ثمرات الأعواد - ج ١

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

المطلب الثلاثون

في شهادة رسول الحسين عليه‌السلام قيس رحمه الله

قال شيخنا المفيد : لمّا بلغ ابن زياد قدوم الحسين من مكة المشرفة يريد الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطته حتى نزل القادسية (١) ، ونظم الخيل والرجال ما بين القادسية إلى خفان (٢) ، وما بين خفان إلى القطقطانية (٣) ، وقال للناس : هذا الحسين يريد العراق.

__________________

(١) قال أبو عمر وقيل سمّيت القادسية بقادس هراة وقال المدايني كانت القادسية تسمى قدّيساً ، وروى أبو عيينة قال : مر ابراهيم الخليل بالقادسية فرأى زهرتها ووجد هناك عجوزاً فغلست رأسه فقال قدّست من أرض فسمّيت القادسية وبهذا الموضع كان يوم القادسية بين سعد ابن أبي وقاص والمسلمين والفرس في أيام عمر بن الخطاب في سنة ستة عشر من الهجرة وقاتل المسلمون يومئذ وسعد في القصر ينظر إليهم فنسب إلى الجبن فقال رجل من المسلمين :

ألم تر أن الله نصره

وسعد بباب القادسية معصم

فأبنا وقد أمت نساء كثيرة

ونسوة سعد ليس ليهنّ آيم

(٢) خفان بالخاء المعجمة والفاء المشدودة والألف والنون موضع فوق الكوفة قرب القادسية.

(٣) قال أبو عبدالله السكوني القطقطانيه بينها وبين الرهيمة مغرباً نيف وعشرون ميلاً إذا خرجت من القادسية تريد الشام ومنه إلى قصر مقاتل وقال ياقوت في المعجم ورواه الأزهري بالفتح موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف كان به سجن النعمان بن منذر وقال السكوني وقصر مقاتل قريباً منها وهو منسوب إلى مقاتل بن حسان ولم يذكر قصر بني مقاتل وأما عين التمر فهي الآن تعرف بشفاثا.

١٦١

وروى المفيد رحمه الله قال : لمّا بلغ الحسين الحاجر (١) من بطن الرمة (٢) ، بعث قيس بن مصهر الصيداوي (٣) ، وقيل : بعث أخاه من الرضاعة عبدالله بن يقطر (٤) وكتب معه كتاباً يقول فيه :

«من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى إخوته المؤمنين ،

سلام عليكم

أمّا بعد .. فإن كتاب مسلم بن عقيل قد جائني يخبر فيه بحسن رأيكم ، واجماع ملّتكم على نصرنا ، والطلب بحقّنا ، فسئلت الله أن يحسن لنا الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة ، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم في أيامي هذه والسلام»

ويروى أنّه كتب كتاباً غير هذا إلى أشراف أهل الكوفة ممن كان يظن أنه على رأيه ، فكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي بن أبي طالب ...

__________________

(١) بحاء مهملة وجيم وراء مهملة اسم مكان.

(٢) الرمة بضم الراء المهملة وتشديد الميم وقد تختلف قاع عظيم بنجد.

(٣) أحد بني الصيداء وهي قبيلة من بني أسد وإيّاهم عنى الشاعر :

يا بني الصيداء ردّوا فرسي

إنّما يفعل هذا بالذليل

وقال علماء السير : كان قيس رجلاً شريفاً شجاعاً مخلصاً في محبة أهل البيت عليهم‌السلام.

(٤) روى عزالدين الجزري في أسد الغابة والعسقلاني في الإصابة كان عبدالله بن يقطر صحابياً لأنّه لدة الحسين واللدة الذي ولد مع الإنسان في زمان واحد لأنّ يقطر كان خادماً عند رسول الله وكانت زوجته ميمونة في بيت أمير المؤمنين عليه‌السلام فولدت عبدالله قبل ولادة الحسين بثلاثة أيام وكانت حاضنة للحسين عليه‌السلام.

١٦٢

إلى سليمان بن صرد الخزاعي والمسيّب بن نجيبة ورفاعة بن شدّاد وعبدالله بن وائل وجماعة المؤمنين ...

«أمّا بعد ... فقد علمتم أنّ رسول الله قد قال في حياته : «من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لمحارم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، ثم لم يغير بقول ولا فعل كان حقيقياً على الله أن يدخله مدخله» وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتوانوا عن طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالغيّ ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وإنّي أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله ، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم ، أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني ، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم ، ونفسي مع أنفسكم ، وأهلي وولدي مع أهليكم وأولادكم ، فلكم بي اُسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخالفتم بيعتكم فلعمري ما هي منكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي ، والمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم وأخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فعلى نفسه ، وسيغنينى الله عنكم».

ثم طوى الكتاب ودفعه لقيس بن مسهر الصيداوي ، فسار قيس بكتاب الحسين عليه‌السلام حتى إذا بلغ القادسية قبض عليه الحصين بن نمير ليفتّشه ، فأخرج قيس الكتاب حرقه ، فحمله الحصين إلى ابن زياد بالكوفة ، فلمّا مثل بين يديه قال له : من أنت؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين. قال : لماذا أحرقت الكتاب؟ قال : لئلا تعلم بما فيه ؛ قال : ممّن الكتاب وإلى من؟ قال : من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى جماعة لا أعرف أسمائهم.

