ثمرات الأعواد - ج ١

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب

ثمرات الأعواد - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي الخطيب


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٣
الجزء ١ الجزء ٢

فقال له الحسين عليه‌السلام : «فأين أذهب يا أخي؟». قال : تخرج الى مكّة فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك وإلّا خرجت إلى اليمين ، فإنّهم أنصار جدّك وأبيك ، وهم أرأف الناس وأرقهم قلباً وأوسع الناس بلاداً ، فإن إطمأنت بك الدار فذاك وإلّا لحقت بالرمال وشعوب الجبال ، وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤل إليه أمر الناس ، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين ، فإنك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.

فقال الحسين عليه‌السلام : «يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية». فقطع محمد بن الحنفية كلامه وبكى ، وبكى الحسين معه ساعة ثم قال : «يا أخي جزاك الله خيراً فقد نصحت وأشفقت ، وأرجوا أن يكون رأيك سديداً موفقاً ، وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيأت لذلك انا وأخوتي وبنو أخي ، وشيعتي أمرهم أمري ، ورأيهم رأيي ، وأمّا أنت فلا عليك إلّا أن تقيم بالمدينة فتكون عيناً عليهم ، ولا تخفي عنّي شيئاً من اُمورهم (١).

ثم دعى الحسين عليه‌السلام بدوات وبياض وكتب هذه الوصيّة لأخيه محمّد بن الحنفية :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أوصي به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه المعروف «بابن الحنفية» ...

«إنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، جاء بالحقّ من عند الحق ، وأنّ الجنّة حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريت فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور ، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدّي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أريد أن آمر بالمعروف

__________________

(١) انظر : إرشاد المفيد : ٢ / ٣٤ ـ ٣٥.

١٠١

وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ، هذه وصيّتي يا أخي إليك ، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه انيب».

ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى أخيه محمد بن الحنفية ثم ودّعه وخرج من عنده (١).

أقول : وصايا الحسين عليه‌السلام أربع ، الاُولى : الّتي أوصى بها محمّد بن الحنفية كما مرّ آنفاً ، أوصاه بالنسبة إلى شؤون المدينة وأن يراسله في أمرها ، وأن يكون عيناً له عليها.

والوصية الثانية : الّتي أوصى بها ولده السجّاد وهي بالنسبة للإمامة نصبه علماً للناس وإماماً من بعده وسلّمه مواريث الأنبياء (٢).

أمّا الوصيّة الثالثة : أوصى بها اخته الحوراء زينب ليلة العاشر من المحرم ، فقد قال لها : اُخيّة إذا أنا قتلت فلا تسقّي عليّ جيباً ولا تخمشي عليَّ وجهاً ... إلى آخرها (٣).

وأمّا الوصية الرابعة : أوصى بها شيعته جيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة ، وذلك ما روي عن سكينة بنت الحسين قالت : لمّا رميت بنفسي على جسد أبي الحسين أشمّه واوّدعه ، سمعت الكلام يخرج من منحر أبي الحسين وهو يقول : «بني سكينة إقرأي شيعتي عنّي السلام وقولي لهم إنّ أبي الحسين قتل عطشاناً وقيل عن لسانه :

__________________

(١) محمد بن الحنفية ـ للمؤلف ـ ص ٦٠.

(٢) أسرار الشهادات للفاضل الدربندي : ٢ / ٧٧٩ ـ ٧٨٤.

(٣) أسرار الشهادات للفاضل الدربندي : ٢ / ٢٢٥ ، نقلها عن الإرشاد للشيخ المفيد : ٢ / ٩٣ ـ ٩٤.

١٠٢

شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني

أو سمعتم بقتيل أو شهيد فاندبوني

وأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني

وبجرد الخيل بعد القتل عمداً سحقوني

صرت استسقي بطفلي فأبوا أن يرحموني (١)

وقال المؤلف مخمساً بيتين من قصيدة الشيخ صالح العرندس :

أيا زائراً قبراً على العرش قد علا

تضمّن سبط المصطفى خيرة الملا

اسل دمعك القاني وقل متمثّلا

أيقتل عطشاناً حسين بكربلا

وفي كلّ عضو من أنامله بحر

فمن مبلّغ الزهراء بضعة أحمد

قضى نجلها ظام بمصارم ملحد

أيقضي ظماً سبط النبي محمد

ووالده الساقي على الحوض في الغد

وفاطمة ماء الفرات لها مهر (٢) (٣)

__________________

(١) أسرار الشهادات للفاضل الدربندي : ٣ / ٢٨٢.

(٢) ديوان الهاشميات للمؤلف رحمه الله : ٦٩ ـ ٧٠.

