من الخيمة. فلما رأتهما الحوراء زينب أقسمت عليهما بالجلوس ، فجلسا فقامت زينب وجلست الى جنب إخيها الحسين ، وكذلك ام كلثوم [جلست] وبيدها رداء العباس وهن يبكين ، فبينما هم في هذا ونحوه إذا المنادي ينادي : يا حسين ويا أبا الفضل جبنتما عن الحرب وجلستما بإزاء النساء ، فنبض العرق الهاشمي بين عيني العباس ، فاجتذب رداءه من اُخته اُم كلثوم وقام ، فتعلقت به اُم كلثوم ، فناداها الحسين : اُخيّه دعيه يمضي فقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه ؛ فصاحت زينب : أمري وأمركما إلى الله ، فقام العباس وركب جواده :

لا تنس للعباس حسن مقامه

بالطف عند الغارة الشعواء

واسا أخاه بها وجاد بنفسه

في سقي أطفال له ونساء

ردّ الاُلوف على الاُلوف معاً

رضاً حدّ السيوف بجبهة غرّاء

ويروى أنّه سمع الأطفال ينادون العطش ، رمق السماء بطرفه وقال : «إلهي

٢٢٢

اُريد أن أعتدُّ بعدّتي ، وأملأ لهؤلاء الأطفال قربتي». فركب فرسه وحمل قربته على كتفه ، وأخذ الرايه معه وقصد المشرعة ، ونزل الى الفرات فلمّا أحسّ ببرد الماء وقد كضّه العطش ، اغترف بيده غرفة ليشرب فذكر وصيّة أبيه أمير المؤمينين عليه‌السلام وتذكّر عطش أخيه الحسين عليه‌السلام وعيالاته ، رمى الماء من يده وقال : لا والله لا أشرب الماء وأخي الحسين عطشان ، ثم جعل يقول :

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنت أو تكوني

هذا حسين وارد المنون

وتشربين بارد المعين

ثم ملأ القربة وحملها على كتفه وخرج من المشرعة ، استقبله الكتائب وصاح ابن سعد : اقطعوا عليه طريقه ، فلما رأى العباس عليه‌السلام ذلك حمل عليهم بسيفه وهو يقول :

إنّي أنّا العباس اغدوا بالسقا

ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى

نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا

حتى أُوارى ميّتاً عند اللقا

فجعل يقاتلهم مقاتلة الأبطال في ذلك المجال ، حتى قتل منهم جماعة ، فبينما هو يقاتل فجاء سهم الى القربه فأصابها واُريق ماؤها ، فدمعت عيناه ووقف متحيراً ، فبينما هو كذلك أذ أتاه السهم فوقع في عينه اليمنى ، وضربه الحكيم بن الطفيل السنبسي على يمينه فقطعها ، أخذ الواء بشماله وهو يقول :

والله إن قطعتموا يميني

إنّي اُحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادق اليقين

فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فقطعها ، فضمّ اللواء إلى صدره ببقيّة يده وهو يقول :

يا نفس لا تخشي من الكفّار

وأبشري برحمة الجبّار

مع النبيّ سيّد الأبرار

مع جملة السادات والأطهار

فقد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربّ حرّ النار

٢٢٣

فحمل عليه رجل تميمي من أبناء ابان بن دارم وبيده عمود من حديد فضربه على اُم رأسه ، خر صريعاً إلى الأرض ونادى بأعلى صوته : ادركني يا أخي ، فانقضّ عليه الحسين عليه‌السلام كالصقر ، فرآه مقطوع اليدين ، مرضوض الجبين ، السهم نابت في العين ، المخّ سائل على الكتفين ، نادى : الآن انكسر ظهري ، الآن قلّت حيلتي ، الان شمت بي عدوي.

ويقال : إنه عليه‌السلام أخذ رأسه ووضعه في حجره ، وكان العباس مغمى عليه ، أفاق فظن أنّ رجلاً من الأعداء يريد حزّ رأسه ، فقال العباس عليه‌السلام : بالله عليك أمهلني حتى يأتي إليَّ ابن والدي ، فقال له الحسين عليه‌السلام : أخي أنا أخوك.

ثم أنّ الحسين وضع رأس العباس على الأرض ، وقام ووضع يديه تحت ظهره أراد حمله إلى المخيم ، فقال العباس : بالله عليك ألا ما تتركني في مكاني ، فقال له الحسين عليه‌السلام : لماذا يا أخي؟ فقال العباس : لحاليتين الاُولى فقد نزل بي الموت الذي لابد منه ، والثانية إنّي واعدت سكينة بالماء والآن مستحي منها.

