نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

الفترة فى قلبك بعزيمة ، ومن كرى الغفلة فى ناظرك بيقظة (١) وكن للّه مطيعا ، وبذكره آنسا ، وتمثّل فى حال تولّيك عنه إقباله عليك (٢) : يدعوك إلى عفوه ، ويتغمّدك بفضله ، وأنت متولّ عنه إلى غيره ، فتعالى من قوىّ ما أكرمه (٣) ، وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته ، وأنت فى كنف ستره مقيم ، وفى سعة فضله متقلّب ، فلم يمنعك فضله ، ولم يهتك عنك ستره ، بل لم تخل من لطفه مطرف عين فى نعمة يحدثها لك (٤) ، أو سيّئة يسترها عليك ، أو بليّة يصرفها عنك!! فما ظنّك به لو أطعته ، وايم اللّه لو أنّ هذه الصّفة كانت فى متّفقين فى القوّة ، متوازنين فى القدرة ، لكنت أوّل حاكم على نفسك بذميم الأخلاق ، ومساوئ الأعمال. وحقّا أقول ما الدّنيا غرّتك (٥) ولكن بها اعتررت ، ولقد كاشفتك العظات ، وآذنتك على سواء ، ولهى بما

__________________

(١) الكرى ـ بالفتح والقصر ـ النوم

(٢) تمثل : تصور ، أى : واذكر عند إعراضك عن اللّه ، أى : عند لهوك ، أنه مقبل عليك بنعمه ، «ويتغمدك» أى : يغمرك

(٣) الضمير فى «تعالى» للّه

(٤) طرف عينه ـ كضرب ـ أطبق جفنيها ، والمراد من المطرف اللحظة يتحرك فيها الجفن «فى نعمة» يتعلق بلطفه

(٥) إن الدنيا ما خبأت عن نظرك شيئا من تقلباتها المفزعة ، ولكن غفلت عما ترى ، ولقد كاشفتك وأظهرت لك العظات ، أى : المواعظ ، وآذنتك : أعلمتك على عدل «١٦ ـ ن ـ ج ـ ٢»

٢٤١

تعدك من نزول البلاء بجسمك ، والنّقص فى قوّتك ، أصدق وأوفى من أن تكذبك ، أو تغرّك ، ولربّ ناصح لها عندك متّهم (١) ، وصادق من خبرها مكذّب ، ولئن تعرّفتها فى الدّيار الخاوية (٢) ، والرّبوع الخالية ، لتجدنّها من حسن تذكيرك ، وبلاغ موعظتك ، بمحلّة الشّفيق عليك ، والشّحيح بك (٣) ، ولنعم دار من لم يرض بها دارا ، ومحلّ من لم يوطّنها محلاّ (٤)! وإنّ السّعداء بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم

إذا رجفت الرّاجفة (٥) ، وحقّت بجلائلها القيامة ، ولحق بكلّ منسك أهله وبكلّ معبود عبدته ، وبكلّ مطاع أهل طاعته ، فلم يجز فى عدله [وقسطه] يومئذ حرق بصر فى الهواء (٦) ، ولا همس قدم فى الأرض إلاّ بحقّه. فكم

__________________

(١) رب حادث من حوادثها يلقى إليك النصيحة بالعبرة فتتهمه وهو مخلص

(٢) تعرفتها : طلبت معرفتها وعاقبة الركون إليها

(٣) البخيل بك على الشقاء والهلكة

(٤) وطنه ـ بالتشديد ـ اتخذه وطنا

(٥) الراجفة : النفخة الأولى حين تهب ريح الفناء فتنسف الأرض نسفا ، وحقت القيامة : وقعت وثبتت بعظائمها ، والمنسك ـ بفتح الميم والسين ـ العبادة ، أو مكانها

(٦) يجز : من الجزاء مبنى للمجهول نائب فاعله «خرق بصر وهمس قدم» أى : لا تجازى لمحة البصر تنفذ فى الهواء ولا همسة القدم فى الأرض إلا بحق وذلك بعدل اللّه ويروى «فلم يجر فى عدله» من «جار» أى : عدل عن الطريق ، أى : لم يذهب عنه سبحانه ولم يضل ولم يشذ عن حسابه شىء من أمر محقرات الأمور إلا بحقه ، أى : إلا ما لا فائدة فى إثباته. ورواه قوم «لم يجز» مضارع «جاز يجوز» أى لم يسغ ولم

٢٤٢

حجّة يوم ذاك داحضة ، وعلائق عذر منقطعة ، فتحرّ من أمرك ما يقوم به عذرك (١) ، وتثبت به حجّتك ، وخذ ما يبقى لك ممّا لا تبقى له (٢) ، وتيسّر لسفرك ، وشم برق النّجاة ، وارحل مطايا التّشمير

