نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

الأوثان إلى عبادته ، (١) ومن طاعة الشّيطان إلى طاعته ، بقرآن قد بيّنه وأحكمه ، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذ أنكروه. فتجلّى لهم سبحانه فى كتابه من غير أن يكونوا رأوه : بما أراهم من قدرته ، وخوّفهم من سطوته ، وكيف محق من محق بالمثلات (٢) واحتصد من احتصد بالنّقمات ،

وإنّه سيأتى عليكم من بعدى زمان ليس فيه شىء أخفى من الحقّ ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على اللّه ورسوله!! وليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه (٣) ، ولا فى البلاد شىء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيّان (٤) وصاحبان مصطحبان فى طريق واحد لا يؤويهما مؤو!! فالكتاب وأهله فى ذلك الزّمان فى النّاس وليسا فيهم ومعهم ، لأنّ الضّلالة

__________________

(١) الأوثان : جمع وثن ، وهو الصنم وزنا ومعنى ، وإنما سمى وثنا لانتصابه وثباته على حال واحدة ، مأخوذ من قولك «وثن فلان بالمكان فهو واثن» إذا ثبت ودام مقامه فيه

(٢) المثلات ـ بفتح فضم ـ العقوبات

(٣) انفق منه : أروج منه

(٤) يطردهما وينفيهما أهل الباطل وأعداء الكتاب

٤١

لا توافق الهدى ، وإن اجتمعا فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة ، كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم! فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه ، ولا يعرفون إلاّ خطّه وزبره (١)!! ومن قبل ما مثّلوا بالصّالحين كلّ مثلة (٢) وسمّوا صدقهم على اللّه فرية (٣) وجعلوا فى الحسنة عقوبة السّيّئة.

وإنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم ، وتغيّب آجالهم ، حتّى نزل بهم الموعود (٤) الّذى تردّ عنه المعذرة ، وترفع عنه التّوبة ، وتحلّ معه القارعة والنّقمة (٥) أيّها النّاس ، إنّه من استنصح اللّه وفّق ، ومن اتّخذ قوله دليلا هدى للّتى

__________________

(١) الزبر ـ بالفتح : الكتب مصدر كتب

(٢) «ما مثلوا» أى : شنعوا ، و «ما» مصدرية ، وقال ابن أبى الحديد «مثلوا بالتخفيف ـ نكلوا بهم ، مثلت يفلان أمثل بالضم مثلا بالفتح وسكون الثاء ، والاسم المثلة بالضم. ومن روى مثلوا ـ بالتشديد ـ أراد جدعوهم بعد قتلهم» اه‍

(٣) فرية ـ بالكسر ـ أى : كذبا ، و «على» فى قوله «على اللّه» لا تتعلق بالمتقدم ـ وهو «صدقهم» ـ وإنما تتعلق بالمتأخر ـ وهو «فرية» ـ أى : سموا صدقهم فرية وكذبا على اللّه ، فان أبيت أن تعلقه بفرية لكونه مصدرا متأخرا وذهبت إلى أن المصدر لا يعمل فى الذى يتقدمه لكونه ضعيف العمل لأنه إنما عمل حملا على الفعل ، قلنا : فليكن العامل فيه فعلا مقدار دل عليه هذا المصدر أو ليكن المصدر دالا على مصدر آخر يقدر متقدما على الحرف ، وهذا كله من الوضوح بحيث لا يزاد فى الدلالة عليه عن هذا المقدار

(٤) الموت الذى لا يقبل فيه عذر ، ولا تفيد بعده توبة

(٥) القارعة : الداهية المهلكة

٤٢

هى أقوم (١) ، فإنّ جار اللّه آمن ، وعدوّ اللّه خائف ، وإنّه لا ينبغى لمن عرف عظمة اللّه أن يتعظّم ، فإنّ رفعة الّذين يعرفون ما عظمته أن يتواضعوا (٢) له ، وسلامة الّذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له. فلا تنفروا من الحقّ نفار الصّحيح من الأجرب ، والبارئ من ذى السّقم (٣) واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتّى تعرفوا الّذى تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذى نقضه ، ولن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الّذى نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله ، فإنّهم عيش العلم ، وموت الجهل : هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم : لا يخالفون الدّين ، ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق ، وصامت ناطق.

