نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

المنكر ، فلعن اللّه السّفهاء لركوب المعاصى ، والحلماء لترك التّناهى ألا وقد قطعتم قيد الإسلام ، وعطّلتم حدوده ، وأمتّم أحكامه ، ألا وقد أمرنى اللّه بقتال أهل البغى والنّكث (١) والفساد فى الأرض : فأمّا النّاكثون فقد قاتلت ، وأمّا القاسطون فقد جاهدت (٢) ، وأمّا المارقة فقد دوّخت ، وأمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه ، ورجّة صدره (٣) وبقيت بقيّة من أهل البغى ، ولئن أذن اللّه فى الكرّة عليهم لأديلنّ منهم (٤) إلاّ ما يتشذّر فى أطراف البلاد تشذّرا.

أنا وضعت فى الصّغر بكلاكل العرب (٥) ، وكسرت نواجم القرون ربيعة

__________________

(١) نقض العهد

(٢) القاسطون : الجائرون عن الحق ، وفى التنزيل : «وَأَمَّا اَلْقٰاسِطُونَ فَكٰانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» بخلاف «المقسطين» من «أقسط» المهموز فان معناه العادلون ، فالهمزة فى فعله للازالة ، ومنه ورد فى أسماء اللّه تعالى «المقسط» والمارقة : الذين مرقوا من الدين ـ أى : خرجوا منه ـ و «دوخهم» أى : أضعفهم وأذلهم.

(٣) الردهة ـ بالفتح ـ : النقرة فى الجبل قد يجتمع فيها ، وشيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا فى ردهة. والصعقة : الغشية تصيب الانسان من الهول. ووجبة القلب : اضطرابه وخفقانه ، ورجة الصدر : اهتزازه وارتعاده

(٤) لأديلن منهم : لأمحقنهم ، ثم أجعل الدولة لغيرهم ، و «ما يتشذر» أى : يتفرق ، أى : لا يفلت منى إلا من يتفرق فى أطراف البلاد

(٥) الكلاكل : الصدور ، عبر بها عن الأكابر ، والنواجم من القرون : الظاهرة الرفيعة يريد بها أشراف القبائل ، و «ربيعة» بدل من القرون ، ويروى «نواجم قرون ربيعة» على الاضافة

١٨١

ومضر ، وقد علمتم موضعى من رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعنى فى حجره وأنا ولد يضمّنى إلى صدره ، ويكنفنى فى فراشه ، ويمسّنى جسده ، ويشمّنى عرفه (١) ، وكان يمضغ الشّىء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لى كذبة فى قول ، ولا خطلة فى فعل (٢) ، ولقد قرن اللّه به ، صلّى اللّه عليه وآله ، من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه (٣) يرفع لى فى كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرنى بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور فى كلّ سنة بحراء (٤) ، فأراه ولا يراه غيرى ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ فى الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، وخديجة ، وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحى والرّسالة ، وأشمّ ريح النّبوّة ولقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحى عليه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فقلت : يا رسول اللّه ، ما هذه الرّنّة؟ فقال : «هذا الشّيطان أيس من عبادته ،

__________________

(١) عرفه ـ بالفتح ـ : رائحته الذكية

(٢) الخطلة : واحدة الخطل ، كالفرحة واحدة الفرح ، والخطل : الخطأ ينشأ من عدم الروية.

(٣) الفصيل : ولد الناقة

(٤) حراء ـ بكسر الحاء ـ : جبل على القرب من مكة. كان الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم يتعبد فيه قبل البعثة

١٨٢

إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبىّ ، ولكنّك وزير ، وإنّك لعلى خير». ولقد كنت معه ، صلّى اللّه عليه وآله ، لمّا أتاه الملأ من قريش ، فقالوا له : يا محمّد ، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن [أنت] أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبىّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. فقال صلّى اللّه عليه وآله :

وما تسألون؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال صلّى اللّه عليه وآله وسلم : إنّ اللّه على كلّ شىء قدير ، فإن فعل اللّه لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنّى سأريكم ما تطلبون ، وإنّى لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير (١) ، وإنّ فيكم من يطرح فى القليب (٢) ، ومن يحزّب الأحزاب ، ثمّ قال صلّى اللّه عليه وآله : يا أيّتها الشّجرة ، إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر وتعلمين أنّى رسول اللّه فانقلعى بعروقك حتّى تقفى بين يدىّ بإذن اللّه. والّذى بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوىّ شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطّير (٣) ، حتّى وقفت

__________________

(١) لا تفيئون : لا ترجعون

(٢) القليب ـ كأمير ـ : البئر ، والمراد منه قليب بدر طرح فيه نيف وعشرون من أكابر قريش ، والأحزاب : طوائف متفرقة من القبائل اجتمعوا على حربه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فى وقعة الخندق

(٣) القصف : الصوت الشديد. و «ريح قاصف» أى : شديدة. و «رعد قاصف» أى : شديد الصوت.

