نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

المضيئة نورا تهتدى به فى مذاهبها ، وتصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها ، وردعها تلألؤ ضيائها عن المضىّ فى سبحات إشراقها (١) وأكنّها فى مكامنها عن الذّهاب فى بلج ائتلاقها (٢) فهى مسدلة الجفون بالنّهار على أحداقها ، وجاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به فى التماس أرزاقها ، فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته (٣) ، ولا تمتنع من المضىّ فيه لغسق دجنّته ، فإذا ألقت الشّمس قناعها ، وبدت أوضاح نهارها (٤) ، ودخل من إشراق نورها على الضّباب فى وجارها (٥) أطبقت الأجفان على مآقيها (٦) وتبلّغت بما اكتسبت من فىء ظلم لياليها (٧). فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا ومعاشا ، والنّهار سكنا وقرارا ، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطّيران كأنّها شظايا الآذان (٨)

__________________

(١) سبحات النور : درجاته وأطواره

(٢) الاتلاق : اللمعان ، والبلج ـ بالتحريك ـ الضوء ووضوحه

(٣) أسدف الليل : أظلم ، والدجنة : الظلمة ، وغسق الدجنة : شدتها

(٤) أوضاح : جمع وضح ـ بالتحريك ـ وهو هنا بياض الصبح

(٥) الضباب ـ ككتاب ـ جمع ضب ، وهو الحيوان المعروف ، والوجار ككتاب ـ الجحر.

(٦) المآقى : جمع مأق ، وهو طرف العين مما يلى الأنف

(٧) تبلغت : اكتفت أو اقتاتت

(٨) شظايا : جمع شظية ـ كعطية ـ وهى الفلقة من الشىء ، أى : كأنها مؤلفة من شقق الآذان

٦١

غير ذوات ريش ولا قصب (١) ، إلاّ أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما (٢) لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا (٣) ولم يغلظا فيثقلا ، تطير وولدها لاصق بها ، لاجىء إليها : يقع إذا وقعت ، ويرتفع إذا ارتفعت ، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه ، ويحمله للنّهوض جناحه ، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه ، فسبحان البارى لكلّ شىء على غير مثال خلا من غيره (٤)

١٥٤١ ـ ومن كلام له عليه السّلام

خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على اللّه فليفعل! فإن أطعتمونى فإنّى حاملكم ـ إن شاء اللّه ـ على سبيل الجنّة ، وإن كان ذا مشقّة شديدة ، ومذاقة مريرة.

__________________

(١) القصبة : عمود الريشة ، أو أسفلها المتصل بالجناح ، وقد يكون مجردا عن الزغب فى بعض الحيوانات مما ليس بطائر كبعض أنواع القنفذ أو الفيران له قصب محدود الأطراف يرمى به صائده كما يرمى النابل ، ويعرف بالفار الأمريكى.

(٢) أى : رسوما ظاهرة

(٣) «لما يرقا» : عبر بلما إشارة إلى أنهما ما رقا فى الماضى ولا هما رقيقان ، فهو نفى مستمر إلى وقت الكلام فى أى زمن كان

(٤) خلا : تقدم عن سواه فحاذاه ، وهذه الخطبة مما اتخذها بعض الناس دليلا على أن الكتاب مصنوع صنعه الشريف الرضى ، لدقة الوصف ، واستكماله ، وانظر المقدمة التى قدمنا بها الكتاب

٦٢

وأمّا فلانة فأدركها رأى النّساء ، وضغن غلا فى صدرها كمرجل القين (١) ولو دعيت لتنال من غيرى ما أتت إلىّ لم تفعل. ولها بعد حرمتها الأولى ، والحساب على اللّه.

منه : سبيل أبلج المنهاج ، أنور السّراج ، فبالايمان يستدلّ على الصّالحات ، وبالصّالحات يستدلّ على الإيمان ، وبالإيمان يعمر العلم ، وبالعلم يرهب الموت ، وبالموت تختم الدّنيا ، وبالدّنيا تحرز الآخرة (٢) وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة (٣) ، مرقلين فى مضمارها إلى الغاية القصوى.