٢١٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

واللّه لأن أبيت على حسك السّعدان مسهّدا (٣) ، وأجرّ فى الأغلال مصفّدا أحبّ إلىّ من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد ، وغاصبا لشىء من الحطام ، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها (٤) ويطول فى الثّرى حلولها؟! واللّه لقد رأيت عقيلا (٥) وقد أملق حتّى استماحنى من برّكم صاعا ، ورأيت

__________________

خص ذلك اليوم لأحد من المكلفين فى حركة من الحركات المحقرات المستصغرات إلا إذا كانت قد فعلها بحقّ ، قاله ابن أبى الحديد

(١) تحر : من التحرى ، أى : اطلب ما هو أحرى وأليق لأن يقوم به عذرك

(٢) ما يبقى لك هو العمل الصالح ، فخذه من الدنيا التى لا تبقى لها ، وتيسر : تأهب ، وشام البرق : لمحه ، ورحل المطية : وضع عليها رحلها للسفر

(٣) كأنه يريد من الحسك : الشوك ، والسعدان : نبت ترعاه الابل له شوك تشبه به حلمة الثدى ، والمسهد : من «سهده» إذا أسهره ، والمصفد : المقيد

(٤) يريد من النفس نفسه كرم اللّه وجهه ، أى : كيف أظلم لأجل منفعة نفس يسرع إلى الفناء قفولها ، أى : رجوعها ، والثرى : التراب

(٥) عقيل : أخوه ، وأملق : افتقر أشد الفقر ، واستماحنى : استعطانى ، والبر : القمح

٢٤٣

صبيانه شعث الشّعور ، غبر الألوان من فقرهم ، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم ، وعاودنى مؤكّدا (١) وكرّر علىّ القول مردّدا ، فأصغيت إليه سمعى فظنّ أنّى أبيعه دينى ، وأتّبع قياده (٢) مفارقا طريقتى ، فأحميت له حديدة ، ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضجّ ضجيج ذى دنف من ألمها (٣) وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له : ثكلتك الثّواكل يا عقيل (٤) ، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرّنى إلى نار سجرها جبّارها لغضبه؟ أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لظى؟!! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة فى وعائها (٥) ومعجونة شنئتها ، كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها ، فقلت : أصلة ، أم زكاة ، أم صدقة؟؟؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت ، فقال : لا ذا ولا ذاك ، ولكنّها

__________________

(١) شعث : جمع أشعث ، وهو من الشعر المتلبد بالوسخ ، والغبر ـ بضم الغين ـ جمع أغبر ، وهو متغير اللون شاحبه ، وأصله الغبار وهو التراب ، والعظلم ـ كزبرج ـ سواد يصبغ به ، قيل : هو النيلج ، أى : النيلة

(٢) القياد : ما يقاد به كالزمام

(٣) الدنف ـ بالتحريك ـ المرض ، والميسم ـ بكسر الميم وفتح السين ـ المكواة

(٤) ثكل ـ كفرح ـ أصاب ثكلا ـ بالضم ـ وهو فقدان الحبيب ، أو خاص بالولد ، والثواكل : النساء ، دعاء عليه بالموت لتألمه من نار ضعيفة الحرارة وطلبه عملا ـ وهو تناول شىء من بيت المال زيادة عن المفروض له ـ يوجب الوقوع فى نار سجرها ، أى : أضرمها ، الجبار وهو اللّه للانتقام ممن عصاه ، ولظى : اسم جهنم

(٥) الملفوفة : نوع من الحلواء أهداها إليه الأشعث بن قيس ، و «شنئتها» أى : كرهتها ، والصلة : العطية

٢٤٤

هديّة ، فقلت : هبلتك الهبول (١) ، أعن دين اللّه أتيتنى لتخدعنى؟ أمختبط ، أم ذو جنّة ، أم تهجر (٢)؟ واللّه لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى اللّه فى نملة أسلبها جلب شعيرة (٣) ما فعلت ، وإنّ دنياكم عندى لأهون من ورقة فى فم جرادة تقضمها (٤) ما لعلىّ ولنعيم يفنى ، ولذّة لا تبقى نعوذ باللّه من سبات العقل (٥) ، وقبح الزّلل ، وبه نستعين

٢٢٠ ـ ومن دعاء له عليه السلام

اللّهمّ صن وجهى باليسار (٦) ، ولا تبذل جاهى بالإقتار ، فأسترزق طالبى رزقك ، وأستعطف شرار خلقك ، وأبتلى بحمد من أعطانى ، وأفتن بذمّ من منعنى ، وأنت من وراء ذلك كلّه ولىّ الاعطاء والمنع «إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

__________________

(١) هبلتك ـ بكسر الباء ـ ثكلتك. والهبول ـ بفتح الهاء ـ المرأة لا يعيش لها ولد. «عن دين اللّه» متعلق بتخدعنى

(٢) أمختبط فى رأسك فاختل نظام إدراكك ، أم أصابك جنون ، أم تهجر. أى : تهذى بما لا معنى له

(٣) جلب الشعيرة ـ بكسر الجيم ـ قشرتها ، وأصل الجلب : غطاء الرحل فتجوز فى إطلاقه على غطاء الحبة

