ثمرات الأعواد - ج ١

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

فجعلت كلّما أشرب سال الماء (١) ، وسقيت فرسي (٢).

قال الراوي : وما زال الحر موافقاً للحسين عليه‌السلام حتى حضرت وقت صلاة الظهر ، فأمر الحسين عليه‌السلام الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن ، فأذّن ، ثم خرج الحسين عليه‌السلام والتفت إلى الحرّ ، وقال : أتصلي بأصحابك؟ فقال الحرّ : كلا ، بل تصلي ونصلّي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين عليه‌السلام ، فلمّا فرغ من صلاته اقبل عليهم بوجهه ، فحمد الله وأثني عليه ، وذكر النبي فصلّى عليه ، ثم قال :

أيها الناس ، إني لم آتيكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم فإن كتبتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه ، فقال الحرّ : أنا والله لا أدري ما هذه الكتب والرسل!! فصاح الحسين عليه‌السلام لعقبة بن سلمان ، أخرج الخرجين المملوئين صحفاً ، فأخرجها عقبة ونشرها بين يدي الحسين عليه‌السلام والحرّ ، فقال الحرّ : لست من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أمرت أن لا افارقك حتى ادخلك الكوفة ، واضع يدك في يد ابن زياد.

فقال الحسين عليه‌السلام : إذاً الموت أدنى إليك من ذلك. ثم أن الحسين عليه‌السلام أمر أصحابه أن يسيروا ، فحال الحرّ بينهم وبين المسير ، فقال الحسين عليه‌السلام : ثكلتك اُمّك ، ما تريد منهم؟ فقال الحرّ : لو غيرك من العرب قالها لي وهو في هذا الحال الذي أنت عليه ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناَ من كان ، ولكن والله مالي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما نقدر عليه. فقال الحسين عليه‌السلام : إذاً ما تريد؟ قال : اُريد أن أنطلق بك إلى الكوفة إلى ابن زياد. فقال الحسين عليه‌السلام : إذاً والله لا أتّبعك.

__________________

(١) هنا سقط في الاصل : من السقاء ، فقال الحسين عليه‌السلام : اخنث السقاء (أي) إعطفه. قال : فجعلت لا أدري كيف أفعل ، فقام الحسين عليه‌السلام فخنثه فشربت ...

(٢) عن أبي مخنف في مقتل الحسين عليه‌السلام : ٨١ ـ ٨٢.

١٨١

فقال الحرّ : إذاً والله لا أدعك ؛ فترادّا القول فيما بينهم ثلاث مرات ، فخشي الحرّ الفتنة فقال : يا أبا عبدالله إني أمرت إذا لقيتك لا أفارقك ، فإذا كان الأمر كذلك فخذ طريقاً لا يردك إلى المدينة ولا يدخلك الكوفة ، ليكون بيني وبينك نصفاً ، حتى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه [العافيه] (١) من أن أبتلي بشيء من أمرك ، فخذ هاهنا تياسراً من طريق العذيب والقادسية. فرضي الحسين بذلك ، فساروا (٢).

فبينما هم يسيرون إذ التفت الحر الى الحسين عليه‌السلام وقال له : يا أبا عبد الله إني أذكّرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ. فقال له الحسين عليه‌السلام : أفبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلونني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه ، وهو يريد نصرة رسول الله فخوّفه ابن عمّه وقال له : أين تذهب؟ إنك مقتول ، فأنشأ يقول :

اُقدّم نفسي لا أريد بقاءها

لتلقي خميساً في الوغي وعرمرما

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وودّع مجرما

فإن عشت لم أندم وإن متّ لم أذم

كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما (٣)

قال : فلمّا رأى امتناع الحسين عليه‌السلام سكت وجعل يسايره ، فلمّا أصبح الصباح نزل وصلّى ، ثم عجّل بالركوب ، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد ان يفرّقهم ،

__________________

(١) ما أثبتناه من المصدر.

(٢) انظر مقتل الحسين عليه‌السلام لابي مخنف : ٨٣ ـ ٨٥. ومقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٣ ، والأخبار الطوال للدينوري : ٢٤٩.