قال : فغضب ابن زياد وقال : والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء القوم ، أو تصعد المنبر فتسب الحسين وأباه وأخاه ، وإلا قطعتك بالسيف إرباً إرباً.

١٦٣

فقال قيس : أمّا القوم فلا اُخبرك بأسمائهم ، وأمّا السب فأفعل ـ وحاشاه ـ قال : إذاً فاصعد المنبر.

[فصعد المنبر] ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلّى عليه ، وأكثر من الترحّم على علي وولده ، ثم لعن ابن زياد وأباه وأخاه ، وعتات بني امية عن آخرهم ، ثم قال : «أيّها الناس .. أنا رسول الحسين إليكم ، وقد خلّفته بموضع كذا وكذا ، فأجيبونني» فغضب ابن زياد وأمر أن يصعد به إلى أعلى القصر ، وأن يوثّقوه كتافاً ويرموه من أعلى القصر إلى الأرض حيّاً فصعدوا به إلى أعلى القصر ورموه إلى الأرض فتكسرت عظامه ، فوقع وبه رمق الحياة فأقبل إليه رجل من أهل الكوفة يسمّى عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه بمديه وعيب عليه بعد ذلك ، فقال : أردت أن أريحه.

ولمّا بلغ خبره الحسين عليه‌السلام فاستعبر باكياً ، هذا وقد سمع بقتله ولم يسمع بأنه يجرّ من رجليه في الأسواق ، إذاً ما حاله عليه‌السلام حين سمع بخبر مسلم بن عقيل وقد رموه من أعلى القصر إلى الأرض ووضعوا الحبال في رجلي مسلم وهاني وسحبوهما في الأسواق :

ولو كان في الكوفة غير مسلم

ومسلم ما قطّعوه إربا (١)

__________________

(١)

اويلي اعلى ابو طاهر اويلاه

يوم الذي خانت رعاياه

واصبح غريب ابولية اعداه

ومن اخوته ما واحد اوياه

او يجر صارمه ويمنع اليدناه

شالته الغيره أو يومه ساواه

يشبه العمّه حامي احماه

من ضعف والطاغي تلقّاه

وبمرهفه وگع ثناياه

أوجتفوا يساره فوگ يمناه

وظل يلتفت ويدير عيناه

أو لحسين ذيگ السا تمنّاه

١٦٤

المطلب الواحد والثلاثون

في كتب الحسين عليه‌السلام إلى البصرة

قال السيد في اللهوف :

كتب الحسين عليه‌السلام إلى أهل البصرة اثنى عشر كتاباً وحين أراد الخرج من مكة المشرفة مع مولى له يقال له : سليمان ، ويكنّى : أبا رزين (١) ، يدعوهم إلى نصرته واللزوم تحت طاعته ، منها : كتاب إلى يزيد بن مسعود النهشلي ، ومنها : كتاب المنذر بن الجارود العبدي ، ومنها : إلى الأحنف بن قيس ، ومنها إلى مالك بن

__________________

يويلي أو لابن زياد من جاه

فرحان متشمّت لگاه

او من فوگ عالي القصر ودّاه

وانوخذ ما واحد ترجّاه

آه ولرجس يوم التولّاه

گص راسه والجسمه رماه

او للگاع صار النفل مهواه

او بحبال سحبوه عالي الجاه

* * *

قتلوه ثم رموه من أعل البنا

وعلى الثرى سحبوه وهو قتيلُ

ربطوا برجليه الحبال ومثّلوا

فيه فليت أصابني التمثيلُ

(١) أقول : سليمان المكنى بأبي رزين ، مولى الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، أرسله بكتبه إلى رؤساء الأخماس بالبصرة حين كان بمكة ، واُمّه كبشة كانت جارية للحسين اشتراها بألف درهم ، وكانت تخدم في البيت ام اسحاق بنت طلحة بن عبدالله التميمية زوجة الحسين ، ثم تزوج الجارية أبو رزين فولدت منه سليمان فهو مولى للحسين عليه‌السلام.

١٦٥

مسمع البصري ، ومنها : إلى قيس بن الهيشم ... وغيرهم من الرؤساء والأشراف (١).

فأمّا الأحنف بن قيس فإنّه كتب إلى الحسين عليه‌السلام يصبرّه ويرجّيه ، والباقون كتموا أسرارهم إلّا المنذر بن الجارود العبدي فإنّه خاف أن يكون دسيسة من عبيدالله بن زياد ، فإنه جاء بالكتاب والرسول إلى ابن زياد وكانت بنت المنذر بحرية زوجة عبيدالله بن زياد. فأخذ عبيد الله ابن زياد الرسول فصلبه ثم صعد المنبر فخطب وتوعّد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الأرجاف.