ومنه : قد شخصوا من مستقرّ (٤) الأجداث ، وصاروا إلى مصائر الغايات ، لكلّ دار أهلها : لا يستبدلون بها ، ولا ينقلون عنها ، وإنّ الأمر

__________________

(١) المرجل : القدر ، والقين ـ بالفتح ـ : الحداد ، أى : أن ضغينتها وحقدها كانا دائمى الغليان كقدر الحداد فانه يغلى ما دام يصنع ، ولو دعاها أحد لتصيب من غيرى غرضا من الاساءة والعدوان مثل ما أتت إلى ـ أى : فعلت بى ـ لم تفعل ، لأن حقدها كان على خاصة

(٢) وبالدنيا الخ : أى إنه إذا رهب الموت وهو ختام الدنيا كانت الرهبة سببا فى حرص الانسان على الفائدة من حياته فلا يضيع عمره بالباطل وبهذا يحرز الآخرة

(٣) المقصر ـ كمعقد ـ : المجلس ، أى : لا مستقر لهم دون القيامة فهم ذاهبون إليها مرقلين : أى مسرعين فى ميدان هى غايته ومنتهاه

(٤) شخصوا : ذهبوا ، والأجداث : القبور ، والمصائر : الغايات ، جمع مصير ، وهو ما يصير إليه الانسان من شقاء وسعادة. والكلام فى القيامة

٦٣

بالمعروف والنّهى عن المنكر لخلقان من خلق اللّه سبحانه ، وإنّهما لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق ، وعليكم بكتاب اللّه فإنّه الحبل المتين ، والنّور المبين ، والشّفاء النّافع ، والرّىّ النّاقع (١) ، والعصمة للمتمسّك ، والنّجاة للمتعلّق لا يعوجّ فيقام ، ولا يزيع فيستعتب (٢) ، ولا تخلقه كثرة الرّدّ وولوج السّمع (٣). من قال به صدق ، ومن عمل به سبق ،

وقام إليه رجل وقال : أخبرنا عن الفتنة ، وهل سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم؟ فقال عليه السّلام : لمّا أنزل اللّه سبحانه قوله : «الم أَحَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَهُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ» علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول اللّه ، ما هذه الفتنة الّتى أخبرك اللّه بها (٤)؟ فقال : «يا علىّ ، انّ

__________________

(١) نقع العطش : إذا أزاله

(٢) «يستعتب» من «عتب» إذا انصرف ، والسين والتاء للطلب ، أو زائدتان أى : لا يميل عن الحق فيصرف أو يطلب منه الانصراف عنه

(٣) أخلقه : ألبسه ثوبا خلقا ، أى : باليا ، وكثرة الرد : كثرة ترديده على الألسنة بالقراءة ، أى : إن القرآن دائما فى أثوابه الجدد ، رائق لنظر العقل ، وإن كثرت تلاوته ، لانطباقه على الأحوال المختلفة فى الأزمنة المتعددة ، وليس كسائر الكلام : كلما تكرر ابتذل ، وملته النفس

(٤) «فقلت : يا رسول اللّه ـ الخ» أشكل على الشارحين العطف بالفاء مع كون الآية مكية والسؤال كان بعد أحد وواقعته كانت بعد الهجرة ، وصعب عليهم التوفيق بين كلام الامام وبين ما أجمع عليه المفسرون من كون العنكبوت مكية

٦٤

أمّتى سيفتنون من بعدى» فقلت : يا رسول اللّه ، أوليس [قد] قلت لى يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عنّى الشّهادة (١) فشقّ ذلك علىّ فقلت لى «أبشر ، فإنّ الشّهادة من ورائك»؟ فقال لى «إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذا (٢)؟» فقلت : يا رسول اللّه ، ليس هذا من مواطن الصّبر ، ولكن من مواطن البشرى والشّكر (٣) ، وقال «يا علىّ ، إنّ القوم سيفتنون بعدى بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة والأهواء السّاهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ ، والسّحت بالهديّة ، والرّبا بالبيع» فقلت : يا رسول اللّه ، بأىّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال : «بمنزلة فتنة»

__________________

بجميع آياتها ، والذى أراه أن علمه بكون الفتنة لا تنزل والنبى بين أظهرهم كان عند نزول الآية فى مكة ، ثم شغله عن استخبار الغيب اشتداد المشركين على الموحدين واهتمام هؤلاء برد كيد أولئك ، ثم بعد ما خفت الوطأة وصفا الوقت لاستكمال العلم سأل هذا السؤال ، فالفاء لترتب السؤال على العلم ، والعلم كان ممتدا إلى يوم السؤال فهى لتعقيب قوله لعلمه ، والتعقيب يصدق بأن يكون ما بعد الفاء غير منقطع عما قبلها ، وإن امتد زمن ما قبلها سنين. تقول : تزوج فولد له ، وحملت فولدت

(١) حيزت : حازها اللّه عنى فلم أنلها

(٢) على أية حالة يكون صبرك إذا هيئت لك الشهادة؟!

