نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

لكم عند كلّ طاعة عونا من اللّه : يقول على الألسنة ، ويثبّت الأفئدة ، [فيه] كفاء لمكتف (١) وشفاء لمشتف

واعلموا أنّ عباد اللّه المستحفظين علمه (٢) يصونون مصونه ، ويفجّرون عيونه ، يتواصلون بالولاية (٣) ويتلاقون بالمحبّة ، ويتساقون بكأس رويّة (٤) ويصدرون بريّة ، لا تشوبهم الرّيبة (٥) ولا تسرع فيهم الغيبة ، على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم (٦) فعليه يتحابّون ، وبه يتواصلون ، فكانوا كتفاضل البذر ينتقى (٧) فيؤخذ منه ويلقى ، قد ميّزه التّخليص ، وهذّبه التّمحيص (٨) فليقبل

__________________

(١) الكفاء ـ بالفتح ـ : الكافى أو الكفاية

(٢) المستحفظين ـ بصيغة اسم المفعول ـ : الذين أودعوا العلم ليحفظوه.

(٣) الولاية : الموالاة والمصافاة

(٤) الروية : فعيلة بمعنى فاعلة ، أى : يروى شرابها من ظمأ التباعد والنفرة. ورية ـ بكسر الراء وتشديد الياء ـ الواحدة من الرى ، وهو زوال العطش

(٥) لا يخالطهم الريب والشك فى عقائدهم ، ولا تسرع فيهم بالافساد لامتناعهم من الاغتياب وعدم إصغائهم إليه

(٦) «عقد خلقهم» أى : إنه وصل خلقهم الجسمانى وأخلاقهم النفسية بهذه الصفات وأحكم صلتهما بها حتى كأنهما معقودان بها

(٧) أى : كانوا إذا نسبتهم إلى سائر الناس رأيتهم يفضلونهم ويمتازون عليهم كتفاضل البذر ، فان البذر يعتنى بتنقيته ليخلص النبات من الزوان ـ وهو بكسر الزاى أو ضمها حب يخالط البر ـ ويكون النوع صافيا لا يخالطه غيره ، وبعد التنقية يؤخذ منه ويلقى فى الأرض ، فالبذر يكون أفضل الحبوب وأخلصها

(٨) التهذيب : التنقية ، والتمحيص : الاختبار

٢٢١

امرؤ كرامة بقبولها (١) وليحذر قارعة قبل حلولها ، ولينظر امرؤ فى قصير أيّامه ، وقليل مقامه ، فى منزله حتّى يستبدل به منزلا (٢) فليصنع لمتحوّله ، ومعارف منتقله (٣) فطوبى لذى قلب سليم أطاع من يهديه ، وتجنّب من يرديه وأصاب سبيل السّلامة ببصر من بصّره (٤) وطاعة هاد أمره ، وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه ، وتقطع أسبابه ، واستفتح التّوبة ، وأماط الحوبة. فقد أقيم على الطّريق ، وهدى نهج السّبيل

٢١٠ ـ ومن دعاء كان يدعو به عليه السلام كثيرا

الحمد للّه الّذى لم يصبح بى ميّتا ولا سقيما (٥) ولا مضروبا على عروقى بسوء ولا مأخوذا بأسوإ عملى ، ولا مقطوعا دابرى ، ولا مرتدّا عن دينى ، ولا منكرا لربّى ، ولا مستوحشا من إيمانى ، ولا ملتبسا عقلى ، ولا معذّبا

__________________

(١) الكرامة هنا : النصيحة ، أى : اقبلوا نصيحة لا أبتغى عليها أجرا إلا قبولها والقارعة : داعية الموت ، أو القيامة تأتى بغتة

(٢) حتى : غاية للقصر والقلة ، فقصير الأيام وما بعده ينتهى باستبدال المنزل بمنزل الآخرة

(٣) المتحول ـ بفتح الواو مشددة ـ : ما يتحول إليه. ومعارف المنتقل : المواضع التى يعرف الانتقال إليها

(٤) أى : باستنارته بارشاد من أرشد وطاعة الهادى الذى أمره ، تغلق أبواب الهدى بالموت. والحوبة ـ بفتح الحاء ـ : الاثم ، وإماطتها : تنحيتها

(٥) ميتا : حال من المجرور ، و «أصبح» تامة.

٢٢٢

بعذاب الأمم من قبلى. أصبحت عبدا مملوكا ظالما لنفسى ، لك الحجّة على ولا حجّة لى [و] لا أستطيع أن آخذ إلاّ ما أعطيتنى ، ولا أتّقى إلاّ ما وقيتنى اللّهمّ إنّى أعوذ بك أن أفتقر فى غناك ، أو أضلّ فى هداك ، أو أضام فى سلطانك ، أو أضطهد والأمر لك اللّهمّ اجعل نفسى أوّل كريمة تنتزعها من كرائمى ، وأوّل وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندى اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك ، أو نفتن عن دينك ، أو تتابع بنا أهواؤنا (١) دون الهدى الّذى جاء من عندك

٢١١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

خطبها بصفين

أمّا بعد ، فقد جعل اللّه لى عليكم حقّا بولاية أمركم ، ولكم علىّ من الحقّ مثل الّذى لى عليكم ، فالحقّ أوسع الأشياء فى التّواصف (٢) وأضيقها فى التّناصف ، لا يجرى لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجرى عليه إلاّ جرى له.