ثم فاضت نفسه الزكية ، فقام الحسين عليه‌السلام من عنده وأقبل الى المخيّم يكفكف دموعه بكمّه كي لا تراه النساء ، استقبلته سكينة فقالت له : أين عمّي العباس؟ لعلّه شرب الماء ونسي ما وراه ؛ فقال لها : بني عظّم الله لك الأجر بعمّك العباس ، فصاحت : وا عمّاه وا عباساه ، من للنساء الضائعات [من بعدك] :

عباس تسمع زينباً تدعوك من

لي يا حماي إذ العدى سلبوني

أو لست تسمع ما تقول سكينة

عمّاه يوم الأسر من يحميني

(فائدة) : وفيه يقول : ـ رائياً ـ حفيده الفضل بن الحسن بن عبدالله بن العباس رضوان الله عليهما :

إني لأذكر للعباس موقفه

بكربلاءَ وهام القوم تختطف

يحمي الحسين ويحميه على ظمأ

ولا يولّي ولا يثني فيختلف

٢٢٤

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده

مع الحسين عليه الفضل والشرف

أكرم به مشهداً بانت فضيلته

وما أضاع له أفعاله خلف

(فائدة) : روى جماعة عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة ، قال : رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه ، وقد كنت أعرفه قديماً شديد البياض جميلاً ، فسألته عن سبب تغيّره ، وقلت له : ما كدت أعرفك؟! فقال : إنّي حضرت كربلاء وقتلت وسيماً وجسيماً بين عينيه أثر السجود ، فما بت ليلة منذ قتلته إلى الآن إلّا وجائني ذلك الرجل بالنوم وأخذ بتلابيبي وقادني إلى جهنّم ، فيدفعني فيها فأضل أصيح فلا يبقي أحد في الحي إلّا ويسمع صياحي وتنتبه الناس من نومها ، قال الاصبغ : والمقتول هو العباس بن علي بن إبي طالب عليه‌السلام.

(فائدة) : وأنّما دفن العباس في مكان مصرعه لأنّ بني أسد ما استطاعوا حمله لتوزيع أعضاءه كما إنّ الحسين عليه‌السلام لم يحمله على العادة كما كان يحمل القتلى.

(فائدة)

بذلت أيا عباس نفساً نفيسة

لنصر حسين عز بالمجد عن مثل

أبيت التذاذ الماء قبل التذاذه

فحسن فعال المرء فرع عن الأصل (١)

__________________

(١)

(نصاري)

خاض الماي بس هيّس ابرّده

ترس چفّه ويروي عطش چبده

تذكّر لن أخوه حسين بعده

ذبّ الماي من چفّة اوتحسّر

هذا الماي يجري ببطون حيّات

وضوگة گبل اخوية احسين هيهات

اظن طفله يويلي من العطش مات

وظن موتي گرب والعمر گصّر

شلون اشرب وخوي حسين عطشان

وسكنه والحرم واطفال رضعان

وظن گلب العليل التهب نيران

يريت الماي بعد لا حله او مر

٢٢٥

المطلب الثالث والأربعون

في ترجمة علي الأكبر عليه‌السلام

روى ابن إدريس في السرائر ، قال : ولد علي الأكبر بعد وفاة جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام بسنتين ؛ ورواره المفيد ايضاً في الإرشاد.

وأمه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة الثقفي ، وقيل : ولد في أوائل خلافة عثمان ؛ وروى الحديث عن جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ وكان أشبه الناس خلقاً ومنطقاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

همته بس يوصل الماي لحسين

لا گامن او گعدن الچفين

همته اطفال موته بالصواوين

عطاشى اگلوبهم تلهب امن الحر

اجاه السهم للگربه او فراها

وگف يبچي وسكنه ما نساها

مواعدها على اميّه لحشاها

او منها يستحي للخيم يسدر

سمع حسّه الحسين او ركب وارزم

غار اعلى العده من باب المخيم

رد يمّه او شافه سابح ابدم

تخوصر فوگ راسه والدمع خر

حط راسه بحضنه او راد الوادع

شاله وتربه عباس بالگاع

رد احسين راسه ابگلب مرتاع

شاله اردود للتربان والحر

(تخميس)

نادى وقد ملأ البوادي صيحة

صمّ الصخور لهو لها تتألم

أأخي من يحمي بنات محمّد

إن صرن يسترحمن من لا يرحم

٢٢٦

وروى أبو الفرج الأصبهاني : إنّ معاوية ابن أبي سفيان قال يوماً : من أحق الناس بهذا الأمر ـ يعني ـ الخلافة؟ فقال له جلساؤه : أنت! قال : لا ، إنّ أولى الناس بهذا الأمر علي بن الحسين الأكبر لأنّ جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيه شجاعة بني هاشم وسخاء بني أمية وزهو ثقيف.

