نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

ينبوعه (١). وجدحوا بينى وبينهم شربا وبيئا (٢). فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه (٣) وإن تكن الأخرى (٤) «فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ»

١٥٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه خالق العباد ، وساطح المهاد (٥) ومسيل الوهاد ، ومخصب النّجاد ليس لأوّليّته ابتداء ، ولا لأزليّته انقضاء ، هو الأوّل لم يزل ، والباقى بلا أجل خرّت له الجباه ، ووحّدته الشّفاه ، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها (٦) لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات

__________________

(١) الفوار والفوارة من الينبوع : الثقب الذى يفور الماء منه بشدة

(٢) جدحوا : خلطوا ومزجوا ، والشرب ـ بالكسر ـ : النصيب من الماء ، والوبىء : ما يوجب شربه الوباء ، يريد به الفتنة التى يردونها نزاعا له فى حقه ، كأنها ماء خلط بالمواد السامة القاتلة

(٣) محض الحق : خالصه

(٤) وإن لا يزالوا مفتونين فلا تمت نفسك غما عليهم

(٥) المهاد : الأرض ، والوهاد : جمع وهدة ، وهى ما انخفض من الأرض ، والنجاد : جمع نجد ، وهو ما ارتفع منها ، وتسييل الوهاد بمياه الأمطار ، وتخصيب النجاد بأنواع النبات

(٦) الأبانة ههنا : التمييز والفصل ، والضمير فى «له» له سبحانه أى : تمييزا لذاته تعالى عن شبهها ، أى : مشابهتها ، و «إبانة» : مفعول لأجله يتعلق بحد ، أى : حد الأشياء تنزيها لذاته عن مماثلتها «٦ ـ ن ـ ج ـ ٢»

٨١

لا يقال له : «متى؟» ولا يضرب له أمد بحتّى ، الظّاهر لا يقال «ممّا» (١) ، والباطن لا يقال «فيما» ، لا شبح فيتقضّى (٢) ولا محجوب فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق ، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة (٣) ولا كرور لفظة ، ولا ازدلاف ربوة (٤) ، ولا انبساط خطوة فى ليل داج (٥) ، ولا غسق ساج ، يتفيّأ عليه القمر المنير (٦) ، وتعقبه الشّمس ذات النّور ، فى الأفول والكرور (٧) وتقلّب الأزمنة والدّهور ، من إقبال ليل مقبل ، وإدبار نهار مدبر ، قبل كلّ غاية ومدّة (٨) وكلّ إحصاء وعدّة ، تعالى عمّا ينحله (٩) المحدّدون من صفات الأقدار ، ونهايات الأقطار ، وتأثّل

__________________

(١) ظاهر بآثار قدرته ولا يقال من أى شىء ظهر

(٢) ليس بجسم فيفنى بالانحلال.

(٣) شخوص لحظة : امتداد بصر

(٤) ازدلاف الربوة : تقربها من النظر وظهورها له ، لأنه يقع عليها قبل المنخفضات

(٥) الداجى : المظلم ، والغسق : الليل ، «وساج» أى : ساكن لا حركة فيه

(٦) أصل التفيؤ للظل ينسخ نور الشمس ، ولما كان الظلام بالليل عاما كالضياء بالنهار عبر عن نسخ نور القمر له بالتفيؤ تشبيها له بنسخ الظل لضياء الشمس ، وهو من لطيف التشبيه ودقيقه

(٧) الأفول : المغيب ، والكرور : الرجوع بالشروق

(٨) قوله «قبل كل غاية» متعلق «بيخفى» على معنى السلب ، أى : لا يخفى عليه شىء من ذلك قبل كل غاية ، أى : يعلمه قبل الخ. ويصح أن يكون خبرا عن ضمير الذات العلية ، أى : هو موجود قبل كل غاية الخ

(٩) نحله القول ـ كمنعه ـ نسبه إليه ، أى : عما ينسبه المحددون لذاته تعالى

٨٢

المساكن (١) وتمكّن الأماكن : فالحدّ لخلقه مضروب ، وإلى غيره منسوب ، لم يخلق الأشياء ، من أصول أزليّة ، ولا [من] أوائل أبديّة ، بل خلق ما خلق فأقام حدّه ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته (٢) ليس لشىء منه امتناع (٣) ، ولا له بطاعة شىء انتفاع. علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين وعلمه بما فى السّموات العلى كعلمه بما فى الأرض السّفلى.

