ثمرات الأعواد - ج ١

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

بني أسد ـ وكان يتشيّع ويقال أنّها للفرزدق ـ شعراً (١) :

إن كُنتَ لا تَدرينَ مالموتَ فانظري

إلى هانىء بالسوق وابن عَقيلِ

إلى بطل قد هَشَّمَ السّيفُ وَجهَهُ

وآخرَ يهوي من طِمارٍ جَديلٍ

أصابَهُما فَرَخ البغي فأصبَحا

أحاديثَ من يسري بكلِّ سبيلِ

ترى جسداً قَد غَيّرَ الموتُ لونَهُ

وَنَضَجَ دمٍ قَد سأل أيُّ مَسِيلِ

فتىً كان أحيا من فتاة حَييةٍ

وأقطعَ مِن ذي شَفَرتين صَقيلِ

أيركبُ أسماءُ (٢) المهاليجِ آمناً

وقد طَلَبتهُ مِذحجٌ بذُخُول

وتُطيفُ حواليهِ مُرادٌ وكُلّهُم

على رقبة من سائل ومسول

فَإن أنتُم لَم تثأروا بِأخيكُم

فَكونوا بَغَايا أرضيت بِقليلِ

وكان قتل مسلم وهاني يوم التروية ، قال : وأمر ابن زياد (لعنه الله) بجثّة هاني ومسلم فصلبتا بالكناسة ، وبعث برأسيهما إلى يزيد بن الزبير بن الأروح التميمي وهاني بن أبي حيّة الوداعي (٤).

أقول : وكان رأس مسلم أول رأس حمل من بين هاشم ، وأول جثّة منهم صلبت وبعدها رأس الحسين عليه‌السلام ورؤوس أخوته وأولاده وبنو عمومته وأصحابه ، فلئن حمل رأس مسلم من الكوفة إلى الشام فقد حمل رأس الحسين عليه‌السلام على قتاة من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام ، بمرءى من

__________________

(١) نسبها في رياض المصائب : ٢٦٨ ، إلى الفرزدق ، انظر في ذلك ايضاً : الكامل في التاريخ (لابن الأثير) : ٤ / ١٥ ، الملهوف في قتلى الطفوف : ١٢٣ ، والأخبار الطوال للدينوري : ٢٤٢ ، والإرشاد للشيخ المفيد : ٢ / ٦٤ ، ومثير الأحزان لابن نما : ٣٧.

(٢) هو أسماء بن خارجة الفزاري أحد الثلاثة الذين ذهبوا بهانىء بن عروة الى ابن زياد.

(٣) مقتل أبي مخنف : ٥٧ ـ ٥٨.

(٤) مقتل أبي مخنف : ٥٩.

١٤١

عيون أخواته وبناته ، وهو يتلوا القرآن تارة ويدعوا على حامله اُخرى ، وربما وعظ القوم. وقال زيد ابن أرقم : كنت في روشن لي فمرّوا عليَّ برأس الحسين بن علي عليه‌السلام وهو على رأس رمح طويل فسمعته يتلو : (أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) (١) قال زيد : فضربت رأسي بالروشن وقلت : يابن رسول الله رأسك أعجب وأعجب (٢).

يتلوا الكتاب على السنان وإنّما

رفعوا به فوق السنان كتابا

ألم تعه يتلوا الكتاب ونوره

يشق ظلام الليل والليل مسدف

يا رأس مفترس الضياغم في الوغى

كيف انثنيت فريسة الأوغاد (٣)

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ٩.

(٢) الإرشاد للمفيد : ٢ / ١١٧.

(٣) وزينب عليها‌السلام كأني بلسان حالها :

(دكسن)

ما تدري يخوية اشلون حالي

على راس الرمح راسك اگبالي

كلمن شاف ذل حالي بچالي

عدوانك عليَّ غدو يبچون

(ابوذية)

راسك على الرمح يمشي ويتلي

الكتاب ونار محنتكم ويتلي

ابگلبي جارت الدنيا ويتلي

المصايب من وصلت الغاضرية

زجر يحسين من بعدك محنا

ابسفر واعداك ما بيهم محنا

على راس الرمح اشبيك محنا

ابدماه او بس يدير العين ليّه

(تخميس)

لك نور بجبهة الحسن لا لا

بمحيّا كساه ربّي جمالا

ضاء في الدهر حقبة ثم زالا

يا هلالاً لم استتمّ كمالا

غاله خسفه فأبدى غروبا

١٤٢

المطلب السادس والعشرون

في غدر أهل الكوفة بمسلم عليه‌السلام وهاني

روى الشيخ المفيد رحمه الله عن عبدالله بن خازم ، قال : أنا والله أول رسول لابن عقيل أمضي إلى القصر وأنظر ما فعل بهاني ، فمضيت حتى إذا ضرب وحبس ، ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر ، وإذا نسوة من مراد مجتمعات ينادين : يا عبرتاه! يا ثكلاه! فدخلت على مسلم وأخبرته بخبر هاني فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله ، وكانوا أربعة آلاف رجل ، فناديت : يا منصور أمت ، فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا إليه فعقد لعبدالله بن عزيز الكندي راية على ربع كندة ، ويروى أنه عقد لحبيب بن مظاهر راية وبعثه إلى ركن من أركان الكوفة ، وعقد راية لمسلم بن عوسجة ، وعقد راية إلى المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، وعقد راية إلى عابس بن شبيب الشاكري (١).