١٨٣

بين يدى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، وببعض أغصانها على منكبى وكنت عن يمينه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا واستكبارا : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّا ، فكادت تلتفّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فقالوا كفرا وعتوّا : فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فرجع فقلت أنا : لا إله إلاّ اللّه ، فإنّى أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه ، وأوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى تصديقا بنبوّتك وإجلالا لكلمتك ، فقال القوم كلّهم : بل ساحر كذّاب! عجيب السّحر خفيف فيه ، وهل يصدّقك فى أمرك إلاّ مثل هذا؟! (يعنوننى) وإنّى لمن قوم لا تأخذهم فى اللّه لومة لائم : سيماهم سيما الصّدّيقين ، وكلامهم كلام الأبرار ، عمّار اللّيل ومنار النّهار (١) ، متمسّكون بحبل القرآن ، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون (٢) ، ولا يفسدون : قلوبهم فى الجنان ، وأجسادهم فى العمل

__________________

(١) عمار : جمع عامر ، أى : يعمرونه بالسهر للفكر والعبادة

(٢) يغلون : يخونون ، وفى التنزيل : (ومن يغلل يأت بما غل) وقال ابن الأثير : الغلول : الخيانة فى المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة ، يقال : غل فى المغنم يغل

١٨٤

١٩١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

روى أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام ـ يقال له : همام ـ كان رجلا عابدا ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، صف لى المتقين حتى كأنى أنظر إليهم! فتثاقل عليه السلام عن جوابه ، ثم قال : يا همّام اتّق اللّه وأحسن ف‍ «إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» فلم يقنع همام بهذا بهذا القول حتى عزم عليه ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النبى صلّى اللّه عليه وآله ، ثم قال :

أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق ـ حين خلقهم ـ غنيّا عن طاعتهم ، آمنا من معصيتهم ، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة من أطاعه ، فقسم بينهم معايشهم ، ووضعهم من الدّنيا مواضعهم ، فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل : منطقهم الصّواب ، وملبسهم الاقتصاد (١) ، ومشيهم التّواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم ، ووقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم ، نزّلت أنفسهم منهم فى البلاء كالّتى نزّلت فى الرّخاء (٢) ، ولو لا الأجل الّذى

__________________

غلولا فهو غال ، وكل من خان خفية فقد غل ، وسميت غلولا لأن الأيدى فيها مغلولة أى : ممنوعة ، مجعول فيها غل ، وهو الحديدة التى تجمع يد الأسير إلى عنقه ، وتسمى جامعة أيضا ـ والأحاديث التى فيها لفظ الغلول كثيرة اه‍

(١) «ملبسهم ـ الخ» أى : إنهم لا يأتون من شهواتهم إلا بقدر حاجاتهم فى تقويم حياتهم ، فكان الانفاق كثوب لهم على قدر أبدانهم ، لكنهم يتوسعون فى الخيرات

(٢) «نزلت إلى ـ الخ» أى إنهم إذا كانوا فى بلاء كانوا بالأمل فى اللّه كأنهم كانوا فى رخاء ، لا يجزعون ولا يهنون ، وإذا كانوا فى رخاء كانوا من خوف اللّه وحذر النقمة كأنهم فى بلاء ، لا يبطرون ولا يتجبرون.

١٨٥

كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم فى أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب ، وخوفا من العقاب ، عظم الخالق فى أنفسهم فصغر ما دونه فى أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها (١) فهم فيها منعّمون ، وهم والنّار كمن قد رآها ، فهم فيها معذّبون : قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة (٢) ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة.

تجارة مربحة (٣) يسّرها لهم ربّهم ، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن : يرتّلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم (٤) ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها فى أصول آذانهم (٥) ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون

__________________

(١) أى : هم على يقين من الجنة والنار كيقين من رآهما ، فكأنهم فى نعيم الأولى وعذاب الثانية ، رجاء وخوفا

(٢) نحافة أجسادهم من الفكر فى صلاح دينهم والقيام بما يجب عليهم

(٣) يقال «أربحت التجارة» إذا أفادت ربحا

(٤) استثار الساكن : هيجه ، وقارىء القرآن يستثير به الفكر الماحى للجهل ، فهو دواؤه

(٥) زفير النار : صوت توقدها ، وشهيقها الشديد من زفيرها كأنه تردد البكاء أو نهيق الحمار ، أى : إنهم من كمال يقينهم بالنار يتخيلون صوتها تحت جدران آذانهم ، فهم من شدة الخوف قد حنوا ظهورهم وسلطوا الانحناء على أوساطهم. وفكاك الرقاب : خلاصها.