وكانت تقصده الوفود والشعراء ، فممّا مدح به قول الشاعر :

لم تر عين نظرت مثله

من محتف يمشي ومن ناعل

يغلي نييء اللحم حتى إذا

انضجّ لم يغل على الآكل

كان إذا شبّت له ناره

يوقدها بالشرف الطائل

كيما يراها بائس مرمل

أو فرد حي ليس بالآهل

لا يؤثر الدنيا على دينه

ولا يبيع الحق بالباطل

أعني ابن ليلى ذاالسدى والندى

أعني ابن بنت الحسب الفاضل

وكان يكنى اباالحسن ، ويلقّب بالأكبر ، [لأنّه أكبر] أولاد الحسين عليه‌السلام على ما رواه صاحب كتاب «الحدائق الوردية» في قول العقيقي وكثير من الطالبية ، لأنّ أولاد الحسين عليه‌السلام ثلاثة منهم اسمهم اسم أبيه علي عليه‌السلام.

وعن كثير ابن شاذان : شهدت علي الأكبر وهو إذ ذاك صبي وقد اشتهى عنباً في غير أوانه ، فقال لأبيه الحسين : أبه إنّي اشتهيت عنباً! فضرب الحسين عليه‌السلام على يده إلى إسطوانة المسجد فأخرج له عنباً وموزاً في غير أوانه ودفع إليه وقال له : ولدي كل من فضل ما أنعم الله علينا. ثم التفت إلينا وقال : ما عندالله لأوليائه أكثر.

وذكر أرباب التأريخ في تأريخهم وأجمعوا على أن علي الأكثر شابه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا بل شابه الأشباح الخمس وهم : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، أما شباهه بجدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان إذا تلى آية أو

٢٢٧

روى رواية شابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلامه ومقاله ، بل وفي خلقه وأخلاقه.

يروى : أنّه دخل رجل نصراني مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له الناس : أنت رجل نصراني اخرج من المسجد. فقال لهم : إني رأيت البارحة في منامي رسول الله ومعه عيسى ابن مريم ، فقال عيسى ابن مريم : أسلم على يد خاتم الأنبياء محمد ابن عبدالله فإنّه نبي هذه الأمّه حقّاً ؛ وأنا أسلمت على يده وأتيت الآن لاُجدّد إسلامي على رجل من أهل بيته. قال : فجاؤا به إلى الحسين عليه‌السلام فوقع على قدميه يقبلهما ، فلمّا استقرّ به المجلس قص له الرؤيا التي رآها في المنام فقال له : أتحبّ أن آتيك بشبيهه؟ قال : بلى سيدي ؛ قال : فدعى الحسين عليه‌السلام بولده علي الأكبر ـ وكان إذ ذاك طفل صغير وقد وضع على وجهه البرقع ـ فجيء به إلى أبيه ، فلمّا رفع الحسين عليه‌السلام البرقع من على وجهه ورآه ذلك الرجل وقع مغمى عليه ، فقال الحسين عليه‌السلام : صبّوا الماء على وجهه ، ففعلوا فلمّا أفاق إلتفت إليه الحسين عليه‌السلام وقال : يا هذا إنّ ولدي هذا شبيهاً بجدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال الرجل : اي والله ؛ فقال له الحسين عليه‌السلام : يا هذا إذا كان عندك ولد مثل هذا وتصيبه شوكة ما كنت تصنع؟ قال : سيّدي أموت! فقال الحسين عليه‌السلام : أخبرك إني أرى ولدي هذا بعيني مقطّعاً بالسيوف إرباً إرباً.

وأمّا شباهته بجدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنّه شابهه عليه‌السلام بالإسم والكنية وبالشجاعة وتعصّبه للحق ، وناهيك عن شجاعته عمّا رواه شيخنا أبو جعفر ابن بابويه القمي قال : ولمّا حمل علي بن الحسين على القوم زحزحهم عن أماكنهم وأنهضهم عن مواضعهم ، حتى قتل على عطشه مائة وعشرين رجلاً.

وروي : أنّه لمّا حمل على القوم يوم عاشوراء اختلف العسكر فيه وأخذ أصحاب ابن سعد كل يسأل من صاحبه : ابن من هذا؟! ومن يكون هذا الصبي؟! وأمّا الذين هم آخر الجيش فقد أخذتهم الدهشة حتى ظنّوا أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام

٢٢٨

قد خرج إليهم من قبره ، فلمّا رأى علي بن الحسين عليه‌السلام ذلك جعل يرتجز ويقول :

أنا علي بن الحسين بن علي

نحن وبيتِ الله أولى بالنبي

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشمي علوي

فرجعت الخيل تسحق بعضها بعضاً.