(٣) قوله «من مواطن البشرى» هذا شأن أهل الحق : يستبشرون بالموت فى سبيل الحق بأنه الحياة الأبدية «٥ ـ ن ـ ج ـ ٢»

٦٥

١٥٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه الّذى جعل الحمد مفتاحا لذكره ، وسببا للمزيد من فضله ، ودليلا على آلائه وعظمته

عباد اللّه ، إنّ الدّهر يجرى بالباقين كجريه بالماضين ، لا يعود ما قد ولّى منه ، ولا يبقى سرمدا ما فيه. آخر فعاله كأوّله ، متسابقة أموره (١) متظاهرة أعلامه ، فكأنّكم بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشوله ، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر فى الظّلمات ، وارتبك فى الهلكات ، ومدّت به شياطينه فى طغيانه ، وزيّنت له سيّىء أعماله ، فالجنّة غاية السّابقين ، والنّار غاية المفرّطين.

اعلموا عباد اللّه ، أنّ التّقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل :

__________________

(١) تتسابق أمور الدهر ـ أى : مصائبه ـ كأن كلا منها يطلب النزول قبل الآخر ، فالسابق منها مهلك ، والمتأخر لاحق له فى مثل أثره ، والأعلام : هى الرايات ، كنى بها عن الجيوش وتظاهرها وتعاونها ، والساعة : القيامة ، وحدوها : سوقها وحثها لأهل الدنيا على المسير للوصول إليها. وزاجر الأبل : سائقها. والشول ـ بالفتح جمع شائلة ، على غير قياس ، وهى من الأبل : ما خف لبنها ، وارتفع ضرعها ، ومضى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر أو ثمانية ، فأما الشائل ـ بغير هاء ـ فهى الناقة تشول بذنبها للقاح ـ أى : ترفعه ـ ولا لبن لها أصلا ، وجمعها شول ، مثل راكع وركع ، وقال أبو النجم كأن فى أذنابهن الشول والزاجر : الذى يزجر الأبل ويسوقها. وتقول : حدوث بابلى حدوا وحداء ، إذا سقتها وغنيت لها ، ويقال للشمال : حدواء ، لأنها تحدو السحاب ـ أى : تسوقه ـ والمعنى : إن سائق الشول يعسف بها ولا يتقى سوقها ولا يدارك كما يسوق العشار :

٦٦

لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه (١). ألا وبالتّقوى تقطع حمة الخطايا (٢) وباليقين تدرك الغاية القصوى.

عباد اللّه ، اللّه اللّه فى أعزّ الأنفس عليكم ، وأحبّها إليكم ، فإنّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ وأنار طرقه. فشقوة لازمة ، أو سعادة دائمة ، فتزوّدوا فى أيّام الفناء (٣) لأيّام البقاء ، قد دللتم على الزّاد ، وأمرتم بالظّعن (٤) ، وحثثتم على المسير ، فإنّما أنتم كركب وقوف ، لا تدرون متى تؤمرون بالمسير.

ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة؟ وما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه ، وتبقى عليه تبعته وحسابه؟! (٥)

عباد اللّه ، إنّه ليس لما وعد اللّه من الخير مترك ، ولا فيما نهى عنه من الشّرّ مرغب! عباد اللّه ، احذروا يوما تفحص فيه الأعمال ، ويكثر فيه الزّلزال ، وتشيب فيه الأطفال.

__________________

(١) «لا يحرز» أى : لا يحفظ ، و «لجأ إليه» اعتصم به

(٢) الحمة ـ بضم ففتح ـ فى الأصل : إبرة الزنبور والعقرب ونحوها تلسع بها ، والمراد هنا سطوة الخطايا على النفس

(٣) يريد أيام الدنيا

(٤) المراد بالظعن المأمور به ههنا : السير إلى السعادة بالأعمال الصالحة ، وهذا ما حثنا اللّه عليه. والمراد بالمسير الذى لا ندرى متى نؤمر به : هو مفارقة الدنيا. والأمر فى الأول خطابى شرعى ، وفى الثانى فعلى تكوينى

(٥) تبعته : ما يتعلق به من حق الغير فيه

٦٧

اعلموا ، عباد اللّه ، أنّ عليكم رصدا من أنفسكم (١) ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة [ليل] داج ، ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج (٢) ، وإنّ غدا من اليوم قريب.

يذهب اليوم بما فيه ، ويجىء الغد لاحقا به ، فكأنّ كلّ امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته (٣) ، ومخطّ حفرته ، فيا له من بيت وحدة ، ومنزل وحشة ، ومفرد غربة! وكأنّ الصّيحة قد أتتكم ، والسّاعة قد غشيتكم وبرزتم لفصل القضاء ، قد زاحت عنكم الأباطيل (٤) ، واضمحلّت عنكم العلل واستحقّت بكم الحقائق ، وصدرت بكم الأمور مصادرها ، فاتّعظوا بالعبر ، واعتبروا بالغير ، وانتفعوا بالنّذر.