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي : ١ / ٢٣٣ ، وانظر انساب الأشراف : ٣ / ١٧١ ، وتاريخ الكامل لابن الأثير :

١٨٢

فيأتيه الحرّ وكان إذا ردّهم نحو الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه ، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتى انتهوا الى نينوى (١). (٢)

ويروى أنّ زهير بن القين البجلي قال للحسين عليه‌السلام : سيدي دعنا نقاتلهم ، فإن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قبل لنا بهم ، فقال الحسين عليه‌السلام : ما كنت لأبدءهم بالقتال (٣). ثم قال : والتفت الحسين عليه‌السلام إلى أصحابه وقال : من منكم يعرف الطريق على غير الجادة؟ فقال الطرماح (٤) : أنا يابن رسول الله ؛ فقال له الحسين عليه‌السلام تقدّم ، فتقدّم الطرماح أمام الركب وجعل يرتجز :

يا ناقتي لا تذعري من زجر

واسر بنا قبل طلوع الفجر

بخير فتيان وخير سفر

وآل رسول الله آل الفخر

السادة البيض الوجوه الزهر

الضاربين بالسيوف البتر

الطاعنين بالرماح السمر

يا مالك النفع معاً والضر

أيّد حسيناً سيّدي بالنصر

على الطغاة من بقايا الكفر

واخذل يزيد العهر ابن العهر

__________________

(١) نينوى : المكان الذي نزل به الحسين عليه‌السلام ، وهي ناحية بسواد الكوفة ، وقيل : قرية يونس بن متى. انظر معجم البلدان : ٨ / ٣٦٨.

(٢) الارشاد للشيخ المفيد : ٢ / ٨٢ ، ومقتل الحسين عليه‌السلام لابي مخنف : ٩٢.

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام لابي مخنف : ٩٤ ، ورواه في الارشاد : ٢ / ٨٤.

(٤) هو الطرماح بن عدي : عدّه الشيخ الطوسي رحمه الله في أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : رسوله عليه‌السلام إلى معاوية ، وعدّه أيضاً في اصحاب الإمام الحسين عليه‌السلام ، وقال المولى عناية الله القهباني : الطرماح بن عدي بن حاتم الطائي : وطرماح ـ كسنّمار ـ العالي النسب المشهور. انظر رجال الشيخ : ٤٦ / ٣ ، و ٧٥ / ١ ، ومجمع الرجال : ٣ / ٢٢٩. انظر ترجمته في تنقيح المقال : ٢ / ١٠٩.

١٨٣

أقول : وإنّما حدا الطرماح لغاية هناك رام أن تسير الإبل سيراً سهلاً على عادتها في الحداء ، ولتسكن روعات النساء إذا سمعت بمدح عميدها الحسين عليه‌السلام ، فسارت إلى كربلاء على هذه الحالة ، قد حفّتها بنو هاشم وأصحابه الصفوة ، والطرماح يحدوا بها ، ولكنها يوم خرجت من كربلاء حفّت بها الأعداء من كل جانب ، وسارت على حالة يحدو بها شمر بن ذي الجوشن وزجر بن قيس.

أيسقوها زجر بضرب متونها

والشمر يحدوها بسبّ أبيها (١)

__________________

(١) وزينب عليها‌السلام تخاطب أخاها الحسين عليه‌السلام بلسان الحال :

(نصاري)

ودّعتك الله يا عيوني

يردون عنّك ياخذوني

او زجر او خوله اليباروني

للكوفة انووا يمشّوني

نخيّت اخوتي أو لا جاوبوني

وابغصب عنكم فارگوني

گطعت الرجه او خابت اظنوني

وكانّي بها توجهت إلى جهة العلقمي وخاطبت الجمّال :

(دكسن)

يجمال مر بينا اعلى عباس

اخونة العجيد اليرفع الراس

تگلّة تراهم گوم الارجاس

خذونة وعلينة الشمر حرّاس

تتفرّج على أحوالنا الناس

(تخميس)

مُخدّرةُ المختار من بعد مجدها

تُسيّرها ابناء حرب لوغدها

دعت مُذ نأى عن عينها بدر سعدِها

ونادت على الاقتاب من عظم وجدها

أبا حسنٍ يا خير من ضمّه القبر

١٨٤

المطلب الخامس والثلاثون

في كيفية سعادة الحر ولحوقه بالحسين عليه‌السلام

روي عن عقبة بن سمعان (١) قال : لمّا سار الحسين عليه‌السلام من قصر بني مقاتل (٢) سرنا معه ، فبينا نحن نسير إذ خفق الحسين عليه‌السلام وهو على ظهر جواده ، ثم قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون [والحمد لله رب العالمين] (٣) ؛ فأقبل عليه ولده علي الأكبر فقال له : أبه مم حمدت الله واسترجعت؟ فقال : يا بني أني خفقت برأسي

__________________

(١) عقبة بن سمعان : عدّه الشيخ الطوسي رحمه الله في أصحاب الحسين عليه‌السلام (٧٨ / ٢٧) ، وقيل : انه كان عبدا للرباب زوجة الامام الحسين عليه‌السلام ، وأنّه كان يتولى خدمة أفراسه عليه‌السلام وتقديمها له ، فلمّا استشهد عليه‌السلام أخذه أهل الكوفة أسيراً ، ثم اُطلق سراحه ، وجعل يروي واقعة الطف ، ومنه اُخذت أخبارها ، وروي عنه أبي مخنف بالواسطة ، ويقول العلامة المامقاني رحمه الله : حاله مجهول ، بل تخلّفه عن نصرة الإمام عليه‌السلام يجعلنا في ريب منه. وقال السيد الخوئي رحمه الله : ممّن وقع التسليم عليه في الزيارة الرجبية ، وأنّه استشهد معه عليه‌السلام. انظر : معجم رجال الحديث : ١٤ : ١٧٠ / ٧٧٣٦ ، تنقيح المقال : ٢ : ٢٥٤ / ٧٩٦٩.