وأما يزيد بن مسعود النهشلي فإنّه جمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ، فلمّا حضروا عنده قام فيهم خطيباً وقال : يا بني تميم كيف ترون موضعي منكم وحسبي فيكم؟ فقالوا : بخ بخ أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً وتقدمت فرطاً. فقال : إني جمعتكم لأمر أريد أن اُشاوركم فيه واستعين بكم عليه. فقالوا : أما والله نمنحك النصيحة ونحمد لك الرأي ، فقل نسمع ونطع. فقال : إنّ معاوية قد هلك فاهون به هالكاً ومفقوداً إلّا إنّه قد انكسر باب الجور وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة ظن إنّه قد أحكمها ، فهيهات الذي أراده اجتهد ، ففشل وشاور فخذل ، وقام من بعده نغلة يزيد شارب الخمور ورأس الفجور ، يدعي للخلافة على المسلمين مع قلة علمه وقصر فهمه ، لا يعرف من الحق موطىء قدمه ، واقسم بالله قسماً مبروراً لجهاده على الدين

__________________

(١) وهذا ما كتبه إليهم :

بسم الله بالرحمن الرحيم

من الحسين بن علي بن أبي طالب

«أمّا بعد ... فإنّ السنة قد اميتت ، والبدعة قد اُحييت ، فإن أجبتم دعوتي أهديكم إلى سبيل الرشاد والسلام».

وكان عليه‌السلام إذا أراد أن يكتب كتاباً مثل هذا يوجز لأن «خير الكلام ما قلّ ودلّ».

١٦٦

افضل من جهاد المشركين ، وهذا الحسين بن علي ذي الشرف الأصيل والرأي الأثيل له فضل لا يوصف وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وقدمه ، يحنو على الكبير ويعطف على الصغير ، فأكرم به من راعي رعيه وإمام حق وجبت لله به الحجة ، وبلغت به الموعظة ، وقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم مع بن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وها أنا قد لبست للحرب لامتها ، وادرعت لها بدرعها ، فمن لم يقتل يمت ، ومن يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب.

فتكلمت بنو حنظلة وقالوا : يا أبا خالد نحن نبل كنانتك وفرسان عشريتك ، إن غزوت بها فتحت ، لا تخوض غمرة إلا خضناها ، ولا تلقى شدّة إلا لقيناها ، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا ، فانهض لما شئت.

وتكلمت بنو تميم فقالوا : يا أبا خالد نحن بنو ابنك وحلفاؤك لا ترضى إن غضبت والأمر إليك إذا شئت.

وتكلمت بنو سعد فقالوا : يا أبا خالد إن أبغض الأشياء علينا خلافك والخروج من رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال ، فحمدنا أمره وبقى عزنا فينا ، فأمهلنا حتى نراجع المشورة ونأتيك بالجواب.

فقال : والله يا بني سعد لإن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم ولا زال سيفكم فيكم أبداً.

ثم كتب إلى الحسين عليه‌السلام كتاباً يقول فيه : أمّا بعد .. فقد وصل إليّ كتابك وفهمت ما ندبتني إليه ، ودعوتني من الأخذ بحظي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإن لم يخل الأرض من عامل عليها بخبر وأنتم حجج الله على خلقه وأمناؤه على عباده ، تفرّعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها ، فاقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذللت لك أعناق بني تميم وتركتهم أشد تتابعاً في طاعتك من الإبل الظما لورود الماء في يوم خمسها ، وذللت لك أعناق بني سعد ،

١٦٧

وغسلت درن صدرهم بماء سحابة مزن حين استهل برفقها فلمع.

قال : ثم سرح الكتاب إلى الحسين عليه‌السلام فورد على الحسين وهو إذ ذاك بكربلاء وحيداً فريداً وقد قتلت أصحابه وإخوته ، فلمّا فض الكتاب وقرأه جعل يقول : مالك يابن مسعود آمنك الله يوم الخوف الأكبر.

قال الراوي : وتجهزّ يزيد بن مسعود ، وخرج من البصرة بأثنى عشر ألف رجل ، فلما صار في بعض الطريق بلغه خبر قتل الحسين عليه‌السلام فشهق شهقة ومات.

هذا ولم ير ما صنع بإمامه ، فيعزّ على ابن مسعود لو رأى سيده الحسين وقد احاطت به أعداؤه هذا يضربه بسيفه وهذا يطعنه برمحه وهذا يرميه بالحجارة.

ولقد غشوت فضارب ومفوّق

سهماً إليه وطاعن متقصّد (١)

__________________

(١) نعم هذا يزيد بن مسعود بلغه خبر قتل الحسين عليه‌السلام فشهق شهقته ومات ساعد الله قلب الحوراء زينب عليها‌السلام حين نظرت إلى أخيها وفيه ألف وتسعمائة جراحة كأنها بها :

(نصاري)

يحسين خوية اشيوجعك گول

او من يا جرح يا خوي معلول

لو ناشدونة الناس شنگول

يالچنت سور او سيف مسلول

دون الحرم يا ريع المحول

وسافه اعلى حگك تمسي مگتول

مرمي اوعليك اتدوس الخيول

او من فوگ صدرك گامت اتجول

تمنّيت ألك من هاشم اشبول

يشوفون جسمك على الرمول

وراسك براس الرمح مشيول

ويشوفنّه اشمنّه العد تنول

(ابوذية)

الگلب شاجر على ابن امي وداوي

تضعضع وانهدم سوري وداوي

لا مجروح حتى اگعد وداوي

ولا غايب وأگول ايعود ليه

(تخميس)