وخرج عليه‌السلام ومعه ما ينوف على الألفين فجاءوا واحاطوا بالقصر ، فخاف ابن زياد واضطرب وضاق عليه أمره فأخذ يفكّر ولا يدري ما يصنع ، فاستشار محمد بن الأشعث وشبث بن ربعي فأشارا عليه أن يخرج لهم من القصر ثلاثين رجلاً شاكّين بالسلاح ويتفرّقون مع اصحاب مسلم بن عقيل ويتكلّم بعضهم مع

__________________

(١) الارشاد للمفيد : ٢ / ٥١ ـ ٥٢ ، ومقتل الحسين عليه‌السلام لابي مخنف : ٤١ ـ ٤٢.

١٤٣

بعض على أنّ الأمير قد بعث جيشاً جرّاراً إلى الكوفة لقتال مسلم بن عقيل بحيث يسمع أصحاب مسلم فإذا سمعوا ذلك فإنّهم يتفرّقون عن مسلم ويتخاذلون فيما بينهم. قال : وقام إليه أنس بن مالك ، وقال : يا أمير الآن معك في قصرك ما ينوف على ثلاثمائة رجل فاخرج إليهم وقاتلهم ؛ فالتفت إليه ابن زياد وقال له : اعرض عن هذا الكلام ، والتفت إلى شبث بن ربعي وقال له : القول ما قلت أنت ، فدعى ابن زياد ثلاثين رجلاً من اصحابه وقال لهم : إنزلوا جميعاً والحقوا بأصحاب مسلم بن عقيل ؛ فنزلوا واختلطوا مع أصحاب مسلم ، وجعلوا يسبّون ابن زياد ويزيد ، وجعلم يكلم بعضهم بعضاً بأن الأمير يزيد بن معاوية قد بعث جيشاً جرّاراً لقتال مسلم بن عقيل ، وصاح شبث بن ربعي من أعلي القصر : أيها الناس ... إلحقوا بأهاليكم ولا تعجّلوا الشرّ ولا تعرضوا أنفسكم للقتل ، فإن جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت من الشام ، فإن صمّمتم على حربنا ولم تنصرفوا من عشيّتكم هذا فيحرم ذريّتكم العطاء ويفرّق مقاتلتكم ؛ وتكلّمت الأشراف بنحو من ذلك فلما سمعوا أصحاب مسلم جعلوا يتشتتون ويتفرّقون عنه.

قال أبو مخنف : حدّثني مجالد بن سعيد ، قال : إن المرأة كانت تأتي ولدها وأخاها فتقول له : انصرف فالناس يكفونك ، ويأتي الرجل إلى إبنه وأخيه ويقول له : انصرف غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر!! حتى يذهب به ، فما زالوا يتخاذلون ويتفرقون حتى أمسى مسلم ولم يبقي معه إلا ثلاثون رجلاً ، فدخل المسجد وصلى المغرب والعشاء وهم معه ، ثم خرج من باب كندة فنظر وأذا عشرة ، ثم صار في بعض الأزقة فنظر إلى ورائه فلم يجد أحداً منهم من يدّله على الطريق ، فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة ولا يدري إلى أين يذهب؟! حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة فمشى حتى انتهى إلى باب الدار وعليها أمرأة يقال لها «طوعة» ام ولد ، وكانت تحت الاشعث بن قيس ، ثم تزوّجها أسيد

١٤٤

الحضرمي فولدت له بلالاً ، ومات أسيد عنها ، فاستسقاها ماء فسقته ، ثم وقف ، فقالت له : ألم تشرب الماء؟! قال : بلى ، فقالت له : إذاً فما وقفك على باب داري؟ فقال لها : ألا تجيريني ولعلي مكافئك به بعد اليوم ، فقالت له : من أنت؟ قال أنا مسلم بن عقيل غدر بي أهل مصركم هذا ، فقالت له : أنت مسلم رسول الحسين عليه‌السلام؟! قال : نعم ، فقالت له : ادخل على الرحب والسعة. فدخل دارها وجعلته في بيت لها ، ولمّا إن جاء إبنها بلال إلى الدار رأى أمه تكثر الدخول والخروج إلى تلك الحجرة ، فسألها فلم تجيبه حتى ألح عليها ، استحلفته أن لا يخبر أحداً بأمره ، فعاهدها وأقسم لها أن لا يخبر أحداً ، فقالت : هذا مسلم بن عقيل.

ويروى : إنه لما كان وقت الفجر جاءت طوعة إلى مسلم بالماء ليتوضأ ، فقالت له : يا مولاي ما رأيتك رقدت هذه الليلة!! فقال : اعلمي أني رقدت رقدة ورأيت في منامي عمّي أمير المؤمنين وهو يقول : الوحا الوحا العجل العجل العجل ولا أظن إلّا وهذا اليوم هو آخر أيامي من الدنيا.