(٢) قصر بني مقاتل : قال ياقوت الحموي : «قصر كان بين عين التمر والشام ، وقال السكوني : هو قرب القطقطانة وسلام ثم القريات ، وهو منسوب إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم ابن أيوب بن مجروف بن عامر بن عصية امرىء القيس بن زيد بن مناة بن تميم». انظر معجم البلدان : ٤ / ٣٦٤.

(٣) ما أثبتناه من المصدر.

١٨٥

خفقه فعنَّ لي فارس [على فرس] (١) وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا (تسير بهم إلى الجنة) (٢) ، فقال علي بن الحسين : أفلسنا على الحق؟ قال : بلى والذي إليه مرجع العباد ، فقال : أبه أذاً لا نبالي بالموت ، فقال الحسين : أذاً جزاك الله [من ولد] (٣) خير ما جزى ولداً عن والده (٤).

قال المفيد : ولمّا أصبح نزل وصلّى بأصحابه ، ثم عجّل الركوب ، فأخذ يتياسر ، فورد كتاب ابن زياد الى الحرّ يلومه في أمر الحسين ويأمره بالتضييق عليه ، فتعرّض له الحر وأصحابه ومنعوه من المسير ، فقال له الحسين عليه‌السلام : ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟ قال : بلى ولكن كتاب الأمير قد ورد إليَّ يأمرني بالتضييق عليك ، وقد جعل عليَّ عيناً يطالبني بذلك (٥).

قال السيد رحمه الله في اللهوف ، ثم إنّ الحسين ركب وصار كلّما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه اُخرى حتى ورد كربلاء في اليوم الثاني من المحرم (سنة أحدى وستّين فبينا هو يسير واذا بجواده قد وقف فقال الحسين) (٦) : ما اسم هذه الأرض؟ فقيل له : (نينوى ، فقال : ألها اسم غير هذا؟ فقيل له : الغاضريات ، قال : ألها اسم غير ذلك؟ فقيل له : المسنّات ، فقال : ألها اسم غير هذا؟ فقيل له) (٧) : كربلا ، قال : كرب وبلا ، هاهنا محطّ رحالنا ، هاهنا مقتل رجالنا ، هاهنا تذبح

__________________

(١) ما أثبتناه من المصدر.

(٢) ما بين القوسين لم يرد في المصدر وجاء فيه : تسري إليهم.

(٣) ما أثبتناه من المصدر.

(٤) مقتل الحسين عليه‌السلام لأبي مخنف : ٩٢ ، وأيضاً الإرشاد للشيخ المفيد : ٢ / ٨٢.

(٥) الإرشاد للشيخ المفيد : ٢ / ٨٢ ـ ٨٣ (باختلاف بسيط).

(٦) ما بين القوسين لم يرد في نسختنا من المصدر ، وجاء فيه : فلمّا وصلها ، قال ...

(٧) ما بين القوسين لم يرد في نسختنا من المصدر.

١٨٦

أطفالنا ؛ ثم أمر اصحابه بالنزول فنزلوا وأمر بأبنيته فضربت ، ونزل الحرّ إلى جانب (١).

فلمّا بلغ ابن زياد نزول الحسين عليه‌السلام كربلاء جمع الجيوش والعساكر وأمّر عليهم عمر بن سعد ، وجاءت تترى إلى كربلاء حتى تكاملت الجيوش سبعين ألف ، فلمّا رأى الحرّ تصميم القوم على قتل الحسين عليه‌السلام وأهل بيته أقبل على ابن سعد وقال له : أمقاتل أنت هؤلاء القوم؟ يعني الحسين ، قال ، اي والله ، قتالاً أيسره أن تطيح فيه الرؤوس والأيدي ؛ فرجع الحر ووقف مع اصحابه فأخذه مثل الإفكل ، فقال له مهاجر بن أوس التميمي : إنّ أمرك لمريب! ما هذا الذي أراه منك؟ ولو قيل مَن اشجع العرب لما عدوتك. فقال له الحرّ : إنّ نفسي تخيّرني بين الجنّة والنار ، فوالله لا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت واُحرقت. ثم ضرب فرسه ، ولحقه ولده حتى صارا قريباً من خيم الحسين عليه‌السلام ، فنزل من على ظهر فرسه وقلّب ترسه وأغمد سيفه ، ووضع يده على رأسه ، وجاء الى الحسين عليه‌السلام وهو يقول : «اللّهمّ إليك أتوب واليك اُنيب فتب عليَّ فقد ارعبت قلوب أولاد نبيّك». ثم سلّم على الحسين عليه‌السلام ، فرد الحسين عليه‌السلام ، وقال : سيدي أنا صاحبك الذي منعتك عن الرجوع ، وجعجعت بك في الطريق ، سيدي وما ظننت أنّ القوم يبلغون بك إلى ما أرى ، سيدي أنا تائب إلى الله عليك ، ثم قال : فهل ترى إليَّ من توبة؟ فقال له الحسين عليه‌السلام : نعم إن تبت تاب الله عليك ؛ فقال : سيدي كنت أوّل خارج عليك فأذن لي أن أكون أول قتيل بين يديك ، فإذن له الحسين عليه‌السلام للبراز ، فبرز وهو يقول :