__________________

(١) «من استنصح اللّه» أى : من أطاعه وعلم أنه يهديه إلى مصالحه ويرده عن مفاسده ويرشده إلى ما فيه نجاته ويصرفه عما فيه عطبه و «التى هى أقوم» تقديره : هدى للحالة التى اتباعها أقوم مما عداها ، وقال تعالى : «إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»

(٢) «ما» فى قوله «يعرفون ما عظمة اللّه» استفهامية مبتدأ ، والاسم الذى بعدها خبر عنها ، وجملتهما فى محل نصب مفعول للفعل السابق. وقد نص ابن أبى الحديد على أن من الناس من روى هذه الجملة بنصب «عظمة اللّه» وتقديرها أن تجعل «ما» زائدة ، ومثل هذا يقال فى قوله «يعلمون ما قدرته» وقوله «أن يتواضعوا» فالمصدر المنسبك من «أن» والفعل المضارع خبر «إن» فى قوله «فان رفعة ـ الخ»

(٣) البارىء : المعافى من المرض

٤٣

١٤٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

[فى ذكر أهل البصرة]

كلّ واحد منهما يرجو الأمر له ، ويعطفه عليه دون صاحبه : لا يمتّان إلى اللّه بحبل ، ولا يمدّان إليه بسبب (١)!! كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه (٢) وعمّا قليل يكشف قناعه به. واللّه لئن أصابوا الّذى يريدون لينزعنّ هذا نفس هذا وليأتينّ هذا على هذا ، قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون (٣) فقد سنّت لهم السّنن ، وقدّم لهم الخبر ، ولكلّ ضلّة علّة ، ولكلّ ناكث شبهة ، واللّه لا أكون كمستمع اللّدم (٤) يسمع النّاعى ويحضر الباكى ثمّ لا يعتبر.

__________________

(١) ضمير المثنى لطلحة والزبير ، وقوله «لا يمتان» أى : لا يتوسلان ، مثل لا يمدان ، والسبب : الحبل أيضا

(٢) الضب ـ بالفتح ، وبكسر ـ : الحقد

(٣) الذين يجاهدون حسبة للّه

(٤) اللدم : الضرب على الصدر والوجه عند النياحة ، وقال ابن أبى الحديد : «مستمع اللدم : كناية عن الضبع ، فانها تسمع وقع الحجر بباب جحرها من يد الصائد فتنخذل وتكف جوارحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها. يقول : لا أكون مقرا بالضيم واهنا أسمع الناعى المخبر عن قتل عسكر الجمل فلا يكون عندى من التغيير والانكار لذلك إلا أن أسمعه وأحضر الباكين على قتلاهم» اه‍ وقد روى أبو مخنف قال : لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا قال على عليه السّلام لأصحابه : لا يرمين رجل منكم بسهم ولا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى أحدث إليكم ، وحتى يبدأوكم بالقتال وبالقتل ، فرمى أصحاب الجمل عسكر على بالنبل رميا شديدا متتابعا ، فضج إليه أصحابه وقالوا : عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين ، وجىء برجل إليه فقيل له : هذا فلان قد قتل ، فقال : اللهم اشهد ، ثم قال : أعذروا إلى القوم ، وتكرر مجيئهم اليه بالقتلى ، ومقالته

٤٤

١٤٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قبل موته

أيّها النّاس ، كلّ امرىء لاق ما يفرّ منه فى فراره ، والأجل مساق النّفس (١) والهرب منه موافاته. كم أطردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللّه إلاّ إخفاءه. هيهات! علم مخزون ، أمّا وصيّتى فاللّه لا تشركوا به شيئا ، ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين المصباحين ، وخلاكم ذمّ ما لم تشردوا (٢). حمل كلّ امرىء منكم مجهوده (٣) ، وخفّف عن الجهلة ربّ رحيم ، ودين قويم ، وإمام عليم.

أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عبرة لكم ، وغدا مفارقكم ، غفر اللّه لى ولكم.

إن ثبتت الوطأة فى هذه المزلّة فذاك ، وإن تدحض القدم (٤) فإنّا كنّا فى

__________________

هذه تتكرر ، ثم لما ضاق بهم ذرعا قام فاستعد للقتال ولبس درع النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم ورفع إلى محمد ابنه رايته السوداء ، وتعرف بالعقاب ، وحمل وحمل معه الناس ، واستحر القتل من الفريقين ، لا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم ، وإنا للّه وإنا إليه راجعون

(١) مساق النفس تسوقها إليه أطوار الحياة حتى توافيه

(٢) برئتم من الذم ما لم تشردوا ـ كتنصروا ـ أى : تنفروا وتميلوا عن الحق

(٣) «حمل كل امرىء ـ الخ» : هذا وما بعده ماض قصد به الأمر

(٤) قوله «إن ثبتت» : يريد بثبات الوطأة معافاته من جراحه ، والمزلة : محل الزلل ، و «دحضت القدم». زلت ، وزلقت ، وبابه منع

٤٥

أفياء أغصان ومهبّ رياح وتحت ظلّ غمام اضمحلّ فى الجوّ متلفّقها وعفا فى الأرض مخطّها (١) ، وإنّما كنت جارا جاوركم بدنى أيّاما وستعقبون منّى جثّة خلاء (٢) ساكنة بعد حراك ، وصامتة بعد نطوق. ليعظكم هدوّى وخفوت أطرافى (٣) وسكون أطرافى ، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع. وداعيكم وداع امرىء مرصد للتّلاقى (٤) ، غدا ترون أيّامى ،