(٣) ولسان حال الزهراء عليها‌السلام إلى ولدها ليلة الحادي عشر من المحرم :

(نصاري)

شافت الزهرة احسين محزوز الوريدين

ليلة احد عشر وهي صاحت آه يحسين

ما لومك او لشرة عليك او لا اعتبك

ارخصت هالروح العزيزة الدين ربّك

يبني أريد أشبگك وحط گلبي فوگ گلبك

وبچي ونادي ساعدوني يلمحبين

شلتك ابطني تسعة اشهر يا جنيني

وسهرت ليلي او سيدتك عن يميني

تالهيا مرمي اعله الثرى تنظرك عيني

عگب الدلال اعلى الترب اتنام يحسين

يحسين يبني مصرعك گطع اگليبي

يا ريت دونك يذبحوني يا حبيبي

ابروحي فديتك واشربت صافي حليبي

او برباك يوليدي اسهرت يا گرّة العين

(تخميس)

قضى ظامياً ما ذاق للماء برده

بحرّ هجير تصهر الشمس خدّه

فوالله لو يوماً تقومين بعده

إذا للطمت الخدّ فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

١٠٣

المطلب التاسع عشر

في كيفية خروج موسى من مدينة فرعون

وخروج الحسين عليه‌السلام من مدينة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

كان خروج الحسين بن علي عليه‌السلام من المدينة يوم الأحد ليومين بقين من رجب سنة ستين من الهجرة ، وكان خرجه ليلاً خائفاً يتكتّم (١) ، كما قال المرحوم السيد جعفر الحلّي رحمه الله في قصيدته الغرّاء الميمية :

خرج الحسين من المدينة خائفاً

كخروج موسى خائفاً يتكتّم (٢)

ولكن هناك فرق عظيم بين خروج الحسين عليه‌السلام وخروج موسى عليه‌السلام ، خرج من مدينة فرعون شرّ خلق الله والحسين عليه‌السلام خرج من مدينة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير خلق الله ، وموسى خرج خائفاً على نفسه ، والحسين عليه‌السلام خرج خائفاً من أن يقتل بالمدينة وتهتك حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموسى عليه‌السلام خرج وحده لم تكن معه عائلة ولا أطفال والحسين عليه‌السلام خرج بعيالاته وأطفاله ؛ قالت سكينة : خرج أبي بنا في ليلة ظلماء ، وما كان أحد أشدّ خوفاً منّا.

__________________

(١) إرشاد المفيد : ٢ / ٣٤.

(٢) ديوان السيد جعفر الحلي رحمه الله.

١٠٤

وموسى عليه‌السلام لمّا وصل إلى «مدينة شعيب» أمن ونجا ، والحسين عليه‌السلام لمّا وصل إلى «مكّة» حرم الله وبيته لم يأمن على نفسه من القتل لأنّ يزيد بن معاوية كان قد دسّ له من الحاج ثلاثين شيطاناً من شياطين بني اُمية وقال لهم : اقتلوا الحسين أينما وجدتموه ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة.

موسى عليه‌السلام لمّا وصل ألى «مدين» وجد بنتي شعيب على البئر يسقيان ، فسقى لهنّ وكان الدلو لا يجره إلا عشرة فجره ، وقد حكى الله ذلك في محكم كتابه المجيد : (وَلَمّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتّى‏ يُصْدِرَ الرّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى‏ لَهُمَا ثُمّ تَوَلّى إِلَى الظّلّ) ـ وكان جائعاً خائفاً (فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (١) فأقبلتا إلى أبيهما بالماء وقد أسرعتا في الرجعة ، وتعجّب شعيب وقال : أسرعتنّ؟! فقالت إحداهنّ : إن رجلاً صفته كذا وكذا سقى لنا قبل الناس ؛ فبعث إحداهنّ خلفه ، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله عزّ إسمه العظيم (فَجاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ) (سورة القصص : ٢٤) فمشى خلفها وجاءت الريح فحملت ثوبها فأدار موسى عليه‌السلام وجهه عنها ، وقال لها : إمشي خلفي ورام لي الحصاة على الطريق فإنّا قوم لا ننظر على أعجاز النساء ؛ فصارت تمشي خلفه ـ (فَلَمّا جَاءَهُ وَقَصّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ) (٢).

فموسى عليه‌السلام إستسقى بطريقة لبنات شعيب ، والحسين عليه‌السلام سقى في طريقه الحرّ وأصحابه الذين كانت عدّتهم ألف فارس عدا خيولهم ؛ موسى عليه‌السلام لمّا قصّ

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ٢٣ ، ٢٤.

(٢) سورة القصص ٢٨ : ٢٥.

