نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

ولا جذّ لفروعه ، ولا ضنك لطرقه ، ولا وعوثة لسهولته ، ولا سواد لوضحه ، ولا عوج لانتصابه ، ولا عصل فى عوده ، ولا وعث لفجّه ، ولا انطفاء لمصابيحه ، ولا مرارة لحلاوته. فهو دعائم أساخ فى الحقّ أسناخها (١) ، وثبّت لها أسسها ، وينابيع غزرت عيونها ، ومصابيح شبّت نيرانها ، ومنار اقتدى بها سفّارها (٢) ، وأعلام قصد بها فجاجها ، ومناهل روى بها ورّادها : جعل اللّه فيه منتهى رضوانه ، وذروة دعائمه ، وسنام طاعته ، فهو عند اللّه وثيق الأركان ، رفيع البنيان ، منير البرهان ، مضىء النّيران ، عزيز السّلطان ، مشرف المنار (٣) ، معوز المثار ، فشرّفوه ، واتّبعوه ، وأدّوا إليه حقّه ، وضعوه مواضيعه ثمّ إنّ اللّه بعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، بالحقّ حين دنا من الدّنيا

__________________

(١) أساخ : أثبت ، وأصل «ساخ» غاص فى لين وخاض فيه. والأسناخ : الأصول ، وغزرت : كثرت ، وشبت النار : ارتفعت من الايقاد

(٢) المنار : ما ارتفع لتوضع عليه نار يهتدى إليها ، والسفار ـ بضم فتشديد ـ ذوو السفر ، أى : يهتدى إليها المسافرون فى طريق الحق ، والأعلام : ما يوضع على أوليات الطرق أو وساطها ليدل عليها ، فهو هدايات بسببها قصد السالكون طرقها

(٣) مشرف المنار : مرتفعه ، وأعوزه الشىء : احتاج إليه فلم ينله ، والمثار : مصدر من «ثار الغبار» إذا هاج ، أى : لو طلب أحد إثارة هذا الدين لما استطاع لثباته

٢٠١

الانقطاع ، وأقبل من الآخرة الاطّلاع (١). وأظلمت بهجتها بعد إشراق (٢) وقامت بأهلها على ساق ، وخشن منها مهاد ، وأزف منها قياد ، فى انقطاع من مدّتها ، واقتراب من أشراطها (٣) ، وتصرّم من أهلها ، وانفصام من حلقتها ، وانتشار من سببها ، وعفاء من أعلامها ، وتكشّف من عوراتها ، وقصر من طولها. جعله اللّه بلاغا لرسالته ، وكرامة لأمّته ، وربيعا لأهل زمانه ، ورفعة لأعوانه ، وشرفا لأنصاره ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقّده (٤) ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضلّ نهجه (٥) ، وشعاعا لا يظلم ضوءه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وتبيانا لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ،

__________________

(١) الاطلاع : الاتيان ، تقول : اطلع فلان علينا ، أى : أتانا

(٢) الضمير فى «بهجتها» للدنيا ، و «قامت بأهلها على ساق» أى : أفزعتهم ، وخشونة المهاد : كناية عن شدة آلامها ، وأزف ـ كفرح ـ أى : قرب ، والمراد من القياد انقيادها للزوال

(٣) الأشراط : جمع شرط ـ كسبب ـ أى : علامات انقضائها ، والتصرم : التقطع ، والانفصام : الانقطاع ، وإذا انفصمت الحلقة انقطعت الرابطة ، وانتشار الأسباب : تبددها حتى لا تضبط ، وعفاء الأعلام : اندراسها

(٤) خبت النار : طفئت

(٥) المنهاج : الطريق الواسع. والنهج هنا : السلوك. و «يضل» رباعى ، أى : لا يكون من سلوكه إضلال

٢٠٢

وعزّا لا تهزم أنصاره ، وحقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان وبحبوحته (١) ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه (٢) ، وأثافىّ الإسلام وبنيانه ، وأودية الحقّ وغيطانه (٣). وبحر لا ينزفه المنتزفون (٤) ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السّائرون ، وآكام لا يجوز عنها (٥) القاصدون ، جعله اللّه ريّا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصّلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا

__________________

(١) بحبوحة المكان ـ بضم الباءين ـ : وسطه

(٢) الرياض : جمع روضة ، وهى مستنقع الماء فى رمل أو عشب ، والغدران : جمع غدير ، وهو القطعة من الماء يغادرها السيل ، والمراد أن الكتاب مجمع العدالة تلتقى فيه متفرقاتها. والأثافى : جمع أثفية ، وهى الحجر يوضع عليه القدر ، أى : عليه قام الاسلام

(٣) غيطان الحق : جمع غاط أو غوط ، وهو المطمئن من الأرض ، أى : إن هذا الكتاب منابت طيبة يزكو بها الحق وينمو.

(٤) «لا ينزفه» أى : لا يفنى ماءه ، ولا يستفزعه المغترفون ، ولا ينضبها ـ كيكرمها ـ أى : ينقصها. والماتحون : جمع ماتح : نازع الماء من الحوض. والمناهل : مواضع الشرب من النهر. و «لا يغيضها» من «أغاض الماء» نقصه

(٥) آكام : جمع أكمة ، وهو الموضع يكون أشد ارتفاعا مما حوله ، وهو دون الجبل فى غلظ لا يبلغ أن يكون حجرا فطرق الحق تنتهى إلى أعالى هذا الكتاب ، وعندها ينقطع سير السائرين إليه لا يتجاوزونها ، والمتجاوز هالك ، والمحاج : جمع محجة ، وهى الجادة من الطريق

٢٠٣

ذروته ، وعزا لمن تولاّه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتمّ به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاجّ به (١) ، وحاملا لمن حمله ، ومطيّة لمن أعمله ، وآية لمن توسّم ، وجنّة لمن استلأم (٢) ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى.

١٩٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

كان يوصى به أصحابه

تعاهدوا أمر الصّلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فإنّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النّار حين سئلوا : «مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ» وإنّها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق (٣) وتطلقها إطلاق الرّبق (٤) ، وشبّهها رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم بالحمّة (٥) تكون على باب الرّجل فهو يغتسل منها

__________________

(١) الفلج ـ بالفتح ـ : الظفر والفوز ، وباب فعله نصر

(٢) الجنة ـ بالضم ـ : ما به يتقى الضرر ، و «استلأم» أى : لبس اللأمة ، وهى الدرع أو جميع أدوات الحرب ، أى : إن من جعل القرآن لأمة حربه لمدافعة الشبه والتوقى من الضلالة كان القرآن وقاية له

(٣) حت الورق عن الشجرة : قشره

(٤) الربق ـ بالكسر ـ : حبل فيه عدة عرى كل منها ربقة ، أى : إطلاق الحبل ممن ربط به ، فكأن الذنوب ربق فى الأعناق والصلاة تفكها منها.

(٥) الحمة ـ بالفتح وتشديد الميم ـ : كل عين تنبع بالماء الحار يستشفى بها من العلل ، الدرن : الوسخ. روى فى الحديث أن النبى صلى اللّه عليه وآله وسلم قال «أيسر أحدكم أن يكون على بابه حمة يغتسل منها كل يوم خمس مرات فلا يبقى من درنه شىء؟» قالوا نعم ، قال : «إنها الصلوات الخمس»

٢٠٤

فى اليوم واللّيلة خمس مرّات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن؟! وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين الّذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرّة عين من ولد ولا مال. يقول اللّه سبحانه : «رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَلاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَإِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَإِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ». وكان رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نصبا بالصّلاة (١) بعد التّبشير له بالجنّة ، لقول اللّه سبحانه : «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَاِصْطَبِرْ عَلَيْهٰا» فكان يأمر أهله ، ويصبر عليها نفسه.

ثمّ إنّ الزّكاة جعلت مع الصّلاة قربانا لأهل الاسلام ، فمن أعطاها ، طيّب النّفس بها ، فانّها تجعل له كفّارة ، ومن النّار حجازا ووقاية. فلا يتبعنّها أحد نفسه (٢) ، ولا يكثرنّ عليها لهفه ، فانّ من أعطاها غير طيّب النّفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسّنّة ، مغبون الأجر ، ضالّ العمل ، طويل النّدم.