__________________

(١) الأفياء : جمع فيىء ، وهو الظل ينسخ ضوء الشمس عن بعض الأمكنة ، واضمحل : ذهب ، والميم زائدة ، ومنه الضحل وهو الماء القليل. وتقول : اضمحل السحاب ، أى : تقشع وذهب ، ولغة الكلابيين امضحل ـ بتقديم الميم ـ والمتلفق : المنضم بعضه على بعض ، وعفا : اندرس وذهب ، ومخطها : مكان ما خطت فى الأرض وضمير «متلفقها» للغمام ، وضمير «مخطها» للرياح ، يريد أنه كان فى حال شأنها الزوال فزالت ، وما هو بالعجيب

(٢) خالية من الروح

(٣) الخفوت : السكون ، وتقول : خفت خفوتا ، مثل سكن سكونا فى الوزن والمعنى. وتقول : خفت خفاتا ـ بضم خاء المصدر ـ إذا مات فجأة ، وأطرافه فى الأول : عيناه ، وفى الثانى : يداه ورأسه ورجلاه ، وقد روى ابن أبى الحديد الأول بالقاف المثناة مكسور الهمزة على أنه مصدر أطرق ، والثانى بالفاء الموحدة وفتح الهمزة أوله على أنه جمع طرف ، قال : «وإطراقه : إرخاؤه عينه ينظر إلى الأرض لضعفه عن رفع جفنه. وسكون أطرافه : هى يداه ورجلاه ورأسه» اه‍

(٤) «وداعيكم» أى : وداعى لكم ، وقد وردت الرواية به أيضا ، والاستعمال على أن «وداعى لكم» أو «وداعى إياكم» أكثر من «وداعيكم» لكون العامل اسما ، وإن كان مستعملا لانكارة فيه ، ومثله قول الشاعر ـ :

لئن كان حبك لى كاذبا

لقد كان حبيك حقا يقينا

و «مرصد» أى منتظر :

٤٦

ويكشف لكم عن سرائرى ، وتعرفوننى بعد خلوّ مكانى وقيام غيرى مقامى.

١٤٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى الملاحم

وأخذوا يمينا وشمالا : طعنا فى مسالك الغىّ ، وتركا لمذاهب الرّشد ، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد و [لا] تستبطئوا ما يجىء به الغد ، فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه ، وما أقرب اليوم من تباشير غد (١) يا قوم ، هذا إبّان ورود كلّ موعد (٢) ، ودنوّ من طلعة ما لا تعرفون ، ألا وإنّ من أدركها منّا يسرى فيها بسراج منير ، ويحذو فيها على مثال الصّالحين ، ليحلّ فيها ربقا (٣) ويعتق زقّا ، ويصدع شعبا ، ويشعب صدعا (٤) ، فى سترة عن النّاس ، لا يبصر القائف أثره (٥) ولو تابع نظره ، ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل (٦) ، تجلى بالتّنزيل أبصارهم (٧) ، [ويرمى بالتّفسير فى مسامعهم] ويغبقون

__________________

(١) تباشيره : أوائله

(٢) إبان ـ بكسر فتشديد ـ : وقت ، والدنو : القرب

(٣) يحذو : يقتفى ، ويتبع. والربق ـ بكسر فسكون ـ : حبل فيه عدة عرى كل عروة ربقة ـ بكسر الراء ـ تشد فيه البهم

(٤) يفرق جمع الضلال ، ويجمع متفرق الحق

(٥) القائف : الذى يعرف الآثار فيتبعها

(٦) «يشحذن» من «شحذ السكين» أى : حددها. والقين : الحداد ، والنصل حديدة السيف والسكين ونحوها ، بريد ليحرضن قوم فى هذه الملاحم على الحرب وقتل أهل الضلال ، وليشحذن عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف ويرقق حده

(٧) تجلى بالتنزيل : يعودون إلى القرآن وتدبره فينكشف الغطاء عن أبصارهم

٤٧

كأس الحكمة بعد الصّبوح (١)

منها : وطال الامد بهم (٢) ليستكملوا الخزى ، ويستوجبوا الغير (٣) ، حتّى إذا اخلولق الأجل (٤) ، واستراح قوم إلى الفتن ، وأشالوا عن لقاح حربهم (٥) ، لم يمنّوا على اللّه بالصّبر (٦) ، ولم يستعظموا بذل أنفسهم فى الحقّ ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم (٧) ، ودانوا لربّهم بأمر واعظهم حتّى إذا قبض اللّه رسوله ، صلّى اللّه عليه وآله ، رجع قوم على الأعقاب ،

__________________

فينهضون إلى الحق كما نهض أهل القرآن عند نزوله

(١) يغبقون ـ مبنى للمجهول ـ يسقون كأس الحكمة بالمساء بعد ما شربوه بالصباح ، والصبوح : ما يشرب وقت الصباح ، والمراد أنها تفيض عليهم الحكم الالهية فى حركاتهم وسكونهم وسرهم وإعلانهم