قال بعض الرواة : وشد علي على الناس مراراً ، وقتل منهم جمعاً كثيراً حتى ضج الناس من كثر من قتل منهم.

وفي بعض التواريخ إنّ حملاته بلغت إثني عشر حملة فهذه شباهته بجدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمّا شباهته بالزهراء عليه‌السلام فقد أجمع المؤرخون على أنّ الزهراء عليها‌السلام توفّيت ولها من العمر ثمانية عشر سنة ، وكذلك علي الأكبر عليه‌السلام قتل يوم كربلاء وله من العمر ثمانية عشر سنة.

وأمّا شباهته بعمه الحسن عليه‌السلام فقد شابهه بالبهاء والهيبة. يروى أنّ الحسن عليه‌السلام كان إذا مشى في الطريق لا يسبقه سابق ، وإذا جلس بباب داره ينقطع الطريق لهيبته ، وإذا جلس في البيت المظلم لا يحتاج الى ضياء ، وكذلك علي الأكبر كان مهاباً يتلألأ وجهه نوراً.

وأمّا شباهته بأبيه الحسين عليه‌السلام فقد شابهه بالإباء والكرم ؛ يروى أنّ علي ابن الحسين بنى داراً للضيافة في زمن أبيه الحسين عليه‌السلام بالمدينة وكانت تقصده الشعراء والوفود حتى قيل فيه :

يغلى نيء اللحم حتى إذا

انضج لم يغل على الآكل

قال أبو الفرج وغيره : كان علي الأكبر أول قتيل من بني هاشم من بعد الحسين عليه‌السلام.

ويروى : إنه لما نظر إلى وحدة أبيه الحسين عليه‌السلام تقّدم إليه وهو على فرس له

٢٢٩

يدعى «ذاالجناح» فاستأذنه للبراز ، وكان علي الأكبر من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ، فنظر إليه الحسين عليه‌السلام نظر آيس وأرخى عينيه بالدموع وأطرق برأسه لئلّا يراه العدو فيشمت به ، ثم رفع رأسه مشيراً بسبابتيه إلى السماء وقال :

«اللَّهم اشهد عليهم فقد برز إليهم أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا على هذا الصبي ، اللّهمّ امنعهم بركات الأرض وفرّقهم تفريقا ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا»

قال : وصاح بعمر ابن سعد : ويلك يابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي (١) ، ولا بارك الله لك في أمرك ، وسلّط الله عليك من يذبحك على فراشك ؛ ثم تلا قوله تعالى : (إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

قال الراوي : فكأنما علم الرخصة من أبيه فحمل على القوم وجعل يرتجز ويقول :

أنا علي بن الحسين بن علي

نحن وبيتِ الله أولى بالنبي

أضربكم بالسيف أحمى عن أبي

ضرب غلام هاشمي علوي

* * *

__________________

(١) كما قدمنا آنفاً لأنّ اُم ليلى واُم عمر بن سعد أخوات ، لذا خاطبه الحسين عليه‌السلام : قطع الله رحمك كما قطعت رحمي.

(فائدة) : وإنّما جعل يوم الثامن مخصوصاً بعلي الأكبر ويلقى مصرعه فيه لأنّه جاء بالماء يوم الثامن من المحرم كما أنّ العباس جاء بالماء يوم السابع ، وكما أن برير جاء بالماء يوم التاسع ، انتهى.

٢٣٠

[ولله درّ من قال] :

وعلي قدر من ذؤابه هاشم

عبقت شمائله بطيب المحتد

في بأس حمزة في شجاعة حيدر

بأبا الحسين وفي مهابة أحمد

وتراه في خلق وطيب خلائق

وبليغ النطق كالنبي محمّد (١)

__________________

(١)

(نصاري)

الأكبر لا ظهر الغوج وارزم

او عليه احسين دمعه انحدر واسجم

تچنّه ابوالده وعالخيل ذبها

او يمنه الحرب عاليسرة گلبها

چسب نوماسها وضيّع دربها

او لف راياتها او للسرب حطم

عگب ما بالطفوف ابده الفراسه

او راواهم حرب حيدر او باسه

العبدي غافله وصابه اعلى راسه

او تغير نور وجهه بحمر الدم

(دكسن)

شبگ على المهر لباله يودّيه

لبوه حسين عنّ الگوم يحميه

اويلي المهر للعدوان فر بيه

واوچب آه بوسط العسكر

هذا يگطع ابسيفه وريده

او هذا بالخناجر فصل ايده

وهذا يغط رمحه الحديده

ابخاصرته وهو يعالج لو يفغر

(عاشوري)