منها : أيّها المخلوق السّوىّ (٤) ، والمنشأ المرعىّ فى ظلمات الأرحام ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من طين (٥) ووضعت فى قرار مكين

__________________

والمعرفون لها من صفات الأقدار ، والأقدار : جمع قدر ـ بسكون الدال ـ وهو حال الشىء من الطول والعرض والعمق ومن الصغر والكبر ، ونهايات الأقطار : هى نهايات الأبعاد الثلاثة المتقدمة

(١) التأثل : التأصل

(٢) لم تكن مواد متساوية فى القدم والأزلية وكان له فيها أثر التصوير والتشكيل فقط ، بل خلق المادة بجوهرها ، وأقام لها حدها ، أى : ما به امتازت عن سائر الموجودات ، وصور منها ما صور من أنواع النباتات والحيوانات وغيرها

(٣) أى : لا يمتنع عليه ممكن : إذا قال للشىء كن فيكون

(٤) مستوى الخلقة : لا نقص فيه ، وفى التنزيل : «فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا» والمنشأ : المبتدع ، اسم مفعول من «أنشأ» أى : خلق وأوجد والمرعى : المحفوظ المحوط

(٥) السلالة من الشىء : ما أنسل منه ، والنطفة مزيج ينسل من البدن المؤلف من عناصر الأرض المخلوطة بالمواد السائلة ، فالمزاج البدنى أشبه بالمزاج الطينى ، بل هو بنوع إتقان وإحكام ، والقرار المكين : محل الجنين من الرحم ، والقدر المعلوم :

٨٣

إلى قدر معلوم ، وأجل مقسوم ، تمور فى بطن أمّك جنينا : لا تحير دعاء ، ولا تسمع نداء ، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدى أمّك؟ وعرّفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟ هيهات! إنّ من يعجز عن صفات ذى الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز ، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد.

١٥٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما اجتمع الناس عليه وشكوا مما نقموه (١) على عثمان ، وسالوه

مخاطبته عنهم واستعتابه لهم ، فدخل عليه فقال : ـ

إنّ النّاس ورائى ، وقد استسفرونى بينك وبينهم (٢) وو اللّه ما أدرى ما أقول لك؟! ما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلّك على شىء لا تعرفه. إنّك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شىء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشىء فنبلغكه ، وقد رأيت كما رأينا ، وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول اللّه كما صحبنا ، وما ابن أبى قحافة ولا

__________________

مبلغ المدة المحددة للحمل و «تمور» تتحرك و «لا تحير» من قولهم «ما أحار جوابا» أى : مارد ، أى : لا تسطيع دعاء

(١) نقم عليه فهو ناقم ، أى : عتب عليه. ونقم الأمر : كرهه ، وبابهما ضرب. وقال الكسائى : نقم من باب فهم لغة فيهما. وهذه اللفظة تجىء متعدية ولازمة كما رأيت. والاستعتاب : طلب العتبى ، وهى الرضا

(٢) استسفرونى : جعلونى سفيرا ووسيطا بينك وبينهم

٨٤

ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك ، وأنت أقرب إلى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، وشيجة رحم منهما (١) ، وقد نلت من صهره ما لم ينالا ، فاللّه اللّه فى نفسك فإنّك ، واللّه ، ما تبصّر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإن الطّرق لواضحة ، وإنّ أعلام الدّين لقائمة. فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدى وهدى ، فأقام سنّة معلومة ، وأمات بدعة مجهولة ، وإنّ السّنن لنيّرة لها أعلام ، وإنّ البدع لظاهرة لها أعلام. وإنّ شرّ النّاس عند اللّه إمام جائر ضلّ وضلّ به ، فأمات سنّة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة ، وإنّى سمعت رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، يقول : «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، يلقى فى نار جهنّم فيدور فيها كما تدور الرّحى : ثمّ يرتبط فى قعرها (٢)» وإنّى أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول ، فإنّه كان يقال : يقتل فى هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ، ويثبّت الفتن فيها ، فلا يبصرون

__________________

(١) الوشيجة : اشتباك القرابة ، وإنما كان عثمان أقرب وشيجة لرسول اللّه لأنه من بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف رابع أجداد النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم. أما أبو بكر فهو من بنى تيم بن مرة سابع أجداد النبى. وعمر من بنى عدى ابن كعب ثامن أجداده صلّى اللّه عليه وآله وسلم. وأما أفضليته عليهما فى الصهر فلأنه تزوج ببنتى رسول اللّه : رقية ، وأم كلثوم ، توفيت الأولى فزوجه النبى بالثانية ولذا سمى ذا النورين. وغاية ما نال الخليفتان أن النبى تزوج من بنتيهما

(٢) فارتبط : أى شده وحبسه ، وروى «يرتبك»

٨٥

الحقّ من الباطل ، يموجون فيها موجا ، ويمرجون فيها مرجا (١) ، فلا تكوننّ لمروان سيّقة (٢) يسوقك حيث شاء بعد جلال السّنّ ، وتقضّى العمر!! فقال له عثمان رضى اللّه عنه : كلم الناس فى أن يؤجلونى حتى أخرج إليهم من مظالمهم ، فقال عليه السلام :

ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه.