(٢) قوله وطال الخ : انتقال لحكاية أهل الجاهلية وطول الأمد فيها ليزيد اللّه لهم فى العقوبة

(٣) الغير ـ بكسر ففتح ـ أحداث الدعر ونوائبه

(٤) من قولهم «اخلولق السحاب» استوى وصار خليقا أن يمطر ، أى : يشرف الأجل على الانقضاء

(٥) «أشالت الناقة ذنبها» رفعته ، أى : رفعوا أيديهم بسيوفهم ليلقحوا حروبهم على غيرهم ، أى : يسعروها عليهم ، وفى بعض النسخ «اشتالوا» تقول : شال فلان كذا ، أى : رفعه ، و «اشتال الشىء» : ارتفع. و «لقاح حربهم» هو بفتح اللام مصدر قولك «لقحت الناقة»

(٦) الضمير فيه للمؤمنين المفهومين من سياق الخطاب ، والجملة جواب إذا

(٧) من ألطف أنواع التمثيل ، يريد أشهروا عقيدتهم داعين إليها غيرهم

٤٨

وغالتهم السّبل ، واتّكلوا على الولائج (١) ، ووصلوا غير الرّحم ، وهجروا السّبب الّذى أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه (٢) فبنوه فى غير موضعه : معادن كلّ خطيئة ، وأبواب كلّ ضارب فى غمرة (٣) ، قد ماروا فى الحيرة (٤) ، وذهلوا فى السّكرة على سنّة من آل فرعون من منقطع إلى الدّنيا راكن ، أو مفارق [للدّين] مباين.

١٤٧ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وأستعينه على مداحر الشّيطان ومزاجره (٥) ، والاعتصام من حبائله ومخاتله. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، ونجيبه وصفوته ، لا يوازى فضله ، ولا يجبر فقده ، أضاءت به البلاد بعد الضّلالة المظلمة ، والجهالة الغالبة ، والجفوة الجافية ، والنّاس يستحلّون الحريم (٦) ، ويستذلّون الحكيم ، يحيون على

__________________

(١) دخائل المكر والخديعة ، وأصل الولائج جمع وليجة ، وهى البطانة يتخذها الانسان لنفسه ، وقال اللّه تعالى : «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَلاٰ رَسُولِهِ وَلاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً»

(٢) الرص : مصدر قولك «رصصت الشىء» أى : ألصقت بعضه ببعض ، ومنه قوله تعالى : «كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ» وتقول : تراص القوم فى الصف إذا تلاصقوا

(٣) الغمرة : الشدة

(٤) ماروا : تحركوا واضطربوا ، جعلهم كأنهم يسبحون فى الحيرة كما يسبح الانسان فى الماء

(٥) الدحر ـ بالفتح ـ : الطرد ، والمداحر والمزاجر : ما بها يدحر ويزجر ، وهى الأعمال الفاضلة ، ومخاتل الشيطان : مكائده

(٦) «لا يوازى فضله» : لا يساوى ، و «لا يجبر فقده» لا يسد أحد مسده بعده

٤٩

فترة (١) ويموتون على كفرة ، ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت فاتّقوا سكرات النّعمة ، واحذروا بوائق النّقمة (٢) ، وتثبّتوا فى قتام العشوة (٣) واعوجاج الفتنة ، عند طلوع جنينها ، وظهور كمينها ، وانتصاب قطبها ، ومدار رجاها : تبدو فى مدارج خفيّة ، وتؤول إلى فظاعة جليّة ، شبابها كشباب الغلام (٤) وآثارها كآثار السّلام. تتوارثها الظّلمة بالعهود ، أوّلهم قائد لآخرهم ، وآخرهم مقتد بأوّلهم ، يتنافسون فى دنيا دنيّة ، ويتكالبون على جيفة مريحة (٥) وعن قليل يتبرّأ التّابع من المتبوع ، والقائد من المقود

__________________

«٤ ـ ن ـ ج ـ ٢» و «الجفوة الجافية» : غلظ الطبع وبلادة الفهم. «ويستذلون الحكيم» يضيمون العقلاء الداعين إلى الخير لامتلاك الشرور أنفسهم ، وغلبة الهوى عليهم

(١) خلو من الشرائع الألهية : لا يعرفون منها شيئا لعدم الرسول المبلغ ، ثم يغيرون ويبدلون ، ويتخذون الأصنام آلهة ، والأهواء شريعة ، فيموتون كفارا

(٢) البوائق : جمع بائقة ، وهى الداهية ، والفائلة. وفى الحديث «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» أى : غائلته وشره. وتقول : باقته الداهية ، أى : أصابته

(٣) القتام ـ كسحاب ـ : الغبار ، والعشوة ـ بالضم ، ويكسر ويفتح ـ : ركوب الأمر على غير بيان ، و «اعوجاج الفتنة» أخذها فى غير القصد ، وعدولها عن المنهج. والجنين : المستتر. والكمين : مثله