إني أنا الحر ومأوى الضيف

أضرب في أعناقكم بالسيف

عن خير من حلّ بأرض الخيف

__________________

(١) الملهوف على قتلى الطفوف : ١٣٩.

١٨٧

قال : ثم رجع إلى الحسين عليه‌السلام وقال : سيدي إنّي اُحدّثك بشيء ثم أعود للحرب ، اعلم لمّا وجّهني ابن مرجانة إلى الخروج إليك فخرجت من باب قصره سمعت منادياً ينادي : يا حرّ ابشر بالجنّة فالتفتّ إلى ورائي فلم أر أحد ، فقلت في نفسي : سبحان الله بعثني هذا الطاغية إلى ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما هذا النداء؟ يا سيدي والآن تحقّق عندي أنّي اُرزق الشهادة بين يديك.

ثم ودّع الحسين عليه‌السلام ، وحمل على القوم ، فلم يزل يقاتل حتى قتل جمعاً كثيراً ، ثم عقروا فرسه وبقي يقاتل راجلاً ، حتى قتل اربعين فارساً ، وخمسة عشر راجلاً ، فتعطّفوا عليه أعداء الله وقتلوه ، ولمّا قتل مشى لمصرعه الحسين عليه‌السلام ، وجلس عند رأسه وهو يقول : «انت كما سمَّتك اُمّك حرّ في الدينا وحرّ في الآخرة».

ورثاه علي بن الحسين قال :

لنعم الحرِّ حرِّ بني رياحِ

صبورٌ عند مُشتبكِ الرماحِ

ونعم الحرِّ إذا واسا حسيناً

وجاد بنَفسهِ عندَ الصياحِ (١)

ويروى أن الحسين عليه‌السلام عصب جبينه بمنديل كان عنده.

أقول : أنا لا أدري لمّا صرع هو عليه‌السلام من حضر عنده وعصب رأسه؟ نعم ،

__________________

(١) توضيح : قال المفيد رحمه الله : اشترك رجلان في قتل الحر احدهم ايوب ابن مسرح ورجل آخر من فرسان أهل الكوفة انتهى. وقال صاحب الابصار : وإنّما دفنت بنو تميم الحر على نحو ميل من الحسين عليه‌السلام حيث قبره الآن اعتناءً به ويقال إنّ بعض ملوك الشيعة وهو الشاه اسماعيل استغرب ذلك فكشف عن قبر الحر فوجده على صفته التي ترجم بها ورأسه غير مقطوع لأنّه لمّا أرادوا قطع الرؤوس منعت بنو تميم وقالوا : رأس الحر لا يقطع فدفن ولم يقطع رأسه ووجده ذلك الملك معصّباً بالعصابة التي عصّبه بها الحسين فطمع بها فحلّها ليأخذها تبرّكاً بها فأنبعث الدم من جبينه فخاف ذلك الملك فشدّها وخرج من القبر وصنع على قبره صندوقاً.

١٨٨

مالك بن النسر لما شهر سيفه وضرب الحسين عليه‌السلام على اُمّ رأسه ، وكان على رأسه برنس فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين عليه‌السلام ، لا أكلت بيمينك ولا شربت بها :

ولقد غشوه فضارب ومفرّق

سهماً إليه وطاعن متقصّد (١)

__________________

(١) ويروى أنّ الحسين عليه‌السلام عصّب جيبته بمنديل كان عنده وبعد ذلك اقبلت عشيرته ووارته حيث قبره الآن ، أسفي عليك يا أبا عبدالله مَن الذين عصَّب جبينك من الذي دفن جثمانك ، وفي ذلك يقول الخضري :

(موشح)