١٦٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس

ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات (٣) ، وساكن وذى حركات ، فأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به ، ومسلّمة له ، ونعقت فى أسماعنا دلائله على وحدانيّته (٤) وما ذرأ

__________________

(١) المرج : الخلط والتلبيس ، وفعله «مرج» مثل فرح. ومنه قولهم الهرج والمرج ، وإسكان راء المرج للازدواج

(٢) السيقة ـ ككيسة ـ : ما استاقه العدو من الدواب ، وكان مروان كاتبا ومشيرا لعثمان ، وقوله «بعد جلال السن» يجوز أن يكون «جلال» مفتوح الجيم بمعنى العظمة ويجوز أن يكون مضموم الجيم بمعنى العظيم والجليل ، صفة مشبهة مثل شجاع وطوال وإضافته حينئذ من باب إضافة الصفة للموصوف

(٣) الموات ـ بفتح الميم ـ ما لا حياة فيه. ويقولون «أرض موات» يريدون أنها قفر لا يسكنها أحد. والساكن ههنا مثل الأرض والجبال ، وإن كانت لهما حركة و «ذو الحركات» مثل النار والماء الجارى والحيوان

(٤) نعقت : من «نعق بغنمه» كمنع ـ صاح والمراد أن دلائل ربوبيته ، وآيات

٨٦

من مختلف صور الأطيار (١) الّتى أسكنها أخاديد الأرض ، وخروق فجاجها وراسى أعلامها ، من ذات أجنحة مختلفة ، وهيئات متباينة ، مصرّفة فى زمام التّسخير (٢) ومرفرفة بأجنحتها فى مخارق الجوّ المنفسح والفضاء المنفرج ، كوّنها بعد أن لم تكن فى عجائب صور ظاهرة ، وركّبها فى حقاق مفاصل محتجبة (٣) ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو فى السّماء خفوفا ، وجعله يدفّ دفيفا ، ونسقها على اختلافها فى الأصابيغ (٤) بلطيف قدرته ، ودقيق صنعته ، فمنها مغموس فى قالب (٥) لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، ومنها مغموس فى لون صبغ

__________________

وحدانيته لظهورها ووضوحها بمنزلة من يصيح بنا بصوت مسموع ينادينا إلى الايمان

(١) ذرأ : خلق. والأخاديد : جمع أخدود ، وهو الشق فى الأرض ، والخروق : جمع خرق ، وهى الأرض الواسعة تتخرق فيها الرياح. والفجاج : جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، وقد يستعمل فى متسع الفلا ، والأعلام : جمع علم ـ بالتحريك ـ وهو الجبل

(٢) يصرفها اللّه فى أطوار مختلفة : تنتقل فيها بزمام تسخيره واستخدامه لها فيما خلقها لأجله ، ومرفرفة : من «رفرف الطائر» إذا بسط جناحيه ، والمخارق : جمع مخرق ، وهى الفلاة ، وشبه الجو بالفلاة للسعة فيهما

(٣) الحقاق ـ ككتاب ـ : جمع حق ـ بالضم ـ وهو مجتمع المفصلين ، واحتجاب المفاصل : استتارها باللحم والجلد ، والعبالة : الضخامة ، ويسمو : يرتفع ، وخفوفا : سرعة وخفة ، ودفيف الطائر : مروره فويق الأرض ، أو أن يحرك جناحيه ورجلاه فى الأرض ، ويدف : بكسر الدال

(٤) نسقها : رتبها ، والأصابيغ : جمع أصباغ ـ بفتح الهمز ـ جمع صبغ ـ بالكسر ـ وهو اللون ، أو ما يصبغ به

(٥) القالب : مثال تفرغ فيه الجواهر لتأتى على قدره ، والطائر ذو اللون الواحد كأنما أفرغ فى قالب من اللون. وقوله «قد طوق» أى : إن جميع بدنه بلون واحد ،

٨٧

قد طوّق بخلاف ما صبغ به

ومن أعجبها خلقا الطّاووس الّذى أقامه فى أحكم تعديل ، ونضّد ألوانه فى أحسن تنضيد (١) ، بجناح أشرج قصبه ، وذنب أطال مسحبه ، إذا درج إلى الأنثى نثره من طيّه ، وسما به مظلاّ على رأسه (٢) كأنّه قلع دارىّ عنجه نوتيّه يختال بألوانه ، ويميس بزيفانه ، يفضى كإفضاء الدّيكة (٣) ويؤرّ بملاقحة أرّ الفحول المغتلمة فى الضّراب! أحيلك من ذلك على معاينة (٤) لا كمن يحيل على ضعيف إسناده ، ولو كان كزعم من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها

__________________

إلا لون عنقه فانه يخالف سائر بدنه ، كأنه طوق صيغ لحليته (١) التنضيد : النظم والترتيب. وقوله «أشرج قصبه» أى : داخل بين آحاده ونظمها على اختلافها فى الطول والقصر ، وإذا مشى إلى أنثاه ليسافدها نشر ذلك الذنب بعد طيه

(٢) «سما به» أى : ارتفع به ، أى : رفعه ، مطلا على رأسه ، أى : مشرفا عليه كأنه يظله ، والقلع ـ بكسر فسكون ـ : شراع السفينة. وعنجه : جذبه فرفعه ، من «عنجت البعير» إذا جذبته بخطامه فرددته على رجليه ، ويختال : يعجب. ويميس : يتبختر بزيفان ذنبه ، وأصل الزيفان : التبختر أيضا ، ويريد به هنا حركة ذنب الطاووس يمينا وشمالا