(٤) شاب كل شىء ـ بفتح الشين ـ أوله ، أى : بداياتها فى عنفوان وشدة كشباب الغلام وفتوته ، وقال ابن أبى الحديد : شبابها كشباب الغلام ـ بالكسر ـ مصدر «شب الفرس والغلام يشب ويشب ـ بكسر الشين وضمها ـ شبابا وشبيبا» إذا قمص ولعب ، «وأشببته أنا» أى : هجته اه‍ والسّلام ـ بكسر السين ـ : الحجارة ، وآثارها فى الأبدان : الرض والحطم

(٥) مريحة : منتنة ، تقول : راح اللحم ،

٥٠

فيتزايلون بالبغضاء (١) ويتلاعنون عند اللّقاء ، ثمّ يأتى بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف (٢) ، القاصمة الزّحوف ، فتزيغ قلوب بعد استقامة ، وتضلّ رجال بعد سلامة ، وتختلف الأهواء عند هجومها ، وتلتبس الآراء عند نجومها (٣) من أشرف لها قصمته ، ومن سعى فيها حطمته ، يتكادمون فيها تكادم الحمر فى العانة (٤) قد اضطرب معقود الحبل ، وعمى وجه الأمر ، تغيض فيها الحكمة (٥) ، وتنطق فيها الظّلمة ، وتدقّ أهل البدو بمسحلها (٦) وترضّهم بكلكلها ، يضيع فى غبارها الوحدان (٧) ويهلك فى طريقها الرّكبان ، ترد بمرّ القضاء ، وتحلب عبيط الدّماء (٨) ، وتثلم منار الدّين (٩) وتنقض عقد

__________________

وأراح ، أى : أنتن ، وقال ابن أبى الحديد : ويجوز أن تكون من «أراح البعير» أى : مات اه‍ والأول عندى أحسن وأدق

(١) يتزايلون : يتفارقون

(٢) طالع الفتنة : مقدماتها وأوائلها ، والرجوف : شديدة الرجفان والاضطراب ، أو شديد إرجافها وزلزالها للناس ، والقاصمة : الكاسرة ، والزحوف : الشديدة الزحف

(٣) نجومها : ظهورها ، وهو مصدر «نجم الشر» أى : ظهر

(٤) يتكادمون : يعض بعضهم بعضا كما تكون الحمر فى العانة ، أى : الجماعة منها ، وهى خاصة بحمر الوحش

(٥) تغيض ـ بالغين المعجمة ـ : تنقص وتعور

(٦) المسحل ـ كمنبر ـ : المبرد أو المنحت ، والمراد بالدق التفتيت ، والرض : التهشيم. والكلكل : الصدر

(٧) الوحدان : جمع واحد ـ مثل شاب وشبان وراع ورعيان ـ أى : المتفردون ، والركبان : جمع راكب ، ولا يكون إلا صاحب بعير

(٨) عبيط الدماء : الطرى الخالص منها

(٩) ثلم الأناء والسيف أو نحوه يثلمه ـ كضربه يضربه ـ أى : كسر حرفه.

٥١

اليقين ، تهرب منها الأكياس (١) ، وتدبّرها الأرجاس (٢) ، مرعاد مبراق ، كاشفه عن ساق ، تقطع فيها الأرحام ، ويفارق عليها الإسلام ، بريّها سقيم ، وظاعنها مقيم (٣)

منها : بين قتيل مطلول (٤) ، وخائف مستجير ، يختلون بعقد الأيمان (٥) وبغرور الإيمان ، فلا تكونوا أنصاب الفتن (٦) وأعلام البدع ، والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة ، وبنيت عليه أركان الطّاعة ، واقدموا على اللّه مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين ، واتّقوا مدارج الشّيطان ، ومهابط العدوان ، ولا تدخلوا بطونكم لعق الحرام (٧) فإنّكم بعين من حرّم عليكم المعصية (٨) ،

__________________

(١) الأكياس : جمع كيس ، وهو الحاذق العاقل

(٢) الأرجاس : جمع رجس : وهو القذر والنجس ، والمراد الأشرار

(٣) «مرعاد مبراق» أى : ذات وعيد وتهديد ، والعرب تقول : أرعد فلان وأبرق ، وأرغى وأزبد ، وتكنى بهما عما ذكرنا. ويجوز أن يعنى بالرعد صوت السلاح وقعقعته ، وبالبرق لونه وضوءه ، على التشبيه. وقوله «كاشفة عن ساق» أى : عن شدة وهول ومشقة ، وفى التنزيل : «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ» وقوله «بريها سقيم» معناه أن الهارب منها غير ناج ، بل لا بد أن يصيبه شىء من معرتها وضررها ، وقوله «وظاعنها مقيم» أى : ما يفارق الانسان من أذاها وشرها كأنه غير مفارق له ، لأنه قد أبقى عنده عقابيل من غوائلها وأذاها