جله اهموم الفواطم مجلة القتوت

ورج الغاضرية او حامي البيوت

وعگب ما شافت امن امذهبة الموت

طاح او فيض دمّه على الثر يسيل

اجاه احسين مثل الليث يهدر

ينادي ودمع عينه عليه يحدر

اُمّك ما خطت من سمّتك حر

مسح عنه التراب ومدمعة ايسيل

او من ناده الرجس يا خيلنه اوصاح

عمامه ابغيض سلت بيض الصفاح

ابذيج الخيل نادت كل بني رياح

عميد الحر عجب ينداس بالخيل

على خشوم الزلم رغماً نشيلة

وكل مچتول تنهضله جبيله

تسل بيض السيوف وتعتنيله

لعند المعركه ولجثته اتشيل

العيره شالته ابحّر الظهيره

الكل منهم عليه شالته الغيره

بس ظلّو الما عدهم عشيره

ضحايا على الثرى من غير تغسيل

(تخميس)

كان يستسقي به غيث السما

فقضى روحي فداه بالضما

وبخيل الكفر عدواً حُطما

غسلوه بدم الطعن وما

كفنوه غير بوغاء الثرى

١٨٩

المطلب السادس والثلاثون

في نصيحة كامل لابن سعد لعنه الله

لمّا وافى الحسين عليه‌السلام ومعه الحرّ إلى كربلاء ، فإذا هم براكب على نجيب له ، وعليه السلاح متنكبّاً قوساً ، مقبلاً عليه ، فوقفوا جميعاً ينتظرونه ، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحر ولم يسلّم على الحسين عليه‌السلام ، ثم أخرج كتاباً من ابن زياد ودفعه إلى الحرّ ، وإذا فيه :

أما بعد ... فجعجع بالحسين ، ولا تنزله إلا بالعراء ، في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري.

وكان مع الحسين عليه‌السلام يزيد بن مهاجر الكندي (١) ، فجاء الى رسول ابن زياد فعرفه فقال له : ثكلتك اُمّك ، بماذا جئت؟ قال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي ؛ فقال له ابن المهاجر : بل عصيت ربّك ، وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت النار والعار ، وبئس الإمام إمامك ، كما قال عز من قائل : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى

__________________

(١) هو يزيد ابن زياد المهاجر الكندي ، أبو الشعثاء البهدلي ، من بني بهدلة ، كان رجلاً شريفاً شجاعاً فاتكاُ ، ويهدلة حي من كندة ، وقد جاء ذكره في الزيارة الناحية المقدسة والتسليم عليه استشهد رضي‌الله‌عنه مبارزاً.

انظر ذخيرة الدارين : ٢٣٩.

١٩٠

النّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ) فأمامك هذا منهم.

قال : ونزل الحسين عليه‌السلام في كربلاء على غير ماء ولا كلاء ، فقال زهير بن القين البجلي : يا بن رسول الله إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من يأتينا من بعدهم ، فقال عليه‌السلام : ما كنت لأبدئهم بالقتال.

قال : ولما بلغ ابن زياد نزول الحسين كربلاء صعد على المنبر وخطب الناس ، وأمرهم بالخروج إلى حرب الحسين ، ووفر لهم العطاء ، وكان عدتهم سبعين ألف ، وأراد أن يؤمر عليه أميراً فدعى ابن سعد وقال له ، أريد أن أؤمرك على هذا الجيش ، وان تتولى قتل الحسين ولك ولاية الري ، فقال له ابن سعد أمهلني حتى اُراجع نفسي.

ثم انصرف إلى منزله متفكراً ، فاستشار رجلاً يقال له (كامل) ـ وكان صديقاً لأبيه سعد ، وكان على اسمه كاملاً ـ فقال له : ويلك يا ابن سعد تريد ان تقتل الحسين ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! اف لك ولدينك ، اسفهت الحق وضللت الهدى؟! اما تعلم الى حرب من تخرج ولمن تقاتل؟! والله لو اعطيت الدنيا على أن أقتل رجلاً واحداً من امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما فعلت ، فكيف وأنت تريد أن تقتل ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما الذي تقوله لرسول الله إذا وردت عليه يوم القيامة وقد قتلت سبطه؟ وإني اقسم بالله لئن حاربته أو قاتلته أو أعنت عليه لا تلبث في الدنيا إلا القليل ؛ فقال ابن سعد : أفبالموت تخوفني!! واني إذا فرغت من قتله أكون أميراً على سبعين ألف وأتولى ملك الري. فقال له كامل : إذاً اُحدثك بحديث ، فقال ابن سعد : قل حتى اسمع. قال : إعلم إني سافرت مع أبيك سعد الى الشام فانقطعت عن أصحابي في الطريق وعطشت عطشاً شديداً ، فلاح لي دير راهب

١٩١

فملت إليه وأتيت إلى باب الدير ، فقال لي الراهب : ما تريد يا هذا؟ قلت له : إنّي عطشان ، فقال لي : أنت من أُمّة محمّد الذين يقتلون بعضهم بعضا على حب الدينا. فقلت له : أنا من الاُمّة المرحومة أُمّة محمد ؛ فقال : إنّكم لشر اُمّة ، فالويل لكم يوم القيامة ، وإنّكم لتقتلون ابن بنت نبيّكم ، وإنّ قاتله لعين أهل السماوات والأرض ، اعلم يا هذا وإنّ قاتله لا يلبث بعده إلّا قليلاً ؛ قال كامل : فقلت إنّي اُعيذ نفسي من أن أكون ممّن يقاتل إبن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فقال لي : أن لم تكن أنت وإلّا فرجل قريب منك ؛ ثم ردم الباب في وجهي ودخل الدير فركبت فرسي ولحقت بأصحابي.

