نقض فتاوى الوهابية

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

نقض فتاوى الوهابية

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: السيد غياث طعمة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-93-0
الصفحات: ٨٦

الشافعي ، المطبوع ذلك الكتاب بمطبعة بولاق ايضاً في مصر ، القاهرة سنة ١٢٧٩ ، ورتبه ـ كسابقه ـ على فصول :

الاول : في مشروعية زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستدل عليها من الكتاب بآيات ، ومن السنة بأحاديث كثيرة صحح اسانيدها من الطرق المتفق عليها عند جمهور المسلمين ، ثم استدلّ بإجماع علماء المسلمين ، وزاد على ماذكره الحافظ السبكي لتأخر زمانه عنه.

قال ابن حجر ـ بعد ان استوفى الكلام في سرد الحديث والاجماع على فضل الزيارة فضلاً عن مشروعيتها ، صفحة ١٣ ـ ما نصه :

فإن قلت : كيف تحكي الاجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيميه من متأخري الحنابلة منكر لمشروعيّة ذلك كله كما رآه السبكي في خطه ، وقد اطال ابن تيميه في الاستدلال لذلك بما تمجه الاسماع وتنفر عنه الطباع ، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً وانه لا تقصر فيه الصلاة ، وان جميع الاحاديث الواردة فيها موضوعة ، وتبعه بعض من تأخر عنه من اهل مذهبه ‎؟!

قلت : من هو ابن تيمية حتى ينظر اليه او يعول في شيء من امور الدين عليه؟! وهل هو الا كما قال جماعة من الائمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة ؛ وحججه الكاسدة ؛ حتى اظهروا عوار سقطاته ؛ وقبائح اوهامه وغلطاته ؛ كالعز بن جماعة : عبد اضله الله تعالى واغواه ، والبسه رداء الخزي وارداه ، وبوأه من قوة الافتراء والكذب ما اعقبه الهوان ؛ واوجب له الحرمان.

ولقد تصدى شيخ الاسلام ، وعالم الانام ، المجمع على جلالته ، واجتهاده وصلاحه وامامته ، التقي السبكي ، قدس الله روحه ، ونور ضريحه ؛ للرد عليه في تصنيف مستقل افاد فيه (١٣) واجاد واصاب واوضح بباهر حججه طريق الصواب ؛ ثم قال : هذا ما وقع من ابن تيمية مما ذكر ، وان كان عثرة لاتقال ابداً ، ومصيبة يستمر شؤمها ، ليس بعجيب ، فإنه سولت له نفسه وهواه

__________________

(١٣) وكذا ناقسه في شفاء السقام في باب شبهة الخصم ٩٨ ـ ١١٥.

٢١

وشيطانه انه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب ؛ ومادرى المحروم انه اتى بأقبح المعائب اذ خالف اجماعهم في مسائل كثيرة‎ ، وتدارك على أئمتهم سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة شهيرة ، حتى تجاوز الى الجناب الاقدس المنزه ـ سبحانه ـ عن كل نقص ، والمستحق لكل كمال انفس ، فنسب اليه الكبائر والعظام ، وخرق سياج عظمته بما اظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم ، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين ، حتى قام عليه علماء عصره ؛ والزموا السلطان بقتله او حبسه وقهره ، فحبسه الى مات وخمدت تلك البدع ، وزالت تلك الضلالات ، ثم انتصر له اتباع لم يرفع الله لهم رأساً ، ولم يظهر لهم جاها‎ ولا بأساً ، بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة باؤوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، انتهى.

هذا بعض كلام ابن حجر العالم الذي ليس له في علماء السنة مدافع ؛ ولا ينازع في جلالة شأنه وعظيم فضله منازع ، ولسنا الآن في صدد تعداد مثالب ابن تيمية وبدعه في الدين ، وما أدخله من البلية على الإسلام والمسلمين ، فإن ذلك خارج عما نحن بشأنه من مواقف الحجة والبرهان ، والنظر في الادلة على نهج علمي لا يخرج عن دائرة آداب المناظرة.

واما حال ابن تيمية ... فقد كفانا مؤونة إشاعة فضائعه ووقائعه علماء الجمهور من اهل السنة والجماعة شكرت مساعيهم الجميلة.

أما كلمتنا التي لا بد لنا من إبدائها في الجمع بين تلك الاخبار ، ونظريتنا في استجلاء الحقيقة من خلال تلك الحجب والاستار ، فسوف نبديها في تلو هذا السجل ناصعة بيضاء مستقرة ، وعليه التكلان ، وبه المستعان.