(٤) قضمت الدابة الشعير ـ من باب علم ـ كسرته بأطراف أسنانها

(٥) سبات العقل : نومه ، والزلل : السقوط فى الخطأ

(٦) صيانة الوجه : حفظه من التعرض للسؤال ، وبذل الجاه : إسقاط المنزلة من القلوب ، واليسار : الغنى ، والاقتار : الفقر ، وقوله «فأسترزق» ترتيب على البذل بالاقتار ، فانه لو افتقر لطلب الرزق من طلاب رزق اللّه ، وهم الناس

٢٤٥

٢٢١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

دار بالبلاء محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزّالها (١) ، أحوال مختلفة ، وتارات متصرّفة ، العيش فيها مذموم ، والأمان منها معدوم ، وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها (٢)

واعلموا ، عباد اللّه ، أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدّنيا على سبيل من قد مضى قبلكم (٣) ، ممّن كان أطول منكم أعمارا ، وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، أصبحت أصواتهم هامدة ، ورياحهم راكدة (٤) ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة ، والنّمارق الممهّدة (٥) الصّخور والأحجار المسندة ، والقبور اللاّطئة الملحدة (٦) ، الّتى قد بنى بالخراب

__________________

(١) النزال ـ بالضم وتشديد الزاى ـ جمع نازل

(٢) الحمام ـ بالكسر ـ الموت

(٣) أنتم وما تتمتعون به قيام على سبيل الماضيين ، منتهون إلى نهايته ، وهو الفناء ، وبعد الآثار : طول بقائها بعد ذويها

(٤) راكدة : ساكنة ، وركود الريح : كناية عن إبطال العمل وبطلان الحركة «آثارهم عافية» أى : مندرسة

(٥) النمارق : جمع نمرقة ، تطلق على الوسادة الصغيرة أو على الطنفسة ـ أى : البساط ـ ولعله المراد هنا ، والممهدة : المفروشة ، والصخور : مفعول «استبدلوا»

(٦) لطأ بالأرض ـ كمنع وفرح ـ لصق ، والملحدة : من «ألحد القبر» جعل له لحدا ، أى : شقا فى وسطه أو جانبه

٢٤٦

فناؤها (١) ، وشيد بالتّراب بناؤها ، فمحلّها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل محلّة موحشين ، وأهل فراغ متشاغلين (٢) ، لا يستأنسون بالأوطان ، ولا يتواصلون تواصل الجيران ، على ما بينهم من قرب الجوار ، ودنوّ الدّار ، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى (٣) ، وأكلنهم الجنادل والثّرى؟ وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه (٤) ، وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور (٥) ، وبعثرت القبور؟ «هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ»

__________________

(١) فناء الدار ـ بالكسر ـ ساحتها وما اتسع أمامها ، وبناء الفناء بالخراب تمثيل لما يتخيله الفكر فى ديار الموتى من الفناء الدائم إلى نهاية العالم

(٢) متشاغلين بما شاهدوا من عقبى أعمالهم

(٣) الكلكل : هو صدر البعير ، كأن البلى ـ بكسر الباء ، أى : الفناء ـ جمل برك عليهم فطحنهم ، والجنادل : الحجارة ، والثرى : التراب

(٤) ولقرب آجالكم كأنكم قد صرتم إلى مصيرهم ، وحبستم فى ذلك المضجع كما يحبس الرهن فى يد المرتهن

(٥) تناهى به الأمر : وصل إلى غايته ، والمراد انتهاء مدة البرزخ ، وبعثرت القبور : قلب ثراها وأخرج موتاها

(٦) «تبلوه» أى : تخبره ، فتقف على خيره وشره

٢٤٧

٢٢٢ ـ ومن دعائه عليه السّلام

اللّهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك (١) ، وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك ، تشاهدهم فى سرائرهم ، وتطّلع عليهم فى ضمائرهم ، وتعلم مبلغ بصائرهم ، فأسرارهم لك مكشوفة ، وقلوبهم إليك ملهوفة (٢) ، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك ، وإن صبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك علما بأنّ أزمّة الأمور بيدك ، ومصادرها عن قضائك

اللّهمّ إن فههت عن مسألتى (٣) ، أو عميت عن طلبتى ، فدلّنى على مصالحى ، وخذ بقلبى إلى مراشدى ، فليس ذلك بنكر من هداياتك (٤) ، ولا ببدع من كفاياتك

اللّهمّ احملنى على عفوك (٥) ، ولا تحملنى على عدلك

__________________

(١) آنس : أشد أنسا ، فقلوب الأولياء أشد أنسا باللّه من كل أليف فاللّه آنس الموجودات عندها ، وهو أشد النصراء حضورا بما يكفى المعتمدين عليه

(٢) الملهوف : المضطر ، يستغيث ويتحسر

(٣) فهه ـ كفرح ـ عى فلم يستطع البيان ، والطلبة ـ بكسر الطاء ـ المطلوب ، وقوله «او عميت عن طلبتى» يروى فى مكانه «أو عمهت ـ الخ» والمراشد : جمع مرشد ، وهو مواضع الرشد