تعنّاله وعلى ابنيه تخوصر

او صاح بصوت منّه الصخر ينطر

على الدنيا العفه بعدك يالأكبر

عگب عيناك ريت الكون يعدم

يبويه من وصل ليك او تدنّاك

او خضّب وجهك الشعّاع بدماك

يبويه ريت روحي اتروح ويّاك

او لا شوفك خضيب الوجه بالدم

(تخميس)

لا طاب عيش بعد فقدك لا صفا

واظلمّت الدنيا بعيني مذ خفا

منها ضياؤك يا شبيه المصطفى

فلتذهب الدنيا على الدنيا العفا

ما بعد يومك من زمان أرغد

٢٣١

المطلب الرابع والأربعون

في شهادة علي بن الحسين الأكبر عليهما‌السلام

ذكر أرباب المقاتل أنّه لمّا قتل أصحاب الحسين عليه‌السلام فلم يبق معه إلّا أهل بيته ، تقدم إليه ولده علي الأكبر فاستأذنه للبراز ثم حمل على القوم فجعل يرتجز ويقول :

أنا علي بن الحسين بن علي .... الخ

قال الراوي : فجعل يقاتل القوم مقاتلة الأبطال في تلك المجال ، وناداه رجل من أهل الكوفة : يابن الحسين إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد ، فإن شئت آمنّاك؟ فقال له علي بن الحسين : ويلك لقرابة رسول الله أحقّ أن ترعى!!

قال : ولمّا رأى ابن سعد ما رأى من شجاعته وبسالته دعا طارق بن كثير ـ وكان شجاعاً فارساً مناعاً ـ فقال له : أنت الذي تأكل نعمة الأمير وتأخذ منه العطاء ، فاخرج إلى هذا الغلام ، وثنّى برأسه فقال له : يابن سعد أنت تأخذ ملك الري وأنا أخرج إليه؟! بل الواجب عليك أن تبارزه أنت أو أن تضمن لي عند الأمير إمارة الموصل. قال : فضمن له ذلك فخرج طارق إلى مبارزة علي بن الحسين ، وتراجع الناس فحمل عليه علي الأكبر فضربه ضربة منكرة فرقع صريعاً يخور بدمه ، فلمّا رآه أخوه وقد صرعه علي الأكبر وعطف عليه بضربة فوقعت على عينيه فخر صريعاً.

٢٣٢

قال : وخرج ابن طارق ثائراً بأبيه وعمّه ، فحمل عليه علي بن الحسين فقتله ، ثم طلب البراز فلم يبرز إليه أحد فحمل على القوم وجعل [يضرب] فيهم بسيفه ، هذا والحسين عليه‌السلام واقف بباب الخيمة وليلى تنظر في وجه الحسين عليه‌السلام تراه يتلألأ نوراً وسروراً بشجاعة ولده علي ، فبينما هو كذلك إذ تغيّر لون وجهه ، فقالت له ليلى : سيدي أرى لون وجهك قد تغيّر! هل اصيب ولدي؟ فقال لها : لا يا ليلى ولكن برز له من أخاف منه عليه ، يا ليلى ادعي لولدك علي.

دخلت ليلى إلى الفسطاط ، نشرت شعرها ، جرّدت عن ثدييها ، قائلة : الهي بغربة أبي عبدالله .. الهي بعطش أبي عبدالله .. يا راد يوسف إلى يعقوب اردد إليَّ ولدي علي.

قال الراوي : فاستجاب الله دعء ليلى ونصر علياً على بكر فقتله وحزّ رأسه ، وجاء به إلى الحسين عليه‌السلام وقد قتل مائة وعشرين فارساً ، وهو ينادي : أبه العطش قد قتلني وثقل الحديد قد اجهدني (١) ، فهل إلى شربة ماء من سبيل اتقوّى بها على الأعداء؟ فقال الحسين عليه‌السلام : بني هات لسانك ، أخذ بلسانه فمصه ثم دفع إليه خاتمه الشريف وقال له ، ولدي امسكه في فيك وارجع الى قتال عدوّك ، فكأنّه ارتوى.

ويروى : أنه قال : ولدي دونك اُمّك في الخيمة فودّعها ؛ فدخل علي الأكبر إلى الخيمة فتعلّقت به اُمّه وتعلقن به النسوة فصاح الحسين عليه‌السلام : دعنه فقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه.

__________________

(١) قوله وثقل الحديد قد اجهدني هل إن الحديد الذي كان معه أجهده كالسيف والدرع والدرقة قالوا لا وإنّما أراد بهذا القول حديد الجيش وسلاح الأعداء أو لكثرة العسكر والتعبير بالعسكر بالحديد تعبير شايع انظر الى قول الكشّي في حبيب ابن مظاهر إنّه كان من السبعين الذين نصروا الحسين ولقوا جبال الحديد.