١٠٥

على شعيب قصّته وهو خائف قال له : (لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ) (سورة القصص : ٢٥) ، والحسين عليه‌السلام لمّا قصّ قصّته للحرّ عند توجهه إلى العراق جعجع به الحرّ وارعبت العائلة ؛ قال أرباب التفسير :

ولمّا جاء موسى إلى شعيب ورغبت فيه إحدى إبنتيه كما حكى الله تعالى ذلك (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى‏ ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ عَلَى‏ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) (١)

والعلّة في خدمة موسى عليه‌السلام لشعيب ـ وهو كليم الله ـ هي : أنّ شعيب عليه‌السلام بكى من خشية الله حتى ذهب بصره فأعاد الله عليه بصره ، فبكى ثانية فذهب بصره فأعاد الله عليه بصره ثلاثاً ، فأوحى الله : «يا شعيب ممَّ بكاؤك طمعاً في جنّتي أعطيتك إيّاها ، أو خوفاُ من ناري أمنتك» ؛ فقال [شعيب] : «ربّي لا ذا ولا ذاك ، ولكن رأيتك أهلاً أن تخشى» ، فأوحى الله اليه : «وعزّتي وجلالي لأخدمنّك كليمي موسى».

(فَلَمّا قَضَى‏ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) ـ وكانت زوجته حاملة ـ (إِنّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلّي آتِيكُم مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢).

ويروى في ذلك الحين كان قد أخذها الطلق ، فلمّا مضى الى النار وأراد أن يقتبس منها مالت عليه فولّى هارباً ، وإذا بالنداء : (يَامُوسَى‏ إِنّي أَنَا اللّهُ رَبّ

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ٢٧.

(٢) سورة القصص ٢٨ : ٢٩.

١٠٦

الْعَالَمِينَ) (١) وما أحسن ما قيل من باب المثل في ذلك : «رُبَّ أمرٍ ليس يُرجى لَكَ في الغَيبِ يخبي» ، إنّ موسى عليه‌السلام راح كي يطلب ناراً فتنّبى ، وإذا بتلك النار هي نور الجلالة فبعثه الله الى فرعون.

أقول : خاف موسى عليه‌السلام من تلك النار بمجرّد أن رأى الميلان صار عليه وهرب منها ، والحسين عليه‌السلام مالت عليه سيوف أهل الكوفة ورماحهم يوم «عاشوراء» ونار الحرب تستعر فلم يرع منها ، بل كان ثابت الجنان ، رابط الجأش ، حتى شهد له العدو بذلك ، فقال بعضهم : «والله ما رأينا مكثوراُ قط قتل ولده وأهل بيته أربط جأشاً من الحسين عليه‌السلام ، ولقد كان يشد علينا وقد تكاملنا ثلاثين ألفاً فننكشف من بين يده إنكشاف المعزى إذا شدّ فيه الذئب ، وهو يقول : والله لا اعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد».

فأبى أن يعش إلّا عزيزاً

أو تجلى الكفاح وهو صريع

فتلقّى الجموع فرداً ولكن

كلّ عضو في الروع منه جموع

زوج السيف بالنفوس ولكن

مهرها الموت والخضاب النجيع (١)

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ٣٠.

(٢)

لاح ابظهر غوجه احسين

او سل سيفه وتعنّه الگوم

صكها الحيد وراواها

انجوم الظهر ذاك اليوم

تجلّى الغيم من سيفه

او تموت العده امن اتشوفه

خطفها وخطف منه الروح

ومن الخوف مخطوفه

برض الغاضريّه احسين

ابد ما ترك بالكوفه

بيت إله النوايح بيه

تنوح أو مچدر او مهموم

١٠٧

__________________

لا چن لوله ما ينزل

امن الباري العهد لحسين

ناداه الوعد وينه

او گال انچان هذا الدين

أبد ما يستقيم الّه بچتلي

اخذيني يا سيوف الحين

يسيوف العده او دارت

عليه أو كل كتر ملزوم

حاطت بيه بس ترميه

بحجار او نبل وسهام

هذا ايطعنه بالخطي

او ذاك ايضربه بالصمصام

حال العطش عن شوفه

او عن الماي بالطّف صام

من كثر النبل والزان

ما يگدر يولي ايگوم

الف وتسعميت اصواب

المثلث مرد گلبه

او وگع للگاع ابو اليمه

وعليه الدينا منجلبه

گطع راسه الشمر بالسيف

او فزعوا كلهم السلبه

او لامت حربه سلبوها

او عليه ما تركو من اهدوم

عليه ما تركو من ثياب

وموسد على التربان

ورضّت خيلهم جسمه

او راسه على سنان اسنان

ظل عاري ثلث تيّام

ابلياليها او گضه عطشان

او ماي العذب مهر امّه

او من عنده انچتل محروم

(تخميس)

أيقتل ضمآناً حسين بكربلا

وفي كل عضو من أنامله بحر

ووالده الساقي على الحوض في غد

وفاطمةُ ماء الفرات لها مهرُ

١٠٨

المطلب العشرون

في خروج الحسين عليه‌السلام من المدينة ودخوله مكة المكرمة

قال الشيخ المفيد رحمه الله : فسار الحسين عليه‌السلام [من المدينة] إلى مكة [وهو يقرأ] (١) : (خَائِفاً يَتَرَقّبُ) ـ وهو يقول ـ (رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ) (٢) ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : [لو تنكبت الطريق الأعظم كما صنع ابن الزبير] (٣) لئلا يلحقك الطلب ، فقال : « لا والله لا اُفارقه حتى يقضى الله ما هو قاض ».