وأمّا ابنها بلال فإنّه بات ليلته ينتظر الصباح ، حتى إذا أصبح خرج من الدار وأقبل إلى قصر الإمارة ، فرأى ابن زياد جالساً وعنده الأشراف من أهل الكوفة وهو في حديث مسلم ، فجاء وجلس إلى جانب محمد بن الأشعث وأخبره بخبر مسلم فقال ابن زياد : ما أسرك هذا الغلام؟ فأخبره بمقالته وأن امه أجارت مسلم بن عقيل في بيتها ، فقال ابن زياد : طوّقوه بطوق من ذهب ، فطوقوه من حينه بطوق من ذهب والتفت ابن زياد إلى محمد ابن الاشعث وقال له : قم فأتني به الساعة ؛ فخرج محمد بن الأشعث في سبعين رجل حتى إذا وصلوا الدار خرج إليهم مسلم وهو يقول :

هُوَ الموتُ فاصنع وَيكَ ما أنتَ صانعُ

فأنتَ لِكأسِ الموتِ لا شكَّ جارع

فصبراً لأمر الله جلّ ‌جلاله

فحكم قضاء الله في الخلق ذايع

١٤٥

قال الراوي : وجعل يضرب بسيفه فصاح محمد بن الأشعث يا مسلم لك الأمان لا تقتل نفسك فجعل يقول :

أقستُ لا أُقتلُ إلّا حُرّا

وإن رأيتُ الموتَ شيئاً نُكراً

كُلُّ امرءٍ يوماً ملاقٍ شَرّا

أخاف أن اكذب أو أُغَرّا

ردّ شعاع الشّمس فاستقرّا

وتَخلِطُ الباردَ سُخناً مُرّا

فقال له محمد بن الأشعث : يا مسلم لا تكذب ولا تقر أنت آمن ، فقال له مسلم : لا أمان لكم أهل الكوفة!! فجعل يقاتلهم حتى قتل منهم جماعة ، فأرسل محمد بن الأشعث لابن زياد أن مدّني بالخيل والرجال ، فبعث إليه جند كثير فجعل مسلم يقاتلهم حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ، فأرسل محمد بن الأشعث أن مدّني بالخيل والرجال ، فبعث إليه ابن زياد : إنّما بعثتك على رجل واحد من بني هاشم فكيف لو بعثتك إلى من هو أشجع منه؟! يعني الحسين عليه‌السلام فأرسل إليه [ابن الأشعث] : [أيّها الأمير أتظن أنك] بعثنتي على بقال من بقاقيل الكوفة أم إلى جرمقان (١) من جرامقة الحيلة؟! هذا مسلم بن عقيل عمّه على ابن أبي طالب ، فمدّه ثلاثاً بالخيل والرجال ومسلم يقاتلهم حتى اثخن بالجراح ، وكثرت عليه الحجارة والخشب والرماد من فوق الدور ، وجعلوا يضرمون النار بأطناب (٢) القصب ويرمونه عليه ، فلمّا شاهدوا منه هذه البسالة وهذه الشجاعة قد دمّر فيهم عزموا أن يأخذوه غيلة ، فحفروا له حفيرة وأسقفوها بجريد النخل والليف ووضعوا عليها التراب ، ثم لمّا حمل عليهم انكسروا بين يديه ، فأقبل يعدو خلفهم حتى سقط في الحفيرة ، فلمّا سقط فيها اغمى عليه فجاء إليه بكر بن حمران

__________________

(١) الجرمقان : هو رقاع الأخذية.

(٢) اطناب : جمع طنب والطنب الحزمة من الحطب.

١٤٦

الأحمري وبيده سيفه فضربه على شفته العليا فقطعها ، ومضى السيف إلى السفلى ، ثم ازدحموا عليه فقبضوه وقد ضعف حاله وأوثقوه كتافاً فأراد أن يمشي معهم فما استطع المشي ، فجاؤو اليه ببغلة وأركبوه عليها واجتذبوا سيفه من يده ، فجرت دموعه على خدّيه فكأنّه أيس من نفسه.

فقال عمرو السلمي : أن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل هذا لا يبكي فقال : والله ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثى ، وإن كنت لا أحب لها التلف طرفة عين ولكني أبكي لأهلي المقبلين ، ابكي لحسين وآل الحسين.

بكتك دماً يابن عمّ الحسين

محاجر شيعتك السافحة

ولا برحت هاطلات العيون

تحييك غادية رائحة (١)

__________________

(١)

(نصاري)

يمسلم وين ذاك اليوم عمّك

يجيك ايعاينك غارگ ابدمّك

يمسلم محّد من النّاس يمك

وحيد ابهالبلد مالك تچيّة

يمسلم وين ذاك اليوم عباس

يجيك ابشيمته ومفرّع الراس

يشوفك يوم صابك نغل الأرجاس

وهويت من الگصر لرضّ الوطيّة

(ابوذية)

عاد اليستجيره ايكون ينجار

وعن چتله حليف الشرف ينجار

مثل مسلم صدق بالحبل ينجار

وتتفرّس ابچتله علوج أميّه

* * *

ما شدّ لحييه من عمرو العلى أحدٌ

كلّا ولا ندبته الأهل من أمم

نائي العشيرة منبوذٌ بمصرعه

مترّب الجسم من قرنٍ إلى قدم

١٤٧

المطلب السابع والعشرون

في شهادة مسلم بن عقيل عليه‌السلام

لما جيء بسلم بن عقيل إلى قصر الأمارة مكتوفاُ التفت إلى محمد بن الأشعث وقال له : أتستطيع أن تبعث رجلاً عن لساني يبلغ حسيناً ، فإنّي لا أراه إلّا وقد خرج إليكم اليوم ، أو هو خارج غداً وأهل بيته معه وإن ما ترى من جزعي لذلك ، فيقول الرسول : «إنّ مسلماً بعثني إليك وهو في قبضة القوم أسير لا يرى أن يمسي حتى يقتل وهو يقول ارجع بأهل بيتك ولا يغرّك أهل الكوفة فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل ، فإنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لمكذوب رأي». فقال محمد ابن الأشعث : افعل. إلّا أنّه ما فعل.