(٤) طللت دمه : هدرته

(٥) «يختلون» أى : يخدعهم الظالمون بحلف الأيمان ويغرونهم بظاهر الأيمان وأنهم مؤمنون مثلهم

(٦) الأنصاب : كل ما ينصب ليقصد

(٧) اللعق : جمع لعقة ـ بضم اللام ـ وهى ما تأخذه فى الملعقة

(٨) «إنكم بعين ـ الخ» أى : إنه يراكم

٥٢

[وسهّل لكم سبل الطّاعة]

١٤٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه الدّال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على أزليّته ، وباشتباههم على أن لا شبه له ، لا تستلمه المشاعر (١) ، ولا تحجبه السّواتر ، لافتراق الصّانع والمصنوع ، والحادّ والمحدود ، والرّبّ والمربوب ، الأحد بلا تأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب (٢) ، والسّميع لا بأداة (٣) ، والبصير بلا تفريق آلة (٤) ، والشّاهد لا بمماسّة ، والبائن لا بتراخى مسافة (٥) ، والظّاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة ، بان من الأشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرّجوع إليه ، من وصفه فقد حدّه (٦) ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، ومن قال «كيف؟» فقد استوصفه ، ومن قال «أين؟» فقد حيّزه ، عالم إذ لا معلوم ، وربّ إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور.

__________________

(١) «لا تستلمه المشاعر» أى : لا تصل إليه الحواس

(٢) النصب ـ محركة ـ التعب

(٣) الأداة : الآلة

(٤) تفريق الآلة : تفريق الأجفان ، وفتح بعضها عن بعض

(٥) البائن : المنفصل عن خلقه

(٦) «من وصفه» أى : من كيفه بكيفيات المحدثين (وانظر الخطبة الأولى (ج ١ ص ٨)

٥٣

منها : قد طلع طالع ، ولمع لامع ، ولاح لائح (١) ، واعتدل مائل ، واستبدل اللّه بقوم قوما ، وبيوم يوما ، وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر (٢) وإنّما الأئمّة قوّام اللّه على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النّار إلاّ من أنكرهم وأنكروه.

إنّ اللّه تعالى خصّكم بالإسلام ، واستخلصكم له ، وذلك لأنّه اسم سلامة وجماع كرامة (٣) ، اصطفى اللّه تعالى منهجه ، وبيّن حججه ، من ظاهر علم ، وباطن حكم ، لا تفنى غرائبه ، ولا تنقضى عجائبه ، (٤) فيه مرابيع النّعم (٥) ومصابيح الظّلم ، لا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتيحه ، ولا تكشف الظّلمات إلاّ بمصابيحه ، قد أحمى حماه (٦) وأرعى مرعاه ، فيه شفاء المشتفى ، وكفاية المكتفى ،

__________________

(١) لاح : بدا. قالوا : هذه خطبة خطبها بعد قتل عثمان

(٢) الغير ـ بكسر ففتح ـ صروف الحوادث وتقلباتها ، انتظرها لعلما يقوم حق وينتكس باطل

(٣) جماع الشىء : مجمعه

(٤) غرائبه : جمع غريبة ، وأراد بها ما يتجدد للقرآن من المعانى التى غفل الناس عنها ، لحدوثها باستحداث الأفكار والعلوم مع كونها لا تخالف أصول الشريعة ولا تعارضها ، ويروى فى مكان هذه اللفظة «عزائمه» وهى جمع عزيمة ، وهى الآية المحكمة ، والبرهان القطع ، وقوله «ولا تنقضى عجائبه» لأنه مهما تأمله الانسان استخرج منه بفكره غرائب وعجائب لم تكن عنده من قبل

(٥) مرابيع : جمع مرباع ـ بكسر الميم ـ وهو المكان ينبت نبته فى أول الربيع أو هو المطر أول الربيع

(٦) أحمى المكان : جعله حمى لا يقرب ، أى : أعز اللّه الاسلام ، ومنعه من

٥٤

١٤٩ ـ [ومن خطبة له عليه السّلام]

وهو فى مهلة من اللّه يهوى مع الغافلين (١) ويغدو مع المذنبين ، بلا سبيل قاصد ، ولا إمام قائد :

منها : حتّى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم ، واستخرجهم من جلابيب غفلتهم ، استقبلوا مدبرا ، واستدبروا مقبلا ، فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم ، ولا بما قضوا من وطرهم! وإنّى أحذّركم ونفسى هذه (٢) المنزلة ، فلينتفع امرؤ بنفسه ، فإنّما البصير من سمع فتفكّر ، ونظر فأبصر وانتفع بالعبر ، ثمّ سلك جددا واضحا يتجنّب فيه الصّرعة فى المهاوى ، والضّلال فى المغاوى (٣) ولا يعين على نفسه الغواة بتعسّف فى حقّ ، أو تحريف فى