ثمّ أداء الأمانة ، فقد خاب من ليس من أهلها ، إنّها عرضت على السّموات

__________________

(١) نصبا ـ بفتح فكسر ـ أى : تعبا

(٢) أى : من أعطى الزكاة فلا تذهب نفسه مع ما أعطى تعلقا به ولهفا عليه. ومغبون الأجر : منقوصه ، وأصله من «غبنه فى البيع» ـ من باب ضرب ـ إذا خدعه فأعطاه أقل مما أخذ منه ، وقد غبن ـ مبنيا للمجهول ـ فهو مغبون

٢٠٥

المبنيّة ، والأرضين المدحوّة (١) ، والجبال ذات الطّول المنصوبة فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ، ولو امتنع شىء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لامتنعن ، ولكن أشفقن من العقوبة ، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ وهو الإنسان «إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً» إنّ اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يخفى عليه ما العباد مقترفون فى ليلهم ونهارهم (٢) لطف به خبرا ، وأحاط به علما ، أعضاؤكم شهوده ، وجوارحكم جنوده ، وضمائركم عيونه ، وخلواتكم عيانه.

١٩٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

واللّه ما معاوية بأدهى منّى ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، ولكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة ، واللّه ما أستغفل بالمكيدة ، ولا أستغمز بالشّديدة (٣) ،

__________________

(١) المدحوة : المبسوطة

(٢) «مقترفون» أى : مكتسبون ، والخبر ـ بضم الخاء ـ : العلم ، واللّه لطيف العلم بما يكسبه الناس ، أى : دقيقه ، كأنه ينفذ فى سرائرهم كما ينفذ لطيف الجواهر فى مسام الأجسام ، بل هو أعظم من ذلك. والعيان ـ بكسر العين ـ : المعاينة والمشاهدة وهو مصدر «عاين الأمر» إذا شاهده ورآه بعينه

(٣) «لا أستغمز» ـ بالبناء للمجهول ـ أى : لا أستضعف بالقوة الشديدة ، والمعنى

٢٠٦

١٩٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام

أيّها النّاس ، لا تستوحشوا فى طريق الهدى لقلّة أهله ، فانّ النّاس [قد] اجتمعوا على مائدة شبعها قصير (١) ، وجوعها طويل!! أيّها النّاس ، إنّما يجمع النّاس الرّضا والسّخط (٢) ، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضا ، فقال سبحانه : «فَعَقَرُوهٰا فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ» فما كان إلاّ أن خارت أرضهم بالخسفة (٣) خوار السّكّة المحماة فى الأرض الخوّارة.

أيّها النّاس ، من سلك الطّريق الواضح ورد الماء ، ومن خالف وقع فى التّيه

١٩٧ ـ ومن كلام له عليه السّلام

[روى عنه أنه قاله] عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام [كالمناجى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند قبره] السّلام عليك يا رسول اللّه عنّى وعن ابنتك النّازلة فى جوارك ، والسّريعة

__________________

لا يستضعفنى شديد القوة ، والغمز ـ محركة ـ : الرجل الضعيف

(١) المائدة : هى مائدة الدنيا ، فلا تغرنكم رغباتها فتنضم بكم مع الضالين فى محبتها ، فذلك متاع قليل.

(٢) أى : يجمعانهم فى استحقاق العقاب ، فان الراضى بالمنكر كفاعله ، ومن لم ينه عنه فهو به راض

(٣) خارت : صوتت كخوار الثور ، والسكة المحماة : حديدة المحراث إذا أحميت فى النار ، فهى أسرع غورا فى الأرض الخوارة ـ أى : السهلة اللينة ـ وقد يكون لها

٢٠٧

اللّحاق بك ، قلّ ، يا رسول اللّه عن صفيّتك صبرى ، ورقّ عنها تجلّدى ، إلاّ أنّ لى فى التّأسّى بعظيم فرقتك (١) ، وفادح مصيبتك ، موضع تعزّ ، فلقد وسّدتك فى ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحرى وصدرى نفسك ، إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة ، أما حزنى فسرمد ، وأمّا ليلى فمسهّد (٢) إلى أن يختار اللّه لى دارك الّتى أنت بها مقيم ، وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها (٣) ، فأحفها السّؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذّكر ، والسّلام عليكما سلام مودّع لا قال ولا سئم (٤) فان أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد اللّه الصّابرين

__________________

صوت شديد إذا كان فى الأرض شىء من جذور النبات : يشتد الصوت كلما اشتدت السرعة.