قال الراوي : وأقبلوا بمسلم بن عقيل إلى باب القصر وقد كضّه العطش لأنّه لم يشرب الماء يومين ، فرأى قلة فيها ماء قال : اسقوني ماء ، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : والله لن تذوق الماء حتى ترد الحميم من نار جهنم ، فالتفت إليه مسلم وقال له : من أنت يا هذا؟! قال : أنا مسلم بن عمرو الباهلي الذي أطاع لأميره إذ عصيته ، فقال : أنت يا يابن باهلة أولى بالحميم من نار جهنم ، أنا أرد على رسول الله وعلى علي وعلى فاطمة وعلى الحسن فيسقوني من ماء الكوثر.

ثم أدخل على ابن زياد ولم يسلم بالإمرة على ابن زياد ، فقال له الحرس : لم

١٤٨

لا تسلم على الأمير ، فقال ابن زياد : دعه إن سلم أو لم يسلم فإنّه مقتول لا محالة ، ثم التفت إليه وقال له : يا عاق يا شاق أتيت الناس وهم جمع فَشتَّتّ كلمتهم وفرقت جماعتهم ، فقال مسلم : كلّا ما لهذا أتيت ولكن أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دمائهم ، فأتيناهم لنأمر بالعدل وننهى عن الفحشاء والمنكر ؛ فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق كنت تشرب الخمر في المدينة. فقال مسلم : الفاسق من ولغ في دماء المسلمين ولغا ؛ ثم قال له : لأقتلنّك شرّ قتلة ، فقال : إن قتلتني فلقد قتل شرّ منك خيراً منّي.

قال الراوي : ثم أقبل عليه يشتمه ويشتم علياً وعقيلاً ، ومسلم ساكت لا يتكلم ثم قال : يابن زياد إن كنت عازم على قتلي دعني أوصي بعض قومي ، قال : افعل ، فنظر مسلم إلى جلسائه فإذا فيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا عمر إن بيني وبينك لقرابة (١) ولي إليك حاجة وهي وصية ؛ فأبى ابن سعد ، فقال له عبيدالله : قم وانظر لحاجة بن عمّك ، فقام معه وجلس بحيث ينظر إليه ابن زياد ، فقال : أوصي ، قال : وصيّتي «فأنا أشهد أن لا أله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وأن علياً ولي الله ووصيّه وخليفته في اُمته ، يابن سعد وإن عليّ دين بالكوفة استدنته منذ دخلت الكوفة ، وهي سبعمائة درهم بع لامتي واقضها عنّي ، استوهب جثّتي من ابن زياد فوارها ، ثمّ ابعث إلى الحسين من يرّده ، فإني كتبت إليه أعلمه أنّ الناس معه ولا أراه إلا مقبلاً).

فقال عمرو بن سعد لابن زياد : يا أمير أتدري ما قال لي؟! قال كذا وكذا فقال ابن زياد : ما خانك الأمين ولكن ائتمنت الخائن ، ثم قال : أمّا درعه فبعها واقض بها

__________________

(١) كان ابن أبي وقاص بن وهيب والد آمنة وإنّ اُم عمر بن سعد وام علي بن الحسين عليه‌السلام الأكبر اُمّهاتهنّ أخوات فمن هنا ادّعاه مسلم بالقربة.

١٤٩

دينه ، وأمّا جثّته إذا قتلناه لا نعبأ بجثته ، وأمّا الحسين فإنّه إن لم يردنا لم نرده ، ثمّ صاح من الذي ضربه على وجهه؟ فقيل له : هو بكر بن حمران الأحمري قال : هو يتولّى قتله ، فأمر بإحضاره فاحضر فقال له : اصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه وارمه من أعلى القصر إلى الأرض واتبع رأسه جسده ؛ فصعد به بكر بن حمران ومسلم يسبّح الله ويقدّسه ويكبّره ويستغفره وهو يقول : احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وذلّونا.

قال مسلم : يا بكر دعني اصلّي لربّي ركعتين ، فقال : صلّ ، فصلّي مسلم حتى إذا فرغ من الصلاة وجّه وجهه نحو مكّة وقال : «السلام عليك يا أبا عبدالله ، السلام عليك يا بن رسول الله» فصيح به : يا بكر عجّل عليه ، فشهر بكر سيفه وضرب عنق مسلم ورمى برأسه من أعلى القصر الى الأرض وأتبع جسده ، وأراد أهل الكوفة في ذلك اليوم إرضاء ابن مرجانة بفعلهم فجاؤا لمسلم ولهاني ورضعوا الحبال برجليهما وجعلوا يسحبونهما في بالأسواق (١).