__________________

(١) قوله «وهو فى مهملة» كلام فى ضال غير معين ، فهذا الكلام كما تقول : رحم اللّه امرأ اتقى ربه ، وخاف ذنبه. أو كما تقول : بئس رجلا الرجل الذى قل حياؤه ، وغاض وفاؤه. ونحو ذلك ، أنت فى كل ذلك لا تقصد واحدا بعينه من الناس ، وإنما تعنى من كان فيه هذه الخلال. ويهوى : يسقط ، والسبيل القاصد : المؤدى للغرض

(٢) فى بعض الروايات «أحذركم ونفسى هذه المزلة» وهى مفعلة من الزلل

(٣) المهاوى : جمع مهواة ، وهى الهوة يتردى فيها. والمغاوى : جمع مغواة ، وهى الشبهة يذهب معها الانسان إلى ما يخالف الحق

٥٥

نطق ، أو تخوّف من صدق. فأفق أيّها السّامع من سكرتك ، واستيقظ من غفلتك! واختصر من عجلتك (١) ، وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النّبىّ الأمّىّ ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ممّا لا بدّ منه ، ولا محيص (٢) عنه ، وخالف من خالف ذلك إلى غيره ، ودعه وما رضى لنفسه ، وضع فخرك ، واحطط كبرك ، واذكر قدرك ، فإنّ عليه ممرّك ، وكما تدين تدان ، وكما تزرع تحصد ، وكما قدّمت اليوم تقدم عليه غدا ، فامهد لقدمك (٣) وقدّم ليومك.

فالحذر الحذر أيّها المستمع ، والجدّ الجدّ أيّها الغافل «وَلاٰ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» إنّ من عزائم اللّه فى الذّكر الحكيم الّتى عليها يثيب ويعاقب ، ولها يرضى ويسخط ، أنّه لا ينفع عبدا ـ وإن أجهد نفسه وأخلص فعله ـ أن يخرج من الدّنيا لاقيا ربّه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها : أن يشرك باللّه فيما افترض عليه من عبادته ، أو يشفى غيظه بهلاك نفس ، أو يعرّ بأمر فعله

__________________

(١) أى : لا تكن عجلتك شديدة ، بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئا يسيرا. وقوله «أنعم الفكر الخ» معناه دقق بفكرك وأصل هذه العبارة قولك «أنعمت سحق الحجر» ومن الناس من يجعل «أنعم» مقلوبا عن «أمعن»

(٢) «لا محيص عنه» أى : لا مفر ولا مهرب منه ، تقول : حاص عنه يحيص ـ من باب باع ـ حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا ، أى : عدل وحاد وهرب

(٣) مهد ـ كمنع ـ بسط. وأصله من «مهد الفراش» إذا بسطه ووطأه. وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها. وتمهيد العذر : بسطه وقبوله

٥٦

غيره ، (١) أو يستنجح حاجة إلى النّاس بإظهار بدعة فى دينه (٢) ، أو يلقى النّاس بوجهين ، أو يمشى فيهم بلسانين ، اعقل ذلك فإنّ المثل دليل على شبهه.

إنّ البهائم همّها بطونها ، وإنّ السّباع همّها العدوان على غيرها ، وإنّ النّساء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا والفساد فيها ، إنّ المؤمنين مستكينون (٣) إنّ المؤمنين مشفقون ، إنّ المؤمنين خائفون.

١٥٠ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وناظر قلب اللّبيب : به يبصر أمده (٤) ويعرف غوره ونجده ، داع دعا وراع رعا ، فاستجيبوا للدّاعى ، واتّبعوا الرّاعى قد خاضوا بحار الفتن ، وأخذوا بالبدع دون السّنن ، وأرز المؤمنون (٥)

__________________

(١) تقول : عر فلان فلانا يعره ـ من باب رد ـ أى : عابه ولطخه ، وقوله «غيره» مفعول لعر ، وفاعل قوله «فعله» ضمير مستتر ، والمعنى أن يقذف غيره بأمر قد فعله هو

(٢) «يستنجح» أى : يطلب نجاح حاجته من الناس بالابتداع فى الدين

(٣) «مستكينون» أى : خاضعون للّه عز وجل

(٤) ناظر القلب : استعاره من «ناظر العين» وهو النقطة السوداء منها ، والمراد بصيرة القلب بها يدرك اللبيب أمده ، أى : غايته ومنتهاه ، والغور : ما انخفض من الأرض ، والنجد : ما ارتفع منها ، أى : يدرك باطن أمره وظاهره

(٥) أرز يأرز ـ بكسر الراء فى المضارع ـ أى : انقبض وثبت ، وأرزت الحية : لاذت بجحرها ورجعت إليه ، وفى الحديث «إن الاسلام ليازر إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» أى : ينضم إليها ويجتمع

٥٧

ونطق الضّالّون المكذّبون. نحن الشّعار (١) والأصحاب ، والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمّى سارقا