ها نحن اولاء ، وبعد ان سردنا عليك ذرواً من الاحاديث ، وشذوراً من الروايات ، نريد أن نأتي على الخلاصة ، ونوقفك على الفذلكة ، ونمنحك الحقيقة المكنونة ، والجوهرة الثمينة فنتوصل الى الحقيقة من اقرب طرقها ، ونتوسل الى البغية المنشودة بأقوى أسبابها ، وأوثق عراها ، وامتن أواخيها ، فنقول :

٢٢

نقدر على الفرض ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ها هو امام كل مسلم من امته يراه بعينه ويسمعه باذنه قائلاً له : « لاتدع تمثالاً إلا طمسته ، ولاقبراً مشرفاً إلاسويته » بناءً على صحّة كل ما ورد في الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ إذ هذا الفرض ـ وان كنا لانقول به ـ ولكن نجعله من الاصول الموضوعة بيننا ـ اعني به ما هو فصل النزاع وقاطع الخصومة ـ ومعلوم ان المتخاصمين إذا لم يكن فيما بينهما اصول موضوعة ينتهون إليها ، ويقفون عندها ، لاتكاد تنتهي سلسلة النزاع بينهما والتخاصم طول الابد ، وعمر الدهر ، إذاً فنحن على سبيل المجاراة والمساهمة مع الخصم نقول بصحة ذلك الحديث‎ ، كما يلزمنا معاً ان نقول بصحة غيره من احاديث الصحيحين فها هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « لاتدع قبراً مشرفاً إلاسويته » ، كما رواه مسلم ، ـ ولكنه يقول حسب روايته ايضاً : « فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ... » ، و « استأذنت ربي في زيارة امي فأذن لي » ... وقد زار هو قبور البقيع ... وفي البخاري عقد باباً لزيارة القبور وحينئذ ـ فهل هذه الاحاديث متعارضة متناقضة؟! النبي الذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى يأمر بهدم القبور ... ويأمر بزيارتها ... يأمر بهدمها ثم هو يزورها ...

فإن كان المقام من باب تعارض الاحاديث واختلاف الروايات وجب الجمع بينهما لا محالة ، على ما تقتضيه صناعة الاجتهاد ، وطريقة الاستنباط ، وقواعد الفن المقررة في الاصول ، بحمل الظاهر على الاظهر ، وتأويل الضعيف من المتعارضين وصرفه الى المعنى الموافق للقوي ، فيكون القوي قرينة على التصرف في الضعيف ، وإرادة خلاف ظاهره منه كما يعرفه ارباب هذه الصناعة ، فهل المقام من هذا القبيل؟!

كلا ثم كلا ، ومهلاًُ مهلاً : ان هذه الساقية ليست من ذلك النبع ، وتلك القافية ما هي من ذلك السجع ؛ وليس المقام من باب التعارض كي يحتاج الى التأويل والجمع.

ما كنت احسب ان ادنى من له حظ من فهم التراكيب العربية

٢٣

والتصاريف اللغوية يخفى عليه الفرق بين « التسوية » و « المساواة ».

ان الذين يصرفون قوله ـ عليه‌السلام ـ : « ولاتدع قبراً مشرفاً إلا سويته » الى معنى ساويته بالارض اي « هدمته » اولئك قوم أيفت أفهامهم ، وسخفت أذهانهم ، وضلت البابهم ، ولم يكن من العربية لهم ولا قلامة ظفر فكيف بعلمائهم؟!

ولايخفى على عوام العرب ان تسوية الشيء عبارة عن تعديل سطحه او سطوحه ، وتسطيحه في قبال تقعيره او تحديبه او تسنيمه وما اشبه ذلك من المعاني المتقاربة (١٤) والالفاظ المترادفة ، فمعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لاتدع قبراً مشرفاً ـ اي : مسنماً ـ إلا سويته ـ اي ـ سطحته وعدلته ـ » وليس معناه : إلا هدمته وساويته بالارض كي يعارض ما ورد من الحث على زيارة القبور واستحباب إتيانها ، والترغيب في تشييدها ، والتنويه بها ، وذلك المعنى ـ اعني ان المراد من تسوية القبر تسطيحه وعدم تسنيمه ـ كان هو الذي فهمته من الحديث اول ما سمعته بادئ بدء وعند أول وهلة ، ثم راجعت الكتاب ـ اعني صحيح مسلم ـ ونظرت الباب فوجدت صاحب الصحيح ـ مسلم ـ قد فهم فيه مافهمناه من الحديث حيث عنون الباب قائلاً : ( باب تسوية القبور ) واورد فيه اولاً بسنده الى تمامه قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يامربتسويتها (١٥) ثم اورد بعده في نفس هذا الباب حديث ابي الهياج المتقدم : « ولاقبراً مشرفاً الاسويته ».

وكذلك فهم شارحوا صحيح مسلم وامامهم النووي الشهير ، وها هو بين ايدينا يقول في شرح تلك الجملة النبوية ما نصه : فيه : ان السنة ان القبر لا يرفع عن الارض رفعاً كثيراً ولايسنم ، بل يرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن

__________________

(١٤) معجم مقايس اللغة ٣/ ١١٢ (سوى ).

(١٥) صحيح مسلم ٢/ ٦٦٦ باب ٣١/٩٢.