١٨٦

لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطّلبون إلى اللّه تعالى فى فكاك رقابهم. وأمّا النّهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف برى القداح (١) ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول قد خولطوا (٢) ولقد خالطهم أمر عظيم : لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن أعمالهم مشفقون (٣) ، إذا زكّى أحدهم (٤) خاف ممّا يقال له! فيقول : أنا أعلم بنفسى من غيرى ، وربّى أعلم بى منّى بنفسى. اللّهمّ لا تؤاخذنى بما يقولون ، واجعلنى أفضل ممّا يظنّون ، واغفر لى ما لا يعلمون.

فمن علامة أحدهم : أنّك ترى له قوّة فى دين ، وحزما فى لين ، وإيمانا فى يقين ، وحرصا فى علم ، وعلما فى حلم ، وقصدا فى غنى (٥) ، وخشوعا فى عبادة ،

__________________

(١) القداح : جمع قدح ـ بالكسر ـ وهو السهم قبل أن يراش. وبراه : نحته ، أى : رقق الخوف أجسامهم كما ترقق السهام بالنحت

(٢) «خولط فى عقله ، أى : مازجه خلل فيه ، والأمر العظيم الذى خالط عقولهم هو الخوف الشديد من اللّه.

(٣) مشفقون : خائفون من التقصير فيها

(٤) زكى : مدحه أحد

(٥) «قصد» أى : اقتصادا. والتجمل : التظاهر باليسر عند الفاقة ، أى : الفقر

١٨٧

وتجمّلا فى فاقة ، وصبرا فى شدّة ، وطلبا فى جلال ، ونشاطا فى هدى ، وتحرّجا عن طمع (١) ، يعمل الأعمال الصّالحة وهو على وجل ، يمسى وهمّه الشّكر ويصبح وهمّه الذّكر ، يبيت حذرا ، ويصبح فرحا : حذرا لما حذر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرّحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره (٢) لم يعطها سؤلها فيما تحبّ ، قرّة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى (٣) ، يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل ، تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه (٤) ، ميتة شهوته ، مكظوما غيظه ، الخير منه مأمول ، والشّرّ منه مأمون ، إن كان فى الغافلين كتب فى الذّاكرين ، وإن كان فى الذّاكرين لم يكتب من الغافلين (٥) ، يعفو عمّن ظلمه ، ويعطى من حرمه ، ويصل من قطعه ، بعيدا فحشه (٦) ، ليّنا قوله ، غائبا منكره ،

__________________

(١) التحرج : عد الشىء حرجا ، أى : إثما ، أى : تباعدا عن طمع

(٢) «إن استصعبت» أى : إذا لم تطاوعه نفسه فيما يشق عليها من الطاعة عاقبها بعدم إعطائها ما ترغبه من الشهوة

(٣) «ما لا يزول» هو الآخرة ، و «ما لا يبقى» هو الدنيا

(٤) منزورا : قليلا ، و «حريزا» أى : حصينا

(٥) أى : إن كان بين الساكنين عن ذكر اللّه فهو ذاكر له بقلبه ، وإن كان بين الذاكرين بلسانهم لم يكن مقتصرا على تحريك اللسان مع غفلة القلب

(٦) الفحش : القبيح من القول.

١٨٨

حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شرّه ، فى الزّلازل وقور (١) ، وفى المكاره صبور ، وفى الرّخاء شكور ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحبّ (٢) يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكّر ، ولا ينابز بالألقاب (٣) ، ولا يضارّ بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل فى الباطل ، ولا يخرج من الحقّ. إن صمت لم يغمّه صمته ، وإن ضحك لم يعل صوته ، وإن بغى عليه صبر حتّى يكون اللّه هو الّذى ينتقم له. نفسه منه فى عناء ، والنّاس منه فى راحة. أتعب نفسه لآخرته ، وأراح النّاس من نفسه. بعده عمّن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوّه ممّن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة ، ولا دنوّه بمكر وخدعة قال : فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها (٤) ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام :

أما واللّه لقد كنت أخافها عليه! ثمّ قال : أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟

__________________

(١) «فى الزلازل» أى : الشدائد المرعدة ، والوقور : الذى لا يضطرب

(٢) «لا يأثم ـ الخ» أى : لا تحمله المحبة على أن يرتكب إثما لارضاء حبيبه

(٣) أى : لا يدعو غيره باللقب الذى يكرهه ويشمئز منه

(٤) صعق : غشى عليه

١٨٩

فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين (١) فقال : ويحك! إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه ، وسببا لا يتجاوزه ، فمهلا لا تعد لمثلها ، فإنّما نفث الشّيطان على لسانك!!