(٣) «يفضى» أى : يسافد أنثاه كما تسافد الديكة : جمع ديك. ويؤر ـ كيشد ـ أى : يأتى أنثاه بملاقحة ، أى : مسافدة يفرز فيها مادة تناسلية من عضو التناسل يدفعها فى رحم قابل ، والمغتلمة ـ على صيغة اسم الفاعل ـ من «اغتلم» إذا غلب للشهوة ، والضراب : لقاح الفحل لأنثاه

(٤) أى : إن لم يكفك الخبر فأنى أحولك عنه إلى المعاينة فاذهب وعاين تجد صدق ما أقول

٨٨

مدامعه (١) فتقف فى ضفّتى جفونه ، وإنّ أنثاه تطعم ذلك ثمّ تبيض لا من لقاح فحل سوى الدّمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب (٢) من مطاعمة الغراب تخال قصبه مدارى من فضّة (٣) وما أنبت عليه من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان وفلذ الزّبرجد ، فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت : جنى جنى من زهرة كلّ ربيع (٤) ، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشىّ الحلل (٥) أو مونق عصب اليمن ، وإن شاكلته بالحلىّ فهو كفصوص ذات ألوان قد

__________________

(١) «تسفحها» أى : ترسلها أوعية الدمع ، وضفة الجفن : استعارة من ضفتى النهر ، بمعنى جانبيه ، وتطعم ذلك ـ كتعلم ـ أى : تذوقه كأنها تترشفه ، ولقاح الفحل ـ كسحاب ـ ماء التناسل يلقح به الأنثى ، والمنبجس : النابع من العين

(٢) «لما كان ذلك بأعجب» أى : لو صح ذلك الزعم فى الطاووس لكان له نظير فيما زعموا فى مطاعمة الغراب وتلقيحه لأنثاه حيث قالوا : إن مطاعمة الغراب بانتقال جزء من الماء المستقر فى قانصة الذكر إلى الأنثى تتناوله من منقاره ، والمماثلة بين الزعمين فى عدم الصحة. ومنشأ الزعم فى الغراب إخفاؤه لسفاده حتى ضرب المثل بقولهم «أخفى من سفاد الغراب».

(٣) القصب : جمع قصبة ، وهى الريش ، والمدارى : جمع مدرى ـ بكسر الميم ـ قال ابن الأثير : المدرى والمدراة مصنوع من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط ، وأطول منه ، يسرح به الشعر المتلبد ، ويستعمله من لا مشط له. والدارات : هالات القمر ، والعقيان : الذهب الخالص ، أو ما ينمو منه فى معدنه. وفلذ ـ كعنب ـ جمع فلذة ، بمعنى القطعة ، و «ما أنبت» معطوف على قصبه ، والتشبيه فى بياض القصب والصفرة والخضرة فى الريش

(٤) «جنى» أى : مجتنى جمع كل زهر ، لأنه جمع كل لون

(٥) الموشى : المنقوش المنمنم ، على صيغة اسم الفاعل ، والعصب ـ بالفتح ـ ضرب من البرود منقوش

٨٩

نطّقت باللّجين المكلّل (١) ، يمشى مشى المرح المختال (٢) ، ويتصفّح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله (٣) ، وأصابيغ وشاحه.

فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا يكاد [بصوت] يبين عن استغاثته. ويشهد بصادق توجّعه ، لأنّ قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسيّة (٤) وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصيّة خفيّة (٥) ، وله فى موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة (٦) ومخرج عنقه كالإبريق ، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة

__________________

(١) جعل اللجين ـ وهو الفضة ـ منطقة لها ، والمكلل : المزين بالجواهر ، فكما تمنطقت الفصوص باللجين كذلك زين اللجين بها

(٢) المرح ـ ككتف ـ المعجب ، والمختال : الزاهى بحسنه

(٣) السربال : اللباس مطلقا ، أو هو الدرع خاصة. والوشاح : نظامان من لؤلؤ وجوهر يخالف بينهما ويعطف أحدهما على الآخر ، بعد عقد طرفه به ، حتى يكونا كدائرتين إحداهما داخل الأخرى : كل جزء من الواحدة يقابل جزءا من قرينتها ، ثم تلبسه المرأة على هيئة حمالة السيف ، وأديم عريض مرصع بالجواهر يلبس كذلك ما بين العاتق والكشح

(٤) زقا يزقو : صاح ، وأعول فهو معول : رفع صوته بالبكاء «يكاد يبين» أى : يفصح عن استغاثته من كراهة قوائمه ، أى : ساقيه. حمش : جمع أحمش ، أى : دقيق والديك الخلاسى ـ بكسر الخاء ـ : هو المتولد بين دجاجتين هندية وفارسية