٢٤

وافقه ، ونقل القاضي عياض عن اكثر العلماء ان الافضل عندهم تسنيمها (١٦). انتهى كلام النووي.

ويشهد لأفضلية التسنيم مارواه البخاري في صحيحه في باب صفة قبر النبي وابي بكر وعمر بسنده الى سفيان التمار انه رأى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسنماً (١٧) ...

ولكن القسطلاني احد المشاهير من شارحي البخاري ، شرحه في عشر مجلدات طبعت في مصر القاهرة ، قال ما نصه : « مسنماً » بضم الميم وتشديد النون المفتوحة اي : مرتفعا ، زاد ابو نعيم في مستخرجه : وقبر ابي بكر وعمر كذلك ، واستدل به على ان المستحب تسنيم القبور ، وهو قول ابي حنيفة (١٨) ومالك (١٩) واحمد (٢٠) والمزني وكثير من الشافعية :

وقال أكثر الشافعية (٢١) ونص عليه الشافعي : التسطيح افضل من التسنيم لانه صلى‌الله‌عليه‌وآله سطح قبر ابراهيم وفعله حجة لافعل غيره (٢٢) ، وقول سفيان التمار لاحجة فيه ـ كما قال البيهقي ـ لاحتمال ان قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبري صاحبيه لم تكن في الازمنة الماضية مسنمة (٢٣).

وقد روى ابو داود بإسناد صحيح ان القاسم بن محمد بن ابي بكر قال : دخلت على عائشة فقلت لها : اكشفي لي عن قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحبيه فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة

__________________

(١٦) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ٤/ ٣٠١.

(١٧) صحيح البخاري ٢/١٢٨.

(١٨) المبسوط للسرخسي ٢/ ٦٢.

(١٩) المنتقى ٢/ ٢٢.

(٢٠) المغني لابن قدامة ٢/ ٣٨٠.

(٢١) المجموع ٥/ ٢٩٥.

(٢٢) الام ١/ ٢٧٣.

(٢٣) سنن البيهقي ٤/ ٤ وفيه ـ بعد ان نقل حديث التمارـ : وحديث القاسم أصح وأولى ان يكون محفوظاً.

٢٥

الحمراء ، اي لامرتفعة كثيراً ولا لا صقة بالارض (٢٤) ، الى ان قال القسطلاني الشارح : ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض لان السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها! ولا يخالف ذلك قول علي ‎ـ رضي الله عنه ـ أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان لاادع قبراً مشرفاً الاسويته ، لانه لم يرد تسويته بالارض وانما اراد تسطيحه جمعاً بين الاخبار‎ ، ونقله في المجموع عن الاصحاب (٢٥).

إنتهى ما اردنا نقله من شرح البخاري ، وانت ترى من جميع ما أحضرناه لديك وتلوناه عليك من كلمات أعاظم المسلمين وأساطين الدين من مراجع الحديث كالبخاري ومسلم ، وأئمة المذاهب كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ، وأعلام العلماء واهل الاجتهاد كالنووي وامثاله ، كلهم متفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة ، بل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذاته بنى قبر ولده إبراهيم ؛ إنما الخلاف والنزاع فيما بينهم في ان الافضل والارجح تسطيح القبر او تسنيمه ، فالذاهبون الى التسنيم يحتجون بحديث البخاري عن سفيان التمار انه رأى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسنماً ، والعادلون الى التسطيح يحتجون بتسطيح النبي قبر ولده إبراهيم ، وصحيح القاسم بن محمد بن ابي بكر شاهد له ، ولعل هذا الدليل هو الارجح في ميزان الترجيح والتعديل ، ولا يقدح فيه انه صار من شعار الروافض وأهل البدع كما قال شارح البخاري ، فيما مر عليك نقله.

ولا يعنينا الآن الخوض في حديث الروافض وانهم من اهل البدع ام لا ، إنما الشأن في حديث « لاتدع قبراً مشرفاً إلا سويته » واحسب أنه قد تجلى لك بحيث يوشك ان يلمس بالانامل ، ويرى بباصرة العين ان معنى ‎ « سويته » عدلته وسطحته في قبال سنمته وحدبته ويناسب هذا المعنى كل المناسبة التقييد

__________________

(٢٤) سنن أبي داود ٣/ ٢١٥ ح ٣٢٢٠.

(٢٥) إرشاد الساري ٢/ ٤٧٧.

٢٦

بقوله « مشرفاً » فإن أصل الشرف لغة هو العلو بتسنيم مأخوذ من سنام البعير ، وعليه فيحسن ذلك القيد ، بل يلزم ويكون بلسان اهل العلم ( قيداً احترازياً ). أما على معنى ساويته فالقيد لغو صرف ، بل مخل بالغرض المقصود.