قد كنت فينا في الشدائد معقلاً

ولبيتنا السامي سراجاً مُشعلا

واليوم مالك لم تُجبنا ثكّلا

ألمحنة شغلتك عنّا أم قلى

حاشاك إنك ما برحت ودودا

١٦٨

المطلب الثاني والثلاثون

في من حظي بالشهادة من أهل البصرة

لمّا كاتب الحسين بن علي عليه‌السلام أشراف أهل البصرة ورؤسائهم يدعوهم إلى نصرته ؛ واللزوم تحت طاعته ، أجابه من أجابه كيزيد بن مسعود النهشي ، ومعه اثنا عشر ألف ، لكنّهم فاتتهم نصرة الحسين عليه‌السلام إذ إنّهم خرجوا من البصرة متّجهين إلى الحسين عليه‌السلام فوافاهم خبر قتله في بعض الطريق ، فرجعوا خائبين من نصرته.

وأما الذين سعدوا ورزقوا الشهادة فهم ستة كما ذكرهم أهل المقاتل ، أولهم : عبدالله الفقعسي ، وكان شيخاً كبيراً طاعناً في السن ، وولده أربعة والسادس هو سعيد بن مرة التميمي ، أمّا سبب خروج هذا الشيخ وولده (١) على ما يروى أنّه كان إمرأة من أهل البصرة تسمى مارية بنت منقذ العبدي ، وكانت تتشيّع ، وهي من ذوي البيوت والشرف ، وقد قتل زوجها وأولادها يوم الجمل مع أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد بلغها أنّ الحسين عليه‌السلام كاتب أشراف أهل البصرة ودعاهم إلى نصرته ، وكان عندها ناد يجتمع فيه الناس فجائت وجلست بباب مجلسها وجعلت تبكي ، حتى علا صراخها فقام الناس في وجهها وقالوا لها : ما عندك ومن

__________________

(١) اي : عبدالله الفقعسي.

١٦٩

أغضبك؟ قالت : ويلكم ، ما أغضبني أحد ، ولكن أنا إمرأة ما أصنع ، ويلكم سمعت أنّ الحسين بن بنت نبيّكم استنصركم وأنتم لا تنصروه ، فأخذوا يعتذرون منها لعدم السلاح والراحلة ، فقالت : أهذا الذي يمنعكم؟ قالوا : بلى ؛ فالتفتت إلى جاريتها وقالت لها : أنطلقي إلى الحجرة وآتيني بالكيس الفلاني ، فإنطلقت الجارية وأقبلت بالكيس إلى مولاتها ، فاخذت مولاتها الكيس وصبّته وإذا هو دنانير ودراهم ، وقالت : فاليأخذ كل رجل منكم ما يحتاجه وينطلق إلى نصرة سيدي ومولاي الحسين.

قال الراوي : فقام عبدالله الفقعسي وهو يبكي ـ وكان عنده أحد عشر ولداً ـ فقاموا في وجهه وقالوا : إلى أن تريد؟ قال : إلى نصرة ابن بنت رسول الله. ثم التفت إلى من حضر وقال : ويلكم هذه إمرأة أخذتها الحمية وأنتم جلوس؟ ما عذركم عند جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة.

قال : ثم خرج من عندها وتبعه من ولده أربعة فأقبلوا يجدون السير ، حتى استخبروا بأن الحسين عليه‌السلام ورد كربلاء ، فجاء الشيخ بأولاده إلى كربلاء ورزقوا الشهادة.

وأما السادس : فهو سعيد بن مرّة التميمي ، وكان سعيداّ شاباً له من العمر تسعة عشر سنة ، فإنّه لما سمع بأن الحسين عليه‌السلام يستنصر أشراف أهل البصرة في كتبه أقبل إلى اُمّه في صبيحة عرسه وصاح : امّاه علي بلامة حربي وفرسي .. قالت : وما تصنع بها؟! قال : اُماه قد ضاق صدري واريد ان أمضي خار البساتين ، فقالت له : ولدي إنطلق إلى زوجتك ولاطفها ، فقال : يا اُمّاه لا يسعني ذلك ... فبينما هم كذلك إذ إقبلت إليه زوجته وقالت له : إلى أين تريد يا ابن العم؟ فقال لها : أنا ماضي إلى من هو خير منّي ومنك. فقالت له : ومن هو خير منك ومنّي؟! فقال لها : سيّدي ومولاي الحسين بن علي عليه‌السلام. فلمّا سمعت أُمّه بكت وقالت له : ولدي

١٧٠

جزاك الله عن الحسين خيراً ، ولكن يا ولدي أما حملتك في بطني تسعة أشهر؟ قال : بلى ، قالت : أما سهرت الليالي في تربيتك؟ قال : بلى ، وأنا لست بمنكر لحقّك عليَّ. قالت : إذاً عندي وصية ، قال : وما هي يا أُمّاه؟ فقالت له : ولدي إذا أدركت سيد شباب أهل الجنّة إقرأه عنّي السلام وقل له فليشفع لي يوم القيامة. فقال لها : يا أُماه وأنا أوصيك بوصيّة ، قالت : ماهي؟ قال : إذا رأيت شاباً لم يتهنّا بشبابه وعرّيساً لم يهنأ بعرسه اذكري عرسي وشبابي.