__________________

(١) الرصد : جمع راصد ، مثل حرس فى جمع حارس ، يريد به رقيب الذمة وواعظ السر الروحى الذى لا يغفل عن التنبيه ولا يخطىء فى الأنذار والتحذير ، حتى لا تكون من مخطىء خطيئة إلا ويناديه من سره مناد يعنفه على ما ارتكب ، ويعيبه على ما اقترف ، ويبين له وجه الحق فيما فعل ، ولا تعارضه علل الهوى ، ولا يخفف مرارة نصحه تلاعب الأوهام ، وأى حجاب يحجب الانسان عن سره؟؟!!

(٢) الرتاج ـ ككتاب ـ : الباب العظيم إذا كان محكم الغلق

(٣) منزل وحدته : هو القبر

(٤) زاحت : بعدت ، وانكشفت

٦٨

١٥٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الأمم (١) وانتقاض من المبرم ، فجاءهم بتصديق الّذى بين يديه ، والنّور المقتدى به : ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم عنه ، ألا إنّ فيه علم ما يأتى ، والحديث عن الماضى ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم

منها : فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر (٢) إلاّ وأدخله الظّلمة ترحة ، وأولجوا فيه نقمة ، فيومئذ لا يبقى لكم فى السّماء [عاذر] ، ولا فى الأرض ناصر ، أصفيتم بالأمر غير أهله (٣) ، وأوردتموه غير مورده ، وسينتقم اللّه ممّن ظلم : مأكلا بمأكل ، ومشربا بمشرب : من مطاعم العلقم ، ومشارب الصّبر والمقر (٤) ، ولباس شعار الخوف ، ودثار السّيف (٥) ، وإنّما هم

__________________

(١) الهجعة : المرة من الهجوع ، وهو النوم ليلا ، نوم الغفلة فى ظلمات الجهالة. وانتقاض الأحكام الألهية التى أبرمت على ألسنة الأنبياء السابقين ، نقضها الناس بمخالفتها

(٢) الاشارة بذلك لحالة الاختلاف ومخالفة القرآن بالتأويل ، والترحة : ضد الفرحة

(٣) أصفيته بالشىء : آثرته ، وخصصته

(٤) الصبر ـ ككتف ـ : عصارة شجر مر ، والمقر ـ على وزانه ـ السم

(٥) الدثار ـ ككتاب ـ : من اللباس أعلاه فوق الملابس ، والسيف يكون أشبه بالدثار ، إذا عمت إباحة الدم بأحكام الهوى فلا يكون لبدن ولا لعضو منه انفلات عنه

٦٩

مطايا الخطيئات ، وزوامل الآثام (١) ، فأقسم ثمّ أقسم لتنخمنّها أميّة من بعدى كما تلفظ النّخامة (٢) ، ثمّ لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان.

١٥٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

ولقد أحسنت جواركم ، وأحطت بجهدى من ورائكم (٣) ، وأعتقتكم من ربق الذّلّ (٤) ، وحلق الضّيم (٥) ، شكرا منّى للبرّ القليل! وإطراقا عمّا أدركه البصر ، وشهد [ه] البدن من المنكر الكثير

١٥٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أمره قضاء وحكمة ، ورضاه أمان ورحمة ، يقضى بعلم ، ويعفو بحلم. اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطى ، وعلى ما تعافى وتبتلى ، حمدا يكون أرضى الحمد لك ، وأحبّ الحمد إليك ، وأفضل الحمد عندك ، حمدا يملأ ما خلقت ، ويبلغ ما أردت ، حمدا لا يحجب عنك ، ولا يقصر دونك ، حمدا لا ينقطع عدده ،

__________________

(١) الزوامل : جمع زاملة ، وهى ما يحمل عليها الطعام من الأبل ونحوها

(٢) نخم ـ كفرح ـ أخرج النخامة من صدره فألقاها ، والنخامة ـ بالضم ـ ما يدفعه الصدر أو الدماغ من المواد المخاطية

(٣) «أحطت بجهدى من ورائكم» أى : حميتكم وكنت لكم ردءا. والجهد بالضم ـ الطاقة

(٤) الربق : جمع ربقة ـ مثل كسرة وكسر ـ والربقة : عروة من حبل تربق به البهم

(٥) حلق ـ محركة ـ جمع حلقة ، ويجوز كسر الحاء فى الجمع ، ويجوز «حلاق» أيضا

٧٠

ولا يفنى مدده ، فلسنا نعلم كنه عظمتك ، إلاّ أنّا نعلم أنّك حىّ قيّوم لا تأخذك سنة ولا نوم ، لم ينته إليك نظر ، ولم يدركك بصر ، أدركت الأبصار ، وأحصيت الأعمار ، وأخذت بالنّواصى والأقدام ، وما الّذى نرى من خلقك ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك ، وما تغيّب عنّا منه ، وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه ، أعظم فمن فرّغ قلبه ، وأعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، و [كيف] ذرأت خلقك (١) ، وكيف علّقت فى الهواء سمواتك ، وكيف مددت على مور الماء أرضك (٢) ، رجع طرفه حسيرا (٣) ، وعقله مبهورا ، وسمعه والها ، وفكره حائرا.