(١) يريد بالتأسى : الاعتبار بالمثال المتقدم ، والفادح : المثقل ، وتقول : فدحه الدين ، إذا أثقله ، وبابه قطع ، وفى حديث ابن جريح أن النبى صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : «وعلى المسلمين أن لا يتركوا مفدوحا فى فداء أو عقل» أى : مثقلا قد حمل فوق طوقه ، والتعزى : التصبر ، وملحودة القبر : الجهة المشقوقة منه

(٢) ينقضى بالسهاد : وهو السهر

(٣) هضمها : ظلمها ، وإحفاء السؤال : الاستقصاء فيه

(٤) القالى : المبغض ، والسئم : من السآمة وهى ملال الشىء ، وتقول : سئم من الشىء ـ من باب طرب ـ وسآما وسأمة ، إذا مله ، وهو رجل سؤوم

٢٠٨

١٩٨ ـ ومن كلام له عليه السّلام

أيّها النّاس ، إنّما الدّنيا دار مجاز (١) ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم ، وأخرجوا من الدّنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ، ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم ، إنّ المرء إذا هلك قال النّاس : ما ترك؟ وقالت الملائكة : ما قدّم؟ للّه آباؤكم! فقدّموا بعضا يكن لكم ، ولا تخلّفوا كلاّ فيكون عليكم

١٩٩ ـ ومن كلام له عليه السّلام

كان كثيرا [ما] ينادى به أصحابه

تجهّزوا ، رحمكم اللّه ، فقد نودى فيكم بالرّحيل ، وأقلّوا العرجة على الدّنيا (٢) وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزّاد ، فإنّ أمامكم عقبة كؤودا ، ومنازل مخوفة مهولة ، لا بدّ من الورود عليها ، والوقوف عندها. واعلموا أنّ ملاحظ المنيّة نحوكم دانية (٣) ، وكأنّكم بمخالبها وقد نشبت فيكم ، وقد دهمتكم

__________________

(١) أى : ممر إلى الآخرة

(٢) العرجة ـ بالضم ـ : اسم من التعريج ، بمعنى حبس المطية على المنزل ، أى : اجعلوا ركونكم إليها قليلا. والكؤود : الصعبة المرتقى

(٣) ملاحظ المنية : منبعث نظرها ، ودانية : قريبة ، ويروى «دائبة» أى : جادة ، وبابه قطع ، ونشبت : علقت بكم «١٤ ـ ن ـ ج ـ ٢»

٢٠٩

فيها مفظعات الأمور ، ومعضلات المحذور ، فقطّعوا علائق الدّنيا ، واستظهروا بزاد التّقوى (١) وقد مضى شىء من هذا الكلام فيما تقدم ، بخلاف هذه الرواية

٢٠٠ ـ ومن كلام له عليه السّلام

كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا [عليه] من ترك مشورتهما ، والاستعانة فى الأمور بهما لقد نقمتما يسيرا (٢) ، وأرجأتما كثيرا ، ألا تخبرانى أىّ شىء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه؟ وأىّ قسم استأثرت عليكما به؟ أم أىّ حقّ رفعه إلىّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه؟

واللّه ما كانت لى فى الخلافة رغبة ، ولا فى الولاية إربة (٣) ، ولكنّكم دعوتمونى إليها ، وحملتمونى عليها ، فلمّا أفضت إلىّ نظرت إلى كتاب اللّه وما وضع لنا ، وأمرنا بالحكم به ، فاتّبعته ، وما استنّ النّبىّ ، صلّى اللّه عليه وآله ، وسلّم فاقتديته. فلم أحتج فى ذلك إلى رأيكما ، ولا رأى غيركما ، ولا وقع حكم جهلته ، فأستشيركما وإخوانى المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ، ولا عن

__________________

(١) استظهروا : استعينوا

(٢) «نقمتما» أى : غضبتما ليسير ، وأخرتما مما يرضيكما كثيرا لم تنظرا إليه

(٣) الاربة ـ بالكسر ـ : الغرض ، والطلبة.

