ثمرات الأعواد - ج ١

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

واعية ، ولا تريالي سواداً ، فإنّه من سمع واعيتنا أو شهد سوادنا ولم يعيننا كان حقاً على الله عزّوجلّ أن يكبّه من منخريه في النار) (١). فهذا هو عمرو بن قيس وابن عمّه تقاعدا من النصرة واعتذرا للحسين عليه‌السلام بالتجارة.

وأمّا الذي استنصره الحسين عليه‌السلام وما أجابه وندم بعدها على عدم نصرته هو «عبيدالله بن الحر الجعفي» ـ كما ذكره صاحب درّ النظيم ـ عن أبي مخنف قال :

لمّا نزل الحسين عليه‌السلام «قصر بني مقاتل» رأى فسطاطاً مضروباً فقال : لمن هذا الفسطاط؟ فقيل له : لعبيدالله بن الحرّ الجعفي ، وكان مع الحسين عليه‌السلام الحجاج ابن مسروق الجعفي وزيد بن معقل الجعفي ، فأرسل الحسين عليه‌السلام الحجاج ليدعوه إليه ، فلمّا أتاه وقال له : يابن الحرّ أجب الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال له : أبلغ الحسين عنّي وقل له إنّي لم أخرج من الكوفة إلّا فراراً من دمك ، ولئلّا أعين عليك ، والحسين ليس له ناصر بالكوفة ولا شيعة.

فجاء الحجاج وبلّغ الحسين عليه‌السلام مقالته فعظم ذلك على الحسين عليه‌السلام ، ثم أنّه دعى بنعليه وقد ركبها ، وأقبل يمشي حتى دخل على عبيدالله وهو في الفسطاط ، فلمّا رأى الحسين أقبل قام إجلالاً له وأوسع له عن صدر المجلس حتى أجلسه في مكانه ـ قال يزيد بن مرة : حدّثني بن الحر ، قال : دخل عليَّ الحسين عليه‌السلام ولحيته المباركة كأنّها جناح غراب ، وما رأيت أحداً قط أحسن ولا أملأ للعين من الحسين ، ولا رققت لأحد قط كرقّتي على الحسين حين رأيته يمشي وأطفاله حواليه (٢) ـ ، فألفت الحسين عليه‌السلام ألى عبيدالله وقال له : «ما يمنعك يابن الحرّ أن

__________________

(١) أسرار الشهادات للفاضل الدربندي : ٢ / ١٦٦ (المجلس الرابع).

(٢) هذا الخبر جاء اعتراضي من المؤلف رحمه الله ضمن سرد خبر «الدرّ النظيم» ، وسيعود إلى اتمامه بعد تمام هذا الخبر.

١٢١

تخرج معي؟» فقال : لو كنت ممّن كتب لك مع من كتب لكنت معك ثم كنت من أشد أصحابك على عدوك ، وأنا الآن أحب أن تعفيني من الخروج معك ، ولكن هذه خيلي المعدّة والأدلاء من أصحابي وهذه فرسي «الملحقة» فوالله ما طلبت عليها شيئاً إلا أدركته ، وما طلبني أحد إلا فلت ، فدونكها فأركبها حتى تلحق بمأمنك ، وأنا ضمين لك بالعيالات حتى أؤدّيهم إليك أو أموت أنا وأصحابي دونهم ، وأنا كما تعلم إذا دخلت في أمر لا يضمني فيه أحد. فقال له الحسين عليه‌السلام : «هذه نصيحة منك لي؟» قال : نعم فوالله الذي لا فوقه شئ ، فقال الحسين عليه‌السلام : «أني سأنصحك كما نصحتني ، مهما استعطت أن لا تشهد وقعتنا ولا تسمع واعيتنا ، فوالله لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلّا أكبّة الله على منخريه في النار» (١).

وفي أمالي الصدوق رحمه الله : فقال له عليه‌السلام : «لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك ، ـ ثم تلا ـ (وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً) (٢)». قال : ولما قتل الحسين عليه‌السلام ندم عبيدالله على عدم نصرته فأنشأ يقول :

فيا ندمى على أن لا أكون نصرته

ألا كلّ نفس لا تسدّد نادمه

سقى الله أرواح الذين تأزّروا

على نصره سقياً من الغيث دائمه

تأسوا على نصر ابن بنت نبيّهم

بأسيافهم آساد غيل ضرغامه

وله أيضاً قال متأسف على عدم نصرته للحسين عليه‌السلام :

فيا لك حسرةً ما دمت حيّاً

تردّد بين حلقي والتراقي

حسين حين يطلب بذل نصري

على أهل الضلالة والنّفاق

__________________

(١) الدر النظيم.

(٢) سورة الكهف / ٥١.