منها : يدّعى بزعمه أنّه يرجو اللّه! كذب والعظيم! ما باله لا يتبيّن رجاؤه فى عمله ، فكلّ من رجا عرف رجاؤه فى عمله ، إلاّ رجاء اللّه فإنّه مدخول (٤) ، وكلّ خوف محقّق ، إلاّ خوف اللّه فإنّه معلول : يرجو اللّه فى

__________________

(١) ذرأت : خلقت

(٢) المور ـ بالفتح ـ الموج

(٣) حسيرا : متعبا كليلا ، والمبهور : المغلوب ، والمنقطع نفسه من الأعياء ، والواله من الوله وهو ذهاب الشعور ، وحائرا ـ بالمهملة ـ أى : مضطربا. ويروى «جائرا» بالموحدة ـ أى : عادلا عن الصواب

(٤) المدخول : المغشوش غير الخالص ، أو هو المعيب الناقص لا يترتب عليه

٧١

الكبير ، ويرجو العباد فى الصّغير ، فيعطى العبد ما لا يعطى الرّبّ ، فما بال اللّه ، جلّ ثناؤه ، يقصّر به عمّا يصنع لعباده؟! أتخاف أن تكون فى رجائك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا ، وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطى ربّه ، فجعل خوفه من العباد نقدا ، وخوفه من خالقهم ضمارا ووعدا (١) وكذلك من عظمت الدّنيا فى عينه وكبر موقعها فى قلبه (٢) آثرها على اللّه فانقطع إليها وصار عبدا لها

__________________

عمل ، والخوف المحقق : هو الثابت الذى يبعث على البعد عن المخوف والهرب منه وهو فى جانب اللّه ما يمنع عن إتيان نواهيه ويحمل على إتيان أوامره : هربا من عقابه وخشية من جلاله ، والخوف المعلول : هو ما لم يثبت فى النفس ، ولم يخالط القلب ، وإنما هو عارض فى الخيال : يزيله أدنى الشواغل ، ويغلب عليه أقل الرغائب ، فهو يرد على الوهم ، ثم يفارقه ، ثم يعود إليه ، شأن الأوهام التى لا قرار لها ، فهو معلول : من عله يعله إذا شربه مرة بعد أخرى ، ومراد الامام أن الراجى لعبد من العبيد يظهر رجاؤه فى سعيه واهتمامه بشأن من رجاه وموافقته على أهوائه ، وكذلك الخائف من أمير أو سلطان يرى أثر خوفه فى تهيبه والامتناع من كل ما يحرك غضبه بل ما يتوهم فيه أنه غير حسن عنده ، لكنهم فى رجاء اللّه وخوفه يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم مع أنهم يرجون اللّه فى سعادة الدارين ، ويخافونه فى شقاء الأبد ، فيعطون للعبيد ما لا يعطون للّه

(١) الضمار ـ ككتاب ـ من الوعود والديون ما كان مسوفا به غير مرجو الوفاء قال الراعى : ـ

حمدن مزاره ، وأصبن منه

عطاء لم يكن عدة ضمارا

(٢) يقال : كبر ـ بضم الباء ـ أى : عظم ، فهو كبير وكبار ـ بزنة شجاع ـ فاذا أفرط فى العظم قيل كبار ـ بتشديد الباء ـ فأما كبر ـ بكسر الباء ـ فمعناه أسن ،

٧٢

وقد كان فى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، كاف لك فى الأسوة (١) ودليل [لك] على ذمّ الدّنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها (٢) ، إذ قبضت عنه أطرافها ، ووطّئت لغيره أكنافها (٣) وفطم عن رضاعها ، وزوى عن زخارفها ، وإن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، إذ يقول : «رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» واللّه ما سأله إلاّ خبزا يأكله ، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذّب لحمه (٤) وإن شئت ثلّثت بداود ، صلّى اللّه عليه وسلّم ، صاحب المزامير ، وقارئ أهل الجنّة ، فلقد كان يعمل سفائف الخوض بيده (٥) ويقول لجلسائه : أيّكم يكفينى بيعها؟! ويأكل قرص الشّعير من ثمنها ، وإن شئت قلت فى عيسى ابن مريم ، عليه السّلام ، فلقد كان يتوسّد