وبعد هذا كله فهل من قائل لذلك المفتي ، مفتي علماء المدينة الذي أفتى بجواز هدم القبور او وجوبه استناداً إلى ذلك الحديث : ياهذا! من اين جئت بتلك النظرية الحمقاء ، والحجة العوجاء ، والبرهنة المعكوسة ، والمزعمة المقلوبة التي ما همها واهم ، ولاخطرت على ذهن جاهل فكيف بالعالم؟!

اللّهمّ إلا أن يكون « ابن تيمية » أو بعض ذناباته فإن الرجل ترويجاً لأباطيله ، وتمشية لأضاليله ، حيث تعوزه الحجة والسند قمين بتحوير الحقائق ، وقلب الادلة ، والتلاعب بالحجج والبراهين تلاعبه بالدين « كما تلاعبت الصبيان بالاكر ».

لا يا هذا ، إن الشمس لا تستر بالاكمام ، وإن الحق لا يسحق بزخارف الكلام وسفائف الاوهام ... إن الحديث « لاتدع قبراً إلاسويته » دليل عليك لا لك ، وحجة قاطعة لأضاليلك وقالعة لجذور أباطيلك ، فإن معناه الذي لايشك فيه إنسان من أهل اللسان « سويته اي : عدلته وسطحته ، لا ساويته وهدمته » ، وبهذا المعنى لا يكون معارضاً لشيء من الاحاديث حتى يحوج من له حظ من صناعة الاستنباط الى الجمع والتأويل ، وهذا هو معناه بذاته وظاهر من نفس مفرداته وتركيبه ، لا الذي يحصل بعد الجمع كما يظهر من عبارة شارح البخاري المتقدمة.

نعم ، لو ابيت إلا عن حمل « سويته » على معنى ساويته بالارض وجاملناك على الفرض والتقدير ، حينئذ تجيء نوبة المعارضة ويلزم الصرف والتأويل ، وحيث ان هذا الخبر بانفراده لا يكافئ الاخبار الصحيحة الصريحة الواردة في فضل زيارة القبور ومشروعية بنائها ، حتى ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سطح قبر إبراهيم ، فاللازم صرفه الى ان المراد : لاتدع قبراً مشرفاً قد اتخذوه

٢٧

للعبادة إلا سويته وهدمته.

ويدل على هذا المعنى الاخبار الكثيرة الواردة في الصحيحين ـ البخاري (٢٦) ومسلم ـ من ذم اليهود والنصارى والحبشة حيث كانوا يتخذون على قبور صلحائهم تمثالاً لصاحب القبر فعبدونه من دون الله ، ولعله إشارة الى بعض طوائف اليهود والنصارى والحبشة حيث كانوا كذلك في القديم فعدلوا واعتدلوا.

أما المسلمون من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليوم فليس منهم من يعيد صاحب القبر ، وانما يعبدون الله وحده لاشريك له في تلك البقاع الكريمة المتضمنة لتلك الاجساد الشريفة ، وبكل فرض وتقدير فالحديث يتملص ويتبرأ أشد البراءة من الدلالة على جواز هدم القبور فكيف بالوجوب ؛ والاخبار التي ما عليها غبار ومما لم نذكره ناطقة بمشروعية بنائها وإشادتها وانها من تعظيم شعائر الله ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (٢٦).

تتمة :

في العام الماضي طبعت في النجف الاشرف رسالة موسومة بـ‌ « منهج الرشاد » لا سطوانة من اساطين الدين ـ الشيخ الاكبر كاشف الغطاء ـ الذي يعرف كل عارف انه كان فاتحة السور من فرقان العزائم ، وكوكب السحر في سماء العظائم ، هو من أفذاذ الاعاظم الذين لاتنفلق بيضة الدهر إلا عن واحد منهم ، ثم تعقم عن الاتيان بثانيه إلا بعد مخض طويل من الاحقاب ، من غر اياديه ـ وكم له في العلم من أياد غرر ‎ـ تلك الرسالة التي رتبها على مقدمة وفصول ، عقد كل فصل منها لدفع شبهة من شبهات الوهابية ودحضها بالادلة القطعية ، والاحاديث النبوية الثابتة من الطرق الصحيحة عند أهل السنة ، على ان المقدمة وحدها كافية في قمع شبهاتهم ، وقلع جذوم مذهبهم ، وهدم اساس طريقتهم ، وقد ابدع فيها غاية الابداع. ومن بعض أبواب الرسالة : « الباب الرابع : في بناء قبور الانبياء

__________________

(٢٦) صحيح البخاري ٢/ ١١٤.

(٢٧) الحج : ٣٢.

٢٨

والاولياء » وأفاض في البيان إلى أن قال :

والاصل في بناء القباب وتعميرها ما رواه التباني واعظ أهل الحجاز عن جعفر بن محمد ، عن ابيه ، عن جده الحسين ، عن أبيه علي عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : « لتقتلن في ارض العراق وتدفن بها ، فقلت : يارسول الله ، مالمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟ فقال : ياأبا الحسن ، إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنة ، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه ، وصفوة من عباده تحن إليكم ، وتعمر قبوركم ، ويكثرون زيارتها تقرباً إلى الله تعالى ومودة منهم لرسوله » (٢٨).