١٢٢

غداة يقول لي بالقصر قولاً

أتتركنا وتزمع بالفراق

ولو أنّي أواسيه بنفسي

لنلت كرامة يوم التلاق

مع ابن المصطفى نفسي فداء

تولّى ثم ودع بانطلاق

فلو فلق التلهّف قلب حيًّ

لهم اليوم قلبي بانقلاق

فقد فاز الاُولى نصروا حسيناً

وخاب الآخرون ذوو النفاق

فهذا عبيدالله بن الحر يتأسف ويتلهّف لعدم نصرته الحسين عليه‌السلام ، وذلك لمّا رأى إنّ الذين نصروه سعدوا في الدارين ، ونالوا بنصرته تلك المرتبة العالية والمنزلة السامية ، قال الأعسم رحمه الله :

نصروا ابن بنت نبيّهم طوبى لهم

نالوا بنصرته مراتب سامية

وأي مرتبة هي أعظم وأرفع من هذه المرتبة بحيث يقف عليهم الصادق عليه‌السلام ويخاطبهم بقوله : «بأبي أنتم وأمي ، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم والله فوزاً عظيماً».

صالوا وجالوا وادّوا حقّ سيدهم

في موقف عقّ فيه الوالد الولد

يتهادون الى الحرب سكارى

طرباً فيه وما هم بسكارى (١)

__________________

(١)

(نصاري)

گضوا حگ العليهم دون الخيام

ولا خلّوا خوات حسين تنضام

لمّا طاحوا تفايض منهم الهام

تهاهوا مثل مهوى النجم من خر

(دكسن)

هذا الرمح بفّادة ايتثنه

وهذا بيه للنشّاب رنّة

وهذا الخيل صدره رضرضنّه

وهذا وذاك بالهندي اموذّر

(عاشوري)

ركب غوجه وتعنّه احسين ليها

لگاها بس جثث وامسلّبيها

١٢٣

المطلب الثالث والعشرون

في ترجمة مسلم بن عقيل عليه‌السلام

روى المدائني وغيره ، قال :

قال معاوية ابن أبي سفيان لعقيل بن أبي طالب يوماً : هل من حاجة فأقضيها لك؟ قال : نعم ، جارية عرضت عليَّ وأبى أصحابها أن يبيعوها إلّا بأربعين ألفاً. فأحب معاوية أن يمازحه ، فقال له : وما تصنع بجارية قيمتها أربعين ألفاً وانت أعمى وتجتزي بجارية قيمتها أربعون درهماً؟ فقال عقيل : أرجوا أن أطأها فتلد لي غلاماُ إذا أغضبته ضرب عنقك بالسيف؛ فضحك معاوية وقال : مازحناك يا أبا يزيد (١) ، وأمر فابتيعت له الجارية التي أولدها مسلماً (٢).

__________________

صبّ الدمع واتلهّف عليها

وگال احتسب عند الله واصبر

(تخميس)

يا عاذليّ اقطعوا ما عندكم ودَعوا

أبكي على من بقلبي حبُهم طبعوا

غابوا وعن ناظري طيب الكرى منعوا

نذرٌ عليّ لئن عادوا وإن رجعوا

لأزرعنّ طريق الطفّ ريحانا

(١) الشهيد مسلم بن عقيل للسيد المقرم ص ٦٨.

(٢) هي علّية النبطية من آل فرزندا ، هكذا ذكرها بن قتيبة في المعارف. انظر : المعارف لابن قتيبة : ٢٠٤ ، وطبقات ابن سعد : ٤ / ٢٩.

١٢٤

فلمّا أتت على مسلم سنين وقد مات أبوه عقيل وجاء إلى الشام وقال لمعاوية : إنّ لي أرضاً بمكان كذا من المدينة (١) ، وقد اُعطيت بها مائة ألف ، وقد احببت أن ابيعك إياها فادفع لي ثمنها ؛ فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن إليه ، فبلغ ذلك الحسين عليه‌السلام فكتب إلى معاوية : «أمّا بعد فإنك أغررت غلاماً من هاشم فابتعت منه أرضاً لا يملكها فاقبض منه ما دفعته إليه واردد الينا أرضنا».

فبعث معاوية إلى مسلم فأقراه كتاب الحسين عليه‌السلام وقال له : اردد علينا مالنا وخذ أرضك ، فإنّك بعت مالا تملك. فقال مسلم : أمّا دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا ، فاستقلى معاوية ضاحكاً يضرب برجليه الأرض ويقول له : يا بني هذا والله ما قاله أبوك حين ابتاع اُمّك. ثم كتب إلى الحسين أن قد رددت أرضكم وسوّغت مسلماً ما أخذ (٢).

قال أهل السير : كان مسلم بن عقيل فارساً شجاعاً ، شهد مع عمّه أمير المؤمنين عليه‌السلام «صفين» ، وكان من القواد الذين جعلهم أمير المؤمنين عليه‌السلام على الميمنة «يوم صفين» (٣) ، كان يوم بعثه الحسين عليه‌السلام إلى الكوفة قد ذرف على الأربعين.

وروى أبو مخنف وغيره ، أنّ أهل الكوفة لمّا كتبوا الى الحسين عليه‌السلام دعا مسلماً وسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعبدالرحمن بن عبدالله وجماعة من الرسل ، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف ، فإن رأي الناس مجتمعين

__________________

(١) وهي البغيبغة ، وفيها عين ماء وهي للحسين ، فباع مسلم قسم منها على معاوية وهي التي أراد الحسين عليه‌السلام أن يعطيها لابن سعد عوض ملك الري الذي حرمه الله منه. انظر :

(٢) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٨٢ طبعة مصر.

(٣) المناقب : ٢ / ٢٦٠.