٢١٠

غيركما. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة (١) ، فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيى ، ولا ولّيته هوى منّى ، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قد فرغ منه فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ اللّه من قسمه ، وأمضى فيه حكمه ، فليس لكما ، واللّه ، عندى ولا لغيركما فى هذا عتبى. أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ ، وألهمنا وإيّاكم الصّبر ثم قال عليه السلام : رحم اللّه امرأ رأى حقّا فأعان عليه ، أو رأى جورا فردّه ، وكان عونا بالحقّ على صاحبه.

٢٠١ ـ ومن كلام له عليه السّلام

وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين إنّى أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم ، كان أصوب فى القول ، وأبلغ فى العذر ، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم :

اللّهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، وأهدهم من ضلالتهم ، حتّى يعرف الحقّ من جهله ، ويرعوى عن الغىّ والعدوان من لهج به (٢)

__________________

(١) الأسوة ههنا : التسوية بين المسلمين فى قسمة الأموال ، وكان ذلك قد أغضبهما ، على ما روى.

(٢) الارعواء : النزوع عن الغى والرجوع عن وجه الخطأ ، و «لهج به» أى : أولع به فثابر عليه ، وبابه طرب

٢١١

٢٠٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فى بعض أيام صفين وقد رأى الحسن [ابنه] عليه السلام يتسرع إلى الحرب املكوا عنّى هذا الغلام لا يهدّنى (١) فإنّنى أنفس بهذين (يعنى الحسن والحسين عليهما السلام) على الموت ، لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال الرضى أبو الحسن : قوله عليه السلام «املكوا عنى هذا الغلام» من أعلى الكلام وأفصحه

٢٠٣ ـ ومن كلام له عليه السّلام

قاله لما اضطرب عليه أصحابه فى أمر الحكومة

أيّها النّاس ، إنّه لم يزل أمرى معكم على ما أحبّ حتّى نهكتكم الحرب (٢) ، وقد ، واللّه ، أخذت منكم وتركت ، وهى لعدوّكم أنهك لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا ، وكنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيّا ، وقد أحببتم البقاء ، وليس لى أن أحملكم على ما تكرهون

__________________

(١) «املكوا عنى» أى : خذوه بالشدة وأمسكوه «لئلا يهدنى» أى : يهدمنى ويقوض أركان قوتى بموته فى الحرب. ونفس به ـ كفرح ـ أى : ضن به ، أى : أبخل بالحسن والحسين على الموت

(٢) نهكته الحمى ـ من باب نفع وطرب ـ : أضعفته ، أى : كنتم مطيعين حتى أضعفتم فجبنتم ، مع أنها فى غيركم أشد تأثيرا. وقد ألزمه قومه بقبول التحكيم فالتزم بأجابتهم ، فكأنهم أمروه ونهوه فامتثل لهم

٢١٢

٢٠٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

بالبصرة ، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثى ـ وهو من أصحابه ـ يعوده ، فلما رأى سعة داره قال :

ما كنت تصنع بسعة هذه الدّار فى الدّنيا؟ أما أنت إليها فى الآخرة كنت أحوج؟! وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة : تقرى فيها الضّيف ، وتصل فيها الرّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها (١) فإذا أنت [قد] بلغت بها الآخرة فقال له العلاء. يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخى عاصم بن زياد. قال : وما له؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال : علىّ به ، فلما جاء قال :

يا عدىّ نفسه (٢) لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك ، أترى اللّه أحلّ لك الطّيّبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك! قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت فى خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال : ويحك ، إنّى لست كأنت ، إنّ اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس. كيلا يتبيّغ بالفقير فقره (٣)

__________________

(١) أطلع الحق مطلعه : أظهره حيث يحب أن يظهر

(٢) عدى : تصغير عدو ، وفى هذا الكلام بيان أن لذائذ الدنيا لا تبعد العبد عن اللّه لطبيعتها ، ولكن لسوء القصد فيها