ثم قال قدس‌سره بعد إيراد تمام الحديث : ونقل نحو ذلك أيضاً في حديثين معتبرين ، نقل أحدهما الوزير السعيد بسند ، وثانيهما بسند آخر غير ذلك السند ، ورواه أيضاً محمد بن علي بن الفضل ، انتهى.

والقصارى : أن النزاع بيننا معاشر المسلمين أجمع وبين سلطان نجد وأتباعه الذين يحكمون بضلالة سائر المسلمين أو بتكفيرهم ، لو كان ينحسم وينتهي بإقامة الحجج والبراهين لجئنا بالقول المقنع المفيد! ولكان عندنا زيادة للمستزيد ، بل لو كنا نعلم أنهم يقنعون بالحجة البالغة ، ويخضعون للأدلة القاطعة ، لملأنا الطوامير من الحجج الباهرة التي تترك الحق أضحى من ذكاء ، وأجلى من صفحة السماء ، ولكن سلطان نجد له حجتان قاطعتان عليهما يعتمد ، وإليهما يستند ، ولافائدة إلا بمقابلتهما بمثلهما أو باقوى منها ، وهما : الحسام البتار ، والدرهم والدينار ، السيف والسنان ، والأحمر الرنان ، هذا لقوم وذاك لآخرين :

أحدهما لأهل الصحف والمجلات في مصر وسوريا ونحوهما ليحبّذوا أعماله الوحشية ويحسنوا همجيته التي تضعضع أركان كل مدنية.

والآخر لأعراب البوادي ولشرفاء الحجاز وامثالهم من امراء العرب حيث تساعده الظروف لاقدر الله.

__________________

(٢٨) فرحة الغري : ٧٧.

٢٩

إذا فأي فائدة في إطالة الكلام ، وسرد الاحاديث ونضد الادلة. نعم ، فيها تبصرة وتبيان لطالب الحقيقة المجردة عن كل خوف ورجاء ، وتحامل وتزلف ، ولكن أين هو ذلك الرجل الطالب للحق المجرّد عن كل غرض؟! ولئن كان لوح الوجود غير خال منه ففيما ذكرناه غنى له وكفاية.

أما امير نجد واجناده وقضاته ومن لف لفهم الذين اتخذوا لتلك الدعوى والديانة وسيلة لامتداد سلطتهم ، واتساع سطوتهم ، وضخامة ملكهم ، فلسنا معهم في الخصام وإقامة الحجج إلا كإشراق الشمس على المستنقعات العميقة ، في الأودية السحيقة ، لاتزيدها تلك الأشعة إلا سخونة وعفونة وانتشار وباء في الهواء.

ليت قائلاً يقول لقاضي القضاة ـ ابن بليهد ـ ولمفتي علماء المدينة : أتراكم تعتقدون وتعتمدون على كل ما في صحيح مسلم ، وتعملون بكل ما ورد من النصوص فيه؟ فإن كنتم كذلك فقد عقد مسلم في صحيحه باباً واورد عدة أحاديث في ان الخلافة لاتكون إلا في قريش ، وان الائمة من قريش (٢٩) ، بأساليب من البيان ، وأفانين من التعبير ، وكلها صريحة في ان الخلافة الحقة المشروعة مخصوصة بتلك القبيلة .. ومثله ، بل وأكثر منه في صحيح البخاري ، وعليه فأين تكون خلافة اميركم ابن سعود؟ وكيف حال إمامته؟أهي من قوله تعالى : « وجعلنا منهم أئمة » (٣٠)؟! أم من قوله تعالى ‎لإبراهيم : « إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين » (٣١)؟! وحسبنا هذا القدر ، إن اللبيب من الإشارة يفهم!

وأما حديث لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد

__________________

(٢٩) صحيح البخاري ٩/ ٧٧ باب « ١ » كتاب الاحكام ، صحيح مسلم ٣/ ١٤٥١ ـ ١٤٥٤ باب « ١ » كتاب الإمارة.

(٣٠) السجدة : ٢٤.

(٣١) البقرة : ١٢٤.

٣٠

والسرج (٣٢) فهو نهي للنساء عن التبرج والخروج إلى المجتمعات وعن السجود على القبر ، وهو مما لا يصدرمن احد من المسلمين ، وعن إيقاد السرج عبثاً وتعظيماً لذات القبر ، أما الإسراج لقراءة القرآن والدعاء فلا منع ولانهي ، بل في بعض الاحاديث جوازه (٣٣).

هذا كله في الجواب عن حديث مسلم في شأن هدم القبور وزيارتها والاسراج عليها ، أما فتاوى مفتي علماء المدينة الاخرى المتعلقة بشأن التبرك بالقبور ، والتمسيح بها ، وزيارتها ونحو ذلك ، فقد أفتى ذلك المفتي بالمنع منها مطلقاً ، ولكن أرسل اكثر الفتاوى إرسالاً من غير ان يسندها الى حجة او يعمدها على دليل حتى نتصدى للجواب عنه.