٢٣٣

قال الراوي : وأفلت علي الأكبر نفسه من النساء ورجع إلى الحرب وجعل يقاتل حتى قتل المائتين.

قال حميد بن مسلم : كنت واقفاً وبجنبي مرّة بن منقذ التميمي وعلي بن الحسين يشدّ على القوم يمنة ويسرة فيهزمهم ، فقال مرّة : عليَّ آثام الحرب إن مرّ بي هذا الغلام ولم أثكل به أباه. فقلت : لا تقل هذا يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه ؛ فقال : والله لأفعلنَّ.

قال : ومرّ بنا علي الأكبر وهو يطرف كتيبه أمامه فطعنه برمحه فانقلب على قربوس سرج فرسه ، واعتنق الفرس فحمله الفرس الى معسكر الأعداء فاحتوشوه وقطعوه بسيوفهم إرباً إرباً ، ولمّا بلغت روحه التراقي نادى رافعاُ صوته : أبه عليك منّي السلام هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة أظمأ بعدها أبداً ، وهذا كأساً مذخورا لك حتى تشربه.

قالت سكينة : ولمّا سمع أبي صورت أخي علي جعل تارة يجلس وهو يقول : وا ولداه ... ثم انحدر إليه الحسين عليه‌السلام ومعه اهل بيته حتى وقف عليه ، ورآه مقطعا بالسيوف إرباً إرباً ، فقال يا بني قتل الله قوما قتلوك ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول. ثم استهلّت عيناه بالدموع وقال : ولدي على الدنيا بعدك العفا ، أمّا أنت يا بني فقد استرحت من همّ الدنيا وغمها وبقي ابوك لهمّها ولكربها.

قال حميد بن مسلم : لكأنّي أنظر إلى امراة خرجت من الفسطاط وهي تنادي : يا حبيباه يا ابن اُخيّاه ... فسالت عنها فقيل لي : هي عمّته زينيب. فجاءت حتى انكبّت عليه فاخذها الحسين بيده وردها الى الفسطاط ثم التفت الى فتيانه وقال : احملوا أخاكم .. فحملوه وجاؤا به الى الخيمة وهم يبكون ، قيل : وارسلت ليلى إلى الحسين عليه‌السلام قائلة : سيدي اُريد أن أبكي على ولدي ، مر اهل بيتك أن

٢٣٤

يخرجوا من الخيمة ، فأمر الحسين عليه‌السلام أهل بيته فخرجوا من الخيمة ودخلت ليلى الى الخيمة ودخلن النساء معها وجعلن ينحن على شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

تقول ليلى بدر ليلى خبا

منه ضياء باعتراض الظلام

وددت أنّي لم أكن حاملاً

أو أنّني أسقطت قبل التمام (١)

(فائدة) : قتل علي الاكبر عليه‌السلام ولا عقب له.

(فائدة) اختلف أرباب المقاتل في عمره ، ففي رواية كان عمره خمساً وعشرين سنة ، والأصح : ثمانية وعشرين سنة ، وذهب عليه أكثر الرواة.

__________________

(١)

فجيده يا علي يبني فجيده

بعيده شوفتك صارت بعيده

المدّ ايده عليك انشلّت ايده

او شرابه ولا هنّه ولا طالبه الزاد

هذا حسين ابوك امحنب اعليك

عن للعده او عين التصد ليك

اسمع يا علي وامّك تحاچيك

يا رجواي بيك ارباي ما فاد

تگلّه يا علي يبني شگلّك

يذخري للكبر هذا محلّك

دگلّي لو شفت شبّان حلّك

اشو لن اصبر وهودن وثني الوساد

* * *

وزينب قابلت ليلى وقالت

أعيدي النوح يا ليلى أعيدي

٢٣٥

المطلب الخامس والأربعون

في ترجمة القاسم بن الحسن وشهادته عليه‌السلام

الشجاعة حالة طبيعية وهي عزيزة الحصول في البشر ، وقلّ ما تراها في بعض الرجال ، وفي الحقيقة هو فرع من الجنون ، ولقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «جنونان لا أخلاني الله منهما الشجاعة والكرم». لان الشجاعة هي عبارة عن بذل النفس ، وتوجّه الشجاع إلى العدم وهي تضحية تجاه الحياة السعيدة ، وتسلم الشجاع نفسه للموت وعلى الأخص إذا كان المقابل له شجاعاً أعظم قوّة منه من حيث العدة والاستعداد ، وهناك يعلم المنازل أنّ للحرب رحى طحانة تطحن الهام وتقضي على المهج ، وبها تزهق النفوس الغالية ، فهو لا يعبأ بها للغريزة التي فيه من الشجاعة.