(٤) النكر ـ بالضم ـ المنكر ، والبدع ـ بالكسر ـ الأمر يكون أولا ، أى : الغريب غير المعهود

(٥) اعتراف منه بالتقصير ، فلو عامله اللّه بالعدل لاشتد عليه الهول فالتجأ إلى العفو

٢٤٨

٢٢٣ ـ ومن كلام له عليه السّلام

للّه بلاد فلان (١) ، فقد قوّم الأود ، وداوى العمد ، وخلّف الفتنة ، وأقام السّنّة ، ذهب نقّى الثّوب ، قليل العيب ، أصاب خيرها ، وسبق شرّها ، أدّى إلى اللّه طاعته ، واتّقاه بحقّه ، رحل وتركهم فى طرق متشعّبة (٢) : لا يهتدى فيها الضّالّ ، ولا يستيقن المهتدى

٢٢٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى وصف بيعته بالخلافة ، وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة وبسطتم يدى فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثمّ تداككتم علىّ (٣) تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتّى انقطعت النّعل ، وسقط الرّداء ، ووطىء الضّعيف ، وبلغ من سرور النّاس ببيعتهم إيّاى أن ابتهج بها الصّغير ،

__________________

(١) فلان : هو الخليفة الثانى عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ، والعرب تقول «للّه بلاد فلان» و «للّه در فلان» و «للّه نادى فلان» و «للّه نائح فلان» والمراد بالأول للّه البلاد التى أنشأته وابتنته ، وبالثانى للّه الثدى الذى أرضعه ، وبالثالث للّه المجلس الذى تربى فيه ، وبالرابع للّه النائحة التى تنوح عليه وتندبه ، ما ذا تعد مما تعهده من محاسنه؟ ويروى «للّه بلاء فلان» أى : للّه ما صنع. وقوم الأود : عدل الاعوجاج ، والعمد ـ بالتحريك ـ العلة ، وخلف الفتنة : تركها خلفا : لا هو أدركها ، ولا هى أدركته

(٢) عبارة عن الاختلاف

(٣) التداك : الازدحام ، كأن كل واحد يدك الآخر ، أى يدقه ، «والهيم» أى : العطاش : جمع هيماء ، كعيناء وعين

٢٤٩

وهدج إليها الكبير (١) ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب

٢٢٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فإنّ تقوى اللّه مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كلّ ملكة (٢) ، ونجاة من كلّ هلكة ، بها ينجح الطّالب ، وينجو الهارب ، وتنال الرّغائب ، فاعملوا والعمل يرفع (٣) ، والتوبة تنفع ، والدّعاء يسمع ، والحال هادئة ، والأقلام جارية ، وبادروا بالأعمال عمرا ناكسا ، أو مرضا حابسا ، أو موتا خالسا ، فإنّ الموت هادم لذّاتكم ، ومكدّر شهواتكم ، ومباعد طيّاتكم (٤) ، زائر غير محبوب ، وقرن غير مغلوب ، وواتر غير مطلوب ، قد أعلقتكم

__________________

(١) هدج : مشى مشية الضعيف ، وهدج الظليم : إذا مشى فى ارتعاش ، والكعاب ـ كسحاب ـ الجارية حين يبدو ثديها للنهود ، وهى الكاعب ـ بلا هاء ـ و «حسرت» أى : كشفت عن وجهها متوجهة إلى البيعة لتعقدها بلا استحياء لشدة الرغبة والحرص على إتمام الأمر لأمير المؤمنين ، والغرض من الكلام الاحتجاج على المخالفين بأن الأمة بايعته مختارة

(٢) الملكة ـ بالتحريك ـ الرق ، أى : عتق من رق الشهوات والأهواء ، والهلكة ـ بالتحريك ـ : الهلاك

(٣) «والعمل الخ» الواو واو الحال و «بادروا» أى : اسبقوا بأعمالكم : حلول آجالكم التى تنكسكم ـ أى : تقلبكم ـ من الحياة إلى الموت ، والحابس : المانع من العمل ، والخالس : الخاطف

(٤) طياتكم : جمع طية ـ بالكسر ـ وهى القصد ، أى : يحول بينكم وبين مقاصدكم فيبعدها ، والقرن ـ بالكسر ـ الكفء فى الشجاعة. والتسمية تبكيت