قال الراوي : ثم ودّعها وخرج من البصرة ، وأقبل يجدّ السير في الليل والنهار واستخبر ببعض الطريق أنّ الحسين قد نزل كربلاء ، وجعل يجدّ السير حتى وافى الحسين يوم العاشر من المحرم وحيداً فريداً ، فلما رآه الحسين قال : سعيد هذا؟! قال : نعم سيدي ، قال : يا سعيد ما قالت لك اُمّك؟ فقال : سيّدي تقرؤك السلام ؛ فقال الحسين عليه‌السلام : عليك وعليها‌السلام ، يا سعيد إنّ اُمك واُمي في الجنّة. ثم قال سعيد : سيّدي أتأذن لي أن اسلم على بنات الرسالة؟ قال : نعم ؛ فأقبل سعيد حتى وقف بإزاء الخيام ونادى : السلام عليكم يا آل بيت رسول الله. فصاحت جاريه زينب : وعليك السلام ، فمن أنت؟ قال : سيدتي أنا خادمكم سعيد بن مرّة التميمي ، جئت إلى نصرة سيدي ومولاي الحسين. فقالت : يا سعيد أما تسمع الحسين عليه‌السلام ينادي هل من ناصر؟ هل من معين؟ قال : ثم سلّم عليهنّ ورجع إلى الحسين ووقف يستأذنه للبراز ، فأذن له الحسين عليه‌السلام ، فحمل على القوم وجعل يقاتل حتى قتل جمعاً كثيراً ، فعطفوا عليه أعداء الله فقتلوه ، ولمّا قتل سعيد مشى لمصرعه الحسين فجلس عنده ، وأخذ رأسه ووضعه في حجره ، وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه ، وهو يقول : أنت سعيد كما سمّتك أمك ، سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة.

وكان عليه‌السلام كلّما قتل منه قتيل يقف عند مصرعه ويؤبنّه إما بآية من القرآن ، أو بكلمة تناسبه.

١٧١

ولما صرع الغلام التركي مشى لمصرعه الحسين عليه‌السلام ووضع خدّه على خّده ، وكان الغلام مغمى عليه فلمّا أفاق رأي الحسين عليه‌السلام واضعاً خدّه على خدّه فقال : من مثلي وابن رسول الله واضعاً خدّه على خدّي.

نصروا ابن بنت نبيهم طوبى لهم

نالوا بنصرته مراتب سامية (١)

__________________

(١)

(بحراني)

عاف العرس وگبل سعيد اوحيدته ليك

اينادي ابلسانه والگلب يحسين لبيك

ودِّع سعيد اُمّه وتعنّه الغاضرية

ليل او نهار ايسير في صبح او عشيّه

امن ابعيد شاف احسين مفرد بين اميّه

اينادوه المن تنتظر يحسين يأتيك

لن هالشباب ايصيح الك روحي فديّه

عبدك سعيد اگبل رحت يحسين رجليك

اووّدع احسين او صال بمجموع العساكر

او خلّه الايادي اوية الجماجم بس تناثر

ادّع العيله وطاح بالميدان عافر

او ناده يبو سكنة سعيد ايسلّم عليك

راح السبط مسرع او جابه يم الخيام

او مدد سعيد ابصف علي الاكبر او جسّام

او ناح او بچه او ناده الفواطم ويّه الايتام

نوحوا وگولوا يا شباب الله يهنّيك

هذا تره معرّس شباب وما تهنّه

اُمّه وبت عمّه ابصباحه فارگنّة

دارن عليه رمله وليله يندبنّه

اوزينب تنادي اشلون من دمّك نحنّيك

(تخميس)

كيف السلو ونار الحزن تشتعل

تلهّبا ودموع العين تنهمل

سحاً على جيرة في كربلا نزلوا

بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا

وخلّفوا في سويد القلب نيرانا

١٧٢

المطلب الثالث والثلاثون

في ترجمة زهير بن القين البجلي رحمه الله

ذكر صاحب إبصار العين ، قال : كان زهير بن القين البجلي رجلاً شريفاً ، شجاعاً له في المغازي مواقف مشهورة وكان أولاً عثمانياً ، حجّ سنة ستين من الهجرة بأهله ثم عاد من الحج فوافق الحسين عليه‌السلام في الطريق.

حدّث جماعة من فزارة وبجليه ، قالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين عليه‌السلام ، فلم يكن شئ أبغض علينا من أن ننازله في منزل ، فإذا نزل الحسين تقدم زهير ، وإذا سار الحسين تخلف زهير ، فلم نزل هكذا حتى صرنا في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين جانبا ونزل زهير إلى جانب آخر ، فبينما نحن جلوس نتغذى إذا برسول الحسين قد أقبل علينا حتى دخل الخيمة ، فسلم عينا فرددنا عليه‌السلام ثم قال : يا زهير إنّ الحسين يدعوك. قال : فطرح كل انسان ما كان في يده ، حتى كأن على رؤوسنا الطير.