١٢٥

[مستوثقين] (١) عجّل إليه بذلك (٢). وكتب الحسين عليه‌السلام إلى أهل الكوفة كتاباً يقول فيه : «أمّا بعد ، فقد أرسلت إليكم أخي وابن عمّي ، وثقتي من أهل بيتي ، مسلم بن عقيل ، وأمرته أن يكتب لي إن رآكم مجتمعين ، فلعمري ما الإمام إلّا من قام بالحق وما يشاكل هذا».

فخرج مسلم من مكة في نصف شهر رمضان (٣) ، وأتى المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وودّع أهله وخرج ، فإستأجر دليلين من بني قيس ، وودع قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسار ، فلمّا أن صار في بعض الطريق ضلّا الدليلان وأصابهما عطش شديد ، فقالا له : هذا طريق ينتهي بك إلى الماء فلا تفارقه. ثم ماتا ، فكتب مسلم بن عقيل الى الحسين عليه‌السلام من الموضع المسمى «بالمضيق» :

«أمّا بعد فإني ُخبرك يابن رسول الله إنّي قد أتيت مع الدليلين فضلّا عن الطريق واشتد بهما العطش فماتا ، فتطيّرت من وجهي هذا». فلمّا وصل الكتاب الى الحسين عليه‌السلام كتب جوابه :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي بن أبي طالب

إلى ابن عمّه مسلم بن عقيل

«أمّا بعد ، يابن العمّ إنّي سمعت جدّي رسول الله يقول «ما منّا أهل البيت من يتطيّر به» فإذا قرأت كتابي هذا فامض على ما أمرتك به ، والسلام عليك ورحمه‌الله وبركاته».

__________________

(١) ما أثبتناه من المصدر.

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام لابي مخنف : ١٩.

(٣) انظر مروج الذهب للمسعودي : ٣ ٥٤.

١٢٦

فلمّا ورد الكتاب إلى مسلم وقرأه سار من وقته وساعته حتّى مر بماء «لطي» فنزل عليه ، ورأى رجلاً قد رمى ظبية فصرعها فقال : نقتل عدوّنا هكذا انشاء الله تعالى. قال : وسار حتى وافى الكوفة ، فدخلها ونزل في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي (١).

وقال ابن شهر آشوب : لمّا دخل مسلم الكوفة نزل في دار سالم بن المسيب ، ولما دخل ابن زياد الكوفة انتقل من دار سالم إلى دار هاني بن عروة المرادي المذحجي (٢) في جوف الليل (٣). وكان دخوله يوم الخامس من شوال سنة ستّين (٤).

فجعل الناس يختلفون إليه وجعل مسلم كلّما دخل عليه جماعة من أهل الكوفة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه‌السلام وهم يبكون ، حتى بايعه في ذلك اليوم ثمانون ألف ، وقيل : حتى صار مجلسه ثمانية عشر ألفاً (٥).

ويروى أنه بايعه ثمانية عشر ألف كما كتب الى الحسين عليه‌السلام : «أما بعد فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألف فالعجل العجل بالإقبال حين يأتيك كتابي هذا ، فإن الناس كلّهم معك وليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى». ثم أرسل الكتاب مع عابس بن شبيب الشاكري إلى مكة (٦).

__________________

(١) الشهيد مسلم بن عقيل : ١٤ عبدالرزاق المقرم.

(٢) مذحج : كمجلس ، أبو قبيلة من قبائل اليمن ، وهو مذحج بن جابر بن مالك بن زيد كهلان ابن سبأ ومراد : بطن من مذحج ، وكان هانئ بن عروة مرادياً. انظر :

(٣) المناقب لابن شهر آشوب : ٤ / ٩١.

(٤) مروج الذهب للمسعودي : ٣ / ٥٤.

(٥) الملهوف على قتل الطفوف : ١٠٨.

(٦) الاخبار الطوال للدينوري : ٢٤٣.

١٢٧

قال : ولمّا سمع النعمان بن بشير الانصاري (١) بقدوم مسلم إلى الكوفة كتب كتاباً إلى يزيد : «أمّا بعد فإن مسلم بن عقيل قد دخل الكوفة وقد بايعه الناس فإن كانت لك في الكوفة حاجة فابعث إليها من ينفذ أوامرك».

وكتب ـ ايضاً ـ عبدالله بن شعبة الحضرمي (٢) إلى يزيد : «أمّا بعد فإنّ مسلم بن عقيل ورد الكوفة وقد بايعه شيعة الحسين ، فإن كانت لك في الكوفة حاجة فانفذ إليها رجلاً قويّاً فإنّ النعمان ضعيف أو يتضاعف».

وكتب له عمر بن سعد بنحو ذلك ، فدعى يزيد بمولى له يقال له سرجون ، فاستشاره بهذا الأمر ، فقال له : لو نشر لك معاوية حيّاً لما عدا رأيه عن أبن زياد ، قال : فكتب يزيد الى بن زياد وهو يومئذٍ والٍ على البصرة : «أمّا بعد فإنّي ولّيتك المصرين الكوفة والبصرة (٣) ، فخذ بالرأي السديد واعمل النصح ، ثم قد بلغني أن مسلم بن عقيل قد ورد الكوفة وقد اجتمع عليه الناس يبايعونه ، فإني لا أجد سهماً أرمي به عدّوي أجرأ منك ، فإذا قرأت كتابي هذا فسر من قوّتك وساعتك ، وإيّاك والإبطاء والتواني ، واجتهد ولا تبقي من نسل علي بن أبي طالب ، واطلب مسلم بن عقيل طلب الخرزة واقتله ، وابعث إليَّ رأسه والسلام».