__________________

والمصدر منهما الكبر كعنب

(١) الأسوة : القدوة

(٢) المخازى : جمع مخزاة ، وهى الأمر يستحى من ذكره لقبحه ، والمساوى : العيوب ، جمع مساءة ، وتقول : ساءه يسوءه. سوءا ومساءة ومسائية

(٣) الأكناف : الجوانب ، و «زوى» أى : قبض

(٤) الصفاق ـ ككتاب ـ هو الجلد الأسفل تحت الجلد الذى عليه الشعر ، أو هو ما بين الجلد والمصران ، أو جلد البطن كله. وشفيفه : رقيقه الذى يشف عما وراءه والتشذب : التفرق وانهضام اللحم فتحلل الأجزاء وتفرقها

(٥) السفائف : جمع سفيفة ، وهى وصف من «سف الخوص» إذا نسجه ، أى : منسوجات الخوص

٧٣

الحجر ويلبس الخشن ، [ويأكل الجشب] وكان إدامه الجوع ، وسراجه باللّيل القمر ، وظلاله فى الشّتاء مشارق الأرض ومغاربها (١) ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ولا مال يلفته ، ولا طمع يذلّه ، دابّته رجلاه ، وخادمه يداه.

فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر (٢) صلّى اللّه عليه وآله ، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى ، وعزاء لمن تعزّى ، وأحبّ العباد إلى اللّه المتأسّى بنبيّه ، والمقتصّ (٣) لأثره : قضم الدّنيا قضما (٤) ولم يعرها طرفا ، أهضم أهل الدّنيا كشحا (٥) وأخمصهم من الدّنيا بطنا ، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه ، وحقر شيئا فحقره ، وصغّر شيئا فصغّره ، ولو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه ورسوله ، وتعظيمنا ما صغّر اللّه ورسوله ، لكفى به شقاقا للّه ، ومحادّة عن أمر اللّه (٦) ولقد كان ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ،

__________________

(١) ظلاله : جمع ظل ، بمعنى الكن والمأوى. ومن كان كنه المشرق والمغرب فلا كن له

(٢) «تأس» أى : اقتد

(٣) المقتص لأثره : المتتبع له ، ومنه قوله تعالى : «وَقٰالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ»

(٤) القضم : الأكل بأطراف الأسنان ، كأنه لم يتناول منها إلا على اطراف أسنانه لم يملأ منها فمه ، أو بمعنى أكل اليابس

(٥) «أهضم» من «الهضم» وهو خمص البطن ، أى : خلوها وانطباقها من الجوع ، والكشح : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلفى ، وأخمصهم : أخلاهم

(٦) المحادة : المخالفة فى عناد

٧٤

يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله (١) ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العارى ، ويردف خلفه ، ويكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول : يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيّبيه عنّى ، فإنّى إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها (٢) فأعرض عن الدّنيا بقلبه ، وأمات ذكرها من نفسه ، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتّخذ منها رياشا (٣) ، ولا يعتقدها قرارا ، ولا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النّفس ، وأشخصها عن القلب (٤) وغيّبها عن البصر ، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه ، وأن يذكر عنده.

ولقد كان فى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ما يدلّك على مساوى الدّنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصّته (٥) وزويت عنه زخارفها مع عظيم

__________________

(١) خصف النعل : خرزها. والحمار العارى : ما ليس عليه برذعة ولا إكاف ، وأردف خلفه : أركب معه شخصا آخر على حمار واحد أو جمل أو فرس أو نحوها وجعله خلفه

(٢) فى هذا دليل على أن الرسم على الورق والأثواب ونحوها لا يمنع استعماله ، وإنما يتجافى عنه بالنظر تزهدا وتورعا

(٣) الرياش : اللباس الفاخر

(٤) أشخصها : أبعدها

(٥) خاصته : اسم فاعل فى معنى المصدر ، أى : مع خصوصيته وفضله عند ربه وعظيم الزلفة : منزلته العليا من القرب إلى اللّه ، و «زوى الدنيا عنه» قبضها وأبعدها

٧٥

زلفته. فلينظر ناظر بعقله أكرم اللّه محمّدا بذلك أم أهانه؟! فإن قال : «أهانه» فقد كذب وأتى بالافك العظيم ، وإن قال : «أكرمه» فليعلم أنّ اللّه [قد] أهان غيره حيث بسط الدّنيا له ، وزواها عن أقرب النّاس منه ، فتأسّى متأسّ بنبيّه (١) واقتصّ أثره ، وولج مولجه ، وإلاّ فلا يأمن الهلكة ، فإنّ اللّه جعل محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، علما للسّاعة (٢) ومبشّرا بالجنّة ، ومنذرا بالعقوبة : خرج من الدّنيا خميصا (٣) وورد الآخرة سليما ، لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله ، وأجاب داعى ربّه ، فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتّبعه ، وقائدا نطأ عقبه (٤) واللّه لقد رقعت مدرعتى هذه حتّى استحييت من راقعها (٥) ولقد قال لى قائل : ألا تنبذها عنك؟ فقلت : اغرب عنّى (٦) «فعند الصّباح يحمد القوم السّرى»