__________________

(١) التتابع : ركوب الأمر على خلاف الناس والاسراع إلى الشر ، واللجاجة ، يستعيذ من لجاجة الهوى به فيما دون الهدى

(٢) يتسع القول فى وصفه حتى إذا وجب على الانسان الواصف له فر من أدائه ولم ينتصف من نفسه كما ينتصف لها

٢٢٣

ولو كان لأحد أن يجرى له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصا للّه سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ، ولعدله فى كلّ ما جرت عليه صروف قضائه ، ولكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثّواب تفضّلا منه وتوسّعا بما هو من المزيد أهله

ثمّ جعل ـ سبحانه ـ من حقوقه حقوقا افترضها لبعض النّاس على بعض ، فجعلها تتكافأ فى وجوهها ، ويوجب بعضها بعضا ، ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض (١). وأعظم ما افترض ـ سبحانه ـ من تلك الحقوق حقّ الوالى على الرّعيّة ، وحقّ الرّعيّة على الوالى ، فريضة فرضها اللّه ـ سبحانه ـ لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم ، وعزّا لدينهم فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلاّ باستقامة الرّعيّة ، فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالى حقّه ، وأدّى الوالى إليها حقّها ، عزّ الحقّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على أذلالها السّنن (٢) ، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع فى بقاء الدّولة ، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرّعيّة واليها ، أو أجحف

__________________

(١) فحقوق العباد التى يكافىء بعضها بعضا ولا يستحق أحد منها شيئا إلا بأدائه مكافأة ما يستحقه هى من حقوقه تعالى أيضا

(٢) ذل الطريق ـ بكسر الذال ـ : محجته. و «جرت أمور اللّه أذلالها ، وعلى أذلالها» أى : وجوهها ، والسنن : جمع سنة ، وطمع : مبنى للمجهول

٢٢٤

الوالى برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الادغال فى الدّين (١) ، وتركت محاجّ السّنن ، فعمل بالهوى ، وعطّلت الأحكام وكثرت علل النّفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل (٢) ، ولا لعظيم باطل فعل!! فهنالك تذلّ الأبرار ، وتعزّ الأشرار ، وتعظم تبعات اللّه عند العباد ، فعليكم بالتّناصح فى ذلك وحسن التّعاون عليه ، فليس أحد ـ وإن اشتدّ على رضا اللّه حرصه ، وطال فى العمل اجتهاده ـ ببالغ حقيقة ما اللّه أهله من الطّاعة [له] ولكن من واجب حقوق اللّه على العباد النّصيحة بمبلغ جهدهم ، والتّعاون على إقامة الحقّ بينهم ، وليس امرؤ ـ وإن عظمت فى الحقّ منزلته ، وتقدّمت فى الدّين فضيلته ـ بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه (٣) ، ولا أمرؤ ـ وإن صعّرته النّفوس ، واقتحمته العيون (٤) ـ بدون أن يعين على ذلك ، أو يعان عليه.

فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له ، فقال عليه السلام :

__________________

(١) الادغال فى الأمر : إدخال ما يفسده فيه. ومحاج السنن : أوساط طرقها

(٢) أى : إذا عطل الحق لا تأخذ النفوس وحشة أو استغراب ، لتعودها على تعطيل الحقوق وأفعال الباطل

(٣) «بفوق أن يعان ـ الخ» أى : بأعلى من أن يحتاج إلى الاعانة ، أى : بغنى عن المساعدة

(٤) اقتحمته : احتقرته. «بدون أن يعين» أى : بأعجز أن يساعد غيره. «١٥ ـ ن ـ ج ـ ٢»

٢٢٥

إنّ من حقّ من عظم جلال اللّه فى نفسه ، وجلّ موضعه من قلبه ، أن يصغر عنده ـ لعظم ذلك ـ كلّ ما سواه (١) ، وإنّ أحقّ من كان كذلك لمن عظمت نعمة اللّه عليه (٢) ، ولطف إحسانه إليه ، فإنّه لم تعظم نعمة اللّه على أحد إلاّ ازداد حقّ اللّه عليه عظما ، وإنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح النّاس أن يظنّ بهم حبّ الفخر (٣) ، ويوضع أمرهم على الكبر ، وقد كرهت أن يكون جال فى ظنّكم أنّى أحبّ الإطراء ، واستماع الثّناء (٤) ، ولست ـ بحمد اللّه ـ كذلك ، ولو كنت أحبّ أن يقال ذلك لتركته انحطاطا للّه سبحانه عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء ، وربّما استحلى النّاس الثّناء بعد البلاء (٥) ، فلا تثنوا علىّ بجميل ثناء لإخراجى نفسى إلى اللّه وإليكم من التّقيّة فى حقوق لم أفرغ من أدائها (٦) ، وفرائض لا بدّ من إمضائها ، فلا تكلّمونى

__________________

(١) «كل» فاعل «يصغر» أى : يصغر عنده كل ما سوى اللّه لعظم ذلك الجلال الالهى.