١٨٩ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

يصف فيها المنافقين

نحمده على ما وفّق له من الطّاعة ، وذاد عنه من المعصية (٢) ، ونسأله لمنّته تماما ، وبحبله اعتصاما ، ونشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله : خاض إلى رضوان اللّه كلّ غمرة (٣) ، وتجرّع فيه كلّ غصّة ، وقد تلوّن له الأدنون (٤) ، وتألّب عليه الأقصون ، وخلعت إليه العرب أعنّتها وضربت لمحاربته بطون رواحلها حتّى أنزلت بساحته عدوانها : من أبعد الدّار ، وأسحق المزار (٥)

__________________

(١) فما بالك لا تموت مع انطواء سرك على هذه المواعظ البالغة؟ وهذا سؤال الوقح البارد

(٢) ذاد عنه : حمى عنه

(٣) الغمرة : الشدة

(٤) «تلون» أى : تقلب له الأدنون ـ أى : الأقربون ـ فلم يثبتوا معه ، و «تألب» أى : اجتمع على عداوته الأقصون ـ أى : الأبعدون ـ وخلعت العرب أعنتها : جمع عنان ، وهو حبل اللجام ، أى : خرجت عن طاعته فلم تنقد له بزمام. والمراد أنها خلعت الأعنة سرعة إلى حربه ، فان ما لا يمسكه عنان يكون أسرع جريا ، والرواحل : جمع راحلة ، وهى الناقة ، أى : ساقوا ركائبهم إسراعا لمحاربته

(٥) أسحق : أقصى

١٩٠

أوصيكم ، عباد اللّه بتقوى اللّه ، وأحذّركم أهل النّفاق ، فإنّهم الضّالّون المضلّون ، والزّالّون المزلّون (١) : يتلوّنون ألوانا ، ويفتنّون افتتانا (٢) ، ويعمدونكم بكلّ عماد ، ويرصدونكم بكلّ مرصاد ، قلوبهم دويّة (٣) ، وصفاحهم نقيّة ، [و] يمشون الخفاء (٤) ، ويدبّون الضّرّاء. وصفهم دواء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الدّاء العياء (٥) ، حسدة الرّخاء (٦) ، ومؤكّدو البلاء ، ومقنطو الرّجاء ، لهم بكلّ طريق صريع (٧) ، وإلى كلّ قلب شفيع ، ولكلّ شجو دموع (٨) يتقارضون

__________________

(١) الزالون : من «زل» أى : أخطأ ، والمزلون : من «أزله» إذا أوقعه فى الخطأ :

(٢) «يفتنون» أى : يأخذون فى فنون من القول لا يذهبون مذهبا واحدا : و «يعمدونكم» أى : يقيمونكم بكل عماد ، والعماد : ما يقام عليه البناء ، أى : إذا ملتم عن أهوائهم أقاموكم عليها بأعمدة من الخديعة حتى توافقوهم. والمرصاد : محل الارتقاب ، ويرصدونكم : يقعدون لكم بكل طريق ليحولوكم عن الاستقامة

(٣) «دوية» أى : مريضة ، من الدوى ـ بالقصر ـ وهو المرض ، والصفاح : جمع صفحة ، والمراد منها صفاح وجوههم ، ونقاوتها : صفاؤها من علامات العداوة ، وقلوبهم ملتهبة بنارها.

(٤) يمشون مشى التستر ، و «يدبون» أى : يمشون على هينة دبيب الضراء ، أى : يسرون سريان المرض فى الجسم ، أو سريان النقص فى الأموال والأنفس والثمرات ، كذا قال الأستاذ الامام ، وهو يقتضى ضبط الضراء بالتشديد من الضر ، وعندى أنه كسحاب ، والجملة بمعنى سابقتها

(٥) الداء العياء ـ بالفتح ـ الذى أعيى الأطباء ولا يمكن منه الشفاء.

(٦) حسدة : جمع حاسد ، أى : يحسدون على السعة وإذا نزل بلاء بأحد أكدوه وزادوه ، وإذا رجا أحد شيئا أوقعوه فى القنوط واليأس

(٧) الصريع ، المطروح على الأرض ، أى : إنهم كثيرا ما خدعوا أشخاصا حتى أوقعوهم فى الهلكة

(٨) الشجو : الحزن ، أى : يبكون تصنعا متى أرادوا

١٩١

الثّناء (١) ، ويتراقبون الجزاء : إن سألوا ألحفوا (٢) ، وإن عذلوا كشفوا ، وإن حكموا أسرفوا. قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا ، ولكلّ قائم مائلا ، ولكلّ حىّ قاتلا ، ولكلّ باب مفتاحا ، ولكلّ ليل مصباحا : يتوصّلون إلى الطّمع باليأس ليقيموا به أسواقهم ، وينفقوا به أعلاقهم (٣) : يقولون فيشبّهون (٤) ، ويصفون فيوهّمون ، قد هوّنوا الطّريق (٥) ، وأضلعوا المضيق :