ولمّا دخل [الحسين] (٤) مكة المشرفة ، وكان دخوله إياها يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان [سنة ستين من الهجرة] (٥) ، ودخلها وهو يقرأ : (وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ) (٦) ثم نزل بها (فأقام بقية شعبان

__________________

(١) ما أثبتناه من المصدر.

(٢) سورة القصص ٢٨ : ٢١.

(٣) ما أثبتناه من المصدر ، وفي الأصل : خَلِّ عن هذا ...

(٤) ما أثبتناه من المصدر.

(٥) لم ترد في المصدر ، وأثبته المؤلف رحمه الله نقلاً عن الملهوف للسيد إبن طاووس : ١٠١.

(٦) سورة القصص ٢٨ : ٢٢.

١٠٩

وشهر رمضان وشوال وذي القعدة وثمان ليال خلون من ذي الحجة) (١) (وكان الناس يختلفون إليه وكان عبدالله) (٢) بن الزبير (٣) بها قد لزم جانب الكعبة [فهو قائم يصلي عندها ويطوف ، ويأتي الحسين عليه‌السلام فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كل يومين مرة] (٤) ، وصار الحسين أثقل خلق الله لأنّه يعلم أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين عليه‌السلام موجوداً بمكة ، وأنّ الحسين أطوع للناس منه وأجلّ وأشرف (٥).

وكان ابن الزبير يسمى [حمامة الحرم] لأنّه يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وكان [ضَبِّ خَب] (٦) كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بنصب الآخرة حبائل للدنيا ويروم أمر فلا يدركه] (٧). وكان يتردد على الحسين عليه‌السلام بين اليوم واليومين ، ويقول له : يا أبا عبدالله إنّ أهل الكوفة شيعتك وشيعة أبيك ؛ وكان الحسين عليه‌السلام يعرض عنه فالتفت إليه ابن عباس يوماً وقال : يابن الزبير تريد أن يخلو لك

__________________

(١) ما بين القوسين من المؤلف رحمه الله ، لم ترد في المصدر ، وأثبتها عن السيد ابن طاووس : ١٠١.

(٢) ما بين القوسين من المؤلف رحمه الله ، وفي المصدر : وأقبل أهلها يختلقون إليه ، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، ...

(٣) ولد عبدالله بن الزبير بعد الهجرة بعشرين شهراً ـ كما ذكر الواقدي ذلك ـ وكان يكنى : أبا بكر ، وأبا حبيب ، قتله الحجاج بعد أن حاصره بمكة وقد أصابته رمية فمات بها ، وكان بخيلاً ، وهو صاحب المثل «اكلتم تمري ، وعصيتم أمري» حتى قال فيه الشاعر :

رأيت أبا بكر وربّك غالب

على أمره ، يبغي الخلافة بالتمر

قتل وهو ابن ثلاث وسبعين سنة ، وصلب حيث اصيب.

(٤) ما أثبتناه من المصدر ، لعلّه سقط في الأصل.

(٥) إرشاد المفيد : ٢ / ٣٥.

(٦) يقال : رجل خبّ ضبّ ـ أي ـ مراوغ ، والضب ـ أيضاَ الحقد الخفي.

(٧) الظاهر من كلامه عليه‌السلام [انّه] يروم الخلافة فلا يحصل عليها ، وهذه من المغيبات التي أخبر عنها أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١١٠

الحجاز من الحسين؟ ثم التفت إلى الحسين عليه‌السلام وقال له : «يا ابن العم إنّي أتصبّر ولا أصبر ، أنت سيد أهل الحجاز فأقم في هذه البلد ، وإن أبيت إلّا أن تخرج فاخرج الى اليمن فإنّهم أنصار جدّك وأبيك ، وهم أرقّ الناس عليك فإنّي أخاف عليك أن تقتل ونساؤك واطفالك تنظر إليك». فقال الحسين عليه‌السلام : إنّ جدّي رسول الله قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه» (١).

ثم قال له عبدالله بن الزبير : يابن رسول الله قد حضر الحج وأنت ماض إلى العراق؟ فقال عليه‌السلام : «لإن ادفن بشاطئ الفرات أحب إليّ من أن ادفن بفناء الكعبة ، فإن أبي حدثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها ، فما أحب أن أكون ذلك الكبش» (٢).