[وحدّثت أباك بما جرى بيني وبين الراهب من الكلام] ، فقال لي أبوك سعد : صدقت وأنا مررت بالراهب قبلك فقال لي من ولدك من يقتل ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاحذر يا عمر ودع عنك هذا الامر فإنه خير لآخرتك ودنياك.

قال : فبلغ الخبر إلى بن زياد فاستدعى كاملاً فقطع لسانه ، وعاش يوماً أو بعض يوم ثم مات رحمه الله.

قال : وجعل ابن سعد يفكّر في ولاية الري أو الخروج إلى حرب الحسين فصمّم رأيه أن يخرج إلى حرب وانشأ يقول :

فوالله لا أدري وإنّي لحائر

اُفكّر في أمري على خطرين

أأترك ملك الري والريّ منيتي

أم أرجع مأثوماً بقتل الحسين

حسين ابن عمّي والحوادث جمّه

لعمري ولي في الري قرّة عين

وإنّ إله العرش يغفر زلّتي

ولو كنت فيها أظلم الثقلين

ألا إنّما الدنيا لخير معجّل

وما عاقل باع الوجود بدين

١٩٢

يقولون إنّ الله خالق جنّة

ونار وتعذيب وغلّ يدين

فإن صدقوا فيما يقولون إنّني

أتوب إلى الرحمن من سنتين

وإن كذّبوا فزنا بدنيا عظيمة

وملك عقيم دائم الحجلين

قال : فأجابه القائل :

ألا أيها النغل الذي ليس مثله

ويمضي من الدنيا بقتلة شين

إذا أنت قاتلت الحسين بن فاطم

وانت تراه أشرف الثقلين

فلا تحسبنّ الري يا أخسر الورى

تفوز به من بعد قتل الحسين

قال الراوي : فما لبث أن خرج إلى حرب الحسين عليه‌السلام وكان أوّل رام بسهم على حرم الحسين ، فإنّه خرج من الخيمة بيده القوس فقال : اشهدوا لي عند الأمير فأنا أوّل رام. ثم رمى السهم نحو الحسين ورمت اصحابه حتى صار السهام كالمطر ، وأنفذ اللعين أوامر ابن مرجانة بالحسين ، منها : انه كتب له امنعه عن شرب الماء هو وأصحابه وعياله وأطفاله ، فمنعهم ذلك.

ومنها : كتب إليه بعد قتله احرق مضاربه ومضارب من معه ، فحرقها.

ومنها : كتب إليه إذا قتلت حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره وما أظن إنّ هذا يضرّ به بعد القتل شيئاً ، ولكن على قول قد قلته فصنع اللعين ذلك.

والذي زاده هو من نفسه أنّه لمّا صرع الحسين عليه‌السلام وأقبلوا على سلبه وسلبوه حتى تركوه عُرياناً ، فأخذ بن سعد درعه ولبسها ودخل على حرمه ، فلمّا رأينه وقد لبس درع الحسين عليه‌السلام صحن : وا حسينا ... وخرجت زينب من الخيمة واضعة عشر أصابعها على رأسها ، تنادي : وا جدّاه وا محمّداه ... يا جدّ هذا حسينك

١٩٣

بالعرا محزوز الرأس من القفا مسلوب العمامة والردا (١).

__________________

(١)

(نصاري)

يجدّي اگعد وشوف ابنك رميّة

خذوا راسه او جسمه اعلى الوطيه

عليه اتجول گامت خيل اميّه

او لا ظل بيه مفصل ما تهشم

(دكسن)

يجدي شوف أصاويب البصدره

تسع ميّه والف طعنه وطبره

غير اللي تعدّى الخرز ظهره

شبج فوگه او لعند الخرز فصّم

(ابوذية)

لتوالي العمر ذاخرتك وريداك

عفتني وذبل يبن اُمّي وريداك

عسى سيف الگطع بالطف وريداك

گطع مني الوريد وعمل بيّه

(تخميس)