قال ابو مخنف ، حدّثتني دلهم بنت عمرو زوجه زهير ، قالت : فقلت له يا سبحان الله أيبعث إليك الحسين ثم لا تجيبه؟! فأجبه واسمع منه كلامه ثم انصرف. قال : ثم مضى إليه زهير ، فما لبث إن جاء مستبشراً وأمر بفسطاطه وثقله فقوّض وحمل الى الحسين عليه‌السلام. ثم قال : أنت طالق ، إلحقي بإهلك فإني لا

١٧٣

أحب أن يصيبك بسببي إلّا خيراً ؛ ثم التفت إلى اصحابه وقال : من أحبّ منكم إن يتّبعني وإلّا فهذا آخر العهد ؛ ثم التفت إليهم ثانياً وقال : إني اُحدّثكم بحديث :

غزونا بلنجر (١) ، فتح الله عينا ، وأصبنا غنائم كثيرة ، فقال لنا سلمان بن ربيعة الباهلي : أفرحتم بما فتح الله على ايديكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا : نعم ، قال : إذا أدركتم سيد شباب أهل الجنة ، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ، فأمّا أنا فأستودعكم الله (٢).

ثم صار الى الحسين عليه‌السلام ، وكان معه سلمان بن مضارب بن قيس ـ ابن عم

__________________

(١) في القاموس : بلنجر كغضنفر ـ بفتحين وسكون النون وجيم مفتوحة وراء ـ هي مدينة ببلاد الخزر خلف باب الابواب ، فتحت في زمان عثمان في سنة اثنين وثلاثين على يد عبدالرحمن بن ربيعة الباهلي ، كما ذكره أصحاب السير ، وقال البلاذري : فتحها سليمان بن ربيعه الباهلي ، وتجاوزها ، ولقيه خاقان في جيشه خلف بلنجر ، فاستشهد هو وأصحابه ، وكانوا أربعة آلاف ، وكان في أول الامر قد خافهم الترك وقالوا : إنّ هؤلاك ملائكة لا يعمل فيهم السلاح ، فاتفق أنّ تركيا اختفي في غيضة ورشق مسلماُ بسهم فقتله ، فنادا في قومه انّ هؤلاء يموتون كما تموتون فلِمَ تخافوهم ، فاجترؤا عليهم ووقعوهم حتى استشهد عبد الرحمن بن ربيعة ، وأخذ الراية أخوه سلمان بن ربيعة ولم يزل يقاتل حتى امكنه دفن أخيه بنواحي بلنجر ، ورجع ببقية المسلمين على طريق جيلان ، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة ، فقال عبدالرحمن بن جمانة الباهلي :

وإن لنا قبرين قبر بلنجر

وقبر بأرض الصين يا لك من قبر

فهذا الذي الصين عمّت فتوحه

وهذا الذي يسقى به سبل القطر

يريد أن الترك لمّا قتلوا عبد الرحمن بن ربيعة وأصحابه كانوا ينظرون في كل ليلة نوراً على مصارعهم ، فأخذوا سلمان بن ربيعة وجعلوه في تابوت فيهم يستسقون به إذا اقطعوا ، وإذا الذي بالصين فهو قتيبة ابن مسلم الباهلي. (أقول) فقول زهير قال لنا سلمان أي سلمان بن ربيعة الباهلي لأنّ سلمان الفارسي توفي في زمن الخليفة الثاني وبلنجر فتحت في زمن عثمان ولم يشهد سلمان الفارسي وقعة بلنجر.

(٢) ابصار العين : ٩٥.

١٧٤

زهير بن القين لحاً ـ فالقين أخو مضارب وأبوهما قيس ، وكان سلمان حج مع ابن عمّه سنة ستين ، ولما مال زهير مع الحسين عليه‌السلام مال معه في مضربه ، وقتل أيضاً يوم الطف (١).

ولمّا بلغ الحسين عليه‌السلام ذو حسم (٢) ، قام خطيباً في أصحابه ، فحمد الله واثنى عليه ، وذكر النبي فصلّى عليه ، ثم قال :

أمّا بعد ، فإنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، ولم يبق منها الّا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ، ألا وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برما.

قال : فقام إليه زهير بن القين البجلي رحمه الله ، وقال لأصحابه : أتتكلّمون أم أتكلّم؟ فقالوا : بل تكلّم. فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال :

قد سمعنا هداك الله يابن رسول الله مقالتك ، والله لو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلدين (٣) ، لآثرن النهوض معك على الإقامة فيها. قال الراوي : فدعا له

__________________

(١) ابصار العين : ١٠٠.

(٢) ابصار العين : ١٠٠. (٢) حسم بضمّتين وهو اسم لموضع وفي شعر النابغة :

أليلتنا بذي حسم أنيري

إذا انتِ انقضيت فلا تحوري

فإن يك بالذنائب طال ليلي

فقد أبكى من الليلِ القصيري

انظر نهاية الإرب : ١٥ / ٤٠١.

وقال لبيد :

بذي حسم قد عربت ويزينها

دماث فليج وهو هاو المحافل

(٣) في المصدر زيادة : إلّا انّ فراقها في نصرك ومواساتك ...

١٧٥

الحسين عليه‌السلام وقال له : جزاك الله عن ابن بنت نبيك أخيراً (١).