وقد قيل : إن الشجاعة قسمان : غريزية وكسبية ، فالكسبية تحصل بالتمرين والممارسة ، فترى الرجل إذا باشر الحرب يحصل بعدها على القوّة في الجنان ، ولا يعبأ بمنازلة الأقران. وأمّا الغريزية فهي من طبيعة الإنسان من حيث هو شجاع ، وربما تكون الشجاعة وراثة خلفاً عن سلف ، وقد جمعت الخصال الحميدة كلها في بني هاشم لاسيّما الشجاعة.

٢٣٦

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح : «رحم الله عمّي أبو طالب ، لو أولد الناس كلّهم لكانوا شجعاناً». وناهيك عمّا أبدوه أشبال علي عليه‌السلام في كربلاء مع قلّة عددهم وكثرة الأعداء ممّن شاهد منهم الحروب قبلاً ومن لم يشاهدها قبل يوم كربلاء كالقاسم بن الحسن عليه‌السلام حتى قال حميد بن مسلم : خرج إلينا القاسم ابن حسن عليه‌السلام وبيده سيفه ، ووجهه كفلقة قمر طالع ، وعليه قميص وإزار ، وفي رجليه نعلان من ليف ، فجعل يضرب هذا وقد تكاملوا عليه أهل الكوفة سبعين ألف رجل (١).

أقول : ولو تصفّحت التاريخ لما وجدت غلاماً كهذا الغلام يبرز إلى سبعين ألف وعليه قميص وإزار ، والحالة أنّ العرب كانوا لا يبرزون إلّا بعد الاستعداد ويفرغون عليهم الدروع والمغافر ، حتى أنّ الرجل منهم كان لا يعرف لكثرة ما عليه من الحديد ومن لامة الحرب ولا يرى منه إلّا عيناه ، والقاسم بن الحسن عليه‌السلام برز يوم عاشوراء إلى الأعداء وعليه قميص وإزار كما سمعت ، فأين هذا من ذاك؟! وأعجب من هذا أنّ القاسم لعدم مبالاته بكثرة الاعداء بحيث انقطع شسع (٢) نعله وقف بين تلك الجموع يشدّه وهذا ممّا يغيض العدو ، ولقد أجاد الشيخ السماوي رحمه الله حيث قال :

أتراه حين أقام يصلح نعله

بين العدى كي لا يروه بمحتف (٣)

غلبت عليه شهامة حسنيّة

أم كان بالأعداء ليس بمحتف (٤)

__________________

(١) مقتل أبي مخنف : ١٦٩.

(٢) الشسع ما يدخل بين الاصبعين في النعل العربي ممتدّ الى الشراك.

(٣) الإحتفاء هنا المشي بلا نعل.

(٤) الإحتفاء هنا الإعتناء يقال احتف به ولم يحتف. انظر إبصار العين في أنصار الحسين : ٣٦.

٢٣٧

ولبسالته وصباحة وجهه قال بعض الأعداء : والله لو بسط إليَّ هذا الغلام يده وضربني لما رفعت يدي وضربته.

وللحرب قواعد وشؤون تعرف منها أنّه لابدّ أن يكون مع المحاربين سقاة وجرّاحون ومحرّضات ، ولابدّ للجيش من مقدم وكمين وقلب وجناحين ، ولكلّ واحدة من هذه الوظائف اناس يقومون بها لا يشاكلهم أحد ، أمّا وظيفة السقاة فإنّهم يجعلون الماء بالقرب فإذا رجع المحارب سالماً استقبلوه بالماء ، وإذا سقط جريحاً أدركوه بالماء. وحرب كربلاء خال من هذه الاشياء كلّها ، أمّا الماء فقد منعوا اصحاب الحسين عليه‌السلام من أن يصلوا إليه وعلى المشرعة أربعة آلاف محارب ، فمن أين لهم الماء إذا رجع المحارب حتى يسقوه؟! أو إذا جرح المقاتل وسقط على وجه الارض؟!

وللمحارب أيضاً صفات خاصة وهي إذا برز لابدّ وأن تقوم أعمامه وأخواله أو إخوته وأولاده ، ويقفون بمكان حيث يرونه خوفاً عليه من الغيلة او أن يجعل له ظهيراً كما صنع أمير المؤمنين عليه‌السلام ذلك يوم صفين لولده محمد بن الحنفية.