__________________

(١) النعمان بن البشير : كان والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقره يزيد عليها ، واُمّه : عمره بنت رواحة اُخت عبدالله بن رواحة ، قال ابن أبي الحديد في الشرح : كان النعمان بن البشير منحرفاً عنه ـ يعني علياً عليه‌السلام ـ وعدوّاً لله وخاض الدماء مع معاوية خوضاً ، وكان من أمراء يزيد بن معاوية حتى قتل وهو على حاله. ويروى أنّه قتله حمص في فتنة ابن الزبير ، لأنّه كان والياً عليها. انظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : «النعمان بن بشير».

(٢) وكان أوّل ما كاتب يزيد في حرب الحسين عليه‌السلام.

(٣) أو يقال : العراقين ، وهي البصرة والكوفة ، وذكر ابن قتيبة وغيره أن أول من جُمع له (العراقين) هو زياد بن أبيه وذلك في زمن معاوية ، ثم جاء يزيد بن معاوية فجمع (العِراقين) لابن زياد فكان ثاني من يجمع له (العِراقين). انظر : المعارف لابن قتيبة : ٣٤٦ ، ٣٤٧.

١٢٨

ودفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهلي (١) ، وقال له : إمض إلى البصرة وافع كتابي هذا إلى عبيدالله بن زياد. فأخذه اللعين وجاء به ، فلمّا قرأه بن زياد «لعنه الله» صعد على المنبر خاطباً وقال : يا أهل البصرة إنّ الخليفة يزيد ولّاني الكوفة والبصرة ، وقد عزمت على الرحيل إليها ، وقد استخلفت عليكم أخي عثمان بن زياد ، فاسمعوا له وأطيعوا له ، وإياكم الأراجيف ، فوالله ان بلغني أن رجلاً منكم خالف أمري لاقتلنّ عزيزه ولآخذّن الأدنى بالأقصى حتى تستقيموا.

ثم خرج من البصرة يريد الكوفة ومعه جماعة منهم : المنذر بن جارود العبيدي ، وشريك الأعور الحارثي ، ومالك بن مشيع ، ومسلم بن عمرو الباهلي ، ويقال : أن هؤلاء الثلاثة تكاسلوا في الطريق وما مضى معه الى الكوفة إلّا اللعين مسلم بن عمرو الباهلي ، فجاء معه حتى دخلا الكوفة.

هذا اللعين (مسلم بن عمرو الباهلي) هو الذي قابل مسلم بن عقيل عليه‌السلام

__________________

(١) مسلم هذا والد قتيبة بن مسلم أمير خراسان المشهور ؛ باهلي ، وباهلة : من قيس عيلان ، وليس لهم في الشرف من ذكر ، وعن أمالي الطوسي قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : «فو الذي فلق الحبة وبرء النسمة ما لهم في الإسلام نصيب». يعني بهذا الكلام قبائلا منهم : باهلة.

وفي الكامل للمبرد : أنشد أبو العباس لرجل من عبد القيس :

أباهلي ينجي كلبكم

وأسدكم ككلاب العرب

إذا قيل للكلب يا باهلي

عوى الكلب من لؤم هذا النسب

وقال الآخر :

إذا ولدت حليلة باهلي اللئام

غلاماً زيد في عدد

انظر : أمالي الطوسي : ١١٦ / ١٨٠ (المجلس الرابع ـ الحديث ٣٤).

١٢٩

بكلمات حين جيء به مكتوفاً ، فرأى قلّة (١) على باب القصر ، فقال اسقوني ماء؟ فقال له اللعين مسلم بن عمرو الباهلي : والله لن تذوق منها قطرة واحدة حتى تذوق الحامية وتشرب من حميمها ، فقال له مسلم عليه‌السلام : لأُمّك الثُكل ، ما أجفاك وأفضّك وأقسى قلبك : ثم قال له : من أنت؟ قال : أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له ، يابن باهلة أنت أولى وأحق بالحميم من نار جهنم ، ويلك أنا أرد على رسول الله وأشرب من الكوثر (٢).

ثم أدخل على ابن زياد وجراحاته تشخب دماً.

ومذ به شاء الإله ما به قد حكما

للقصر أقبلوا به لهفي له يشكوا الظما (٣)

__________________

(١) القلة : إناء كبير يوضع فيه الماء ، ويكون من الفخار لكي يبرد الماء فيه.

(٢) انظر مروج الذهب للمسعودي : ٣ / ٥٩.