(٣) «يقدروا أنفسهم» أى : يقيسوا أنفسهم بالضعفاء ليكونوا قدوة للغنى فى الاقتصاد ، وصرف الأموال فى وجوه الخير ومنافع العامة ، وتسلية الفقير على فقره ، حتى لا يتبيغ ـ أى : يهيج به ألم الفقر فيهلكه ـ وقد روى المعنى بتمامه بل بأكثر تفصيلا عنه كرم اللّه وجهه فى عبارة أخرى

٢١٣

٢٠٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام

وقد سأله سائل عن أحاديث البدع ، وعما فى أيدى الناس

من اختلاف الخبر (١) فقال عليه السلام :

إنّ فى أيدى النّاس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما. ولقد كذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، على عهده حتّى قام خطيبا ، فقال : «من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار»

وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس :

رجل منافق مظهر للإيمان ، متصنّع بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج (٢) يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، متعمّدا ، فلو علم النّاس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه ، ولم يصدّقوا قوله ، ولكنّهم قالوا صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : رآه ، وسمع منه ، ولقف عنه (٣) فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك اللّه عن المنافقين بما اخبرك ، ووصفهم بما وصفهم به لك ، ثمّ بقوا بعده ـ عليه وآله السّلام ـ فتقرّبوا إلى أئمّة

__________________

(١) الخبر : الحديث المروى عن النبى صلى اللّه عليه وآله وسلم

(٢) «لا يتأثم» أى : لا يخاف ، و «لا يتحرج» : لا يخشى الوقوع فى الحرج ، وهو الجرم

(٣) تناول وأخذ عنه

٢١٤

الضّلالة ، والدّعاة إلى النّار بالزّور والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وجعلوهم حكّاما على رقاب النّاس ، وأكلوا بهم الدّنيا ، وإنّما النّاس مع الملوك والدّنيا إلاّ من عصم اللّه ، فهذا أحد الأربعة (١) ورجل سمع من رسول اللّه شيئا لم يحفظه على وجهه ، فوهم فيه (٢) ولم يتعمّد كذبا ، فهو فى يديه ويرويه ويعمل به ، ويقول : أنا سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوا منه ، ولو علم هو أنّه كذلك لرفضه! ورجل ثالث : سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله شيئا يأمر به ثمّ [إنّه] نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شىء ، ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ، ولم يحفظ النّاسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع : لم يكذب على اللّه ، ولا على رسوله ، مبغض للكذب خوفا من اللّه ، وتعظيما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولم يهم (٣) بلّ حفظ ما سمع

__________________

(١) فهو ـ أى : من عصم اللّه ـ أحد الأربعة وهو خيرهم الرابع

(٢) وهم : غلط وأخطأ.

(٣) «لم يهم» أى : لم يخطىء ولم يظن خلاف الواقع

٢١٥

على وجهه ، فجاء به على سمعه : لم يزد فيه ولم ينقص منه ، فحفظ النّاسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فجنّب عنه (١) وعرف الخاصّ والعامّ ، فوضع كلّ شىء موضعه ، وعرف المتشابه ومحكمه (٢) وقد كان يكون من رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، الكلام له وجهان :

فكلام خاصّ ، وكلام عامّ ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى اللّه [سبحانه] به ، ولا ما عنى رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فيحمله السّامع ، ويوجّهه على غير معرفة بمعناه ، وما قصد به ، وما خرج من أجله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وسلم ، من كان يسأله ويستفهمه ، حتّى إن كانوا ليحبّون أن يجىء الأعرابىّ والطّارىء فيسأله عليه السّلام حتّى يسمعوا ، وكان لا يمرّ بى من ذلك شىء إلاّ سألت عنه وحفظته ، فهذه وجوه ما عليه النّاس فى اختلافهم ، وعللهم فى رواياتهم.

٢٠٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وكان من اقتدار جبروته ، وبديع لطائف صنعته ، أن جعل من ماء البحر

__________________

(١) جنب تجنبا ، أى : تجنب

(٢) أى : عرف المتشابه من الكلام ، وهو ما لا يعلمه إلا اللّه والراسخون فى العلم. و «محكم الكلام» أى : صريحه الذى لم ينسخ.