٢٥٠

حبائله ، وتكنّفتكم غوائله ، وأقصدتكم معابله ، وعظمت فيكم سطوته ، وتتابعت عليكم عدوته (١) ، وقلّت عنكم نبوته ، فيوشك أن تغشاكم دواجى ظلله ، واحتدام علله ، وحنادس غمراته ، وغواشى سكراته ، وأليم إزهاقه ، ودجوّ إطباقه ، وجشوبة مذاقه ، فكأن قد أتاكم بغتة ، فأسكت نجيّكم (٢) ، وفرّق نديّكم ، وعفّى آثاركم ، وعطّل دياركم ، وبعث ورّاثكم يقتسمون تراثكم ، بين حميم خاصّ لم ينفع ، وقريب محزون لم يمنع ، وآخر شامت لم يجزع ، فعليكم بالجدّ والاجتهاد ، والتّأهّب والاستعداد ، والتّزوّد فى منزل الزّاد ، ولا تغرّنّكم الحياة الدّنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية ، والقرون

__________________

لمن يظن مغالبة الموت فلا يستعد له بالصالحات ، كأنه يقول : إذا كنتم أقوياء ، فالموت كفء لكم غير مغلوب ، والواتر : الجانى. والموت لا يطالب بالقصاص على جنايته ، أعلقتكم الحبائل : أوقعتكم فيها ، فاقتنصتكم ، وهى جمع حبالة ـ بكسر الحاء ـ وهى المصيدة من الحبال ، وتقول : حبلته حبلا ـ من باب قتل ـ واحتبلته أيضا ، إذا صدته بالحبالة. وتكنفتكم : أحاطتكم ، وأقصده : رماه بسهم فأصاب مقتله ، والمعابل : جمع معبلة ـ كمكنسة : بكسر الميم ـ وهى النصل الطويل العريض

(١) العدوة ـ بالفتح ـ العدوان ، والنبوة ـ بالفتح ـ أن يخطىء فى الضربة فلا يصيب ، والدواجى : جمع داجية ، أى : مظلمة ، والظلل : جمع الظلة ، أى : السحابة ، والاحتدام : الاشتداد ، والحنادس : جمع حندس ـ بكسر الحاء والدال ـ وهى الظلمة الشديدة ، والغمرات : الشدائد ، والدجو : الاظلام ، والجشوبة : الخشونة

(٢) النجى : القوم يتناجون ، والندى : الجماعة يجتمعون للمشاورة ، وعفى الآثار : محاها ، والتراث : الميراث ، والحميم : الصديق

٢٥١

الخالية ، الّذين احتلبوا درّتها (١) ، وأصابوا غرّتها ، وأفنوا عدّتها ، وأخلقوا جدّتها ، [و] أصبحت مساكنهم أجداثا (٢) ، وأموالهم ميراثا ، لا يعرفون من أتاهم ، ولا يحفلون من بكاهم (٣) ، ولا يجيبون من دعاهم ، فاحذروا الدّنيا ، فإنّها غدّارة غرّارة خدوع ، معطية منوع ، ملبسة نزوع (٤) ، لا يدوم رخاؤها ، ولا ينقضى عناؤها ، ولا يركد بلاؤها

منها فى صفة الزهاد :

كانوا قوما من أهل الدّنيا وليسوا من أهلها ، فكانوا فيها كمن ليس منها : عملوا فيها بما يبصرون ، وبادروا فيها ما يحذرون (٥) ، تقلّب أبدانهم بين ظهرانى أهل الآخرة (٦) يرون أهل الدّنيا يعظّمون موت أجسادهم ، وهم أشدّ إعظاما لموت قلوب أحيائهم

__________________

(١) الدرة ـ بالكسر ـ اللبن ، والغرة ـ بالكسر ـ الغفلة ، أى : أصابوا منها غفلة فتمتعوا بلذاتها ، وأفنوا العدد الكثير من أيامها ، وجعلوا جديدها خلقا قديما بطول أعمارهم

(٢) الأجداث : القبور

(٣) يحفلون يبالون

(٤) ما ألبست : إلا نزعت لباسها عمن ألبسته ، و «لا يركد» أى : لا يسكن

(٥) بادر المحذور : سبقه فلم يصبه

(٦) «تقلب أبدانهم» أى : تتقلب ، أى : إن أبدانهم وهى فى الدنيا تتقلب بين أظهر أهل الآخرة ، و «هو بين ظهرانيهم» أى : بينهم حاضرا ظاهرا

٢٥٢

٢٢٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

خطبها بذى قار ، وهو متوجه إلى البصرة ، ذكرها الواقدى فى كتاب الجمل فصدع بما أمر [به] (١) ، وبلّغ رسالات ربّه ، فلمّ اللّه به الصّدع ، ورتق به الفتق ، وألّف به [الشّمل] بين ذوى الأرحام ، بعد العداوة الواغرة فى الصّدور ، والضّغائن القادحة فى القلوب

٢٢٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

كلم به عبد اللّه بن زمعة ، وهو من شيعته ، وذلك أنه قدم عليه

فى خلافته يطلب منه مالا ، فقال عليه السلام : ـ

إنّ هذا المال ليس لى ولا لك ، وإنّما هو فىء للمسلمين (٢) وجلب أسيافهم ، فإن شركتهم فى حربهم كان لك مثل حظّهم ، وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم.