منها : فيهم كرائم القرآن (٢) ، وهم كنوز الرّحمن ، إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا (٣) ، فليصدق رائد أهله (٤) ، وليحضر عقله ، وليكن من أبناء الآخرة فانّه منها قدم ، وإليها ينقلب (٥) فالنّاظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدا عمله أن يعلم : أعمله عليه أم له؟ فان كان له مضى فيه ، وإن كان عليه وقف عنه ، فانّ العامل بغير علم كسائر فى غير طريق ، فلا يزيده بعده عن الطّريق إلاّ بعدا من حاجته ، والعامل بالعلم كسائر على الطّريق الواضح ، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع واعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله ، فما طاب ظاهره طاب باطنه ، وما

__________________

(١) الشعار : ما يلى البدن من الثياب. والمراد بطانة النبى صلّى اللّه عليه وسلم

(٢) الضمير لآل النبى ، والكرائم : جمع كريمة ، والمراد أنه قد أنزلت فى مدحهم آيات كريمات ، والقرآن كريم كله ، وهذه كرائم

(٣) لم يسبقهم أحد إلى الكلام وهم سكوت ، أى : يهاب سكوتهم فلم يجرأ أحد على الكلام فيما سكتوا عنه

(٤) الرائد : الذاهب من الحى يرتاد لهم المرعى ، وفى أمثالهم «الرائد لا يكذب أهله» وقد استعمل النبى صلّى اللّه عليه وسلم هذا المثل فى خطبه

(٥) لا شك أن الآخرة الآن لعدم وقوعها هى عدم محض ، والانسان قد خلق من العدم ، وهو إلى العدم راجع ، فمن هنا صح قوله إن الانسان قدم من الآخرة وإلى الأخرة ينقلب

٥٨

خبث ظاهره خبث باطنه ، وقد قال الرّسول الصّادق ، صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ اللّه يحبّ العبد (١) ويبغض عمله ، ويحبّ العمل ويبغض بدنه». واعلم أنّ لكلّ عمل نباتا ، وكلّ نبات لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفة : فما طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته ، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرّت ثمرته (٢)

__________________

(١) «إنّ اللّه يحب ـ الخ» أى : يحب من المؤمن إيمانه ، ويبغض ما يأتيه من سيئات الأعمال ، ولا يفيده ذلك الحب مع هذا البغض إلا عذابا يتطهر به من خبث أعماله ، ويحب من الكافر عمله ـ إن كان حسنا ـ ويبغض ذاته لالتياثها بدنس الكفر ، ولا ينتفع بالعمل المحبوب إلا نفعا موقتا فى الدنيا ، وله فى الآخرة عذاب عظيم. فلا يكمل للانسان حظه من السعادة إلا إذا كان مؤمنا طيب العمل

(٢) السقى ـ بفتح السين ـ مصدر قولك «سقيت الأرض» وبكسر السين النصيب من الماء ، و «أمر الشىء» صار مرا ، وهذا الكلام مثل فى الاخلاص وضده ـ وهو الرياء وحب السمعة ـ فكل عمل يكون مدده الاخلاص لوجهه تعالى فانه يكون زاكيا حلوا جناه طيبة ثمرته ، وكل عمل يكون الباعث عليه الرياء وحب السمعة فانه لا يزكو وتكون ثمرته مرة المذاق

٥٩

١٥١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

يذكر فيها بديع خلقة الخفاش (١)

الحمد للّه الّذى انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته (٢) ، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته ، هو اللّه الملك الحقّ المبين ، أحقّ وأبين ممّا تراه العيون ، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّها ، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلا ، خلق الخلق على غير تمثيل ، ولا مشورة مشير ، ولا معونة معين ، فتمّ خلقه بأمره ، وأذعن لطاعته فأجاب ولم يدفع وانقاد ولم ينازع.

ومن لطائف صنعته ، وعجائب حكمته ، ما أرانا من غوامض الحكمة فى هذه الخفافيش الّتى يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شىء ، ويبسطها الظّلام القابض لكلّ حىّ ، وكيف عشيت أعينها (٣) عن أن تستمدّ من الشّمس

__________________

(١) الخفاش : واحد جمعه خفافيش ، وهو هذا الطائر الذى يطير ليلا ولا يطير نهارا ، وهو مأخوذ من الخفش ـ بفتح الخاء والفاء جميعا ، وفعله مثل تعب ـ وهو صغر العينين وضعف البصر ، ويكون خلقة ، وهو علة لازمة ، وصاحبه يبصر ليلا أكثر مما يبصر نهارا ، ويبصر يوم الغيم أكثر مما يبصر يوم الصحو ، والذكر أخفش ، والأنثى خفشاء

(٢) انحسرت : انقطعت ، وكلت ، وأعيت

(٣) العشا ـ مقصورا ـ سوء البصر وضعفه ، وفعله من باب تعب

٦٠