(٥) وقد نجمت : نبتت ، «من ظنبوب ساقه» أى : من حرف عظمه الأسفل «صيصية» وهى ههنا : شوكة تكون فى رجل الديك ، وهى فى الأصل شوكة الحائك التى يسوى بها سدى الثوب ولحمته ، قال الشاعر كوقع الصياصى فى النسيج الممدد ثم استعملت فى المعنى الذى ذكر أولا على التشبيه ، والظنبوب ـ بالضم ، كعرقوب ـ عظم حرف الساق

(٦) العرف : الشعر المرتفع من عنقه على رأسه ، والقنزعة ـ بضم القاف

٩٠

اليمانيّة (١) ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال (٢) ، وكأنّه ملفّع بمعجر أسحم (٣) إلاّ أنّه يخيل لكثرة مائه وشدّة بريقه أنّ الخضرة النّاضرة ممتزجة به. ومع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم فى لون الأقحوان (٤) أبيض يقق ، فهو ببياضه فى سواد ما هنالك يأتلق (٥) وقلّ صبغ إلاّ وقد أخذ منه بقسط (٦) وعلاه بكثرة صقاله [وبريقه] وبصيص ديباجه ورونقه (٧) فهو كالأزاهير المبثوثة (٨) لم تربّها أمطار ربيع (٩) ولا شموس قيظ ، وقد ينحسر من ريشه (١٠)

__________________

والزاى بينهما سكون ـ : الخصلة من الشعر تترك على رأس الصبى ، وموشاة : منقوشة

(١) مغرزها : الموضع الذى غرز فيه العنق منتهيا إلى مكان البطن ، لونه كلون الوسمة ، وهى ـ بكسر السين وقد تسكن ـ نبات يخضب به ، أو هى نبات النيل الذى منه صبغ النيلج المعروف بالنيلة

(٢) الصقال : الجلاء

(٣) المعجر ـ كمنبر ـ : ثوب تعتجر به المرأة فتضع طرفه على رأسها ثم تمر الطرف الآخر من تحت ذقنها حتى ترده إلى الطرف الأول ، فيغطى رأسها وعنقها وعاتقها وبعض صدرها ، وهو معنى التلفع ههنا ، والأسحم : الأسود.

(٤) الأقحوان : البابونج الأبيض ، واليقق ـ محركا وبزنة كتف ـ : شديد البياض

(٥) يلمع

(٦) نصيب.

(٧) «علاه» أى : فاق اللون الذى أخذ نصيبا منه بكثرة جلائه ، والبصيص : اللمعان. والرونق : الحسن

(٨) الأزاهير : جمع أزهار ، وهو جمع زهرة

(٩) لم تربها : فعل من التربية ، والقيظ : الحر

(١٠) «ينحسر» هو من «حسره» أى : كشفه. أى : وقد يتكشف من ريشه. «وتترى» أى : شيئا بعد شىء وبينهما فترة غالبا. ومن الناس من يذكر أن

٩١

ويعرى من لباسه فيسقط تترى ، وينبت تباعا ، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان (١) ثمّ يتلاحق ناميا حتّى يعود كهيئته قبل سقوطه : لا يخالف سالف ألوانه ، ولا يقع لون فى غير مكانه. وإذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة ورديّة ، وتارة خضرة زبرجديّة ، وأحيانا صفرة عسجديّة (٢) فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن (٣) أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين وأقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه ، والألسنة أن تصفه؟! فسبحان الّذى بهر العقول (٤) عن وصف خلق جلاّة للعيون فأدركته محدودا مكوّنا ، ومؤلّفا ملوّنا ، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته وقعد بها عن تأدية نعته. وسبحان من أدمج قوائم الذّرّة (٥) والهمجة إلى ما فوقها من خلق الحيتان والفيلة ، ووأى على نفسه

__________________

«تترى» للمواصلة والالتصاق. وأصل «تترى» وترى بالواو من الوتر ، ومن الناس من يجعل ألفه للتأنيث فلا ينون ، ومنهم من يجعل الألف للالحاق فينون وقوله «تباعا» أى : لا فترات بينهما ، وكذلك حال الريش الساقط : يسقط شيئا بعد شىء وينبت جميعا

(١) ينحت : يسقط وينقشر ، وانحتات الأوراق : تناثرها

(٢) ذهبية

(٣) عمائق : جمع عميقة ، وهى البعيدة الغور ، والقرائح : جمع قريحة ، وهى الخاطر والذهن

(٤) بهر العقول : قهرها فردها ، وجلاه كجلاه ـ الأول بالتخفيف ، والثانى مضعف الحشو ـ : كشفه

(٥) الذرة : واحدة الذر ، وهو صغار النمل ، والهمجة ـ محركة ـ واحدة الهمج وهو ذباب صغير يسقط على وجوه الغنم. وقوائمها : أرجلها ، وأدمجها : أودعها فيها

٩٢

أن لا يضطرب شبح ممّا أولج فيه الرّوح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته (١)

منها فى صفة الجنة :

فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لغرفت نفسك (٢) من بدائع ما أخرج إلى الدّنيا من شهواتها ولذّاتها وزخارف مناظرها ، ولذهلت بالفكر فى اصطفاق أشجار (٣) غيّبت عروقها فى كثبان المسك على سواحل أنهارها ، وفى تعليق كبائس اللّؤلؤ الرّطب فى عساليجها وأفنانها (٤) وطلوع تلك الثّمار مختلفة فى غلف أكمامها (٥) تحنى من غير تكلف (٦) فتأتى على منية

__________________

(١) وأى : وعد ، والحمام : الموت

(٢) «رميت ببصر قلبك» أى : أفكرت وتأملت تأمل مستبصر ، وتقول : غرفت الأبل ـ كفرح ـ إذا اشتكت بطونها من أكل الغرف ـ كفلس وجمل ـ وهو الثمام ، أى لكرهت بدائع الدنيا كما تكره الابل الثمام ، أو لتألمت نفسك من النظر والتناول لما تراه من بدائع الدنيا كما تألم بطون الابل من أكل الثمام ، ويروى «عزفت نفسك» بعين مهملة فزاى ـ ومعناه انصرفت أو ملت ، وبابه جلس

(٣) اصطفاق الأشجار : تضارب أوراقها بالنسيم بحيث يسمع لها صوت ، والكثبان : جمع كثيب ، وهو التل

(٤) العساليج : جمع عسلاج وعسلوج ـ بزنة قرطاس وعصفور ـ وهو ما اخضر ولان من قضبان الشجر ، أو أول ما ينبت. والأفنان : جمع فنن ـ بالتحريك ـ وهو الغصن.

(٥) غلف ـ بضمتين ـ جمع غلاف ـ بزنة كتاب ـ وهو الغشاء يغشى به الشىء كغلاف القارورة والسيف ، والأكمام جمع كم ـ بكسر الكاف ـ وهو وعاء الطلع وغطاء النور

(٦) تحنى : من «حناه حنوا» إذا عطفه

٩٣

مجتنيها ، ويطاف على نزّالها فى أفنية قصورها بالأعسال المصفّقة (١) والخمور المروّقة ، قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتّى حلّوا دار القرار (٢) وأمنوا نقلة الأسفار. فلو شغلت قلبك أيّها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة (٣) لزهقت نفسك شوقا إليها ، ولتحمّلت من مجلسى هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها ، جعلنا اللّه وإيّاكم ممّن سعى [بقلبه] إلى منازل الأبرار برحمته.

قال الشريف : تفسير بعض ما جاء فيها من الغريب «يؤر بملاقحة» الأر : كناية عن النكاح ، يقال : أر المرأة يؤرها ، أى :

نكحها ، وقوله «كأنه قلع دارى عنجه نوتيه» : القلع : شراع السفينة ، «ودارى» منسوب إلى دارين ، وهى بلدة على البحر يجلب منها الطيب. و «عنجه» أى : عطفه ، يقال : عنجت الناقة ـ كنصرت ـ أعنجها عنجا ، إذا عطفتها والنوتى : الملاح ، وقوله «ضفتى جفونه» أراد جانبى جفونه ، والضفتان : الجانبان ، وقوله «وفلذ الزبرجد» الفلذ : جمع فلذة ، وهى القطعة.

وقوله «كبائس اللؤلؤ الرطب» الكباسة. العذق (٤). والعساليج : الغصون واحدها عسلوج

__________________

(١) المصفاة ، ويقولون «صفق فلان الشراب» أى : حوله من إناء إلى آخر ليصفو ويذهب ما فيه من كدر. ومن كلامهم «لك عندى ود مصفق ، ونصح مروق»

(٢) قوله «قوم ـ الخ» أى : نزال الجنة قوم شأنهم ما ذكره

(٣) المونقة : المعجبة

(٤) العذق ـ بزنة حمل ـ للنخلة كالعنقود للعنب : مجموع الشماريخ وما قامت عليه من العرجون

٩٤

١٦١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ليتأسّ صغيركم بكبيركم (١) وليرأف كبيركم بصغيركم ، ولا تكونوا كجفاة الجاهليّة : لا فى الدّين يتفقّهون ، ولا عن اللّه يعقلون ، كقيض بيض فى أداح (٢) : يكون كسرها وزرا ، ويخرج حضانها شرّا!!