__________________

(١) الضمير : فى «صدع» للنبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، ولم الصدع : لحم المنشق فأعاده إلى القيام بعد الاشراف على الانهدام ، والفتق : نقض خياطة الثوب ، فينفصل بعض أجزائه عن بعض ، والرتق : خياطتها ليعود ثوبا ، أى : جمع اللّه به متفرق القلوب ومتشتت الأحوال ، والواغرة : الداخلة ، والقادحة : المشتعلة

(٢) الفىء : الخراج والغنيمة ، وشركه ـ كعلمه ـ : شاركه ، والجناة ـ بفتح الجيم ـ ما يحنى من الشجر ، أى : يقطف

٢٥٣

٢٢٨ ـ ومن كلام له عليه السّلام

ألا إنّ اللّسان بضعة من الإنسان (١) ، فلا يسعده القول إذا امتنع ، ولا يمهله النّطق إذا اتّسع ، وإنّا لأمراء الكلام ، وفينا تنشّبت عروقه ، وعلينا تهدّلت غصونه

واعلموا ـ رحمكم اللّه ـ أنّكم فى زمان القائل فيه بالحقّ قليل ، واللّسان عن الصّدق كليل (٢) ، واللاّزم للحقّ ذليل ، أهله معتكفون على العصيان ، [مصطلحون على الإدهان] فتاهم عارم (٣) ، وشائبهم آثم ، وعالمهم منافق ، وقارئهم مماذق ، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم ، ولا يعول غنيّهم فقيرهم

__________________

(١) البضعة ـ بفتح الباء ، وقد تكسر ـ القطعة من اللحم ، أى : إن اللسان آلة تحركها سلطة النفس فلا يسعد بالنطق. ناطق امتنع عليه ذهنه من المعانى فلم يستحضرها ، ولا يمهله النطق إذا هو اتسع فى فكره بل تنحدر المعانى إلى الألفاظ جارية على اللسان قهرا عنه. فسعة الكلام تابعة لسعة العلم ، وتنشبت الأصول : علقت وثبتت ، والمراد من العروق الأفكار العالية والعلوم السامية ، والغصون : وجوه القول فى فصاحته ، وصفاته الفاعلة فى النفوس ، و «تهدلت» أى : تدلت علينا فأظلتنا

(٢) كل لسانه : نبا عن الغرض. وإذا مرنت الأسماع على سماع الكذب نبا عنها لسان الصدق فلم يصب منها خطأ

(٣) شرس : سيىء الخلق ، والمماذق : من يمزج وده بالغش. وهو من صنف المنافقين

٢٥٤

٢٢٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

روى [ذعلب] اليمانى عن أحمد بن قتيبة عن عبد اللّه بن يزيد عن مالك بن دحية قال : كنا عند أمير المؤمنين عليه السلام وقد ذكر عنده اختلاف الناس فقال :

إنّما فرّق بينهم مبادى طينهم (١) ، وذلك أنّهم كانوا فلقة من سبخ أرض وعذبها ، وحزن تربة وسهلها ، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون ، وعلى قدر اختلافها يتفاوتون ، فتامّ الرّواء (٢) ، ناقص العقل ، ومادّ القامة ، قصير الهمّة ، وذاكى العمل ، قبيح المنظر ، وقريب القعر ، بعيد السّير ، ومعروف الضّريبة ، منكر الجليبة ، وتائه القلب ، متفرّق اللّبّ ، وطليق اللّسان ، حديد الجنان

٢٣٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله وهو يلى غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتجهيزه بأبى أنت وأمّى [يا رسول اللّه] لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النّبوّة والأنباء ، وأخبار السّماء ، خصصت (٣) حتّى صرت مسليا عمّن سواك ،

__________________

(١) جمع طينة : يريد عناصر تركيبهم ، والفلقة ـ بكسر الفاء ـ القطعة من الشىء ، وسبخ الأرض : مالحها ، والحزن ـ بفتح الحاء ـ الخشن ، ضد السهل ، فتقارب الناس حسب تقارب العناصر المؤلفة لبناهم. وكذلك تباعدهم بتباعدها

(٢) الرواء ـ بالضم والمد ـ حسن المنظر ، وماد القامة : طويلها ، والقعر : يريد به قعر البدن ، أى : إنه قصير الجسم. لكنه داهى الفؤاد ، والضريبة. الطبيعة والجليبة : ما يتصنعه الانسان على خلاف طبعه

(٣) النبى صلّى اللّه عليه وسلم خص أقاربه وأهل بيته حتى كان فيه الغنى والسلوة لهم

٢٥٥

وعممت حتّى صار النّاس فيك سواء

ولو لا أنّك أمرت بالصّبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشّئون (١) ، ولكان الدّاء مماطلا ، والكمد محالفا ، وقلاّلك (٢) ولكنّه ما لا يملك ردّه (٣) ولا يستطاع دفعه ، بأبى أنت وأمّى ، اذكرنا عند ربّك ، واجعلنا من بالك