(٣)

(نصاري)

ضرب وجهه يويلي نغل حمران

او وصل گصر الإمارة وهو عطشان

عليه آمر يچتلونه الخوّان

او ذبّه من السطح لرض الوطيّة

صعدوا بيه وهو زاد لونين

او على صوب المدينة ايدير بالعين

صله وصاح الله وياك يحسين

او گطعوا راسه او أمسه رميّة

(بحراني)

مصيبتهم مصيبة اتصدع الجبال

من گبل المشيّب تشيب الاطفال

شفت ميت يجرّونة بالحبال

يصاحب لا تظن صارت مثلها

(تخميس)

عين جودي لمسلم بن عقيل

لرسول الحسين سبط الرسول

لشهيد بين الأعادي وحيداً

وقتيل لنصر خير قتيل

١٣٠

المطلب الرابع والعشرون

في كيفية دخول ابن زياد الى الكوفة

قال أبو مخنف (١) :

كان دخول بن زياد الكوفة ممّا يلي البر ، وعليه ثياب بيض وعمامة سوداء متلثّماً ، وانتعل نعلين يمانيتين وتختّم بيده اليمنى ، وكان راكباً على بغله شهباء ، وبيده قضيب من الخيزران ، وكان دخوله يوم الجمعة ، هذا وقد انصرف الناس من الصلاة وهو يتوقعون قدوم الحسين عليه‌السلام ، فلمّا رأوه ضنّوا أنه الحسين لتشبه به بلباسه فجعلوا يقولون : مرحباً بك يابن رسول الله ، قدمت خير مقدم ؛ وصار لا يمرّ على ملأ إلّا ويسلّم عليه بقضيبه وهم يستبشرون. فلمّا وصل إلى قصر الإمارة قال لهم مسلم بن عمرو الباهلي : تأخرّوا عن وجه الأمير ، فليس هو طلبتكم ؛ ثم أسفر ابن زياد عن وجهه ، فلمّا رأوه وعرفوه تفرقوا عنه ، فجاء وطرق باب القصر فأشرف النعمان وإذا على الباب ابن زياد ، وصاح ابن زياد : ويلك افتح ، لا فتحت حصنة دارك وضيعة مصرك. ثم دخل القصر ، وبات مسلم بن عقيل والناس

__________________

(١) مقتل الحسين لأبي مخنف : ٢٦ ، ٢٨.

١٣١

حوله ، فلمّا أصبح الصباح دخل شريك بن الأعور (١) إلى الكوفة ونزل في دار هاني بن عروة المرادي فبقي عنده حتى مات.

وقال ابن زياد : فلينادي منادي الصلاة جامعة ؛ فنادى المنادي واجتمع الناس في المسجد ، فصعد ابن زياد على المنبر خطيباً وقال :

«أيها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا اعرفه بنفسي ، أنا عبيدالله بن زياد ، وإن الامير يزيد بن معاوية قد ولاني مصركم هذا ، وأمرني بالانصاف للمظلوم ، وإعطاء المحروم ، والإحسان إلى محسنكم ، والتجاوز عن مسيئكم ، وأنا متّبع فيكم أمره ، وأمرني أن أزيد في عطائكم ، وأن أضع السيف في رقاب الذين يخالفوني». ثم نزل عن المنبر ، وأمر مناديه أن ينادي في قبائل العرب أن اثبتوا على بيعة يزيد بن معاوية.

قال أبو محنف : فلمّا سمع أهل الكوفة جعل بعضهم يقول لبعض : مالنا الدخول بين السلاطين ، ونقضوا بيعة الحسين عليه‌السلام وبايعوا يزيد بن معاوية ، وخرج مسلم عليه‌السلام إلى المسجد ليصلي صلاة الظهر فلم يجد أحداً ، فأذّن وأقام وجعل يصلي وحده ، فلمّا فرغ من صلاته وإذا هو بغلام فقال له : يا غلام ما فعل أهل هذا المصر؟ قال : سيدي إنّهم نقضوا بيعة الحسين عليه‌السلام وبايعوا يزيد بن

__________________

(١) قال ابن الاثير : كان شريك بن الأعور الحارثي كريماً على ابن زياد وعلى غيره من الامراء ، وكان شديد التشيّع ، وشهد مع أمير المؤمنين عليه‌السلام «صفين» وله حكاية مشهورة مع معاوية حين قال له : أنت شريك وليس لله شريك.

وأبوه الحارث الهمداني رحمه الله الذي كان من خواص أميرالمؤمينين عليه‌السلام ، وهو الذي قال له أمير المؤمنين عليه‌السلام الكلمات التي نظمها السيد الحميري شعراً :

يا حار همدان من يمت يرني

من مؤمن أو منافق قبلا الخ

انظر : الكامل في التاريخ لابن الاثير : ٤ / ٢٦ ، ووقعة صفين للمنقري : ١١٧ ، وتاريخ من دفن في العراق من الصحابة ـ للمؤلف.

١٣٢

معاوية ، فلمّا سمع مسلم عليه‌السلام صفق بين يديه وخرج من المسجد متّجهاً إلى دار هاني ابن عروة ، فلمّا أتى عليها رأى على الباب جارية فقال لها : أمة الله أدخلي على هاني وقولي له أن على الباب رجل ، فأن سألك عن إسمي فقولي له مسلم بن عقيل ؛ فدخلت الجارية هنيئة وخرجت ، فقالت : ادخل يا سيدي ، وكان هاني بن عروة يومئذٍ عليلاً ، فنهض ليعتنقه فلم يقدر وجلسا يتحدّثان.