__________________

(١) فتأسى : خبر يريد به الطلب ، أى : فليقتد مقتد بنبيه

(٢) العلم ـ بالتحريك ـ العلامة ، أى : إن بعثته دليل على قرب الساعة ، حيث لا نبى بعده

(٣) «خميصا» أى : خالى البطن ، كناية عن عدم التمتع بالدنيا

(٤) العقب ـ بفتح فكسر ـ مؤخر القدم ، ووطء العقب : مبالغة فى الاتباع والسلوك على طريقه : نقفوه خطوة خطوة ، حتى كاننا نطأ مؤخر قدمه

(٥) المدرعة ـ بالكسر ـ ثوب من صوف

(٦) «اغرب عنى» اذهب وابعد ، وقوله «عند الصباح ـ الخ» هذا مثل معناه إذا أصبح النائمون وقد رأوا السارين واصلين إلى مقاصدهم حمدوا سراهم ، وندموا

٧٦

١٥٩ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

بعثه بالنّور المضىء ، والبرهان الجلىّ ، والمنهاج البادى (١) والكتاب الهادى :

أسرته خير أسرة (٢) وشجرته خير شجرة : أغصانها معتدلة ، وثمارها متهدّلة (٣) مولده بمكّة ، وهجرته بطيبة (٤) علا بها ذكره ، وامتدّ بها صوته. أرسله بحجّة كافية ، وموعظة شافية ، ودعوة متلافية (٥) أظهر به الشّرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبيّن به الأحكام المفصولة (٦) ، فمن يتّبع غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته ، وتنفصم عروته ، وتعظم كبوته (٧) ، ويكن مآبه إلى الحزن الطّويل ، والعذاب الوبيل.

__________________

على نوم أنفسهم ، أو إذا أصبح السارون ـ وقد وصلوا إلى ما ساروا إليه ـ حمدوا سراهم وإن كان شاقا ، حيث أبلغهم إلى ما قصدوا ، والسرى ـ بضم ففتح السير ليلا

(١) أى : الظاهر

(٢) الأسرة ـ كغرفة ـ رهط الرجل الأدنون.

(٣) متدلية ، دانية للاقتطاف ، واعتدال الأغصان كناية عن عدم الاختلاف وتهدل الثمار كناية عن سهولة اجتناء العلم منها

(٤) المدينة المنورة

(٥) من «تلافاه» : تداركه بالاصلاح قبل أن يهلكه الفساد ، فدعوة النبى تلافت أمور الناس قبل هلاكهم

(٦) المفصولة : التى فصلها اللّه ، أى : قضى بها على عباده

(٧) الكبوة : السقطة ، وهى مصدر «كبا الفرس» إذا عثر فوقع على الأرض

٧٧

وأتوكّل على اللّه توكّل الإنابة إليه ، وأسترشده السّبيل المودّية إلى جنّته ، القاصدة إلى محلّ رغبته (١). أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه وطاعته ، فإنّها النّجاة غدا ، والمنجاة أبدا ، رهّب فأبلغ ، ورغب فأسبغ (٢) ووصف لكم الدّنيا وانقطاعها وزوالها وانتقالها ، فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها.

أقرب دار من سخط اللّه ، وأبعدها من رضوان اللّه! فغضّوا عنكم عباد اللّه غمومها وأشغالها لما أيقنتم به من فراقها وتصرّف حالها ، فاحذروها حذر الشّفيق النّاصح (٣) والمجدّ الكادح ، واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم : قد تزايلت أوصالهم (٤) وزالت أبصارهم وأسماعهم ، وذهب شرفهم وعزّهم ، وانقطع سرورهم ونعيمهم ، فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها ، وبصحبة الأزواج مفارقتها ، لا يتفاخرون ، ولا يتناسلون ، ولا يتزاورون ، ولا

__________________

والمآب : المرجع ، مصدر ميمى من «آب يؤوب» إذا رجع وعاد. والوبيل : ذو الوبال ، وهو الهلاك

(١) الانابة : مصدر «أناب ينيب» أى : رجع. والسبيل : الطريق ، يذكر ويؤنث ، وقوله «القاصدة» صفة ثانية للطريق ، ومعناها فى الأصل ضد الجائرة ، وأراد منها ههنا المؤدية والمفضية ولذلك عداها بالى

(٢) «أستبغ» أى : أحاط بجميع وجوه الترغيب

(٣) الشفيق : الخائف ، والناصح : الخالص ، والمجد : المجتهد ، والكادح : المبالغ فى سعيه.