(٢) وأحق المعظمين للّه بتصغير ما سواه : هو الذى عظمت نعمة اللّه عليه

(٣) أصل السخف رفة العقل وغيره ، أى : ضعفه. والمراد أدنى حالة للولاة أن يظن بهم الصالحون أنهم يحبون الفخر ويبنون أمورهم على أساس الكبر.

(٤) كره الامام أن يخطر ببال قومه كونه يحب الاطراء ، أى : المبالغة فى الثناء عليه ، فان حق الثناء للّه وحده ، فهو رب العظمة والكبرياء

(٥) البلاء : إجهاد النفس فى إحسان العمل

(٦) «لاخراجى» متعلق بتثنوا. والتقية : الخوف ، والمراد لازمه ، وهو العقاب. و «من» متعلق باخراجى ، أى : إذا أخرجت نفسى من عقاب اللّه فى حق من

٢٢٦

بما تكلّم به الجبابرة (١) ، ولا تتحفّظوا منّى بما يتحفّظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطونى بالمصانعة ، ولا تظنّوا بى استثقالا فى حقّ قيل لى ، ولا التماس إعظام لنفسى ، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ ، أو مشورة بعدل ، فإنّى لست فى نفسى بفوق أن أخطىء ، ولا آمن ذلك من فعلى إلاّ أن يكفى اللّه من نفسى ما هو أملك به منّى (٢) ، فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره : يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا ، وأخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضّلالة بالهدى ، وأعطانا البصيرة بعد العمى.

٢١٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

اللّهمّ إنّى أستعديك على قريش (٣) [ومن أعانهم] فإنّهم قد قطعوا رحمى

__________________

الحقوق أو قضاء فريضة من الفرائض فلا تثنوا على ذلك ، فانما وقيت نفسى ، وعملت لسعادتى ، على أنى ما أديت الواجب على فى ذلك ، وما أجزل هذا القول وأجمعه

(١) ينهاهم عن مخاطبتهم له بألقاب العظمة كما يلقبون الجبابرة ، وعن التحفظ منه بالتزام الذلة والموافقة على الرأى صوابا أو خطأ كما يفعل مع أهل البادرة ـ أى : الغضب ـ و «صانعه» إذا أتى ما يرضيه وإن كان غير راض عنه ، والمصانعة : المداراة

(٢) يقول : لا آمن الخطأ فى أفعالى إلا إذا كان يسر اللّه لنفسى فعلا هو أشد ملكا له منى فقد كفانى اللّه ذلك الفعل فأكون على أمن من الخطأ فيه.

(٣) أستعديك : أستعينك ، و «إكفاء الأناء» أى : قلبه ، مجاز عن تضييعهم لحقه.

٢٢٧

وأكفأوا إنائى ، وأجمعوا على منازعتى حقّا كنت أولى به من غيرى ، وقالوا ألا إنّ فى الحقّ أن تأخذه وفى الحقّ أن تمنعه ، فاصبر مغموما ، أو مت متأسّفا فنظرت فإذا ليس لى رافد ، ولا ذابّ ، ولا مساعد (١) إلاّ أهل بيتى فضننت بهم عن المنيّة فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقى على الشّجى ، وصبرت من كظم الغيظ علىّ أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزّ الشّفار (٢) قال الرضى : وقد مضى هذا الكلام فى أثناء خطبة متقدمة إلا أنى كررته ههنا لاختلاف الروايتين

٢١٣ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام

فقدموا على عمّالى وخزّان بيت مال المسلمين الّذى فى يدى وعلى أهل مصر كلّهم فى طاعتى وعلى بيعتى ، فشتّتوا كلمتهم ، وأفسدوا علىّ جماعتهم ، ووثبوا على شيعتى ، فقتلوا طائفة منهم غدرا ، وطائفة منهم عضّوا على أسيافهم (٣) فضاربوا بها حتّى لقوا اللّه صادقين

__________________

(١) الرافد : المعين ، والذاب : المدافع ، و «ضننت» أى : بخلت ، والقذى : ما يقع فى العين ، والشجى : ما اعترض فى الحلق من عظم ونحوه ، يريد غصة الحزن