٢١٦

الزّاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا (١) ، ثمّ فطر منه أطباقا (٢) ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها ، فاستمسكت بأمره ، وقامت على حدّه ، وأرسى أرضا يحملها الأخضر المثعنجر ، والقمقام المسخّر (٣) ، قد ذلّ لأمره ، وأذعن لهيبته ، ووقف الجارى منه لخشيته ، وجبل جلاميدها (٤) ، ونشوز متونها وأطوادها ، فأرساها فى مراسيها ، وألزمها قرارتها. فمضت رءوسها فى الهواء ،

__________________

(١) زخر البحر ـ كمنع ـ وزخورا ، وتزخر : طمى وامتلأ. والمتقاصف : المتزاحم ، كأن أمواجه فى تزاحمها يقصف بعضها بعضا ، أى : يكثره ، واليبس ـ بالتحريك ـ : اليابس

(٢) «فطر منه» أى : من اليبس ، والأطباق : طبقات مختلفه فى تركيبها إلا أنها كانت رتقا : يتصل بعضها ببعض ففتقها سبعا ، وهى السموات ، وقف كل منها حيث مكنه اللّه على حسب ما أودع فيه من السر الحافظ له ، فاستمسكت بأمر اللّه التكوينى وقامت على حده ، أى : حد الأمر الالهى ، وليس المراد من البحر هذا الذى نعرفه ، ولكن مادة الأجرام قبل تكاثفها ، فانما كانت مائرة مائجة أشبه بالبحر بل هى البحر الأعظم

(٣) المراد من الأخضر الحامل للأرض : هو البحر ، والمثعنجر ـ بفتح الجيم ـ : معظم البحر وأكثر مواضعه ماء ، وبكسر الجيم : هو السائل مطلقا من ماء أو دمع والقمقام ـ بفتح القاف وتضم ـ : البحر أيضا ، وهو مسخر بقدرة اللّه تعالى. وحمله للأرض : إحاطته بها كأنها قارة فيه

(٤) جبل : خلق ، والجلاميد : الصخور الصلبة. والنشوز : جمع نشز ـ بسكون الشين وفتحها وفتح النون ـ : ما ارتفع من الأرض. والمتون : جمع متن ، وهو ما صلب منها وارتفع ، والأطواد : عطف على المتون ، وهى عظام الناتئات ، وقرارتها : ما استقرت فيه كمراسيها : ما رست ـ أى : رسخت ـ فيه

٢١٧

ورست أصولها فى الماء ، فأنهد جبالها عن سهولها (١) ، وأساخ قواعدها فى متون أقطارها ومواضع أنصابها ، فأشهق قلالها (٢) ، وأطال أنشازها (٣) ، وجعلها للأرض عمادا ، وأرّزها فيها أوتادا ، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها (٤) ، أو تسيخ بحملها ، أو تزول عن مواضعها فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا (٥) وبسطها لهم فراشا! فوق بحر لجّىّ راكد لا يجرى (٦) ، وقائم لا يسرى ، تكركره الرّياح العواصف (٧). وتمخضه الغمام الذّوارف «إِنَّ فِي ذٰلِكَ»

__________________

(١) قوله «فأنهد الخ» كأن النشوز والمتون والأطواد كانت فى بداية أمرها على ضخامتها غير ظاهرة الامتياز ولا شامخة الارتفاع عن السهول ، حتى إذا ارتجت الأرض بما أحدثت يد القدرة الالهية فى بطونها نهدت الجبال عن السهول فانفصلت كل الانفصال ، وامتازت بقواعد سائخة ـ اى : غائصة ـ فى المتون من أقطار الأرض ، ومواضع الأنصاب : جمع نصب ـ بضمتين ـ وهو ما جعل علما يشهد فيقصد ، فان الجبال إنما تشامخت من مرتفع الأرض وصلبها

(٢) قلال الجبال : أعلاها ، وأشهقها : جعلها شاهقة ، أى : بعيدة الارتفاع

(٣) «أطال أنشازها» أى : مد متونها المرتفعة فى جوانب الأرض ، وأرزها ـ بالتشديد ـ ثبتها