٢٣١ ـ ومن كلام له عليه السّلام

اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبى صلّى اللّه عليه وآله ، ثم لحاقه به فجعلت أتّبع مأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فأطأ ذكره حتّى انتهيت إلى العرج (٤) (فى كلام طويل)

قال الشريف : قوله عليه السلام «فأطأ ذكره» من الكلام الذى رمى به إلى غايتى الإيجاز والفصاحة ، أراد إنى كنت أعطى خبره (٥) صلّى اللّه عليه

__________________

عن جميع من سواه ، وهو برسالته عام للخلق : فالناس فى النسبة إلى دينه سواء ـ

(١) «لأنفدنا» أى : لأفنينا على فراقك ماء عيوننا الجارى من شؤونه ، وهى منابع الدمع من الرأس

(٢) مماطلا بالشفاء ، والكمد : الحزن ، ومحالفته : ملازمته ، و «قلا» فعل ماض متصل بألف التثنية ، أى : مماطلة الداء ، ومحالفة الكمد ، قليلتان لك

(٣) «ما» خبر «لكن» أى : لكنه الموت لا يملك رده الخ ، وما حتم وقعه فلا يفيد الأسف عليه ، لأن الأسف وضع فى النفوس لمداركة الفائت والحذر من الآتى

(٤) العرج ـ بالتحريك ـ موضع بين مكة والمدينة

(٥) أعطى : بالبناء للمجهول

٢٥٦

وآله وسلم من بدء خروجى إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع ، فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة

٢٣٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فاعلموا وأنتم فى نفس البقاء (١) ، والصّحف منشورة ، والتّوبة مبسوطة ، والمدبر يدعى ، والمسىء يرجى ، قبل أن يخمد العمل ، وينقطع المهل ، وينقضى الأجل ، ويسدّ باب التّوبة ، وتصعد الملائكة (٢)

فأخذ امرؤ من نفسه لنفسه (٣) ، وأخذ من حىّ لميّت ، ومن فان لباق ، ومن ذاهب لدائم ، امرؤ خاف اللّه (٤) وهو معمّر إلى أجله ، ومنظور إلى

__________________

(١) نفس ـ بالتحريك ـ أى : سعة البقاء ، وصحف الأعمال منشورة لكتابة الصالحات والسيئات ، وبسط التوبة : قبولها ، و «المدبر» أى : المعرض عن الطاعة يدعى إليها ، والمسىء : يرجى إحسانه ورجوعه عن إساءته ، وخمود العمل : انقطاعه بحلول الموت

(٢) صعود الملائكة لعرض أعمال العبد إذا انتهى أجله ليس بعده توبة

(٣) «أخذ» أمر بصيغة الماضى ، أى : فليأخذ ، أو هو على حقيقته مرتب على قوله فاعملوا ، أى : لو عملتم لأخذ امرؤ ، وأخذه من نفسه تعاطى الأعمال الجليلة لنفسه ، أى : لتسعد بها نفسه ، والحى والميت : هو المرء نفسه ، ولكنه فى حياته قادر على العمل ، فاذا مات فليس له إلا ما أخذه من حياته ، و «من فان» أى : حياة فانية وهى الدنيا «لباق» وهو الآخرة ، وهكذا الذاهب والدائم

(٤) «امرؤ خاف ـ الخ» أى : الناجى هو امرؤ خاف اللّه. فأدى الواجب عليه له وللناس وهو فى مهلة الحياة تمتد به إلى أجله ، و «منظور» أى : ممهل من اللّه لا يأخذه بالعقاب إلى أن يعمل : فيعفو عن تقصيره ، ويثيبه على عمله «١٧ ـ ن ـ ج ـ ٢»

٢٥٧

عمله ، امرؤ لجّم نفسه بلجامها ، وزمّها بزمامها (١) ، فأمسكها بلجامها عن معاصى اللّه ، وقادها بزمامها إلى طاعة اللّه

٢٣٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى شأن الحكمين ، وذم أهل الشام

جفاة طغام (٢) ، عبيد أقزام ، جمّعوا من كلّ أوب ، وتلقّطوا من كلّ شوب ، ممّن ينبغى أن يفقّه ويؤدّب (٣) ، ويعلّم ويدرّب ، ويولّى عليه ، ويؤخذ على يديه ، ليسوا من المهاجرين والأنصار ، ولا من الّذين تبوّأوا الدّار [والإيمان] ألا وإنّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم ممّا يحبّون ، وإنّكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم ممّا تكرهون (٤) ، وإنّما عهدكم بعبد اللّه بن قيس بالأمس

__________________

(١) «زمها» أى : قادها بقيادها

(٢) الجفاة ـ بضم الجيم ـ جمع جاف ، أى : غليظ فظ ، والطغام ـ كسحاب ـ أوغاد الناس ، والعبيد : كناية عن رديئى الأخلاق ، والأقزام : جمع قزم ـ بالتحريك ـ وهم أرذال الناس ، «جمعوا من كل أوب» أى : ناحية ، والشوب : الخلط ، كناية عن كونهم أخلاطا ليسوا من صراحة النسب فى شىء