(٢) الشفار : جمع شفرة ، وهى حد السيف ونحوه

(٣) العض على السيوف : مجاز عن ملازمة العمل بها

٢٢٨

٢١٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل لقد أصبح أبو محمّد بهذا المكان غريبا! أما واللّه لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب ، أدركت وترى من بنى عبد مناف (١) وأفلتنى أعيان بنى جمح ، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله (٢) فوقصوا دونه

٢١٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قد أحيا عقله (٣) وأمات نفسه ، حتّى دقّ جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له

__________________

(١) الوتر : الثأر ، وهو بفتح الواو فى لغة أهل العالية ، وبكسرها فى لغة نجد وتميم. وطلحة كان من بنى عبد مناف كالزبير ، وقاتله مروان بن الحكم وهما فى عسكر واحد فى حرب الجمل : رماه بسهم على غرة انتقاما لعثمان رضى اللّه عنه. وأفلته الشىء : خلص منه فجأة ، وجمح : قبيلة عربية كان من أعيانها ـ أى : عظمائها ـ جماعة مع أم المؤمنين فى واقعة الجمل ، ولم يصبهم ما أصاب غيرهم ، ومن هذه القبيلة صفوان ابن أمية بن خلف ، واسمه عبد اللّه ، وعبد الرحمن بن صفوان ، ويروى «وأفلتنى أعيار بنى جمح» جمع عير ـ بفتح فسكون ـ وهو الحمار أو الوحشى خاصة

(٢) «أتلعوا» أى : رفعوا أعناقهم ومدوها لتناول أمر ، وهو مناوأة أمير المؤمنين على الخلافة ، فوقصوا ، أى : كسرت أعناقهم ، دون الوصول إليه ، وتقول : قد وقصت الناقة براكبها ـ من باب وعد ـ إذا رمت به فدقت عنقه ، فالعنق موقوصة

(٣) حكاية عن صاحب التقوى. وإحياء العقل بالعلم والفكر والنفوذ فى الأسرار الالهية ، وإماتة النفس بكفها عن شهواتها ، والجليل العظيم ، و «دق» أى : صغر حتى خفى أو كاد. وبروق اللامع من نور المقام الآلهى يوضح طريق السعادة فلا يزال

٢٢٩

لامع كثير البرق ، فأبان له الطّريق ، وسلك به السّبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السّلامة ، ودار الإقامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه فى قرار الأمن والرّاحة : بما استعمل قلبه ، وأرضى ربّه

٢١٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

[قاله] بعد تلاوته : «أَلْهٰاكُمُ اَلتَّكٰاثُرُ حَتّٰى زُرْتُمُ اَلْمَقٰابِرَ» (١)

يا له مراما ما أبعده (٢) وزورا ما أغفله ، وخطرا ما أفظعه ، لقد استخلوا منهم أىّ مدّكر (٣) وتناوشوهم من مكان بعيد!! أ [ف‍] بمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟! يرتجعون منهم أجسادا خوت (٤) وحركات

__________________

السالك يتنقل من مقام عرفان وفضل إلى مقام آخر من مقامات الكمال ، وهذا هو التدافع من باب إلى باب حتى يصل إلى أعلى ما يمكن له ، وهناك سعادته ومقر نعيمه الأبدى.

(١) ألهاه عن الشىء : صرفه عنه باللهو ، أى : صرفكم عن اللّه اللهو بمكاثرة بعضكم لبعض وتعديد كل منكم مزايا أسلافه حتى بعد زيارتكم المقابر.

(٢) المرام : الطلب ، بمعنى المطلوب ، والزور ـ بالفتح ـ : الزائرون ، وهم يرومون نيل الشرف بمن تقدمهم ، وتلك غفلة ، فانما ينالون الشرف مما يكون من موجباته فى ذواتهم ، فما أبعد ما يرومون بغفلتهم

(٣) «استخلوهم» أى : وجدوهم خالين ، والمدكر : الادكار ، بمعنى الاعتبار ، أى : خلوا أسلافهم من الاعتبار ، ثم قلب المعنى فى عبارة الامام ، فكان أخلوا الأدكار من آبائهم ، مبالغة فى تقريعهم حيث أخلوهم منه وهو محيط بهم ، و «أى» صفة محذوف تقديره مدكرا ، وتناوشوهم : تناولوهم بالمفاخرة من مكان بعيد عنها

(٤) خوت : سقط بناؤها وخلت من أرواحها

٢٣٠

سكنت ، ولأن يكونوا عبرا أحقّ من أن يكونوا مفتخرا ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلّة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزّة (١)!! لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة (٢) وضربوا منهم فى غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الدّيار الخاوية (٣) والرّبوع الخالية ، لقالت ذهبوا فى الأرض ضلاّلا ، وذهبتم فى أعقابهم جهّالا ، تطأون فى هامهم (٤) ، وتستثبتون فى أجسادهم وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خرّبوا ، وإنّما الأيّام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم (٥)