بكتك دماّ يابن عمّ الحسين

محاجر شيعتك السافحه

ولا برحت هاطلات العيون

تحييك غادية رائحه

لأنّك لم تروَ من شربة

ثناياك فيها غدت طائحه

رموك من القصر إذا أوثقوك

فهل سلمت فيك من جارحه

__________________

(١) ولمّا قتل ابن زياد مسلماً وهانياً صلب جثتيهما ثلاثة أيام وبعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية مع هاني بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي ، وكان قتلهما في يوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية في ذلك اليوم كان خرج الحسين من مكة المشرفة.

ويروى أنّه لمّا قتلا مسلم وهاني أمر ابن زياد باخراج جماعة من الحبس وقتلهم فقتلوا ويروى أنّه كان قبض مسلم على غير هذا وانهم أعطوه الأمان ؛ راجع ابصار العين للسماوي : ٤٨.

١٥٠

وسحباً تجرّ بأسواقهم

ألست أميرهم البارحه

أتقضي ولم تبكك الباكيات

أما لك في المصر من نائحه

لئن تقض نحباً فكم زرود

عليك العشية من صائحه (١)

__________________

(١) الابيات للمرحوم السيد باقر الهندي رحمه الله انتهى. ابصار العين للسماوي : ٤٨.

وذلك لمّا وصل خبر الستشهاد مسلم عليه‌السلام للحسين عليه‌السلام وكان في زرود ، كأني به استرجع قائلاً إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ثم إنّه عليه‌السلام عمد إلى خيمة النساء ونادى الحوراء زينب عليها‌السلام قائلاً ائتني بحميدة ، فلمّا أقبلت إليه وضعها في حجره وأخذ يمسح على رأسها :

(نصاري)

أخذ بت مسلم من الخيم بيده

يمسح على راسها ابحسره شديده

وبالشر حسّت الطفله حميده

گالتله يعمّي وسالت العين

يعمّي لاحت ابوجهك علامه

على راسي امسحت گلّي علامه

السجيه هاي بس ويّه اليتامه

أظن عودي گضه ويتّمني البين

(دكسن)

غده يمسح دمعها ومحنّي ضلعه

ابوچ آنه يگلها ويهل دمعه

يعمّي النوح دلالي يصدعه

وبطلي البچه وهوّدي لا تونّين

(تخميس)

مسح الحسين برأسها فاستشعرت

باليتم وهي علامة تكفيها

لم يبكها عدم الوثوق بعمّها

كلّا ولا الوجد المبرّح فيها

لكنّها تبكي مخافة أنّها

تمسي يتيمة عمّها وأبيها

١٥١

المطلب الثامن والعشرون

في استعلام الحسين عليه‌السلام بقتل مسلم عليه‌السلام

روى الصدوق في أماليه ، باسناده عن ابن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال علي عليه‌السلام يوماً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله إنّك لتحبّ عقيلاً؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اي والله إنّي لأحبّه حبّاً لأبي طالب عليه‌السلام ، إنّ ولده مقتول في محبّة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون» ثم بكى حتى جرت دموعه على خدّيه ، ثم قال : إلى الله اشكوا ما تلقى عترتي من بعدي (١).

ولعظم قدره بكاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كيف لا يكون كذلك وهو رائد الحسين وسفيره عليهما‌السلام والذي يدّلنا على جلالة قدره وعظيم شأنه كتاب الحسين عليه‌السلام الذي كتبه إلى الكوفة : «أمّا بعد ... فقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي ، مسلم بن عقيل رأيه رأيي ، أمره أمري ، فأطيعوا له ...». ورحم الله الأعرجي حيث أنشد :

أيا ابن عقيل ومن قد سمى

فخاراً إلى الكوكب الثاقب

لسرّ سليل النبي اصطفاك

له دون آل أبي طالب

هنيئاً فرفعة قدر المنوب

تدلّ على رفعة النائب

__________________

(١) أمالي الصدوق.

١٥٢

ولعظم قدره ومنزلته عند الحسين عليه‌السلام وحبّه له فقد بكاه في مواطن عديدة وذلك لمّا استعلم بقتله ، فالموطن الأول هو :

ما قد رواه أبو مخنف عن عبدالله بن سليمان والمنذر ابن المشعل الأسديان ، قالا : لمّا قضينا حجّنا لم تكن لنا همّة إلا اللحاق بالحسين في الطريق للنظر ما يكون من أمره وشأنه ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتنا مسرعين حتى لحقناه بزرود ، فلما دنونا منه وإذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين ، قالا : فوقف الحسين وكأنّه يريده ثمّ تركه ومضى. فقال أحدنا لصاحبه امض بنا إليه لنسأله عن خبر الكوفة ، قال : فانتهينا إليه وسلّمنا عليه ، وانتسبنا له وانتسب لنا ، فإذا هو بكير بن المثعبة الأسدي ، فاستخبرناه عن الكوفة فقال : ما خرجت من الكوفة حتى رأيت مسلماً وهانياً قتيلين يجرّان من أرجلهما في الأسواق ، قالا : ثم ودّعنا وسار فلحقنا بالحسين فسلّمنا عليه وسايرناه حتى نزل الثعلبيه ممسياً ، فدخنا عليه وقلنا له : يا ابن رسول الله ، إنّا عندنا خبراً إن شئت أخبرناك به سرّاً وإن شئت علانية؟ قال : فنظر إلى أصحابه وقال : مادون هؤلاء سرّ ، فقلنا : رإيت الراكب الذي استقبلك عشية أمس؟ قال : نعم وقد أردت مسألته ، فقلنا وقد استبرئنا لك خبره وكفيناك مسئلته ، وهو امرء منّا ذوي رأي وصدق وفضل وعقل وقد حدّثنا يابن رسول الله قال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني ، فاسترجع وقال : رحمه‌الله عليهما وكررهما مراراً ، فقلنا : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت فإنّه ليس لك في الكوفة ناصر بل نتخوّف أن يكونوا عليك ؛ فالتفت إلى بني عقيل وقال : ما ترون يا بني عقيل : فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق مسلم ، ثم التفت إلينا وقال : قبّح الله العيش بعد هؤلاء. فعلمنا أنه عزم على المسير فقلنا له : خار الله لك ، قال : يرحمكم الله.