(٤) أى : إن الأرض على حركتها المخصوصة بها سكنت عن أن تميد ـ أى : تضطرب ـ بأهلها وتتزلزل بهم إلا ما يشاء اللّه فى بعض مواضعها لبعض الأسباب. وتسيخ كتسوخ أى : تغوص فى الهواء فتنخسف ، وزوالها عن مركزها المعين لها

(٥) المهاد : الفرش وما تهيئه لنوم الصبى

(٦) لا يسيل فى الهواء

(٧) تكركره : تذهب به وتعود ، وشبه اشتمال السحاب على خلاصة ماء البحر ـ وهو بخاره ـ بمخضها له كأنه لبن تخرج زبده. والذوارف : جمع ذارفة ، من «ذرف الدمع» إذا سال.

٢١٨

«لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ»

٢٠٧ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

اللّهمّ أيّما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة ، والمصلحة غير المفسدة ، فى الدّين والدّنيا فأبى بعد سمعه لها إلاّ النّكوص عن نصرتك ، والإبطاء عن إعزاز دينك ، فإنّا نستشهدك عليه بأكبر الشّاهدين شهادة (١) ، ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسمواتك ، ثمّ أنت بعده المغنى عن نصره ، والآخذ له بذنبه

٢٠٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه العلىّ عن شبه المخلوقين (٢) الغالب لمقال الواصفين ، الظّاهر بعجائب تدبيره للنّاظرين ، والباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين ، العالم بلا اكتساب ، ولا ازدياد ، ولا علم مستفاد ، المقدّر لجميع الأمور بلا رويّة ولا ضمير ، الّذى لا تغشاه الظّلم ، ولا يستضىء بالأنوار ، ولا يرهقه ليل (٣)

__________________

(١) أكبر الشاهدين هو النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم أو القرآن ، وفى رواية «نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة» وهى عندى أليق وأنسب لما بعده

(٢) شبه ـ بالتحريك ـ أى : مشابهة

(٣) رهقه ـ كفرح ـ غشيه

٢١٩

ولا يجرى عليه نهار ، ليس إدراكه بالأبصار ، ولا علمه بالإخبار

ومنها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم :

أرسله بالضّياء ، وقدّمه فى الاصطفاء ، فرتق به المفاتق (١) وساور به المغالب وذلّل به الصّعوبة ، وسهّل به الحزونة ، حتّى سرّح الضّلال عن يمين وشمال

٢٠٩ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

وأشهد أنّه عدل عدل ، وحكم فصل ، وأشهد أنّ محمّدا عبده [ورسوله] وسيّد عباده كلّما نسخ اللّه الخلق فرقتين (٢) جعله فى خيرهما ، لم يسهم فيه عاهر (٣) ولا ضرب فيه فاجر

ألا وإنّ اللّه قد جعل للخير أهلا ، وللحقّ دعائم ، وللطّاعة عصما (٤) وإنّ

__________________

(١) الرتق : سد الفتق ، والمفاتق : مواضع الفتق ، وهى ما كان بين الناس من فساد وفى مصالحهم من اختلال. و «ساور به المغالب» أى : واثب بالنبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم كل من يغالب الحق. والحزونة : غلظ فى الأرض ، والمراد سهل به خشونة الأخلاق الرديئة والعقائد الفاسدة بتهذيب الطباع وتنوير العقول حتى سرح به الضلال ، أى : أبعده ، عن يمين السالكين وهو : نهج الاعتدال ، وشمالهم ، وكأنه يريد جانبى الافراط والتفريط ، والابعاد : تجنبهما. ولزوم العدل : الوسط.

(٢) نسخ الخلق : نقلهم بالتناسل عن أصولهم فجعلهم بعد الوحدة فى الأصول فرقا.

(٣) أى : لم يكن لعاهر سهم فى أصوله ، والعاهر : من يأتى غير حله كالفاجر. وضرب فى الشىء : صار له نصيب منه

(٤) العصم ـ بكسر ففتح ـ جمع عصمة ، وهى ما يعتصم به ، وعصم الطاعات : الاخلاص للّه وحده

٢٢٠