(٣) «ممن ينبغى» أى : إنهم على جهل ، فينبغى أن يفقهوا ويؤدبوا ويعلموا فرائضهم ، ويمرنوا على العمل بها ، وهم سفهاء الأحلام ، فينبغى أن يولى عليهم ، أى : يقام لهم الأولياء ، ليلزموهم بمصالحهم ويعلموهم ويأخذوا على أيديهم ، فلا يبيحون لهم التصرف من أنفسهم ، وإلا جرتهم إلى الضرر بالجهل والسفه ، «تبوأوا الدار» أى : نزلوا المدينة المنورة ، كناية عن الأنصار الأولين

(٤) أقرب القوم : يريد به أبا موسى الأشعرى ، وهو عبد اللّه بن قيس ، وهو لعدم وقوفه على وجوه الحيل يؤخذ بالخديعة فيكون أقرب إلى موافقة الأعداء

٢٥٨

يقول «إنّها فتنة فقطّعوا أوتاركم ، وشيموا سيوفكم» فإن كان صادقا (١) فقد أخطأ بمسيره غير مستكره ، وإن كان كاذبا فقد لزمته التّهمة ، فادفعوا فى صدر عمرو بن العاص بعبد اللّه بن عبّاس ، وخذوا مهل الأيّام ، وحوطوا قواصى الإسلام ألا ترون إلى بلادكم تغزى ، وإلى صفاتكم ترمى

٢٣٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

يذكر فيها آل محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلم

هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، [وظاهرهم عن

__________________

على أغراضهم. وهو ما يكرهه أصحاب أمير المؤمنين ، خصوصا وقد عهدوه بالأمس ـ أى : عند إعداد الجيش للحرب ـ يقول : إن الحادثة فتنه فقطعوا أوتار القسى ، و «شيموا» أى : اغمدوا السيوف ، ولا تقاتلوا ، يثبط بذلك أصحاب على عن الحرب

(١) إن صح قول أبى موسى «إنها فتنة» ولم يكرهه أحد على الدخول فيها ، فقد أخطأ بمسيره إليها ، وكان عمله خلاف عقيدته ، ومن كان من شأنه ذلك فلا يصلح للحكم ، وإن كان كاذبا فيما يقول ، فقد كان عارفا بالحق ونطق بالباطل فهو متهم. ويخشى أن يكون منه مثل ذلك فى الحكم ، وقوله : «فادفعوا ـ الخ» أى : اختاروا ابن عباس حكما فانه كفء لعمرو بن العاص ، وخذوا مهل الأيام ـ أى : فسحتها ـ فاستعدوا فيها بجمع قواكم ، وتوفير عددكم ، وتجنيد جيوشكم ، وحوطوا قواصى الاسلام ، أى : احفظوها من غارة أهل الفتنة عليها ، واجعلوا كل قاصية لكم لا عليكم ، وقواصى الاسلام : أطرافه ، ورمى الصفاة ـ بفتح الصاد ـ كناية عن طمع العدو فيما باليد. وأصل الصفاة : الحجر الصلد ، يراد منها القوة. وما يحميه الانسان

٢٥٩

باطنهم] وصمتهم عن حكم منطقهم : لا يخالفون الحقّ ، ولا يختلفون فيه ، هم دعائم الإسلام ، وولائج الاعتصام (١) ، بهم عاد الحقّ فى نصابه (٢) ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدّين عقل وعاية ورعاية (٣) لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ، ورعاته قليل

٢٣٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله لعبد اللّه بن عباس ، وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة (٤) بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل ، فقال عليه السلام :

__________________

(١) ولائج : جمع وليجة ، وهى ما يدخل فيه السائر اعتصاما من مطر أو برد ، أو توقيا من مفترس

(٢) نصاب الحق : أصله ، والأصل فى معنى النصاب : مقبض السكين ، فكأن الحق نصل ينفصل عن مقبضه ويعود إليه ، وانزاح : زال ، وانقطاع لسان الباطل عن منبته ـ بكسر الباء ، وقياسه الفتح ، وورد به أيضا ـ أى : عن أصله ، مجاز عن بطلان حجته ، وانخذاله عند هجوم جيش الحق عليه

(٣) عقل الوعاية : حفظ فى فهم ، والرعاية : ملاحظة أحكام الدين وتطبيق الأعمال عليها ، وهذا هو العلم بالدين حقيقة ، أما السماع والرواية مجردين عن الفهم والرعاية فمنزلتهما لا تخالف منزلة الجهل إلا فى الاسم.

(٤) كان الناس يهتفون باسم أمير المؤمنين للخلافة ، أى : ينادون به وعثمان رضى اللّه عنه محصور ، فأرسل إليه عثمان يأمره أن يخرج إلى ينبع ـ وكان فيها رزق لأمير المؤمنين ـ فخرج ، ثم استدعاه لينصره فحضر ، ثم عاود الأمر بالخروج مرة ثانية

٢٦٠