قال الراوي : ولم يعلم ابن زياد بمكان مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، وضاع عليه خبره فجعل العيون على مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، ومن جملتهم مولاه «معقل» وكان داهية دهماء ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وقال له : خذ الدراهم واجعل نفسك من الموالين للحسين لعلّك تأتيني بخبر مسلم بن عقيل. فأخذ معقل الدراهم وجعل يدور في الكوفة ويسأل عن مكان مسلم ، حتى أرشد إلى مسلم بن عوسجة ، فجاء إليه وهو يصلي في المسجد ، فلمّا فرغ من صلاته قام إليه معقل واعتنقه واظهر له الإخلاص ، وقال له ، أنا رجل شامي وقد أنعم الله عليَّ بحب أهل البيت ، وعندي ثلاثة آلاف درهم وقد أحببت أن ألقى الرجل الذي بايع على يده الناس لابن رسول الله ، وقد دللت عليك وأنا اريد منك أن تأخذ هذه الدراهم إليه وتدخلني عليه ، فأنا ثقة من ثقاته وعندي كتمان أمره. فقال له مسلم بن عوسجة : يا اخا العرب أعزب عن هذا الكلام ، مالنا وأهل البيت ، وما أصاب الذي أرشدك الي؟ فقال له معقل : إن كنت لم تطمئن فخذ عليّ العهود والمواثيق ، ثم حلف له الإيمان وأقسم عليه قسماً عظيماً أني لم أخبر بسرّه أحداً ، ولم ينزل به حتى اطمئن منه مسلم بن عوسجة فادخله على مسلم بن عقيل عليه‌السلام وأخبره بخبره ، فوثق به مسلم عليه‌السلام وأخذ منه البيعة للحسين عليه‌السلام ، ثم أن مسلم عليه‌السلام أعطى الدراهم لأبي ثُمامة

١٣٣

الصائدي وكان هو الذي يقبض الأموال ويشتري السلاح ، وكان فارساً شجاعاً (١).

قال الراوي : وصار معقل يأخذ أسرارهم حتى استقصى أسرارهم ، فخرج من عند مسلم عليه‌السلام وجاء إلى ابن زياد وأخبره بمكان مسلم وبثّ إليه أسراره ، فصار ابن زياد جلّ همّه أن يحتال بهاني ويقبضه وقد أخبر أنه مريض ، فأرسل إليه : أريد أن أعودك ؛ فقال هاني لمسلم : أن ابن زياد بلغه أنّي مريض وهو يريد أن يعودني ، فخذ هذا السيف وادخل المخدع فإذا جلس أخرج إليه وأقتله ، وأحذر أن يفوتك ، فإن فاتك فإنه يقتلني ويقتلك ، انظر إذا أنا رميت عمامتي عن رأسي ؛ فقال مسلم عليه‌السلام : أفعل.

قال الراوي : ولما فرغ ابن زياد من صلاة العشاء أقبل يعود هانياً ، ولم يكن معه سوى حاجبه ، فلمّا صار على الباب استخبر هاني فقال لمسلم : خذ السيف وأدخل الى المخدع ، فقام مسلم عليه‌السلام ودخل المخدع ، ودخل ابن زياد على هاني وسلم عليه وجلس إلى جنبه وجعل يحادثه ويسأله عن حاله ، وهاني يشكو إليه الذي يجده وهو مع ذلك يستبطي خروج مسلم ، فجعل هاني يأخذ معامته من على رأسه ويضعها على الارض مراراً مسلم لا يخرج ، ثم وضعها على رأسه ، ولم يزل يصنع هاني هكذا ثلاث مرّات ومسلم لا يخرج ، فجعلُ هاني يتمثّل بهذه الأبيات وهي

ما الإنتظار بسلمى لا تُحييّها

كأس المنية بالتعجيل اسقوها

هل شربة عذبة أسقى على ظمأ

ولو تلفت وكانت منيتي فيها

فإن أحست سليماً منك داهية

فلست تأمن يوماً من دواهيها

فلم يزل هاني يردد هذه الأبيات ومسلم لم يخرج ، فقال ابن زياد : ما بال

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٥ / ٣٤٦.

١٣٤

الرجل؟ يهجر؟ فقيل له؟ بلى يهجر من شدّة المرض ، ويقال إنه احسّ بشيء وقام من عند هاني وخرج وأقبل إلى قصر الإمارة. فقال هاني لمسلم : مالذي منعك عن قتله؟! قال سمعت خبراً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا إيمان لمن قتل مسلماً» فقال له شريك : ما منعك من قتله؟ قال : خلصتان : إحداهما كرهت أن يقتل في دارك ، والثانيه لحديث حدّثنيه الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن» ؛ فقال لها هاني : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً (١).

وقال بعض المؤرخين : إنّ ابن زياد جاء ليعود شريكاً حيث لمّا ورد الكوفة ونزل في دار هاني بن عروة ؛ هكذا روى أبو الفرج الأصفهاني والدينوري (٢).

أقول امتنع مسلم من قتل ابن الزاينة ، لا والله بل القضاء والقدر حال بينهما ، ولو لا القضاء والقدر لما أُدخل عليه مسلم بن عقيل عليه‌السلام مكتوفاً ، فلمّا أُدخل عليه لم يسلّم ، فقال له الحرس : لم لا تسلّم على الأمير؟ فقال ما هو لي بالأمير ، فقال له ابن زياد : لا عليك إن سلّمت أو لم تسلّم فإنك مقتول لا محالة ، فقال مسلم : إن قتلتني فقد قتل من هو شرّ منك خير منّي ، فقال ابن زياد : يا شاق أتيت الناس وهم جمع فشتّتّ كلمتهم وفرّقت جماعتهم ، فقال مسلم : كلا ما لهذا أتيت ، ولكن أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالمعروف وننهي عن المنكر ؛ فجعل ابن زياد يشتمه ويشتّم عقيلاً والحسن والحسين ومسلم ساكت لا يتكلم.