١٥٣

والموطن الثاني : وذلك لمّا ورد الحسين عليه‌السلام زبالة أخرج كتاباً لأصحابه فقرأه عليهم ، وفيه : «أمّا بعد ... فقد أتانا خبر فضيع بأنّه قتل مسلم بن عقيل وهاني ابن عروة وعبدالله بن يقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الإنصراف فالينصرف فليس عليه منّا ذمام». قال : فتفرّق الناس عنه يميناً وشمالاً إلّا صفوته.

وروي في خبر آخر ، إنّه لقيه رجل من شيعة أبيه في زبالة فسلّم عليه ، فردّ السلام عليه عليه‌السلام فقال له : يابن رسول الله كيف تركن لأهل الكوفة وهم الذين قتلوا بن عمّك مسلم بن عقيل؟! قال : فاستعبر الحسين عليه‌السلام باكياً ، وقال : رحم الله مسلماً فلقد صار إلى روح الله وريحانه وتحيته ورضوانه ، ألا إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول :

فإن تكن الدّنيا تعدّ نفيسة

فإنّ ثواب الله أعلى وأنبل

وإن تكن الأبدان للموت أنشأت

فقتل امرء بالسيف في الله أفضل

وإن تكن الأرزاق قسماً مقدّراً

فقلّة حرص المرء في الرّزق أجمل

وإن تكن الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل

ثم قال : «اللّهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك ، إنك على كلّ شيء قدير».

والموطن الثالث : يروى أيضاً عن زهير بن القين البجلي قال : بينا نحن جلوس في زرود إذ طلع علينا رجل من جهة الكوفة ، وبيده لواء أسود فركزّ اللواء بباب خيمتي ، ثم دخل وقال : السلام عليك يا أبا عبدالله الحسين ، فقلت له : من تريد؟ قال : الحسين بن علي بن إبي طالب. فقال له الناس : وما تريد منه؟ قال : أريد أن أعلمه بقتل ابن عمّه مسلم بن عقيل ، قال : فأشاروا له على خيمة الحسين. قال : فقام الرجل وأقبل الى الخيام فرأى حول الخيام أطفالاً يلعبون ، فقال للأطفال : من يدلّني على خيمة الحسين؟ فقامت إليه بنت صغيرة وقالت : يا هذا

١٥٤

وما تريد منه؟ قال : أريد أن أعلمه بقتل ابن عمّه مسلم بن عقيل ، فصاحت البنت : واأبتاه وامسلماه ... ثم وقعت مغماً عليها ، أقبل إليه الحسين وأقبلت بنو هاشم وقالوا للرجل : ما صنعت بها؟ قال : والله ما قلت له شيء إلّا أنّي قلت له إرشديني على خيمة الحسين ، فقالت : وما تريد منه؟ فقلت لها : أريد أن اعلمه بقتل ابن عمّه مسلم بن عقيل ، فقالوا : يا هذا إنّها إبنة مسلم.

قال الراوي : وأخذها الحسين إلى الخيمة فأجلسها في حجره فجعل يمسح على رأسها وناصيتها فقالت له : عم استشهد والدي مسلم؟ فقال لها : بنية أنا أبوك وبناتي إخوتك :

مسح الحسين برأسها فاستشعرت

باليتم وهي علامة تكفيها

لم يبكها بعدم الوثوق بعمّها

كلا ولا الوجد المبّرح فيها

لكنّها تبكي مخافة أنها

تمسي يتيمة عمّها وأبيها

أقول : ولا تسمّى هذه الطفلة يتيمة وإن كان اليتم للأب لكن بوجود عمّها الحسين لا تعد يتيمة ، لأنّ الحسين عليه‌السلام ما نزل إلّا ودعاها وأجلسها في حجره يلاطفها ويسلّيها ، فهي عزيزة مكرّمة بوجود عمّها الحسين عليه‌السلام ، وعمومتها من بني عقيل وبني هاشم واخوتها ، بل اليتيمة سكينة لأنّها بعد قتل أبيها الحسين عليه‌السلام لم تجد أحداً يسلّيها ، بل كان يقرعها شمر برمحه ويضربها زجر بسوطه وهي القائلة «كلّما دمعت من أحدنا عين أو بكت منّا طفلة قرعوا راسها بالرمح».

يقنّعها بالسوط شمر وإن شكت

يؤنّبها زجر ويوسعها زجراً

تسوّد من ضرب السّياط متونها

ووجوهها بلظى الهواجر تصطلي

فإن يبكي اليتيم أباه شجواً

مسحن سياطهم رأس اليتيم (١)

__________________

(١) نعم سكينة بنت الحسين عليه‌السلام كانت تضرب بكعب الرمح إذا دمعت لها عين.