(٤) تزايلت : تفرقت ، والأوصال : المفاصل ، أو مجتمع العظام ، وتفرقها : كناية عن تبددهم وفنائهم

٧٨

يتجاورون. فاحذروا عباد اللّه حذر الغالب لنفسه ، المانع لشهوته ، النّاظر بعقله ، فإنّ الأمر واضح ، والعلم قائم ، والطّريق جدد ، والسّبيل قصد (١)

١٥٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال :

يا أخا بنى أسد ، إنّك لقلق الوضين (٢) ترسل فى غير سدد! ولك بعد ذمامة الصّهر وحقّ المسألة ، وقد استعلمت فاعلم : أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ـ ونحن الأعلون نسبا ، والأشدّون برسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وسلّم ، نوطا (٣) ـ فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس

__________________

(١) الجدد ـ بالتحريك ـ : المستوى المسلوك ، والقصد : القويم

(٢) الوضين : بطان يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج ، فاذا قلق واضطرب اضطرب الرحل فكثر تململ الجمل وقل ثباته فى سيره ، والارسال : الاطلاق والاهمال ، والسدد ـ محركا ـ : الاستقامة ، أى : تطلق لسانك بالكلام فى غير موضعه كحركة الجمل المضطرب فى مشيته ، والذمامة : الحماية والكفاية ، ومثله الذمام ـ بكسر الذال فيهما ـ ويروى «ولك بعد ماتة الصهر» وهو اسم فاعل من «مت إليه يمت» والمعنى واحد ، والصهر : الصلة بين أقارب الزوجة وأقارب الزوج ، وإنما كان للأسدى حماية الصهر لأن زينب بنت جحش زوجة رسول اللّه كانت أسدية. وليس الصهر أن عليا رضى اللّه عنه قد تزوج من بنى أسد ، كما زعم بعض شارحى كلامه

(٣) النوط ـ بالفتح ـ : التعلق ، والأثرة : الاختصاص بالشىء دون مستحقه والمراد بمن سخت نفوسهم عن الأمر أهل البيت

٧٩

آخرين ، والحكم اللّه والمعود إليه يوم القيامة.

ودع عنك نهبا صيح فى حجراته (١) وهلمّ الخطب فى ابن أبى سفيان (٢)

فلقد أضحكنى الدّهر بعد إبكائه ، ولا غرو واللّه فيا له خطبا يستفرغ العجب ويكثر الأود ، حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه ، وسدّ فوّاره من

__________________

(١) البيت لامرىء القيس وتتمته وهات حديثا ما حديث الرواحل قاله عند ما كان جارا لخالد بن سدوس ، فأغار عليه بنو جديلة فذهبوا بأهله ، فشكا لمجيره خالد ، فقال له : أعطنى رواحلك ألحق بها القوم فأرد إبلك وأهلك ، فأعطاه ، وأدرك خالد القوم فقال لهم : ردوا ما أخذتم من جارى ، فقالوا : ما هو لك بجار ، فقال : واللّه إنه جارى وهذه رواحله ، فقالوا : نعم ، ورجعوا إليه ونزلوا عنهن وذهب بهن. والنهب ـ بالفتح ـ : الغنيمة ، و «صيح» أى : صاحوا للغارة «فى حجراته» جمع حجرة ـ بفتح الحاء ـ : وهى الناحية ، ووجه التمثيل ظاهر

(٢) هلم : اذكر ، و «هلم» لفظ يستعمل لازما ومتعديا : فاللازم بمعنى تعال ، قال الخليل : أصله «لم» فعل أمر من «لم اللّه شعثه» أى : جمعه ، كأن المتكلم أراد لم نفسك إلينا ـ أى : اجمعها واقرب منا ـ ثم دخلت «ها» التى للتنبيه ، وحذفت ألف «ها» لكثرة الاستعمال ، وجعلت الكلمتان كلمة واحدة : ويستوى فيها الواحد والاثنان والجمع والمؤنث فى لغة أهل الحجاز ، وبلغتهم جاء قوله تعالى : «وَاَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا» فأما أهل نجد فانهم يصلون بها الضمائر فيقولون هلم وهلما وهلموا وهلمى وهلممن. وربما تعدى «هلم» إذا كان لازما باللام فيقال «هلم لك» كما يقال «هيت لك» فأما المتعدى فمعناه «هات» تقول «هلم الكتاب» أى : هاته وقال اللّه تعالى : «قُلْ هَلُمَّ شُهَدٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ» والخطب : عظيم الأمر وعجيبه الذى أدى لقيام من ذكره لمنازعته فى الخلافة ، والأود : الاعوجاج

٨٠