منها : افترقوا بعد ألفتهم ، وتشتّتوا عن أصلهم : فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه ، على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم لشرّ يوم لبنى أميّة كما تجتمع قزع الخريف (٣) يؤلّف اللّه بينهم ثمّ يجعلهم ركاما كركام السّحاب ، ثمّ يفتح اللّه

__________________

(١) «ليتأس» أى : ليقتد

(٢) القيض : القشرة العليا اليابسة على البيضة ، والأداحى : جمع أدحى ـ كلجى ـ وهو مبيض النعام فى الرمل تدحوه برجلها لتبيض فيه ، فاذا مر مار بالأداحى فرأى فيها بيضا أرقط طن أنه بيض القطا لكثرته ، وإلفه للافاحيص مطلقا يبيض فيها ، فلا يسوغ للمار أن يكسر البيض ، وربما كان فى الحقيقة بيض ثعبان ، فينتج حضان الطبر له شرا ، وكذلك الانسان الجاهل الجافى : صورته الانسانية تمنع من إتلافه ولا ينتج الابقاء عليه إلا شرا ، فانه بجهله يكون أشد ضررا على الناس من الثعبان بسمه

(٣) القزع ـ محركا ـ : القطع المتفرقة من السحاب ، واحدته قزعة ـ بالتحريك ـ والركام : السحاب المتراكم ، والمستثار : موضع انبعاثهم ثائرين ، وسيل الجنتين : وهو الذى سماه اللّه سيل العرم الذى عاقب اللّه به سبأ على ما بطروا نعمته فدمر جناتهم وحول نعيمهم شقاء ، والقارة كالقرارة : ما اطمأن من الأرض ، والأكمة ـ محركة ـ غليظ من الأرض يرتفع عما حواليه ، والسنن : يريد به الجرى ، والطود : الجبل العظيم ، والمقصود الجمع ، والرص : يريد به الارتصاص ،

٩٥

لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين حيث لم تسلم عليه قارّة ، ولم تثبت عليه أكمة ، ولم يردّ سننه رصّ طود ، ولا حداب أرض ، يذعذعهم اللّه فى بطون أوديته (١) ثمّ يسلكهم ينابيع فى الأرض يأخذ بهم من قوم حقوق قوم ، ويمكّن لقوم فى ديار قوم ، وايم اللّه ليذوبنّ ما فى أيديهم بعد العلوّ والتّمكين (٢) كما تذوب الألية على النّار.

أيّها النّاس ، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ ، ولم تهنوا عن توهين الباطل ، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ، ولم يقو من قوى عليكم ، لكنّكم تهتم متاه بنى إسرائيل!! ولعمرى ليضعّفنّ لكم التّيه من بعدى أضعافا (٣) بما خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم ، وقطعتم الأدنى ، ووصلتم الأبعد!! واعلموا أنّكم إن اتّبعتم الدّاعى لكم سلك بكم منهاج الرّسول ، وكفيتم مؤونة الاعتساف ونبذتم

__________________

أى : الانضمام والتلاصق أى : لم يمنع جريه تلاصق الجبال ، والحداب : جمع حدب ـ بالتحريك ـ وهو : ما غلظ من الأرض فى ارتفاع

(١) يذعذعهم : يفرقهم ، وبطون الأودية : كناية عن مسالك الاختفاء ، «ثم يسلكهم ينابيع فى الأرض» أى : إنهم يسرون دعوتهم وينفثونها فى الصدر حتى تثور ثائرتها فى القلوب كما تفور الينابيع من عيونها ، وقد كان ذلك فى قيام الهاشميين على الأمويين فى زمن مروان الحمار

(٢) الضمير فى «أيديهم» لبنى أمية. والألية : الشحمة.

(٣) «ليضعفن لكم التيه». لتزداد لكم الحيرة أضعاف ما هى لكم الآن

٩٦

الثّقل النادح عن الأعناق (١).

١٦٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى أول خلافته

إنّ اللّه تعالى أنزل كتابا هاديا بيّن فيه الخير والشّرّ ، فخذوا نهج الخير تهتدوا ، واصدفوا عن سمت الشّرّ تقصدوا (٢) ، الفرائض الفرائض! أدّوها إلى اللّه تؤدّكم إلى الجنّة. إنّ اللّه حرّم حراما غير مجهول ، وأحلّ حلالا غير مدخول (٣) وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها ، وشدّ بالإخلاص والتّوحيد حقوق المسلمين فى معاقدها (٤) فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلاّ بالحقّ. ولا يحلّ أذى المسلم إلاّ بما يجب ، بادروا أمر العامّة وخاصّة أحدكم وهو الموت (٥) فإنّ النّاس أمامكم ، وإنّ السّاعة تحدوكم من خلفكم. تخفّفوا

__________________

(١) الفادح : من «فدحه الدين» إذا أثقله

(٢) صدف : أعرض ، والسمت : الجهة ، وتقصدوا : تستقيموا

(٣) معيب

(٤) أى : جعل الحقوق مرتبطة بالاخلاص والتوحيد لا تنفك عنه ، ومعاقد الحقوق : مواضعها من الذمم.

(٥) بادره : عاجله ، أى : عاجلوا أمر العامة بالاصلاح لئلا يغلبكم الفساد فتهلكوا ، فاذا انقضى عملكم فى شؤون العامة فبادروا الموت بالعمل الصالح كيلا يأخذكم على غفلة فلا تكونوا منه على أهبة ، وفى تقديم الامام أمر العامة على أمر الخاصة دليل على أن الأول أهم ، ولا يتم الثانى إلا به. وهذا ما تضافرت عليه الأدلة الشرعية وإن غفل عنه الناس فى أزماننا هذه «٧ ـ ن ـ ج ـ ٢»

٩٧

تلحقوا!! فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم. اتّقوا اللّه فى عباده وبلاده فإنّكم مسئولون حتّى عن البقاع والبهائم ، وأطيعوا اللّه ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشّرّ فأعرضوا عنه.