قال السيد ابن طاووس رحمه الله في «الملهوف» : وجاء إليه محمد بن الحنفية فأجابه مثل ما أجاب عبدالله بن عباس (٣) ، ، وجاءه عبدالله بن عمر (٤) فأشار عليه بصلح أهل الضلالة وحذره من القتل والقتال ، فقال عليه‌السلام : «يا أبا عبدالرحمن أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا اهدي إلى بغي من بغايا

__________________

(١) انظر الملهوف للسيد ابن طاووس : ١٠١

(٢) وهذه من المغيبات التي أخبر عنها إمامنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّ ابن الزبير حوصر بمكة خمسة أيام ـ حاصره الحجاج ـ ثم قتل في البيت ، فكان هو الكبش ، وأمر به الحجاج فصلب بمكة ، وكان مقتله يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادي الأول سنة (٧٣ هـ)

انظر : تاريخ ابن الأثير : ٤ / ١٣٥ ، تاريخ الطبري : ٧ / ٢٠٢ ، فوات الوفيات : ١ / ٢١٠ ، تاريخ الخميس : ٢ / ٣٠١ ، الأعلام للزركلي : ٤ / ٨٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد :

(٣) ابن عباس ، حبر الأمة والصحابي الجليل رضي‌الله‌عنه ، ولد بمكة ولازم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروى عنه ، وشهد مع أمير المؤمنين عليه‌السلام الجمل وصفين ونهروان ، كفّ بصره في آخر عمره وسكن الطائف وتوفي بها سنة (٦٨ هـ). انظر : الإستيعاب ، والإصابة ، وصفة الصفوة : ١ / ٣١٤ ، حلية الاولياء : ١ / ٣١٤ ، نسب قريش : ٢٦ ، المحبر : ٩٨ ، الأعلام للزركلي : ٤ / ٩٥.

(٤) عبدالله بن عمر : وكنيته أبو عبدالرحمن ، آخر من توفي بمكة من الصحابة ، وكانت ولادته بمكة. انظر : الإصابة ، الإستيعاب ، طبقات بن سعد : ٤ / ١٠٥.

١١١

بني إسرائيل ، أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنهم لم يفعلوا شيئاً ، فلم يجعل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام ، اتّق الله يا أبا عبدالرحمن ، ولا تدع نصرتي».

وقال : وسمع أهل الكوفة بقدوم الحسين عليه‌السلام إلى مكة وامتناعه من البيعة ليزيد ، فاجتموا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فلمّا تكاملوا قام [سليمان] فيهم خطيباً ، وقال في آخر خطبته :

«[يا معشر الشيعة] ، إنكم قد علمتم بأن معاوية قد هلك ، وقد قعد في موضعه إبنه يزيد [شارب الخمور والضارب بالطنبور] ، وهذا الحسين بن علي عليه‌السلام قد خالفه وجاء الى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبل ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدون دونه ، فاكتبوا إليه وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل».

قال : فأجابوه بأننا نبايعه ونجاهد عدوّه ، فقال : إذاً اكتبوا إليه كتاباً ؛ فكتبوا إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى الحسين بن علي بن أبي طالب.

من سليمان بن صرد الخزاعي (١) ، والمسيب بن نجبة (٢) ورفاعة بن

__________________

(١) تقدّمت ترجمته عن المؤلف رحمه الله ، وذكرنا هناك مصادر ترجمته.

(٢) المسيب بن نجمة الفزّاري : تابعي ، وشهد القادسية وفتوح العراق ، وشهد مع أمير المؤمنين عليه‌السلام حروبه الثلاثة ، وكان شجاعاً مقداماً ، ومتعبداً ناسكاً ، ثار مع التوابين في طلب دم الإمام الحسين عليه‌السلام ، واستشهد مع سليمان بن صرد الخزاعي بالعراق في وقعة «عين الوردة» ، وحمل رأسيهما إلى مروان بن الحكم (لعنه الله) ، وكان الذي حمل رأسيهما هو

١١٢

شدّاد (١) ، وحبيب ابن مظاهر ، وعبدالله بن وائل ، وشيعته من المؤمنين. سلام الله عليكم.

أمّا بعد ، فالحمدلله الذين قصم عدوّكم وعدوّ أبيك من قبل ، الجبار العنيد الغشوم الظلوم ، الذي ابتزّ هذه الامة أمرها ، وغصبها فيأها ، وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، فبعداً له كما بعدت ثمود وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وعتاتها ، فبعداً له كما بعدت ثمود.

ثمّ أنّه ليس علينا إمام غيرك ، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق ، والنعمان في قصر الإمارة ، فإنّا لا نجتمع معه لا جمعة ولا جماعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو بلغنا قدومك لأخرجناه حتى يلحق بالشام ، والسلام عليك ورحمه‌الله وبركاته (٢).