__________________

(١) أحجى : أقرب للحجى ، أى : العقل ، فان موت الآباء دليل الفناء ، ومن عاقبته فناء كيف يفتخر

(٢) العشوة ـ مثلث العين ـ ركوب الأمر على غير بيان ، وبفتح العين ليس غير : الظلمة. وأما سوء البصر فعشا ـ بالقصر ـ

(٣) الخاوية : المتهدمة ، والربوع : المساكن ، والضلال ـ كعشاق ـ : جمع ضال

(٤) جمع هامة : أعلى الرأس و «تستثبتون» أى : تحاولون إثبات ما تثبتون من الأعمدة والأوتاد والجدران فى أجسادهم لذهابها ترابا وامتزاجها بالأرض التى تقيمون فيها ما تقيمون ، ويروى «وتستنبتون فى أجسادهم» أى : تزرعون النبات فى أجسادهم ، وذلك لأن أديم الأرض الظاهر إذا كان من أبدان الموتى فالزرع لا محالة يكون ثابتا فى الأجزاء الترابية التى هى أبدان الحيوانات ، وترتعون : تأكلون وتتلذذون بما لفظوه ، أى : طرحوه وتركوه

(٥) بواك : جمع باكية ، ونوائح : جمع نائحة ، وبكاء الأيام على السابقين واللاحقين حفظها لما يكون من مصابهم

٢٣١

أولئكم سلف غايتكم (١) وفرّاط مناهلكم ، الّذين كانت لهم مقاوم العزّ ، وحلبات الفخر ، ملوكا وسوقا ، سلكوا فى بطون البرزخ سبيلا (٢) سلّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا فى فجوات قبورهم جمادا لا ينمون ، وضمارا لا يوجدون ، لا يفزعهم ورود الأهوال ، ولا يحزنهم تنكّر الأحوال ، ولا يحفلون بالرّواجف ، ولا يأذنون للقواصف ، غيّبا لا ينتظرون ، وشهودا لا يحضرون ، وإنّما كانوا جميعا فتشتّتوا ، وألاّفا فافترقوا (٣) ، وما عن طول عهدهم ولا بعد محلّهم عميت أخبارهم ، وصمّت ديارهم (٤) ، ولكنّهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنّطق خرسا ،

__________________

(١) سلف الغاية : السابق إليها ، وغايتهم : حد ما ينتهون إليه ، وهو الموت ، والفراط : جمع فارط ، وهو كالفرط ـ بالتحريك ـ : متقدم القوم إلى الماء ليهيىء لهم مواضع ما تشرب الشاربة من النهر مثلا ، ومقاوم : جمع مقام ، والحلبات : جمع حلبة ـ بالفتح ـ وهى الدفعة من الخيل فى الرهان ، أو هى الخيل تجتمع للنصرة من كل أوب. والسوق ـ بضم ففتح ـ جمع سوقة ـ بالضم ـ بمعنى الرعية

(٢) البرزخ : القبر ، والفجوات : جمع فجوة ، وهى الفرجة ، والمراد منها شق القبر ، و «لا ينمون» من النمو وهو الزيادة من الغذاء ، والضمار ـ ككتاب ـ : المال لا يرجى رجوعه ، وخلاف العيان ، ولا يحفلون ـ بكسر الفاء ـ أى : لا يبالون والرواجف : جمع راجفة ، وهى الزلزلة توجب الاضطراب ، والقواصف : من «قصف الرعد» إذا اشتدت هدهدته ، وأذن له : استمع

(٣) ألافا : جمع أليف ، أى : مؤتلف مع غيره

(٤) صم يصم ـ بالفتح فيهما ـ : خرس عن الكلام ، وخرس الديار : عدم صعود الصوت من سكانها

٢٣٢

وبالسّمع صمما ، وبالحركات سكونا ، فكأنّهم فى ارتجال الصّفة صرعى سبات (١) ، جيران لا يتآنسون ، وأحبّاء لا يتزاورون ، بليت بينهم عرى التّعارف (٢) ، وانقطعت منهم أسباب الإخاء ، فكلّهم وحيد وهم جميع ، وبجانب الهجر وهم أخلاّء ، لا يتعارفون لليل صباحا ، ولا لنهار مساء ، أىّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا (٣) ، شاهدوا من أخطار دارهم أفظع ممّا خافوا ، ورأوا من آياتها أعظم ممّا قدّروا ، فكلتا الغايتين مدّت لهم إلى مباءة (٤) ، فأتت مبالغ الخوف والرّجاء ، فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا (٥) ، ولئن عميت آثارهم ، وانقطعت أخبارهم ، لقد رجعت فيهم أبصار العبر (٦) ، وسمعت عنهم آذان العقول ، وتكلّموا من غير جهات النّطق ،

__________________

(١) ارتجال الصفة : وصف الحال بلا تأمل فالوصف لهم باول النظر يظنهم صرعوا من السبات ـ بالضم ـ أى : النوم

(٢) العرى : جمع عروة ، وهى مقبض الدلو والكوز مثلا ، وبليت : رثت وفنيت. والمراد زوال نسبة التعارف بينهم

(٣) الجديدان : الليل والنهار ، فان ذهبوا فى نهار فلا يعرفون له ليلا ، أو فى ليل فلا يعرفون له نهارا

(٤) الغايتان : الجنة والنار ، والمباءة : مكان التبوؤ والاستقرار ، والمراد منها ما يرجعون إليه فى الآخرة ، و «قد مدت الغاية» أى : أخرت عنه فى الدنيا إلى مرجع يفوق فى سعادته أو شقائه كل غاية سما إليها الخوف والرجاء.