وقال كثير بن عبدالله الشعبي : لمّا زحفنا نحو (٢) الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء ، خرج إلينا زهير بن القين البجلي على فرس له ذنوب ، ووقف بين الصفين ونادى بأعلى صوته :

يا أهل الكوفة نذاري لكم من عذاب الله ، نذار إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الان إخوة على دين واحد وعلى ملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف (٣) ، ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا أمة وكنتم امّة ، أيها الناس (٤) : أن الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرية نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد (٥) وعبيد الله بن زياد ، فإنّكم والله لا تدركون منهما إلّا بسوء عمر سلطانهما كله ، وإنهم والله ليسملان أعينكم ، ويقطعان ايديكم وأرجلكم ، ويصلبانكم على جذوع النخل ، ويمثّلان بكم (٦) ، ، أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشياعه (٧).

قال : فسبوه ، واثنوا على عبيدالله بن زياد فحمدوه ، وقالوا : والله يا زهير لا تبرح حتى نقتل صاحبك ـ يعني الحسين عليه‌السلام ـ ومن معه ، أو نبعث به إلى ابن زياد سالماً. فقال زهير : ويلكم يا أهل الكوفة ، إن ولد فاطمة أحقّ بالودّ من ابن سميّة ، فإن لم تنصروه فأعيذكم بالله أن تقتلوه ، فخلوا بين هذا الرجل وبين يزيد بن

__________________

(١) مقتل أبي مخنف : ٨٦.

(٢) في المصدر : قبل.

(٣) في المصدر زيادة : وأنتم للنصيحة منّا أهل ...

(٤) أيها الناس ، لم ترد في المصدر.

(٥) يزيد ، لم يرد في الصدر.

(٦) في المصدر بعد (وأرجلكم) : ويمثّلان بكم ، ويرقعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أمثلكم وقرّائكم ، ...

(٧) في المصدر : وأشباهه.

١٧٦

معاوية ، فلعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.

قال الراوي : فرماه شمر (١) وقال : أسكت ، أسكت الله نامتك ، (٢) ، أبرمتنا بكثرة كلامك ، فقال له زهير : يا ابن البوّال على عقبيه ، ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة ، والله لا أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال الشمر إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة ، فقال زهير : أفبالموت تخوّفني ، فوالله الموت معه أحبّ إليَّ من الخلد معكم.

قال : ثم أقبل على الناس رافعاً صوته ، فقال : عباد الله لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فوالله لن ينالوا شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قط قوم أراقوا دماء ذريته وعترته ، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم.

قال الراوي : فناداه رجل من أصحابه : يا زهير إن الحسين عليه‌السلام يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قوم ، وابلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ. فرجع إلى الحسين عليه‌السلام ، فقال له عليه‌السلام : جزاك الله عن رسوله واله خيراً (٣).

قال (٤) : ولمّا أتت نوبته حمل على القوم ، فجعل يقاتل قتالاً شديداً لم ير مثله قط ، ولم يسمع بشبهه ، وهو يقول :

أنا زهير وأنا ابن القين

أذودكم بالسيف عن حسين

إنّ حسيناً احد السبطين

من عترة البر التقي الزين

ثم رجع ووقف الامام الحسين عليه‌السلام ، وقال :

__________________

(١) في المصدر : بسهم.

(٢) النامة : بالتشديد الصوت يقال ذلك كناية عن الموت وهو دعاء العرب مشهور ، وأبرمتنا أي أضجرتنا بكثرة كلامك.

(٣) مقتل أبي مخنف : ١١٩ ـ ١٢٠ ، باختلاف بسيط.

(٤) والكلام للراوي.

١٧٧

فدتك نفسي هادياً مهديّا

اليوم ألقى جدك النبيا

وحسنا والمرتضى وعليّاً

وذاالجناحين الشهيد الحيّا

فكأنّه ودعه ، وعاد يقاتل حتى قتل مائة عشرين رجلاً ، فشدّا عليه كثير بن عبدالله الشعبي ومهاجر بن اوس التميمي فقتلاه ، ولمّا سقط الى الارض مشى لمصرعه الحسين عليه‌السلام ووقف عنده ، وتكلّم بكلمات ، وقال : لا يبعدنّك الله يا زهير عن رحمته ، ولعن قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير (١).

جادوا بأنفسهم عن نفس سيّدهم

والجود بالنفس اقصى غاية الجود

ويروي في تذكرة ابن الجوزي : أنّه لمّا قتل زهير قالت امرأته لغلامه : إذهب وكفّن مولاك ، فقال لها : أكفن مولاي وأدع الحسين؟! لا والله (٢).

ما غسّلوه ولا لفّوه في كفن

يوم الطفوف ولا مدّوا عليه ردا (٣)

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري : ٦ / ٢٥٣.

(٢) تذكرة الخواص لابن الجوزي : ٢٥٦ ، نقول : امرأة زهير إنّما قالت ذلك للغلام بعد مقتل الحسين عليه‌السلام ، ومفاده أنه لا يريد أن يترك الحسين بلا كفن ويكفن مولاه.