فهمّ لمّة الشّيطان (٦) ، وحمة النّيران «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ»

__________________

(١) يتقارضون : كل واحد منهم يسلف الآخر دينا ليؤديه إليه ، وكل يعمل للأخر عملا يرتقب جزاءه عليه

(٢) بالغوا فى السؤال وألحوا ، و «إن عذلوا» أى : لاموا كشفوا ـ أى فضحوا ـ من يلومونه

(٣) «ينفقون» أى : يروجون من النفاق ـ بالفتح ـ ضد الكساد ، والأعلاق جمع علق ـ بالكسر ـ وهو الشىء النفيس. والمراد ما يزينونه من خدائعهم

(٤) «يشبهون» الحق بالباطل وقوله «فيوهمون» أى : يبعثون الوهم إلى أذهان سامعيهم ، وفى رواية «فيموهون» أى : يزينون

(٥) يهونون على الناس طرق السير معهم على أهوائهم الفاسدة ، ثم بعد أن ينقادوا لهم يضلعون عليهم المضائق ، أى : يجعلونها معوجة يصعب تجاوزها فيهلكون

(٦) اللمة ـ بضم ففتح ـ الجماعة من الثلاثة إلى العشرة ، والمراد هنا مطلق الجماعة. والحمة ـ بالتخفيف ـ الأبرة تلسع بها العقرب ونحوها. والمراد لهيب النيران.

١٩٢

١٩٠ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه الّذى أظهر من آثار سلطانه ، وجلال كبريائه ، ما حيّر مقل العيون من عجائب قدرته (١) ، وردع خطرات هماهم النّفوس عن عرفان كنه صفته (٢).

وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة إيمان وإيقان ، وإخلاص وإذعان. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله أرسله وأعلام الهدى دارسة ، ومناهج الدّين طامسة (٣) ، فصدع بالحقّ ، ونصح للخلق ، وهدى إلى الرّشد ، وأمر بالقصد ، صلّى اللّه عليه وآله [وسلم].

واعلموا ، عباد اللّه ، أنّه لم يخلقكم عبثا ، ولم يرسلكم هملا. علم مبلغ نعمه عليكم ، وأحصى إحسانه إليكم ، فاستفتحوه ، واستنجحوه (٤) ، واطلبوا إليه واستمنحوه ، فما قطعكم عنه حجاب ، ولا أغلق عنكم دونه باب ، وإنّه لبكلّ مكان ، وفى كلّ حين وأوان ، ومع كلّ إنس وجانّ ، لا يثلمه العطاء (٥) ،

__________________

(١) المقل ـ بضم ففتح ـ : جمع مقلة ، وهى شحمة العين التى تجمع البياض والسواد.

(٢) هماهم النفوس : همومها فى طلب العلم

(٣) من «طمس» ـ بفتحات ـ أى : انمحى واندرس ، و «صدع» أى : شق بناء الباطل بصدمة الحق. والقصد : الاعتدال فى كل شىء

(٤) استفتحوه : اسالوه الفتح على أعدائكم ، واستنجحوه : اسألوه النجاح فى أعمالكم واستمنحوه : التمسوا منه العطاء

(٥) ثلم السيف ـ كضرب ـ كسر جانبه ، مجاز عن عدم انتقاص خزائنه بالعطاء. والحباء «١٣ ـ ن ـ ج ـ ٢» ـ ككتاب ـ : العطية لا مكافأة عليها. واستنفده : جعله نافد المال لا شىء عنده. واستقصاه : أتى على آخر ما عنده ، واللّه سبحانه لا نهاية لما لديه من المواهب ، و «لا يلويه» أى : لا يميله ، وتولهه : تذهله ، ويجنه : مضارع أجنه ، ويقال جنه يجنه ـ كيظنه ـ ومعناه يستره ، وكأنه يريد رضى اللّه عنه أن صور الموجودات حجاب بين الوهم وسبحات وجهه وعلو ذاته مانع للعقل عن اكتناهه ، فهو بهذا باطن ، ومع ذلك فالأشياء بذاتها لا وجود لها ، وإنما وجودها نسبتها إليه. فالوجود الحقيقى البرىء من شوائب العدم وجوده ، فالموجودات أشعة ضياء لوجود الحق ، فهو الظاهر على كل شىء ، وبهذا تتبين الأوصاف الآتية

١٩٣

ولا ينقصه الحباء ، ولا يستنفده سائل ، ولا يستقصيه نائل ، ولا يلويه شخص عن شخص ، ولا يلهيه صوت عن صوت ، ولا تحجزه هبة عن سلب ، ولا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تولهه رحمة عن عقاب ، ولا يجنّه البطون عن الظّهور ، ولا يقطعه الظّهور عن البطون. قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر فبطن ، وبطن فعلن ، ودان ولم يدن (١) ، لم يذرإ الخلق باحتيال (٢) ، ولا استعان بهم لكلال.