أقول : كان اللعين ابن زياد هذا دأبه وهذه سجيًته وهذا دينده ، يشتم

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري : ٥ / ٣٦٠ ـ ٣٦٣.

(٢) مقاتل الطالبين : ٩٨ ، الأخبار الطوال : ٢٣٤.

١٣٥

أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حتى إذا جاؤا إليه بالسبايا صعد المنبر وتكلّم بكلمات الظفر وجعل يشتم أمير المؤمنين عليه‌السلام والحسن والحسين عليهم‌السلام.

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نصبت لكم إعوادها (١)

__________________

(١)

(نصاري)

دشّت على ابن زياد زينب والخواتين

وياهم السجاد يهمل دمعة العين

والرجس فوگ التخت يتفرج عليها

كلها بليا استار بستر بيديها

بيده قضيب او ينكت ابمبسم وليها

ويگول هاللي امغلل ابزنجيل من وين

گالوا علي گلهم على يقولون مذبوح

گالوا نعم الأكبر ابوادي الطف مطروح

جذّام أبوه احسين ظل يعالج الروح

وهذا الذي ظل من أولاد الهاشميين

اتكلم وبو محمد يجيبه وابدمع سكّاب

گلّه بعد تگدر عليه اتردّ الجواب

وآمر يسحبونه ابقيده فوگ التراب

وضجت الحاله بالبكا ذيك الخواتين

او زينب تنادي وين عزنا ماخذينه

گلبي اتقطّعت هالولد لا تسحبونه

وانكان يا ظالم عزمكم تذبحونه

گبله اذبحوني عيشتي گشري ابلا معين

وكأني بمولاتي زينب عليها‌السلام تلتفت إلى رأس الحسين عليه‌السلام ولسان الحال :

(عاشوري)

إن صحت خويه يضربوني

وإن صحت بويه يشتموني

(تخميس)

جور الزمان رماني منه بالعَجَب

وحكمُهُ جار في السادات بالعطب

لم يبق ذا حَسبٍ منّي ولا نسب

أخي ذبيح ورحلي قد اُبيح وبي

ضاق الفسيح وأطفالي بغير حمي

١٣٦

المطلب الخامس والعشرون

في كيفية قبض هاني بن عروة وقتله رحمه الله

كان هاني بن عروة هو وأبوه من وجوه الشيعة ، يروى أنّه كان كأبيه صحابياً ، وحضرا مع أمير المؤمنين عليه‌السلام حروبه الثلاث ، وهو القائل يوم الجمل شعراً :

بالك حرباً حثّها جمالها

يقودها لنقصها ضلالها

هذا علي حوله إقبالها (١)

وروى المسعودي في مروج الذهب : أنه كان شيخ مراد وزعيمها ، وكان يركب في أربع آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألف دارع (٢).

وكان معمراً ، ذكر بعضهم أنّ عمره كان ثلاث وثمانين سنة ، وقيل : بضع وتسعين سنة ، وكان يتوكأ على عصى بها زجّ ، وهي التي ضربه ابن زياد بها.

وروى أبو مخنف : أنّ ابن زياد لمّا أخبره معقل بخبر هاني أرسل إليه محمد ابن الأشعث وأسماء بن خارجة وقال لهما : إءتياني به آمناً ، فقالا ، وهل أحدث

__________________

(١) انظر تاريخ من دفن في العراق من الصحابة : ٤٦٦.

(٢) مروج الذهب : ٣ / ٥٩.

١٣٧

حدثاً؟! قال : لا ، فأتوه إليه جماعة ، وقالوا له : ما الذي يمنعك من لقاء الأمير فإنّه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنّه مريض لعدته ولكن بلغني أنّه يجلس في باب داره ، وأنت تعلم إن الإستبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان ، فإنّا نقسم عليك إلّا ما ركبت معنا.

قال : فدعى هاني بثيابه فلبسها ، ثم دعى ببغلته فركبها ، وجاء معهم حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحسّت ببعض الذي كان فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة : يابن أخي إني والله لخائف من هذا الرجل ، فقال له : اي عم والله ما أتخوّف عليك شيئاً ولِمَ تجعل على نفسك سبيلاً وأنت بريء (١) ؛ فأدخل هاني على ابن زياد فلمّا رآه عبيدالله بن زياد جعل يقول :

أتتك بخائن رجلاه تسعى

يقود النفس منها للهوان

وكان قد عرس عبيدالله بن زياد إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عقبة المرادي ، فلمّا دنا من ابن زياد وعنذه شريح القاضي إلتفت إليه وقال :

أريد حياته ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد (٢)

فقال هاني : وما ذاك يا أمير؟ قال : ايه هاني ما هذا الأمور التي تربص في دارك ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفي عليَّ؟ قال : يا أمير ما فعلت ذاك وليس عندي مسلم. قال : بل عندك ؛ ولمّا كثر الكلام بينهم دعى ابن زياد معقلاً ، فجاء اللعين والتفت ابن زياد إلى هاني وقال له ، أتعرف هذا؟ قال : نعم ؛ ثم أسقط ما في

__________________

(١) يقال إن حسان بن أسماء بن خارجة كان لا يعلم في أي شيء بعثه ابن زياد ، وكان محمّد ابن الاشعث من جملة من كان معه.