(٥) عيوا : عجزوا

(٦) رجعت فيهم أبصار العبر : نظرت إليهم بعد الموت نظرة ثانية. والعبر : جمع عبرة

٢٣٣

فقالوا : كلحت الوجوه النّواضر (١) ، وخوت الأجسام النّواعم ، ولبسنا أهدام البلى (٢) ، وتكاءدنا ضيق المضجع ، وتوارثنا الوحشة ، وتهكّعت علينا الرّبوع الصّموت ، فانمحت محاسن أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت فى مساكن الوحشة إقامتنا ، ولم نجد من كرب فرجا ، ولا من ضيق متّسعا! فلو مثّلتهم بعقلك ، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك ، وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكّت (٣) ، واكتحلت أبصارهم بالتّراب فخسفت ، وتقطّعت الألسنة فى أفواههم بعد ذلاقتها ، وهمدت القلوب فى صدورهم بعد يقظتها ، وعاث فى كلّ جارحة منهم جديد بلى سمّجها (٤) وسهّل طرق الآفة

__________________

(١) كلح ـ من باب خضع ـ كلوحا : تكشر فى عبوس ، والنواضر : الحسنة البواسم ، وخوت : تهدمت بنيتها وتفرقت أعضاؤها

(٢) الأهدام : جمع هدم ـ بكسر الهاء ـ وهو الثوب البالى أو المرقع ، و «تكاءده الأمر» أى : شق عليه ، وتهكعت : تهدمت ، والربوع : أماكن الاقامة. والصموت : التى لا تنطق ، والمراد بها القبور ، ويروى «وتهكمت ينا الربوع الصموت» بالميم. والتهكم : الاستهزاء والسخرية

(٣) ارتسخ : مبالغة فى رسخ ، ورسخ الغدير : نش ماؤه ، أى : أخذ فى النقصان ، و «نضب» أى : نضب مستودع قوة السماع وذهبت مادته بامتصاص الهوام ، وهى الديدان هنا ، واستكت الأذن : صمت ، وخسف عين فلان : فقأها ، وذلاقة الألسن : حدتها فى النطق

(٤) عاث : أفسد ، والبلى : التحلل والفناء ، وسمح الصورة تسميجا : قبحها ، أى : أفسد الفناء كل عضو منهم فقبحه

٢٣٤

إليها ، مستسلمات فلا أيد تدفع ، ولا قلوب تجزع ، لرأيت أشجان قلوب (١) وأقذاء عيون ، لهم من كلّ فظاعة صفة حال لا تنتقل ، وغمرة لا تنجلى (٢).

وكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون ، كان فى الدّنيا غذىّ ترف (٣) ، وربيب شرف ، يتعلّل بالسّرور فى ساعة حزنه (٤) ، ويفزع إلى السّلوة إن مصيبة نزلت به ، ضنّا بغضارة عيشه ، وشحاحة بلهوه ولعبه؟! فبينما هو يضحك إلى الدّنيا وتضحك [الدّنيا] إليه فى ظلّ عيش غفول (٥) إذ وطىء الدّهر به حسكه ونقضت الأيّام قواه ونظرت إليه الحتوف من كثب (٦) فخالطه بثّ لا يعرفه ، ونجىّ همّ ما كان يجده ، وتولّدت فيه فترات

__________________

(١) لرأيت : جواب «لو مثلتهم» ، وأشجان القلوب : همومها واحدها شجن ـ بالتحريك ـ وأقذاء العيون : ما يسقط فيها فيؤلمها

(٢) الغمرة : الشدة

(٣) الأنيق : رائق الحسن ، والغذى : اسم بمعنى المفعول ، أى : مغذى بالنعيم ، والربيب : بمعنى المربى ، ربه يربه ، أى : رباه

(٤) يتشاغل بأسباب السرور ليتلهى بها عن حزنه ، والسلوة : انصراف النفس عن الألم بتخيل اللذة «ضنا» أى : بخلا ، وغضارة العيش : طيبه

(٥) وصف العيش بالغفلة لأنه إذا كان هنيئا يوجبها ، والحسك : نبات تعلق قشرته بصوف الغنم ورقه كورق الرجلة وأدق ، وعند ورقه شوك ملزز صب ذو ثلاث شعب. تمثيل لمس الآلام.