قال أهل السير : وجعلت الكتب تترى على الحسين عليه‌السلام ومن اهل الكوفة حتى ملأ منها خرجين (٣) ، وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله :

قد بايعوا السبط طوعاً منهم ورضى

وسيّروا صحفاً بالنصر تبتدر

أقدم فإنّا جميعاً شيعة تبع

وكلّنا ناصر والكلّ منتظر

أقبل وعجّل قد اخضرّ الجناب وقد

زهت بنظرتها الأنهار والثمر

__________________

أدهم بن بحير الباهلي (لعنه الله) وكانت وقعة «عين الوردة» في أول ربيع الآخر سنة (٦٥ هـ). انظر : الكامل في التاريخ لابن الأثير : ٤ / ٦٨ والإصابة : رقم (٨٤٢٤) ، الإعلام للزركلي : ٧ / ٢٢٥ ، تاريخ من دفن في العراق من الصحابة (للمؤلف رحمه الله) : ٢٢٠ (آخر ترجمة : سليمان بن صرد الخزاعي).

(١) رفاعة ابن شدّاد البجلي :

(٢) الملهوف على قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس : ١٠٢ ـ ١٠٥.

(٣) الأخبار الطوال للدينوري : ٢٢٩.

١١٣

أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته

خلد الجنان اذا النيران تستعر

لا رأي للناس إلّا فيك فأت ولا

تخشى اختلافاً ففيك الأمر منحصر

وأثموه إذا لم يأتهم فأتى

قوماً لبيعتهم بالنكث قد خفروا

فعاد نصرهم خذلاً وخذلهم

قتلاً له بسيوف للعدى ادّخروا

يا ويلهم من رسول الله كم ذبحوا

ولداً له وكريمات له أسروا

وكان آخر كتاب قدم عليه مع هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبدالله الحنفي ، فضّه وقرأه وإذا فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن علي

من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين

أمّا بعد ، فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم إلى غيرك ، فالعجل العجل يابن رسول الله ، فقد احضر الجناب ، وأينعه الثمار ، وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ، فأقدم علينا إذا شئت ، فإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ، والسلام عليك وعلى أبيك من قبلك ورحمه‌الله وبركاته.

فقال الحسين عليه‌السلام للرسول وهو هانئ بن هانئ السبيعي : «اخبرني من هؤلاء الذين كتبوا إلي هذا الكتاب؟» قال : يابن رسول الله هم شيعتك ، فقال عليه‌السلام : من هم؟ قال : شبث بن الربيعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن رويم ، وعروة بن قيس ، وعمر بن الحجاج الزبيدي (١) ، وهؤلاء كلهم من اعيان الكوفة.

__________________

(١) الملهوف على قتلى الطفوف للسيد بن طاووس : ١٠٥ ـ ١٠٧ ، وفي الأخبار الطوال للدينوري : شبث بن ربيعي وحجار بن ابجر ويزيد بن الحارث وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج ومحمّد بن عمير بن عُطارد ، وكان هؤلاء الرؤساء من أهل الكوفة ... ؛ انظر ذلك ص ٢٢٩.

١١٤

اقول هؤلاء كلهم حضروا يوم الطف ورأوا الحسين عليه‌السلام يستغيث فلا يغاث ، ويستجير فلا يجار ، فما نصروه وما أجابوه ، بل أعانوا عليه ، أما شبث بن الربيعي فإنّه قال لابن سعد : يا أمير آمر العسكر أن يفترق عليه أربعة فرق ضرباً بالسيوف ، وطعناً بالرماح ، ورمياً بالسهام ، ورضخاً بالحجارة ؛ فافترقوا على الحسين اربعة فرق كما أشار شبث بن ربعي على ابن سعد ، وهؤلاء ايضاً كلهم هجموا على خدره وانتهبوا ثقله واحرقوا خيمه وروّعوا عياله وأطفاله.

ومخدّرات من عقائل أحمد

هجمت عليها الخيل في أبياتها

وحائرات أطار القوم أعينها

رعباً غدات عليها خدرها هجموا (١)

__________________

(١) وزينب عليها‌السلام كأني بها تخاطب أخاها الحسين عليه‌السلام بلسان الحال :

(ابوذية)

الحراير من لهيب النار هاجن

ولعد جسمك يبو السجّاد هاجن

يگلّنك علينه الليل هاجن

وانته اموسد الغبرة رميّه

* * *

يخوية النار بوسط الخيم تنهاب

او وصلت خيلهم للخدر تنهاب

الماعدها عشيرة اشلون تنهاب

يليث الغاب ما تلحك عليه

(طور عبود غفلة)