أوصيكم ، عباد اللّه ، بتقوى اللّه ، فإنّها الزّمام والقوام (٣) ، فتمسّكوا بوثائقها ، واعتصموا بحقائقها ، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة (٤) وأوطان السّعة ، ومعاقل

__________________

(١) دان : جازى وحاسب ، ولم يحاسبه أحد

(٢) «ذرأ» أى : خلق ، والاحتيال : التفكر فى العمل وطلب التمكن من إبرازه ولا يكون إلا من العجز ، والكلال : الملل من التعب

(٣) التقوى : زمام يقود للسعادة ، وقوام ـ بالفتح ـ أى : عيش يحيا به الأبرار

(٤) الأكنان : جمع كن ـ بالكسر ـ وهو ما يستكن به ، والدعة : خفض العيش وسعته ، والمعاقل : الحصون ، والحرز : الحفظ

١٩٤

الحرز ، ومنازل العزّ ، فى يوم تشخص فيه الأبصار ، وتظلم الأقطار ، وتعطّل فيه صروم العشار (١) ، وينفخ فى الصّور ، فتزهق كلّ مهجة ، وتبكم كلّ لهجة ، وتذلّ الشّمّ الشّوامخ (٢) ، والصّمّ الرّواسخ ، فيصير صلدها سرابا رقرقا (٣) ومعهدها قاعا سملقا ، فلا شفيع [يشفع] ، ولا حميم يدفع ، ولا معذرة تنفع

١٩١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

بعثه حين لا علم قائم (٤) ، ولا منار ساطع ، ولا منهج واضح : أوصيكم عباد اللّه ، بتقوى اللّه ، وأحذّركم الدّنيا ، فإنّها دار شخوص (٥) ومحلّة تنغيص ،

__________________

(١) الصروم : جمع صرمة بالكسر ـ وهى قطعة من الابل فوق العشرة إلى تسعة عشر ، أو فوق العشرين إلى الثلاثين ، أو الأربعين أو الخمسين. والعشار : جمع عشراء ـ بضم ففتح ، كنفساء ـ وهى الناقة مضى لحملها عشرة أشهر. وتعطيل جماعات الابل : إهمالها من الرعى ، والمراد أن يوم القيامة تهمل فيه نفائس الأموال لاشتغال كل شخص بنجاة نفسه

(٢) الشم : جمع أشم ، أى : رفيع ، والشامخ : المتسامى فى الارتفاع ، والصم : جمع أصم ، وهو الصلب المصمت ، أى : الذى لا تجويف فيه. والراسخ : الثابت

(٣) الصلد : الصلب الأملس ، والسراب : ما يخيله ضوء الشمس كالماء خصوصا فى الأراضى السبخة وليس بماء ، والرقرق ـ كجعفر ـ المضطرب ، ومعهدها : المحل الذى كان يعهد وجودها فيه ، والقاع : ما اطمأن من الأرض ، والسملق ـ كجعفر ـ المستوى ، أى : تنسف تلك الجبال ويصير مكانها قاعا صفصفا ، أى : مستويا

(٤) الضمير البارز فى «بعثه» للنبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم

(٥) الشخوص : الذهاب والانتقال إلى بعيد ، وبابه خضع

١٩٥

ساكنها ظاعن ، وقاطنها بائن (١) ، تميد بأهلها ميدان السّفينة تقصفها العواصف فى لجج البحار (٢) ، فمنهم الغرق الوبق (٣) ، ومنهم النّاجى على بطون الأمواج ، تحفزه الرّياح بأذيالها ، وتحمله على أهوالها ، فما غرق منها فليس بمستدرك ، وما نجا منها فإلى مهلك!! عباد اللّه ، الآن فاعملوا ، والألسن مطلقة ، والأبدان صحيحة ، والأعضاء لدنة (٤) ، والمنقلب فسيح ، والمجال عريض ، قبل إرهاق الفوت (٥) ، وحلول الموت ، فحقّقوا عليكم نزوله ، ولا تنتظروا قدومه!