(٢) وهذا البيت لعمرو بن معدي كرب الزبيدي.

١٣٨

يده ، وعلم أنّ هذا كان عيناً له ، ثم أنّ نفسه راجعته وقال له : أسمع منّي وصدّق مقالتي فوالله لا أكذب ، والله الذي لا إله غيره فإنّي آويت مسلماً وقد كان أمره الذي بلغك فإن شئت أعطيتك رهينة في يدك حتى أنطلق وآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الارض فأخرج من ذمامه وجواره ، فقال : لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به ؛ قال : والله لا آتيك به.

فقام مسلم بن عمرو الباهلي وقال : يا أمير دعني أكلّمه ؛ ثم أخذه واعتزل به بحيث إذا تكلّموا تارة يسمعهم ابن زياد وتارة لا يسمعهم ، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي ـ ولم يكن شامي ولا بصري غيره ـ قال : سلّم له مسلماً فإنّي أخشى عليك من القتل ـ فقال هاني : والله لا أسلمه حتى أقتل ؛ فسمع ابن زياد (لعنه الله) كلامه فصاح بمسلم بن عمرو : ادنه منّي ، فأدناه منه فقال له ابن زياد : لتأتيني به أو لأضربنّ عنقك؟ فقال هاني : إذاً تكثر البارقة حول دارك. فقال : وا لهفتاه أبالبارقة تخوّفنيي ـ يظنّ أن عشيرته سيمنعونه ـ فقال ابن زياد : ادنوه منّي ، فأخذ يدنوا إليه فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب وجهه وكسر أنفه وسال دماه على ثيابه حتى كسر القضيب ، فضرب هاني يده على قائم سيف شرطي فجاذبه الشرطي ومنعه ، قال ابن زياد (لعنه الله) : خذوه واحبسوه في حجرة من هذه الحجر وأغلقوا عليه بابها : فأُخذ هاني وحبس.

فسمعت مذحج وسمعت عمرو بن الحجاج أن هانياً قد قبض ، لأن روعة أخت عمرو ابن الحجاج تحت هاني بن عروة (١) فأقبلوا حتى أحاطوا بالقصر ، ونادى عمرو بن الحجاج : أنا عمرو وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة ، فقيل لعبيدالله بن زياد : هذه مذحج بالباب! فقال لشريح

__________________

(١) وهي أم يحيى بن هاني الذي قتل بالطف مع اصحاب الحسين في الحملة الاُولى.

١٣٩

القاضي : أدخل عليه صاحبهم وانظر إليه ثم اخرج إليهم وأعلمهم بأنّ صاحبهم حي لم يقتل ؛ فقام شريح ودخل على هاني في الحبس وتكلّم معه ، فقال هاني : والله لو دخل عليَّ من مذحج عشرة لأنقذوني من هذا اللعين. ثم خرج شريح من عنده وأقبل حتى أشرف على مذحج وقال لهم : إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه وخرجت لأخبركم أنه صحيح سالم ، والذي بلغكم من موته كان باطلاً. فعند ذلك انصرفوا وهم يقولون فأمّا إذا لم يقتل فالحمدلله (١).

وبقي هاني في السجن حتى إذا قبض على مسلم وقتل أمر ابن زياد بإخراج هاني إلى السوق الذي تباع فيه الأغنام ، فأخرج مكتوفا فجعل ينادي : وا مذحجاه ولا مذحج لي اليوم .. وامذحجاه وأين عني مذحج ...

فلمّا رأي أن لا ينصره أحد اجتذب يده من الكتاف فنزعها ثم قال : أما من عصا أو سكّيناً أو حجرا أو عظماً يذب به الرجل عن نفسه! فتواثبوا عليه وشدّوه وثاقاً فقيل له : امدد عنقك! قال : ما أنا بها مجدٍ سخيّ ، وما أنا بمعينكم على نفسي! فضربه مولى لعبيدالله بن زياد (تركي) يقال له الرشيد (٢) بالسيف فلم يصنع شيئاً ، فقال هاني : إلى الله المعاد اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك (٣).

ثم حزّوا رأسه وجاؤا بجثّته وجثّة مسلم بن عقيل وربطوا برجليهما الحبال ، وجعلوا يسحبونهما في الاسواق ، وفي ذلك يقول عبيدالله بن الزبير الاسدي من

__________________

(١) مقتل أبي مخنف : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) قال ابن الأثير في الكامل : لمّا كان يوم خازر نظر عبدالرحمن بن الحصين المرادي إلى رشيد التركي وقال قتلني الله إن لم أقتله أو أقتل دونه ثم حمل عليه بالرماح فقتله ورجع إلى موقفه. انظر الكامل لابن الاثير : ٥ / ٣٧٩.

(٣) مقتل أبي مخنف : ٥٦ ـ ٥٧.

١٤٠