يفترن خوات احسين

من خيمه لعد خيمه

ينخن وين راحو اوين

ما مش بالكفر شيمه

كل خيمة تشبّ ابنار

ردن ضربن الهيمة

والسجاد اجو سحبوه

ودمعه اعلى الوجه ساله

(تخميس)

قلّبوه عن نطع مسجّى فوقه

فبكت له أملاك سبع شداد

ويصيح وا ذلّاه أين عشيرتي

وسراة قومي أين أهل وداد

١١٥

المطلب الحادي والعشرون

في خطبة الحسين عليه‌السلام قبل خرجه من مكة المشرفة

لقد دمعت عيون البيت حزناً

لفقد منى قلوب العارفينا

وطافت طائفوه طواف ثكلى

وقد لبسوا السواد ملهّفينا

وكانت تلبياتهم رثا رثاءاً

لسبط كان خيرَ الناسكينا

فقدنا ها هنا قصراً مشيداً

وبيت العز والبلد الأمينا

فقدنا ها هنا كهف الأيامى

وسور المحتمين طور سينا (١)

روي السيد في اللهوف وغيره قال :

لمّا همّ الحسين عليه‌السلام ان يتوجّه إلى العراق قام خطيباً في أصحابه فقال :

«الحمد لله ماشاء ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، وصلّى الله على رسوله محمد وآله أجمعين ، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخيّر لي مصرع أنا لاقيه ، وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن مني اكراشاً جوفاً وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين ، حين تشذّ عن رسول الله لحمته ، وهي

__________________

(١) هنا أشار عليه‌السلام إلى ابن الزبير ، فإن تقتله هتك حرمة الحرم ، وهذه من معيباته التي أخبر عنها عليه‌السلام.

١١٦

مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده».

ثم قال عليه‌السلام : «ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فاليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً انشاءالله تعالى» (١).

قال أرباب التاريخ : وجاء كتاب من ابن عمّه مسلم بن عقيل من الكوفة مع عابس بن شبيب الشاكري يقول فيه :

«أما بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألف رجل ، فعجّل الإقبال حين وصول كتابي ، فإنّ الناس كلّهم معك ، وليس لهم في آل معاوية [ آل أبي سفيان ] رأي ولا هوى والسلام» (٢).

وروي محمد بن داود القمي إسناده عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : «وجاء بن الحنفية إلى الحسين في الليلة التي اراد الحسين الخروج من صبيحتها من مكة فقال له : يا أخي أنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فإن رأيت أن تقيم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعه» فقال له : يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت (٣).

فقال له ابن الحنفية : فإن خفت ذلك فصر إلى اليمين أو بعض نواحي البرّ ، فأنك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد. [فقال الحسين عليه‌السلام] (٤) : أنظر فيما قلت.

ولمّا كان السحر ارتحل الحسين عليه‌السلام ، فبلغ ذلك محمد بن الحنفية فأتاه

__________________

(١) الملهوف في قتلى الطفوف للسيد بن طاووس : ١٢٦.

(٢) الاخبار الطوال : ٢٤٣.

(٣) هنا أشار عليه‌السلام إلى بن الزبير ، فإنّ بقتله هتك حرمة الحرم ، وهذه من مغيباته التي أخبر عنها عليه‌السلام.

(٤) أثبتناه من المصدر ، والظاهر أنه سقط في الأصل.

١١٧

وأخذ بزمام ناقته التي ركبها ، وقال له : يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال : بلى ، قال : إذاً فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال له : يا أخي أتاني رسول الله بعد ما فارقتك وقال لي : يا حسين اُخرج قد شاء الله أن يراك قتيلاً ، فقال ابن الحنفية : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أخي إذاً فما معنى حملك هذه النسوة وأنت تخرج على مثل هذه الحالة والصفة؟ قال له : أخي قد شاء الله أن يراهنّ سبايا على اقتاب المطايا» (١).

أخي إن الله شاء بأن يرى

جسمي بفيض دم الوريد مخضّبا

ويرى النساء على الجمال حواسراً

أسرى وزين العابدين سليبا

فاكفف فقد خطّ القضاء بأنني

أمسي بعرصة كربلاء غريبا

وفي رواية أخرى قال له : «أخي اناشدك الله أن لا تسير إلى قوم غدروا بأبيك سابقاً ، وغدروا بأخيك لاحقاً ، وأبقوا عدوّكم ، فأقم في حرم جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلا فارجع إلى حرم الله ، فإن لك فيها أعواناً كثيرة ، فقال له : «لابدّ من المسير الى العراق» ، فقال له محمد إنه ليفجعني ذلك ، ثم بكى وقال : والله يا أخي لا أقدر ان أقبض على قائم سيفي ولا أقدر على حمل رمحي ، ثم لا فرحت بعدك أبداً». ثم ودّعه وسار الحسين عليه‌السلام.