١٩٢ ـ ومن كلام له عليه السّلام

ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم (٦) ، أنّى

__________________

(١) بائن : مبتعد منفصل

(٢) تميد : تضطرب اضطراب السفينة ، تقصفها ـ أى : تكسرها ـ الرياح الشديدة

(٣) الوبق ـ بكسر الباء ـ : الهالك ، أى : منهم من هلك عند تكسر السفينة ، ومنهم من بقيت فيه الحياة فخلص محمولا على بطون الأمواج ، كأن الأمواج فى انتفاخها كالحيوان المنقلب على ظهره وبطنه أعلى ، و «تحفزه» أى : تدفعه ، ومصير هذا الناجى أيضا إلى الهلاك بعد طول العناء

(٤) اللدن ـ بالفتح ـ اللين ، أى : والأعضاء فى لين الحياة يمكن استعمالها فى العمل ، والمنقلب ـ بفتح اللام ـ مكان الانقلاب من الضلال إلى الهدى فى هذه الحياة

(٥) أرهقه الشىء ، أعجله فلم يتمكن من فعله ، والفوت : ذهاب الفرصة بحلول الأجل

(٦) المستحفظون ـ بفتح الفاء ـ اسم مفعول ، أى : الذين أودعهم النبى صلّى اللّه عليه وسلم أمانة سره وطالبهم بحفظها ، و «لم يردد على اللّه ورسوله» : لم يعارضهما فى أحكامهما

١٩٦

لم أردّ على اللّه ولا على رسوله ساعة قطّ ، ولقد واسيته بنفسى فى المواطن الّتى تنكص فيها الأبطال (١) ، وتتأخّر فيها الأقدام ، نجدة أكرمنى اللّه بها (٢) ولقد قبض رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وإنّ رأسه لعلى صدرى ، ولقد سالت نفسه فى كفّى ، فأمررتها على وجهى (٣) ، ولقد ولّيت غسله ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والملائكة أعوانى ، فضجّت الدّار والأفنية (٤) ، ملأ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعى هينمة منهم (٥) يصلّون عليه حتّى واريناه فى ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّى حيّا وميّتا؟! فانفذوا على بصائركم (٦) ، ولتصدق نيّاتكم فى جهاد عدوّكم. فو الّذى لا إله إلاّ هو إنّى لعلى جادّة الحقّ ،

__________________

(١) المواساة بالشىء : الاشراك فيه ، فقد أشرك النبى فى نفسه ، ولا تكون بالمال إلا أن يكون كفافا ، فان أعطيت عن فضل فليس بمواساة. قالوا : والفصيح فى الفعل «آسيته» ولكن نطق الامام حجة

(٢) النجدة ـ بالفتح ـ الشجاعة ، ونصبها هنا على المصدرية لفعل محذوف

(٣) نفسه : دمه. روى أن النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم قاء فى مرضه فتلقى قيأه أمير المؤمنين فى يده ومسح به وجهه

(٤) ضجيج الدار : كان بالملائكة النازلين والعارجين ، والأفنية : جمع فناء ـ بكسر الفاء ـ وهو ما اتسع أمام الدار

(٥) الهينمة : الصوت الخفى

(٦) البصيرة : ضياء العقل ، كأنه يقول : فاذهبوا إلى عدوكم محمولين على اليقين الذى لا ريب فيه

١٩٧

وإنّهم لعلى مزلّة الباطل (١) ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر اللّه لى ولكم.

١٩٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

يعلم عجيج الوحوش فى الفلوات ، ومعاصى العباد فى الخلوات ، واختلاف النّينان فى البحار الغامرات (٢) ، وتلاطم الماء بالرّياح العاصفات. وأشهد أنّ محمّدا نجيب اللّه (٣) ، وسفير وحيه ، ورسول رحمته.

أمّا بعد ، فأوصيكم بتقوى اللّه الّذى ابتدأ خلقكم ، وإليه يكون معادكم ، وبه نجاح طلبتكم ، وإليه منتهى رغبتكم ، ونحوه قصد سبيلكم ، وإليه مرامى مفزعكم (٤) ، فانّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمن فزع جأشكم (٥) ، وضياء سواد ظلمتكم ، فاجعلوا طاعة

__________________

(١) المزلة : مكان الزلل الموجب للسقوط فى الهلكة ، وتقول : زل فى طين أو منطق يزل ـ بكسر الزاى فى المضارع ـ زليلا ، وقال الفراء : زل يزل ـ بالفتح ـ زللا ، والاسم الزلة ـ بالفتح واستزله غيره وأزله

(٢) النينان : جمع نون ، وهو الحوت ، وفى التنزيل : (وذا النون إذ نادى ربه فى الظلمات) وفسر بعضهم به قوله تعالى : «ن وَاَلْقَلَمِ وَمٰا يَسْطُرُونَ» وهو بعيد

(٣) النجيب : المختار المصطفى

(٤) مرمى الفزع : ما يدفع إليه الخوف ، وهو الملجأ ، أى : وإليه ملاجىء خوفكم

(٥) الجأش : ما يضطرب فى القلب عند الفزع أو التهيب أو توقع المكروه ، ويقال : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا يضطرب ولا يفزع