١٦٣ ـ ومن كلام له عليه السّلام

بعد ما بويع بالخلافة ، وقد قال له قوم من الصحابة : لو عاقبت قوما

ممن أجلب على عثمان؟ فقال عليه السلام :

يا إخوتاه ، إنّى لست أجهل ما تعلمون ، ولكن كيف لى بقوّة والقوم المجلبون على حدّ شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم؟ (١) وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم ، (٢) والتفّت إليهم أعرابكم ، (٣) وهم خلالكم (٤) يسومونكم ما شاءوا ، وهل ترون موضعا لقدرة على شىء تريدونه؟ وإنّ هذا الأمر أمر جاهليّة ، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة (٥) ، إنّ النّاس من هذا الأمر ـ إذا حرّك ـ

__________________

(١) الألف فى «يا إخوتاه» بدل من ياء المتكلم ، والهاء للسكت. و «المجلبون» من «أجلب عليه» أى : أعان عليه. وتقول «أجلبه» أى : أعانه. وقوله «على حد شوكتهم» معناه أن سورتهم لم تنكسر

(٢) «عبدان» ـ بكسر العين أو ضمها ، والباء ساكنة ـ جمع عبد ، كالعبيد والأعبد والعبدى والعبداء والعبدان ـ الدال مشددة فى الثلاثة الأخيرة ـ

(٣) «التفت إليهم» أى : انضمت ، واختلطت بهم ، وناصرتهم

(٤) «خلالكم» فيما بينكم

(٥) «مادة» أى : عونا ومددا

٩٨

على أمور : فرقة ترى ما ترون ، وفرقة ترى ما لا ترون ، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك. فاصبروا حتّى يهدأ النّاس ، وتقع القلوب مواقعها ، وتوخذ الحقوق مسمحة (١) ، فاهدأوا عنّى ، وانظروا ما ذا يأتيكم به أمرى ، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوّة وتسقط منه وتورث وهنا وذلّة (٢) وسأمسك الأمر ما استمسك ، وإذا لم أجد بدّا فآخر الدّواء الكىّ (٣)

١٦٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة

إنّ اللّه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق وأمر قائم ، لا يهلك عنه إلاّ هالك (٤) ، وإنّ المبتدعات المشبّهات هنّ المهلكات (٥) ، إلاّ ما حفظ اللّه منها ، وإنّ فى سلطان اللّه عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوّمة ولا مستكره بها (٦). واللّه لتفعلنّ أو لينقلنّ [اللّه] عنكم سلطان الإسلام ، ثمّ لا ينقله

__________________

(١) مسمحة : اسم فاعل من «أسمح» إذا جاد وكرم ، كأنها ـ لتيسرها عند القدرة ـ تجود عليه بنفسها فيأخذها

(٢) ضعضعه : هدمه حتى الأرض ، والمنة ـ بالضم ـ : القدرة ، والوهن : الضعف

(٣) الكى : كناية عن القتل

(٤) إلا من كان فى طبعه عوج جبلى ، فحتم عليه الشقاء الأبدى

(٥) البدع الملبسة ثوب الدين المشبهة به هى المهلكة إلا أن يحفظ اللّه منها بالتوبة ويروى «المبدعات المشبهات» بفتح دال «المبدعات» وكسر باء «المشبهات»

(٦) ملومة : من «لومه» مبالغة فى «لامه» أى : غير ملوم عليها بالنفاق

٩٩

إليكم أبدا حتّى يأرز الأمر إلى غيركم (١) إنّ هؤلاء قد تمالأوا على سخطة إمارتى (٢) ، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم ، فإنّهم إن تمّموا على فيالة هذا الرّأى (٣) انقطع نظام المسلمين ، وإنّما طلبوا هذه الدّنيا حسدا لمن أفاءها اللّه عليه ، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها ، ولكم علينا العمل بكتاب اللّه تعالى وسيرة رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والقيام بحقّه ، والنّعش لسنّته (٤).

١٦٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

كلم به بعض العرب ، وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم ، فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه على الحق ، ثم قال له : بايع! فقال : إنى رسول قوم ولا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم ، فقال عليه السلام : أرأيت لو أنّ الّذين وراءك بعثوك رائدا تبتغى لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ، ما كنت

__________________

(١) يأرز : يرجع

(٢) تمالأوا : اتفقوا ، وتعاونوا. والسخطة ـ بالفتح ـ الكراهة ، وعدم الرضا والمراد من هؤلاء من انقض عليه من طلحة والزبير رضى اللّه عنهما والمنضمين إليهما

(٣) فيالة الرأى ـ بالفتح ـ : ضعفه ، و «أفاءها عليه» : رجعها إليه

(٤) النعش : مصدر «نعشه» إذا رفعه

١٠٠