(٦) الحتوف : المهلكات ، وأصل الحتف الموت ، من كثب ـ بالتحريك ـ أى : قرب ، أى : توجهت إليه المهلكات على قرب منه ، والبث : الحزن ، والنجى : المناجى ، وخالطه الحزن : مازج خواطره

٢٣٥

علل آنس ما كان بصحّته (١) ، ففزع إلى ما كان عوّده الأطبّاء من تسكين الحارّ بالقارّ (٢) وتحريك البارد بالحارّ ، فلم يطفىء ببارد إلاّ ثوّر حرارة ، ولا حرّك بحارّ إلاّ هيّج برودة ، ولا اعتدل بممازج لتلك الطّبائع إلاّ أمدّ منها كلّ ذات داء (٣) ، حتّى فتر معلّله (٤) ، وذهل ممرّضه ، وتعايا أهله بصفة دائه (٥) وخرسوا عن جواب السّائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجىّ خبر يكتمونه : فقائل هو لما به (٦) وممنّ لهم إياب عافيته ، ومصبّر لهم على فقده ، يذكّرهم أسى الماضين من قبله (٧) فبينما هو كذلك على جناح من فراق الدّنيا ، وترك الأحبّة ، إذ عرض له عارض من غصصه فتحيّرت نوافذ فطنته (٨) ، ويبست

__________________

(١) آنس : حال من ضمير «فيه» ، والفترات : جمع فترة ، وهى انحطاط القوة ، أى : تولد فيه الضعف بسبب العلل حال كونه أشد أنسا بصحته من جميع الأوقات السابقة

(٢) القار : هنا البارد

(٣) أى : ما طلب تعديل مزاجه بدواء يمازج ما فيه من الطبائع ليعد لها إلا وساعد كل طبيعة تولد الداء

(٤) معلل المريض : من يسليه عن مرضه بترجية الشفاء ، كما أن ممرضه من يتولى خدمته فى مرضه لمرضه

(٥) «تعايا أهله» أى : اشتركوا فى العجز عن وصف دائه ، واختلف الحاضرون بين يدى المريض فى الخبر المحزن : يكتمونه عنه.

(٦) «هو لما به» أى : هو مملوك لعلته فهو هالك ، والممنى : مخيل الأمنية ، والاياب : الرجوع

(٧) أسى : جمع أسوة

(٨) نوافذ الفطنة : ما كان من أفكار نافذة ، أى : مصيبة للحقيقة

٢٣٦

رطوبة لسانه فكم من مهمّ من جوابه عرفه فعىّ عن ردّه (١) ، ودعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصامّ عنه : من كبير كان يعظّمه ، أو صغير كان يرحمه ، وإنّ للموت لغمرات هى أفظع من أن تستغرق بصفة ، أو تعتدل على قلوب أهل الدّنيا (٢)

٢١٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله عند تلاوته : «رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَلاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ» إنّ اللّه سبحانه [وتعالى] جعل الذّكر جلاء القلوب (٣) ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح للّه ـ عزّت آلاؤه ـ فى البرهة بعد البرهة وفى أزمان الفترات (٤) عباد ناجاهم فى فكرهم ، وكلّمهم فى ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة فى الأبصار والأسماع والأفئدة (٥) يذكّرون بأيّام اللّه ، ويخوّفون مقامه ، بمنزلة الأدلّة فى الفلوات (٦) ، من أخذ

__________________

(١) عى : عجز لضعف القوة المحركة للسان.

(٢) «تعتدل» أى : تستقيم عليها بالقبول والادراك ، أى : لغفلتهم عنها لا تتناسب عند عقولهم فيدركوها

(٣) الذكر : استحضار الصفات الآلهية ، والوقرة : ثقل فى السمع. والعشوة : ـ مثلثة العين ـ ضعف البصر

(٤) الفترة بين العملين. زمان بينهما يخلو منهما ، والمراد أزمنة الخلو من الأنبياء مطلقا ، و «ناجاهم» أى : خاطبهم بالالهام

(٥) استصبح : أضاء مصباحه ، أى : أضاء مصباح الهدى لهم بنور اليقظة فى أبصارهم الخ

(٦) الفلوات : المفازات والقفار واحدها فلاة

٢٣٧

القصد حمدوا إليه طريقه (١) وبشّروه بالنّجاة ، ومن أخذ يمينا وشمالا ذمّوا إليه الطّريق وحدّروه من الهلكة ، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظّلمات ، وأدلّة تلك الشّبهات ، وإنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه : يقطعون به أيّام الحياة ، ويهتفون بالزّواجر عن محارم اللّه فى أسماع الغافلين (٢) ، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنّما قطعوا الدّنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ فى طول الإقامة فيه (٣) ، وحقّقت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدّنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى النّاس ، ويسمعون ما لا يسمعون. فلو مثّلتهم لعقلك فى مقاومهم المحمودة (٤) ومجالسهم المشهودة ، وقد نشروا دواوين أعمالهم ، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كلّ صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصّروا عنها ، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها ،