والقاسم [بن الحسن] عليه‌السلام لم يجد ظهيراً لمّا برز ، وهناك فرق عظيم بين القاسم وبين عمّه محمّد بن الحنفية لأنّ محمد بن الحنفية شاهد حروباً جمّة والقاسم صبي لم يبلغ الحلم ولم يشاهد حرباً قبل يوم كربلاء.

ومنها أنّ محمد بن الحنفية برز وعليه لامة الحرب ، والقاسم برز يوم كربلاء سافراً على ذراعيه.

ومنها أن محمد بن الحنفية كان إذا رجع من الحرب استقبله أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم‌السلام وأصحابه يحملون الماء له ، والقاسم كان إذا رجع استقبلته

٢٣٨

عمّته زينب صارخة باكية واُمّة رملة معولة.

ومنها أنّ محمد بن الحنفية كان إذا حمل على القوم وضايقه العدو أدركه المدد من أبيه بالأبطال والشجعان وإن ناداهم ادركوه ، والقاسم حمل على القوم وهو ينظر إلى أصحاب عمّه مجزّرين كالاضاحي وينظر الى عمّه يستغيث فلا يغاث وينظر إلى النسوة بالخيمة وقد علا صرخهن.

ومنها أنّ محمد بن الحنفية تكعكع يوم الجمل لمّا رأى السهام ترشق عليه أراد حتى تنفذ سهام القوم ، والقاسم أراد الحسين عليه‌السلام تأخيره عن الحرب مراراً وهو يلحّ على عمّه ويقبل يديه ورجليه وهو يقول : يا عمّاه لا طاقة لي على البقاء وأرى بنو عمومتي وأخوتي مجزرين وأراك وحيداً فريداً ، والحسين يقول له : ياابن أخي أنت الوديعة.

قال الأروي : فلم يزل يستأذن عمّه الحسين عليه‌السلام حتى إذن له (١).

أقول : فلو فكّر الإنسان إلى ما لاقاه القاسم يوم كربلاء لعرف بسالته وشجاعته تجاه العدو لمّا حمل على القوم وجعل يضربهم بسيفه ، فهذه أفعاله يوم الطف ، وأمّا أقواله فتبهر العقول وذلك هو لمّا ارتجز وهو في الميدان غايته أن يعرّفهم نفسه قائلاً بل مفتخراً :

إن تنكروني فأنا نجل الحسن

سبط النبي المجتبى والمؤتمن

هذا حسين كالأسير المرتهن

بين اناس لا سقوا صوب المزن

__________________

(١) لم نعثر عليه ، وأحسبه من مصادر أبناء العامة حيثُ لم يذكره آغا بزرك رحمه الله في الذريعة ، وأغلب الظن هو الشيخ إبراهم الآروي شارح مسند الشافعي المطبوع بالهند سنة ١٣٠٥ هـ.

٢٣٩

وكانت همّته أن يقتل حامل راية عمر ابن سعد فبينا هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله اليسرى فوقف ليشدّها ، فقال عمر بن سعيد بن نفيل الأزدي : والله لأشدنّ عليه وأثكلنّ به اُمّه.

قال حميد بن مسلم : فقلت : سبحان الله وما تريد منه يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه من كل جانب؟! فقال : والله لافعلن ثم حمل عليه فما ولّى وجهه حتى ضرب الغلام بالسيف على رأسه فوقع القاسم لوجه وصاح : أدركني يا عمّاه ... فأتاه الحسين عليه‌السلام ورآه يفحص بيديه ورجليه. قال : وحمل على قاتله فقتله ثم رجع إلى القاسم ووقف عليه قائلاً : يا ابن اخي بعداً لقومٍ قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدّك وأبوك ... ثم قال : يابن أخى عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا ينفعك أجابته يوم كثر واتره وقل ناصره ... ثم حمله على صدره ورجلاه يخطّان في الارض خطاً حتى جاء به الى المخيم ووضعه الى جانب ولده علي الأكبر وهو يقول : يا ابن أخي أنت الوديعة.

(فائدة) : القاسم بن الحسن عليه‌السلام لم أقف على تزويجه في كربلاء إلّا في منتخب الطريحي رحمه الله فإنّه يذكر قضية تزويجه نقلاً عن الغير ، ولم يثبت هناك من مصدر معلوم ، ومن المؤكّد أنّ هذا الخبر مرسل يأباه العقل السليم وتركه أولى من ذكره.

(فائدة) : كان القاسم بن الحسن عليه‌السلام أخصّ أولاده ، وقد خصّه بالوصايا الأكيدة والنصائح الشديدة ، وقد سأل القاسم عمّه الحسين عليه‌السلام ليلة العاشر من المحرم عمّن يقتل ، فجعل الحسين عليه‌السلام يخبره ، فقال له الحسين عليه‌السلام : وكيف القتل

٢٤٠