(٣) وزينب عليها‌السلام نادت القوم أمّا فيكم مسلم يواري هذا الغريب ، اما فيكم مسلم يكفن هذا السليب فلم يجيبوها كأني بها التفتت إلى أهلها :

(نصاري)

تعالوا لبنكم غسّلوه

ويّاكم كفنكم دجيبوه

جيبو گطن للجرح شدّوه

ثلث تيام مرمي بغير تغسيل

(ابوذية)

ادمن للگلب يحسين يرحين

وبس الهن دموع العين يرحين

خواتك عالهزل للسير يرحين

او يعوفن جثتك بالطف رميّة

(تخميس)

يا سائلاً وشظايا القلب في شجن

هل جهّزوا لقتيلٍ مات ممتحن

أجبته بفؤادٍ خافقٍ وهن

ما غسّلوه ولا لفّوه في كفن

يوم الطفوف ولا مدّوا عليه ردا

١٧٨

المطلب الرابع والثلاثون

في ملاقات الحسين عليه‌السلام للحرّ وما جرى بينهما

روي عن عبدالله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا : كنّا نساير الحسين عليه‌السلام حتى نزل شراف (١) ، ولما كان السحرة أمر أصحابه أن يحملوا الماء وأن يكثروا ، فلمّا أصبحوا ساروا من شراف حتى انتصف النهار ، فبينما هم يسيرون إذ كبر رجل من اصحابه ، فقال له الحسين عليه‌السلام : الله اكبر ، لم كبرت؟! قال : سيدي رأيت النخل ، فقال له رجل من اصحابه : ما رأينا في هذا المكان نخلة واحدة!! فقال الحسين عليه‌السلام : وما ترون؟ قالوا : والله لا نرى إلّا أسنّة الرماح ، وآذان الخيل ، فقال عليه‌السلام : وأنا والله أرى ذلك ، ثم قال عليه‌السلام : ما لنا ملجأ نلجأ إليه ونجعله

__________________

(١) شراف بفتح اوله وآخره فاء وثانيه مخفف فعال من الشرف وهو العلو وقال أبو عبيدة السكوني ومن شرف إلى واقصة ميلان وهناك بركة تعرف باللوزة وفي شراف ثلاث آبار كبار رشاؤها أقل من عشرين قامة وماؤها عذب كثير وبها آبار كثيرة طيّبة الماء يدخلها ماء المطر وقيل شراف استنبطه رجل من العماليق اسمه شراف فسمّي به. وقال الكلبي : شراف وواقصة ابنا عمرو بن معتق بن زمرة بن عبيد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح عليه‌السلام. وقال زميل بن زامل الفزاري قاتل ابن داه :

لقد عضّني بالجو جو كثيفة

ويوم التقينا من وراء شراف

قصرت له الدعسى ليعرف نسبتي

وأنبأته أني ابن عبد مناف

١٧٩

خلف ظهورنا ، ونستقبل القوم بوجه واحد؟ قالوا : بلى ، هذا ذوحسم إلى جنبك ، فمل إليه عن يسارك. فأخذت ذات اليسار ، قالا : فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي (١) الخيل كأن أسنّتهم اليعاسيب (٢) ، وكأن راياتهم أجنحة الطير.

فأمر الحسين عليه‌السلام بالأبنية فضربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس يتقدّمهم الحرّ (٣) بن يزيد الرياحي ، وكان مجيئه من القادسية (٤) ، فنزل حذاء الحسين عليه‌السلام في حر الظهيرة ، والحسين وأصحابه جالسين متقلّدي أسيافهم ، فقال الحسين عليه‌السلام لفتيانه : اسقوا القوم [وارووهم من] (٥) الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفا ، فأقبلوا يملؤن القصاع والطساس ثم يدنونها من الفرس ، فإذا عب فيها ثلاثاً أو أربعاً عزلت وسقى الآخرى ، حتى سقوهم عن آخرهم. قال علي بن الطعان المحاربي : كنت يومئذ مع [الحرّ بن يزيد] ، (٦) ، فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسين عليه‌السلام ما بي وبفرسي من العطش ، قال لي : يا ابن أخي إنخ الجمل ؛ فأنخته

__________________

(١) الهوادي جمع الهادي العنق والمتقدم وهنا يريد مقدمة الخيل.

(٢) جمع يعسوب أمير النحل وذكرها يشبه لمعان الأسنّة بلمعان أجنحة اليعاسيت في الشمس.

(٣) الحر بن يزيد الرياحي كان شريفاً في قومه جاهلية وإسلاماً فإنّ جدّه عتابا كان رديف النعمان بن المنذر وولد عتاب قيسا وقعنبا ومات عتاب فردف فقيس النعمان ونازعه الشيبانيون فقامت بسبب ذلك حرب يوم الطخلة والحر بن عم الاخوص الصحابي الشاعر.

(٤) القادسية وحسبما جاء في ج ٤ ص ٢٩١ من كتاب المعجم البلدان للحموي موضع بينه وبين الكونة خمسة عشر فرسخاً وبينه وبين العذيب أربعة أميال وبهذا الموضع كان يوم القادسية بين سعد ابن أبي وقاص والمسلمين والفرس في أيام عمر بن الخطاب وذلك سنة ١٦ من الهجرة.

(٥ و ٦) ما اثبتناه من المصدر.

١٨٠