__________________

(١) «أخذ القصد» أى : ركب الاعتدال فى سلوكه

(٢) هتف به ـ كضرب ـ صاح ودعا ، وهتفت الحمامة : صاتت

(٣) «فى طول الاقامة» حال من أهل البرزخ ، والعدات : جمع عدة ـ بكسر ففتح مخفف ـ أى : كأنما القيامة كشفت لهم عن الوعود التى وعد بها الأخيار والأشرار

(٤) مقاوم : جمع مقام ، مقاماتهم فى خطاب الوعظ ، والدواوين : جمع ديوان ، وهو مجتمع الصحف ، والدفتر : ما يكتب فيه أسماء الجيش وأهل الأعطيات.

٢٣٨

وحمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم (١) ، فضعفوا عن الاستقلال بها ، فنشجوا نشيجا ، وتجاوبوا نحيبا ، يعجّون إلى ربّهم من مقام ندم واعتراف ، لرأيت أعلام هدى ، ومصابيح دجى ، قد حفّت بهم الملائكة ، وتنزّلت عليهم السّكينة ، وفتحت لهم أبواب السّماء ، وأعدّت لهم مقاعد الكرامات ، فى مقام اطّلع اللّه عليهم فيه فرضى سعيهم ، وحمد مقامهم ، يتسمّون بدعائه روح التّجاوز (٢) رهائن فاقة إلى فضله ، وأسارى ذلّة لعظمته ، جرح طول الأسى قلوبهم (٣) ، وطول البكاء عيونهم ، لكلّ باب رغبة إلى اللّه منهم يد قارعة ، يسألون من لا تضيق لديه المنادح (٤) ، ولا يخيب عليه الرّاغبون ، فحاسب نفسك لنفسك ، فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك

__________________

(١) أى : نسبوا ما صدر عنهم إلى تقصير هممهم عن أداء الواجب عليهم ، ولم يحولوه على ربهم ، فجعلوا الأوزار حملا على ظهورهم ، فاحسوا بالضعف عن الاستقلال بها ، أى : القيام بحملها ، ونشج الباكى ينشج ـ كضرب يضرب ـ نشيجا : غص بالبكاء فى حلقه ، والنحيب : أشد البكاء ، وتجاوبوا به : أجاب بعضهم بعضا يتناحبون ، وعج يعج ـ كضرب ومل ـ : صاح ورفع صوته ، فهم يصيحون من مواقف الندم والاعتراف بالخطأ

(٢) تنسم النسيم : تشممه ، والروح ـ بالفتح ـ النسيم ، أى : يتوقعون التجاوز بدعائهم له

(٣) الأسى : الحزن

(٤) المنادح : جمع مندوحة ، وهى كالندحة ـ بالضم والفتح ـ والمنتدح ـ بفتح الدال ـ : المتسع من الأرض

٢٣٩

٢١٨ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله عند تلاوته «يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ» أدحض مسئول حجّة (١) ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما آنسك بهلكة نفسك؟ أما من دائك بلول (٢) ، [أم] ليس من نومك يقظة؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك؟ فربّما ترى الضّاحى من حرّ الشّمس فتظلّه (٣) ، أو ترى المبتلى بألم يمضّ جسده (٤) فتبكى رحمة له ، فما صبّرك على دائك ، وجلّدك بمصابك ، وعزّاك عن البكاء على نفسك وهى أعزّ الأنفس عليك؟ وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (٥) وقد تورّطت بمعاصيه مدارج سطواته ، فتداو من داء

__________________

(١) أدحض : خبر محذوف ، تقديره الانسان ، ودحضت الحجة ـ كمنع ـ : بطلت ، و «أبرح بنفسه» أى : أعجبته بجهالتها

(٢) بل من مرضه يبل ـ كقل يقل ـ بلولا : حسنت حاله بعد هزال

(٣) ضحا ضحوا : برز فى الشمس ، وفى المختار «ضحى للشمس ـ بكسر الحاء ـ ضحاء ـ بالفتح والمد ـ أى : برز لها ، وضحى يضحى ـ كسعى يسعى ـ ضحاء أيضا ـ بالفتح والمد مثله ـ» اه‍ وفى القاموس «ضحا ضحوا وضحوا وضحيا ـ الأول بفتح فسكون ، والثانى بضمتين ، والثالث بضم فكسر ـ برز للشمس ، وكسعى ورضى ضحوا وضحيا : أصابته الشمس»

(٤) يمض جسده : يبالغ فى نهكه

(٥) أى : خوف أن تبيت بنقمة من اللّه ورزية تذهب بنعيمك ، وقد وقعت بمعاصيه فى طرق سطوته وتعرضت لانتقامه

٢٤٠