١٥٥

المطلب التاسع والعشرون

في مقتل أولاد مسلم بن عقيل

ذكر الصدوق رحمه الله في أماليه :

«إنّه لمّا قتل الحسين عليه‌السلام وهجم القوم على رحله ، فرّت العيالات والأطفال كالطيور الهاربة من النار ، فمن جملة من هرب من الاطفال طفلي مسلم بن عقيل ، ولمّا ألقي القبض عليهما جيء بهما إلى الكوفة وادخلا على ابن زياد فأمر بهما أن يزجا في السجن ، حتى إذا مرت عليهما سنة كاملة وهما في السجن ، وقد ضاقت صدورهما ، فقال الصغير ذات يوم لأخيه الكبير : أخي .. يوشك أن تفنى أعمارنا

__________________

(نصاري)

يسلّنها السياط ولوّعنها

ومن ضرب السياط اسود متنها

يتيمه اتيتّمت من زغر سنها

يسيره او يالعده او ركبت هزلها

(ابوذيّة)

سرى حادي الظعن بالحرم وحده

ولا بالي بس على السجّاد وحده

يسارى وبس تهل الدمع وحده

يضربوها وتون ونّه خفيّه

(تخميس)

كم دعاك اليتيم في قفر واد

لم تُجبُه وكنتَ غوثَ المنادي

يا أخي ندبه أذاب فؤادي

ما أذلَّ اليتيم حين ينادي

بأبيه لا يراه مُجيبا

١٥٦

في هذا السجن ، فلم لا نخبر السجّان بخبرنا ونعرفه أنفسنا لقربنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ولمّا أن جاء إليهما السجّان بقوتهما قام إليه الصغير وقال له : يا هذا أتعرف محمد المصطفى نبي هذه الأمّة؟ قال : وكيف لا أعرف النبي!! فقال له : أو تعرف ابن عمّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟ قال : وكيف لا أعرفه وهو إمامي!! فقال له : يا شيخ أو تعرف مسلم بن عقيل؟ قال : نعم ، فقال له : يا هذا فنحن أولاده فمالك ومالنا لا ترحمنا لصغر سننّا؟! فلمّا سمع السّجان بكى وانكبّ عليهما ويقبلهما ، وهو يقول : نفسي لكما الفداء ، والله ما كان لي علم بأنكما أبني مسلم وإنّ أمير المؤمنين عمّكما ، سيّدي هذا باب السجن مفتوح فخذا أي طريق شئتما وسيرا في الليل واكمنا في النهار.

قال الراوي : فأطلقهما من السجن وخرجا وهما لا يدريان إلى أين يتوجّهان ، فجعلا يسيران في شوارع الكوفة حتى إذا كان وقت طلوع الفجر ودخلا في بستان هناك فكمنا ، فمرّت عليهم جارية فسألتهما عن حالهما ، فأقسما عليها أن لا تخبر أحداً بخبرهما ، وعلما منها انّها موالية لعمهما ، فقصا لها خبرهما فقالت لهما : سيّدي إمضيا معي فإن مولاتي موالية لعمّكما ومحبّة لكما. فجاءا معها حتى إذا وصلا سبقتهما الجارية على مولاتها وأخبرتها فلّما سمعت قامت لاستقبالهما وقالت لهما : ادخلا البيت على الرحب والسعة ورفّهت عليهما.

هذا وقد استخبر ابن زياد بخروجهما من السجن فأمر مناديه أن ينادي : من جائني بولدي مسلم له عند الأمير الجائزة العظمى. فصار أجلاف أهل الكوفة يفتّشون عليهما ويطلبونهما ، ومن جملتهم زوج تلك المرأه التي جارتهما ، قال : فلمّا جنّ الليل أقبل زوجها وقد أتعب نفسه في طلبهما رجاء الجائزة ، فقالت له زوجته : أين كنت اليوم وأرى عليك آثار التعب؟! فحكى لها بما نادى منادي ابن زياد وقد أتعب نفسه في طلب الطفلين ، فلمّا سمعت الحرّة قالت له : مالك وذريّة

١٥٧

عبد المطلب أما تخشى أن يكون محمّداً غداً خصمك؟ فقال لها : دعيني من هذا ؛ فبينما هي تكلّمه ويكلّمها إذ سمع همهمة من داخل الحجرة فقال لها : أي شيء أسمعه هل عندنا أحد؟! فأعرضت وتلجلجت فقام اللعين وأخذ الضياء ودخل الحجرة وإذا بالطفلين قائمين يصليان حتى إذا فرغا قال لهما : من أنتما؟ فقالا : أولاد مسلم بن عقيل أجارتنا هذه الحرّه ، فقال اللعين : أتعبت نفسي وفرسي في طلبكما وأنتما في داري!!

ثم رفع يده ولطم الكبير على وجهه وجاء لهما بالحبال واوثقهما كتافاً فقالا له : مالك تفعل بنا هذا الفعل وامرأتك أضافتنا؟ أما تخاف الله فينا ، أما تراعي يتمنا وقربنا من رسول الله؟ فلم يعبأ اللعين بكلامهما ولا رقّ لهما فتركهما في الحجرة يبكيان حتى الصباح.