نعم ، قال في آخرها ـ وما اصدق ما قال ـ : هذا ما ادى إليه نظري السقيم. انتهى.

والسقيم ـ لا محالة ـ إنما جاء من إحدى العلتين اللتين مر ذكرهما او من كليهما ، نسأله تعالى العافية لنا ولجميع المسلمين.

وفي الرسالة ـ المنوه بذكرها من أمم ـ لكل واحدة من تلك المسائل فصل مستقل اثبت فيه من الطرق الصحيحة المعتبرة عند القوم مشروعيتها ورجحانها وعمل الصحابة والتابعين بها ، فمن اراد فليراجع. وعلى هذا الحد فلتقف الاقلام ، وينتهي الكلام ، فقد تجلى الصبح لذي عينين ، والسلام‎. تمت بحمد الله تعالى.

* * *

__________________

(٣٢) سنن ابي داود ٣/ ٢١٨ ح ٣٢٣٦.

(٣٣) مستدرك الحاكم ١/ ٣٧٤.

٣١
٣٢

كلية مذهب الوهابية

وخلاصة القول فيه

ان اول من نثر في ارض الاسلام المقدسة تلك البذور السامة والجراثيم المهلكة ، هو احمد بن تيمية في اخريات القرن السابع من الهجرة ، ولما احس اهل ذلك القرن ـ بفضل كفائتهم ـ ان جميع تعاليمه ومبادئه شر وبلاء على الاسلام والمسلمين يجر عليهم الويلات ، واي شر وبلاء اعظم من تكفير قاطبة المسلمين على اختلاف نزعاتهم! اخذ وحبس برهة ثم قتل.

ولكن بقيت تلك البذور دفينة تراب ، وكمينة بلاء وعذاب ، حتى انطوت ثلاثة قرون ، بل اكثر ، فنبغ ، بل نزع محمد بن عبد الوهاب فنبش تلك الدفائن ، واستخرج هاتيك الكوامن ، وسقى تلك الجراثيم المائتة بل المميتة ، والبذور المهلكة ؛ فسقاها بمياه من تزويق لسانه وزخرف بيانه ، فأثمرت ولكن بقطف النفوس وقطع الرؤوس وهلاك الاسلام والمسلمين ، وراجت تلك السلعة الكاسدة والاوهام الفاسدة ، على امراء نجد واتخذوها ظهيراً لما اعتادوا عليه من شن الغارات ، ومداومة الحروب والغزوات من بعضهم على بعض وقد نهاهم الفرقان المبين والسنة النبوية عن تلك العادات الوحشية ، والاخلاق الجاهلية ، بملء فمه وجوامع كلمه ؛ وقد عقد بينهم الاخوة الاسلامية ، والمودة الايمانية وقال : « مال المؤمن على المؤمن حرام كحرمة دمه وعرضه » (٣٤) وقال جل من قائل : « ولاتقولوا لمن القى إليكم السلام لست مؤمناً » (٣٥) ، أراد الله سبحانه ان يجعلهم فيما بينهم إخواناً وعلى العدو اعواناً ، اراد ان يكونوا يداً واحدة للاستظهار على الاغيار من اعداء الاسلام ، فنقض ابن عبد الوهاب تلك القاعدة الاساسية

____________

(٣٤) مضمون الحديث ورد في الكافي ٢/٢٦٨ ح ٢ ، من لا يحضره الفقيه ٤/٣٠٠ ح ٩٠٩ ، مستدرك الوسائل ٩/١٣٦ ح ١٠٤٧٨ ، المؤمن : ٧٢ ح ١٩٩.

(٣٥) النساء : ٩٤.

٣٣

والدعامة الاسلامية ، وعكس الاية فصار يكفر المسلمين ويضرب بعضهم ببعض ، وما انجلت تلك الغبرة إلا وهم آلة بأيدي الاعداء ينقضون دعائم الدين ، ويقتلون بهم المسلمين ، ويصلون ما امر الله بقطعه ، ويقطعون ما امر الله بوصله ، فإذا طولبوا بالدليل والبرهان ؛ وجاء حديث السنة والقرآن ؛ فالجواب الشافي عند السيف والسنان ، والنصف مع البغي والعدوان ، والحق مع القوة والسطوة ، والعدل والسواء ، في الغلبة والاستيلاء.

نعم ، ليس للقوم فيما وقفنا عليه من كتب اوائلهم وأواخرهم ، وحاضرهم وغابرهم حجة عليها مسحة من العلم او روعة من البيان ، وطلاء من الحقيقة ، سوى قولهم : ان المسلمين في زيارتهم للقبور وطوافهم حولها واستغاثتهم بها وتوسل الزائر بالملحود في تلك المقابر قد صاروا كالمشركين الذين كانوا يعبدون الاصنام ، واصبحوا يعبدون غير الله ليقربهم الى الله تعالى كما حكى الله سبحانه في كتابه الكريم حيث يقول عنهم : « ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى » (٣٦) فلم يقبل الله منهم تلك المعذرة ، ولا اخرجهم ذلك الزعم عن حدود الشرك والضلالة.