قال الراوي : وعند خرجه من مكة لقيه رجل من أهل الكوفة يكنّى أبا هرة الأزدي ، فسلّم عليه ثم قال له : يا بن رسول الله من الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال له عليه‌السلام : «ويحك يا أبا هرة إن بني امية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وايم الله ان تقتلني الفئة الباغية ، وليلبسنّهم الله ذلاً شاملاً ، ويرسل عليهم سيفاً قاطعاً ، وليسلّطنّ عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ أذ ملكتهم إمرأة فحكمت في

__________________

(١) الملهوف للسيد ابن طاووس رحمه الله : ١٢٧.

١١٨

أموالهم ودمائهم» (١) قال : ثم ودّعه وسار الحسين عليه‌السلام ومن معه قاصدين العراق (٢).

ومقوّضين تحملوا وعلى

مسراهم المعروف محتمل

وكبوا إلى العزِّ الردى وحدى

للموت فيهم سائق عجل

وبهم ترامت للعلى شرفاً

أبل المنايا السود لا الإبل

نزلوا بأكناف الطفوف ضحى

وإلى الجنان عشية رحلوا (٣)

__________________

(١) كلما ذكره الحسين عليه‌السلام لأبي هرة جرى على أهل الكوفة من قبل المختار وأضرابه.

(٢) الملهوف للسيد بن طاووس رحمه الله : ١٣٢.

(٣)

(نصاري)

سار احسين واصحابه بلظعون

وصلوا كربلا ووچب الميمون

ركب ستة افراس امن اليسجون

وگفوا وانشد اجموع الحمية

شسم هالگاع گالوا شاطي الفرات

وسمها نينوى والغاضريات

رد انشد وگالوله المسنات

ورض لعراگ يا شبل الزچيّه

بچه اوگلهم دمع العين مذروف

هم الها اسم گالوله الطفوف

رجع سايل اسمها البيها معروف

سكتوا والدموع اتكت هيه

ناده احسين واليكم ترونه

سايلكم وشو متجاوبونه

گالوا كربلا واهلّت اعيونه

او تحسّر والگلب ناره سرّيه

(دكسن)

صاح احسين يصحابي انزلونه

ابهاي الگاع كلنه ايذبحونه

او بس يبگه علي ويگيدونه

او طفلي ينذبح ما بين ايديّه

يگومي ابهاي يتشتت شملنه

او نبگه بالشمس والدم غسلنه

او تسبى احريمنا او تندب يهلنه

چه ترضون نتيسّر هديّه

(تخميس)

يا من إذا ذكرت لديه كربلا

لطم الخدود وللمدامع اهملا

مهما مررت على الفرات فقل ألا

بعداً لشطّك يا فرات فمرّ لا

تخلوا فإنّك لا هني ولا مري

١١٩

المطلب الثاني والعشرون

في استنصار الحسين عليه‌السلام

إسنتصر الحسين عليه‌السلام جماعة في طريقه الى كربلاء ، وألقى عليهم الحجج وحذّرهم من سماع واعيته ، وكان استنصاره لهم تارة بلسانه ، وتارة بإرسال رسول من قبله إلى من يستنصره ، وتارة بالكتب ، فمنهم من أجاب ورزق الشهادة معه ، وسُعد في الدارين بل وحضى السعادة الأبدية ، ومنهم من اعتذر بتجارة له ، ومنهم من لم يجبه على ذلك بشيء وبعدها أسف وندم على ما فاته من فضل الشهادة ، فالذي أجاب الحسين عليه‌السلام لمّا دعاه لنصرته هو «زهير بن القين البجلي رحمه الله» ، وأرسل عليه الحسين أثناء الطريق وطلب منه النصرة ، فأجاب ورزق الشهادة وحظي بالسعادة والذي اعتذر بتجارته هو «عمرو بن قيس المشرفي» ـ كما ذكره صاحب أسرار الشهادات ـ قال عمرو :

دخلت على الحسين عليه‌السلام أنا وابن عمّ لي وهو في «قصر بني مقاتل» فسلّمنا عليه ، فقال له ابن عمّي : يا أبا عبدالله هذا الذي أرى خضاب أو شعرك؟ فقال [عليه‌السلام] : «خضاب ، والشيب إلينا بني هاشم يعجل» ، قال : ثمّ أقبل عليه‌السلام علينا ، وقال : جئتما لنصرتي؟ قال عمرو : وقلت له : سيدي إنّي رجل كبير السن ، كثير الدين ، كثير العيال ، وفي يدي بضائع للناس ما أدري ماذا يكون من أمرك ، وأكره أن اُضيّع أمانتي ، وقال له ابن عمّي مثل ذلك : فقال لنا : «إذاً انطلقا ولا تسمعا لي

١٢٠