ثم أخرجهما من داره وتبعته امرأته وولده وعبده ، هذا وامرأته تتوسّل به وتمانعه وتذكّره الله ، حتى جاء بهما إلى جانب الفرات ليقتلهما فالتفت إلى عبده وقال له : خذ السيف واضرب عنقيهما وأثنى برأسيهما ، فأخذهما العبد وأراد قتلهما فقالا له : يا هذا ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول الله ... يا هذا لا تقتلنا فإنّك إن قتلتنا يخاصمك رسول الله يوم القيامة. فقال لهما : من أنتما؟! فقالا : نحن أولاد مسلم بن عقيل.

قال : فانكب العبد عليهما يقبّلهما ورمى السيف من يده وألقى نفسه في الفرات وعبر إلى جانب الآخر ، فصاح به مولاه : عصيتني؟! فقال له : عصيتك لمّا عصيت الله ، فقال اللعين : والله لا يتولّى قتلهما أحد غيري. فأخذ السيف وأتى إليهما فلمّا هم بقتليهما جاء إليه ابنه وقال له : أبه ارحمهما لقربهما من رسول الله ولصغر سنّهما ، فلم يعبأ به فلمّا رأيا صنعه تباكيا ووقع كل منهما على الآخر يودعه ويعتنقه ، والتفتا إليه وقالا له ، يا هذا لا تدعنا نطالبك بدمنا أمام رسول الله يوم

١٥٨

القيامة خذنا حيّين إلى ابن زياد يصنع بنا ما يشاء ، فقال : ليس إلى ذلك من سبيل ، فقالا : يا هذا بعنا في السوق وانتفع بأثماننا ولا تقتلنا ، فقال : لابد من قتلكما. فقالا له : أما ترحم يتمنا وصغر سننّا ، وإن كنت عزمت على قتلنا فدعنا نصلّي لربّنا ركعتين. قال : صلّيا ما شئتما إن نفعتكم الصلاة ، فلمّا فرغا من الصلاة شهر سيفه وقدّم الكبير ليضرب عنقه فقال له الصغير : أقتلني قبل أخي ، فقال الكبير : إنّي لا أحبّ أن أرى أخي قتيلاً ، فشهر سيفه وضرب الكبير فقتله فوقع عليه الصغير يتمرّغ بدم أخيه وهو ينادي : واأخاه ثم اجتذبه وضرب الصغير فقتله ، وقطع رأسيهما وحملهما في مخلاة له ورمى بأبدانهما في الفرات ، وسار برأسيهما إلى ابن زياد ، فلمّا مثّل بين يديه ووضع المخلاة فقال له ابن زياد : ما معك؟ فأخرج إليه الرأسين فكشف عن وجهيما وإذا هما كالقمرين فقال له : لم قتلتهما؟ قال : طمعاً بالجائزة ، فقال أين ظفرت بهما؟ قال : في داري وإن زوجتي أجارتهما ، فقال له ابن زياد ، ما عرفت لهما حق الضيافة وقتلتهما ، ولو جئتني بهما أحياء لضاعفت لك الجائزة ، ثم قال : ويلك ما قالا لك حين أردت قتلهما؟ قال : قالا : لي ارحم يتمنا ولا تقتلنا فيكون خصمك محمّداً يوم القيامة وامضي بنا إلى ابن زياد حيّين ، وإن شئت فبعنا في السوق وانتفع بثمننا. فقلت لهما : لابدّ من قتلكما ، فنظر ابن زياد إلى جلسائة وقال : ما أفضه وأجفاه.

قال الراوي : فامر ابن زياد بقتله فقتل عليه لعائن الله وأمر الرأسين أن يدفنا في المكان الذي قتلا به ، وليت اللعين فعل هذا الفعل ودفن رأس الحسين ورؤوس أهل بيته مع الجثث ، بل سير على أطراف الرماح من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام وفي مقدمة الرؤوس رأس إمامنا الحسين عليه‌السلام كأنه البدر ليلة تمامه :

رأس ابن بنت محمّد ووصيّه

للناظرين على قناة يرفع

١٥٩

والمسلمون بمشهد وبمسمع

لا منكر منهم ولا متفجّع

يتلو الكتاب وما سمعت بواعظ

تخذ القنا بدلاً عن الأعواد

أحامل ذاك الرأس قل لي برأس

من تمايل هذا السمهري الثقف (١)

__________________

(١) وزينب عليه‌السلام كأني بلسان حالها تخاطب رأس الحسين عليه‌السلام وهو على الرمح :

(نصاري)

لحگتك على ريحة الخوّه

أشوفك عفتني ابگاع شلوه

بديرة غرب ما هي امروّه

تدري الشمر بيّه اشسوّه

سوطه على امتوني تلوّه

(بحراني)

ناداها من فوگ الرمح الله يرعاچ

صبري يختي وسلّمي أمرچ المولاچ

راسى على راس الرمح هالرايح اوياچ

ويّاچ يبره العايله ويرعى اليطيحون

يختي استعدّي للهظم والهظم جدّام

ولابد يودّوك يساره الطاغي الشام

ولابد تسمعون المسبّه ابمجلس العام

ولابد تشوفون المذلّه الوان وافنون

(تخميس)

خفراتِ الرسولِ في الأسر تَجلى

أرملاتٌ في السبي جاوبن ثكلى

من لها والحماة بالطف قتلى

فترفّق بها فما هي إلّا

ناظرٌ دامع وقلبٌ مروعٌ

١٦٠