هذه هي ام شبهاتهم ، واس احتجاجاتهم ، واقوى براهينهم ودلالاتهم ، وإليها ترجع جميع مؤاخذاتهم على غيرهم من طوائف المسلمين من مسألة الشفاعة والتوسل ، والتبرك والزيارة ، وتشيد القبور ، الى كثير من امثال ذلك مما يزعمون انه عبادة لغيرالله ، وهو على حد الشرك بالله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وأنا اقول : لعمر الله والحق ما اكبر جهلهم! واضل في تلك المزاعم عقلهم! وليت شعري من اين صح ذلك القياس والتشبيه؟! تشبيه المسلمين بالمشركين وقياسهم بهم مع وضوح الفرق في البين ، فإن المشركين كانوا يعبدون الاصنام لتقربهم الى الله زلفى كما هو صريح الاية ، والمسلمون لا يعبدون القبور ولا اربابها ، بل يعبدون الله وحده لاشريك له عند تلك القبور. والقياس الصحيح

__________________

(٣٦) الزمر : ٣.

٣٤

والتشبيه الوجيه ، قياس زائري القبور والطائفين حولها بالطائفين حول الكعبة البيت الحرام وبين الصفا والمروة : « ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت او اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما » (٣٧) ، فالطائف حول البيت ، والساعي بين الصفا والمروة لم يعبد الكعبة وأحجارها ، ولا الصفا والمروة ومنارها ؛ وإنما يعبد الله سبحانه في تلك البقاع المقدسة ، وحول تلك الهياكل الشريفة التي شرفها الله ودعا الى عباده فيها ؛ وهكذا زائر القبور.

هذا هو القياس الصحيح والميزان العدل ، اما القياس بالميزان الاول ففيه عين بل عيون ، لابل هو خبط وجنون ، أليس من الجنون قياس من يعبد الله موحداً له بمن يعبد الاصنام مشركاً لها مع الله جل شاًنه؟!

وكشف النقاب عن محيا هذه الحقيقة الستيرة ، بحيث تبدو للناظيرين ناصعة مستنيرة ، موقوف على بيان حقيقة العبادة وكنه معناها ، ولو على سبيل ا‎لإيجاز حسب اقتضاء هذه العجالة التي جرى بها اللسان متدافعاً تدافع الآتي من غير وقفة ولا أناة ولا مراجعة ولامهل.

إن حقيقة العبادة ومصاص معناها ، وكنه روحها ومغزاها بعد كونها مأخوذة بحسب الاشتقاق من العبد والعبودية ، وليس العبد في الحقيقة وطباق نفس الامر والواقع ما ملكته بالاغتنام او الشراء او غيرهما من الاسباب ، ولا السيد والمولى من تولى عليك بالغلبة والقهر ، أو المصانعة والخداع ، إنما السيّد من أنعم عليك بنعمة الحياة ، وخلع عليك بعد العدم خلعة الوجود ، ورباك في بواطن الاصلاب وبطون الارحام ستيراً ، لاتراك سوى عينه ؛ ولاترعاك سوى عنايته ، فذاك هو الرب والمالك والسيد حقيقة من غير تسامح في المعنى ؛ ولا تجوز في اللفظ ، وانت ذلك العبد المملوك بحقيقة العبودية ، المربوب بنعمة الايجاد والتكوين ، والصنع والخلق ، وقد اقتضت تلك العبودية ، حسب النواميس العقلية ، والاعتبار والروية ، المعزى إليها بقوله عز شأنه : « وما خلقت الجن

__________________

(٣٧) البقرة : ١٥٨.

٣٥

والانس إلا ليعبدون » (٣٨).

فالعبادة معناها كلفظها مشتقّة من العبودية ، وهي شأن من شؤونها وأثر من آثارها ، فإن العبودية قضت على العبد حفظاً لاستدامة تلك النعمة ، بل النعم الجمّة وامتدادها أبدياً أن يقف العبد موقف الإذعان والاعتراف بها لوليّها ومولاها ، فكما أنّه في موطن الحقّ والواقع عدماً صرفاً وعجزاً محضاً ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ؛ ولا موتاً ولا حياة ، كذلك يكون في موطن الخارج والظاهر ماثلاً بين يدي مولاه في غاية الخضوع والذلّة ، والعجز والحاجة.