١٩٨

اللّه شعارا دون دثاركم (١) ، ودخيلا دون شعاركم ، ولطيفا بين أضلاعكم ، وأميرا فوق أموركم ، ومنهلا لحين ورودكم (٢) ، وشفيعا لدرك طلبتكم ، وجنّة ليوم فزعكم ، ومصابيح لبطون قبوركم ، وسكنا لطول وحشتكم ، ونفسا لكرب مواطنكم ، فانّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة ، ومخاوف متوقّعة ، وأوار نيران موقدة (٣). فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها (٤) ، واحلولت له الأمور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها ، وأسهلت له الصّعاب بعد إنصابها (٥) ، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها ، وتحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها (٦) ، وتفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها ، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها

__________________

(١) الشعار : ما يلى البدن من الثياب ، والدثار : ما فوقه

(٢) المنهل : ما ترده الشاربة من الماء للشرب ، والدرك ـ بالتحريك ـ اللحاق ، والطلبة ـ بالكسر ـ المطلوب. والجنة ـ بالضم ـ : الوقاية

(٣) الأوار ـ بالضم ـ : حرارة النار ولهيبها

(٤) عزبت : غابت ، وبعدت

(٥) الانصاب : مصدر بمعنى الاتعاب ، وتقول : نصب ـ من باب تعب ـ وأنصبه غيره

(٦) تحدب عليه : عطف. ونضب الماء نضوبا : غار وذهب فى الأرض ، ونضوب النعمة : قلتها أو زوالها. ووبلت السماء : ـ من باب وعد ـ أمطرت مطرا شديدا قال الأخفش : ومنه قوله تعالى : «أَخْذاً وَبِيلاً» أى : شديدا ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل ، أى : شديد. وأرذت ـ بتشديد الذال ـ إرذاذا : أمطرت مطرا ضعيفا فى سكون كأنه الغبار المتطاير ، وأصله الرذاذ ـ كسحاب ـ وهو المطر الضعيف

١٩٩

فاتّقوا اللّه الّذى نفعكم بموعظته ، ووعظكم برسالته ، وامتنّ عليكم بنعمته ، فعبّدوا أنفسكم لعبادته (١) ، واخرجوا إليه من حقّ طاعته.

ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذى اصطفاه لنفسه ، واصطنعه على عينه ، وأصفاه (٢) خيرة خلقه ، وأقام دعائمه على محبّته ، أذلّ الأديان بعزّته ، ووضع الملل برفعه ، وأهان أعداءه بكرامته ، وخذل محادّيه بنصره (٣) ، وهدم أركان الضّلالة بركنه ، وسقى من عطش من حياضه ، وأتأق الحياض لمواتحه (٤) ، ثمّ جعله لا انفصام لعروته ، ولا فكّ لحلقته ، ولا انهدام لأساسه ، ولا زوال لدعائمه ، ولا انقلاع لشجرته ، ولا انقطاع لمدّته ، ولا عفاء لشرائعه (٥) ،

__________________

(١) «فعبدوا» أى : فذللوا

(٢) اصطناع الشىء على العين : الأمر بصنعته تحت النظر ، خوف المخالفة فى المطلوب من صنعته ، والمراد هنا تشريع الدين وتكميله على حسب علم اللّه الأعلى وتحت عنايته بحفظه ، ووجه التجوز ظاهر. وأصفاه العطاء وبه : أخلص له وآثره به ، وخيرة ـ بفتح الخاء ـ : أفضل ما يضاف إليه. أى : وآثر هذا الدين بأفضل الخلق ليبلغه للناس ، وتكسر خاؤه وياؤه حينئذ ساكنة أو مفتوحة

(٣) محاديه : جمع محاد : وهو الشديد المخالفة. والركن : العز والمنعة

(٤) تئق الحوض ـ كفرح ـ : امتلأ ، وأتاقه : ملأه. والمواتح : جمع ماتح وهو نازع الماء من الحوض

(٥) العفاء ـ كسحاب ـ : الدروس والاضمحلال ، تقول : عفا المنزل ، أى : درس. وعفته الريح ، يتعدى ويلزم ، وبابهما عدا ، وعفته الريح ـ بالتشديد ـ أيضا ، شدد للمبالغة ، وتعفى المنزل : مثل عفا ، والجذ : القطع ، والضنك : الضيق والوعوثة : رخاوة فى السهل تغوص بها الأقدام عند السير فيعسر المشى فيه. والوضح ـ محركة ـ : بياض الصبح ، والعصل ـ بفتح الصاد ـ : الاعوجاج يصعب تقويمه ، ووعث الطريق : تعسر المشى فيه ، وبابه قرب وتعب. والفج : الطريق الواسع بين جبلين

٢٠٠