أخي ذا فؤادي سقيمٌ جريح

وجفني عليك يابن اُمّي قريح

ولم لا وأنت عفيرٌ طريح

أخي هُدَّ ركني وصبري استبيح

وبُدّد شملي فلم يُجمع

١٩٤

المطلب السابع والثلاثون

في اجتماع الحسين عليه‌السلام مع ابن سعد

لمّا وافى ابن سعد كربلاء وضرب أبنيته أرسل إليه الحسين عليه‌السلام «إنّي اُريد أن ألقاك». فامتثل لأمر الحسين عليه‌السلام واجتمعا ليلاً ، وتناجيا طويلاً ، وكان الحسين عليه‌السلام مع ولده علي الاكبر ، وابن سعد مع ولده حفص ، ثم رجع الحسين عليه‌السلام إلى خيمته ، وإنّ ابن سعد دعا بدوات وبيضا وكتب إلى زياد كتاباً يقول فيه :

«أمّا بعد ... فإنّ الله أطفأ الثائرة وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الاُمّة ، وهذا الحسين بن علي عليه‌السلام قد أعطاني عهداً ، أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه أو أن يسير إلى ثغر من الثغور ، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيرى رأيه فيه».

فلمّا ورد الكتاب الى ابن زياد قال : هذا كتاب ناصح مشفق ؛ فقال الشمر : أتقبل هذا منه وقد حلّ بأرضك ، فوالله لئن رحل من بلادك ليكوننّ اولى بالقوّة ولتكونن أولى بالضعف ، فلا تعطه هذه المنزلة فإنّها من الوهن ، ولكن فالينزل على حكمك ؛ فقال ابن زياد : الرأي رأيك ، اخرج بهذا الكتاب إلى ابن سعد

١٩٥

فليعرض على الحسين النزول على حكمي فأن فعل فليبعث إليَّ به وبأصحابه سلما ، وإن هم أبوا فليقاتلهم ، فإن فعل فاسمع له وأطع وإن أبى فأنت أمير الجيش.

ثم كتب إلى ابن سعد :

«أمّا بعد ... فإني لم أبعثك الى الحسين لتمنيّه السلام أو البقاء ، ولا لتكون له عندي شفيعاً ، انظر فإن نزل الحسين على حكمي إبعث إليَّ به وبأصحابه سلما ، وإن أبى فقاتله ، وإن قتلت حسيناً فأوطئ الخيل صدره ، ولا أرى الله أن هذا يضرّ بعد القتل شيئاً ولكن على قول قد قلته».

قال الراوي : فجاء الشمر بكتاب ابن زياد إلى كربلاء وعرضه على ابن سعد ، فلمّا [نظر في الكتاب] قال له : مالك ... ويلك يابن ذي الجوشن لا قرّب الله دارك ، وقبّح الله ما قدمت به ، والله لأظنّك أنت الذي نهيته عمّا كتبت به إليه ، والله إنّ الحسين لا يبايع وإنّ نفس أبيه لبين جنبيه.

قال الراوي : ثم ضيّق على الحسين وقسّم الجيش ، وجعل على المسنّاة أربعة آلاف وأمرهم أن يمنعوا الحسين وأصحابه من حمل الماء ، وكتب الكتائب ، فلمّا رأى الحسين عليه‌السلام ذلك جلس في خيمته يصلح سيفه وهو يقول :

يا دهر اُفٍّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من طالب بحقّه قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وكلّ حيٍّ سالك سبيل

ما أقرب الوعد من الرحيل

وإنّما الأمر إلى جليل

١٩٦

وفي رواية عن الامام زين العابدين عليه‌السلام : إنّ الحسين عليه‌السلام قال هذه الأبيات عشيّة اليوم التاسع من المحرم ، قال علي بن الحسين عليه‌السلام :

«إنّي لجالس في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينت تمرّضني وإذا اعتزل أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويصلح وأبي ينشد هذه الأبيات فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتها ، وعرفت ما أراد وخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت إن البلاء قد نزل ، وأما عمتي لمّا سمعت وهي امرأة من شأن النساء الرقّة والجزع لم تملك نفسها دون أن وثبت تجر ثوبها حتى انتهت إليه نادت : وا ثكلاه ... وليت الموت أعدمني الحياة ... اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثمال الباقين. فنظر إليها الحسين عليه‌السلام وقال لها : «يا اختاه لا يذهبنّ بحلمك الشيطان». فقالت : أخي نفسي لك الفداء ، فردّت عليه غصّته وترقرقت عيناه بالدموع ثم قال : «لو ترك القطا ليلاً لنام» ، فقالت : يا ويلتاه افتغصب نفسك اغتصاباً؟ فذلك اقرح لقلبي وأشدّ على نفسي .. ، ثم لطمت وجهها وأومت إلى جيبها فشقّته فخرجت مغشيّاً عليها ، فقام إليها الحسين عليه‌السلام فصب على وجهها الماء حتى أفاقت فقال لها الحسين : «يا اُختاه تعزّي بعزاء الله ، فإنّ سكان السماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البرية يهلكون ، وكل شيء هالك إلّا وجهه الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده ، جدّي خير مني وأبي خير منّي وأخي خير منّي ، ولي ولكم ولكلّ مسلم برسول الله اسوة ، ثم قال لها : يا اُختاه إنّي أقسمت عليك فأبرّي قسمي ، ولا تشقّي

١٩٧

عليَّ جبيناً ، ولا تخمشي عليَّ وجهاً ، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور».