فالعبادة حقيقة هي التظاهر بتلك العبودية الحقيقية باستعمال اقصى مراتب الخضوع في الظاهر بجميع القوى والمشاعر مقروناً باستحضار تلك الجوهرة المكتنونة ، والدرّة الثمينة ـ جوهرة العبودية ـ وأني اخضع وأخشع ، وأسجد وأعبد ، ذلك المنعم الذي انعم عليًّ بنعمة الحياة ، وأسبغ عليًّ جلابيب الوجود ، فصرت بتلك النعم مغموراً ؛ بعد أن أتى عليَّ حين من الدهر لم أكن فيه شيئاً مذكوراً.

اذاً فالعبادة على الحقيقة هي كون العبد في مقام الاعتراف والإذعان بالعبودية مقروناً بما يليق بها من استعمال ما يدلّ على اقصى مراتب الخضوع ، والذلّة بالسجود والركوع ، والهرولة والطواف ، وغير ذلك ممّا وصفته الشرائع ، وأوعزت إليه الأديان من معلوم الحكمة ومجهولها ، ومبهم الحقيقة أو معقولها.

تلك هي العبادة الحقيقية ، غايته أنّ عامّة الناس قصرت أفكارهم عن اجتناء ذلك اللبّ واقتصروا على القشور من العبادة ، اللّهمّ إلاّ أن يكون ذلك مرتكزاً في اعماق نفوسهم على الإجمال في المقصود ، دون التفصيل والاستحضار والشهود ، وكيف كان الحال ، فهل تحسّ أنّ أحداً من زوّار القبور والمتوسّلين بأربابها يقصد أنّ القبر الذي يطوف حوله ، أو صاحبه الملحود فيه هو صانعه وخالقه ، وأنّه بزيارته يريد أن يتظاهر بالعبوديّة له فتكون عبادة له؟! أو أنّ أحداً من الزائرين يقول للقبر ـ أو لمن فيه ـ : يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي؟!

٣٦

كلا ثم كلا ما احسب ان احداً يخطر على باله شيء من تلك المعاني مهما كان من الجهل والهمجية ، كيف وهو يعتقد ان صاحب القبر بشر مثله عاش ومات واصبح رميماً رفاتاً. نعم ، يعتقد ان روحه باقية عند الله‎ ـ جل شأنه ـ فهو بها يسمع ويرى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحيآء عند ربهم يرزقون ) (٣٩) ونظراً الى تلك الحياة يخاطبه ويسلم عليه ويتوسل الى الله سبحانه به ويطلب الشفاعة منه.

وبعد هذا كله فهل تجد من الحق والانصاف تشبيه الزائرين بعبدة الاصنام وهذه منابرهم ومنائرهم ومشاعرهم تضج في الاوقات الخمس بل في اكثر الاوقات بشهادة ان لا اله الا الله ويلهجون بأنه لا معبود الا الله؟! فهل ذلك القول الا قول مجادل بالباطل يريد ان يدحض به الحق ، ويلقح شرر الفساد في الارض ، ويريق دماء المسلمين ظلماً وعدواناً؟! ومما ذكرنا من معنى العبادة وحقيقة معناها يتضح انه لا شيء من تلك العناوين الممنوعة عند الوهابية ، من الشفاعة والوسيلة ، والتبرك والاستغاثة والزيارة وامثالها ، له مسيس بالعبادة بوجه من الوجوه ، هذا مضافاً إلى صدوره من النبي واصحابه والتابعين الواردة في صحيح الاخبار من صحيحي البخاري ومسلم وغيرها ، وقد استوفى جملة منها جدنا كاشف الغطاء ـ رفع الله درجته ـ في رسالته التي مثلها الطبع في العام الغابرالمسماة بمنهج الرشاد كما سبق ذكرها قريباً فلا حاجة الى إعادتها وفيها مقنع وكفاية من ارادها فليراجعها.

وانما جل الغرض تنبيه الوهابين وغيرهم من المسلمين على موضع الزلة ومدخل الشبهة وخطل الراي ، وان الصريمة والغريمة اليوم ؛ والواجب ، بل الاهم من كل واجب هو وحدة المسلمين وتكاتفهم ، فإن الجميع موحدون فحبذا لو أصبحوا والجميع متحدون ، ولا يحسبوا ان بقاء سلطتهم ونعيمهم بأن يضرب بعضهم بعضاً ويتعادى بعضهم على بعض ، بل هذا ادعى لفشلهم وقرب اجلهم.

__________________

(٣٩) آل عمران : ١٦٩.

٣٧

وليعلم الوهابيون علماً جازماً حاسماً لكل وهم وشبهة ان اليد التي اصبحت تضرب بهم المسلمين اليوم سوف تضربهم بغيرها غداً فلينتبهوا ولينتهوا قبل ان يقعوا في حفائر السياسة السحيقة ، ومهاويها العميقة ، والى الله سبحانه نضرع راغبين اليه وحده في ان يجمع الكلمة ويؤلف شمل الامة ويوقظهم من سنة هذه الغفلة التي اوشكت ان تكون حتفاً قاضياً عليهم أجمع ؛ والى الله تصير الامور ، ومنه البعث وإليه النشور.

* * *

٣٨

٣٩

.

٤٠