أخت يا زينب أوصيك وصايا فاسمعي

إنّني في هذه الأرض ملاق مصرعي

واصبري فالصبر من شيم كرام المفزع

كلّ حيّ سينجيه عن الأحياء حين

واجمعي شمل اليتامى بعد فقدي وانظمي

اطعمي من جاع منهم ثم روّي من ظمي

واعلمي أنّي في حفظهم طلّ دمي

ليتني بينهم كالبدر بين الفرقدين

قال الراوي : ولما سكنت خرج الحسين عليه‌السلام من الخيمة وجمع أصحابه ثم خطبهم وقال :

«اللهم احمدك على ما أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا بالدين ، فاجعلنا من الشاكرين ـ ثم قال ـ : أصحابي انطلقوا أنتم في حلٍّ مني ، وإنّ القوم لا يريدون إلّا قتلي». فقالوا له اخوته واولاد عمّه : لم نفعل ذلك ، أتحب أن نبقى بعدك عاراً في الناس؟ لا أرانا الله ذلك يا أباعبدالله ... ، وبدأهم في ذلك العباس بن علي ، ثم التفت الحسين عليه‌السلام الى بني عقيل وقال :

«يا بني عقيل ... حسبكم من القتل بمسلم ، فاذهبوا أنتم في حلِّ منّي». فقالوا : يا سبحان الله!! ما نقول للناس وما يقولون لنا لو نترك سيّدنا وبنو عمومتنا ولم نرم معهم بسهم ونطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بالسيف ، لا والله لا نفعل ذلك نفديك بأنفسنا ونقتل دونك حتى نرد موردك ، قبّح الله العيش بعد يا أبا عبدالله.

وتكلّمت أصحابه ، قالوا : أبا عبدالله .. نحن نخلّي عنك؟ وبماذا نعتذر الى الله في أداء حقّك؟ لا والله لا نفارقك حتى نطعن في صدورهم رماحنا ونقاتلهم

١٩٨

بأسيافنا.

أقول : بيّض الله وجههم ، لقد بذلوا مهجهم دون أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام ولله درّ من قال :

جادوا بأنفسهم عن نفس سيّدهم

والجود بالنفس أقصى غاية الجود (١)

__________________

(١)

(نصاري)

اطربوا عالمنايه او غدوا يحدون

او دون ابنات وحي الله يحامون

لمن طاحوا ضحايا ابخطة الكون

او عليهم بالشهادة الباري أنعم

غدوا هذا اعلى حرّ الگاع مطروح

او ذاك ايعالج او دم منحره ايفوح

وهذا من الطعن ما بگت بي روح

او ذاك من الطبر جسمه تخدّم

تعنّه احسين واوچب بالمعاره

لگال امطرحه او دمعها ايتجاره

صفگ بيده وتلهّف على انصاره

او عليهم دمع عينه انحدر واسجم

(ابوذية)

يحگ لي انصب على اهل المجد مأتم

بدر تم بالبلوغ وبدر ما تم

عجيد اصياح منهم أبد ما تم

بس اديارهم أمست خلية

* * *

أحبّاي لو غير الحمام أصابكم

عتبتُ ولكن ما على الموت معتبُ

١٩٩

المطلب الثامن والثلاثون

في ما صدر في ليلة العاشر من المحرم

لمّا كانت الليلة العاشرة من المحرم جمع الحسين عليه‌السلام أصحابه عند المساء ، قال علي بن الحسين عليه‌السلام : فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم ، وان إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول لأصحابه :

«اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء ، اللّهمّ إنّي أحمدك على ما كرّمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفّقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين ، أمّا بعد ... فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، وأهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، الا وإنّي أظنّ أنّ يوماً لنا من هؤلاء القوم ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً ، أنتم في حلّ منّي ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، ودعوني وهؤلاء القوم ، فإنّهم لا يريده غيري». فقالوا له إخوته وأبناءه وبنو أخيه وأبناء عبدالله بن جعفر؟ ولم تفعل ذلك لنبقي بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.

فبدأهم بهذا القول العباس بن علي وأتبعه الجماعة عليه فتكلّموا بمثل هذا ، ثم نظر إلى بني عقيل فقال : «حسبكم من القتل بمسلم إذهبوا فقد إذنت لكم».

٢٠٠