نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

١٨٧ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

تسمى القاصعة (١)

وهى تتضمن ذم إبليس [لعنه اللّه] على استكباره وتركه السجود لآدم عليه السلام وأنه أول من أظهر العصبية (٢) وتبع الحمية ، وتحذير الناس من سلوك طريقته الحمد للّه الّذى لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحرما على غيره (٣) ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده. ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب. «إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّٰ إِبْلِيسَ»

__________________

(١) من «قصع فلان فلانا» أى : حقره ، لأنه عليه السلام حقر فيها حال المتكبرين ، أو من «قصع الماء عطشه» إذا أزاله ، لأن سامعها لو كان متكبرا ذهب تأثيرها بكبره كما يذهب الماء بالعطش

(٢) العصبية : الاعتزاز بالعصبة ، وهى قوم الرجل الذين يدافعون عنه ، واستعمال قوتهم فى الباطل والفساد ، فهى هنا عصبية الجهل ، كما أن الحمية حمية الجاهلية. أما التناصر فى الحق والحمية عليه فهو أمر محمود فى جميع أحواله. والكبر على الباطل تواضع للحق

(٣) الحمى : ما حميته عن وصول الغير إليه والتصرف فيه. وفى الحديث : «ألا وإن لكل ملك حمى ، وحمى اللّه محارمه» (١١ ـ ن ج ـ ٢)

١٦١

اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ اللّه إمام المتعصّبين ، وسلف المستكبرين ، الّذى وضع أساس العصبيّة ، ونازع اللّه رداء الجبريّة ، وادّرع لباس التّعزّز ، وخلع قناع التّذلّل. ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره؟ ووضعه اللّه بترفّعه؟ فجعله فى الدّنيا مدحورا ، وأعدّ له فى الآخرة سعيرا.

ولو أراد اللّه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رواؤه (١) ، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه ، لفعل ، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة ، ولكنّ اللّه ـ سبحانه ـ ابتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم ، ونفيا للاستكبار عنهم ، وإبعادا للخيلاء منهم.

فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس ، إذ أحبط عمله الطّويل ، وجهده الجهيد ، وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنى الدّنيا أم سنى الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة (٢) فمن [ذا] بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته (٣)؟ كلاّ! ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها

__________________

(١) الرواء ـ بضم ففتح ـ : حسن المنظر ، والعرف ـ بالفتح ـ : الرائحة

(٢) «عن» متعلق بأحبط ، أى : أضاع عمله بسبب كبر ساعة

(٣) أى : يسلم من عتابه ، وكأنه استعمل «سلم» بمعنى ذهب أو فات فأتى بعلى

١٦٢

ملكا ، إنّ حكمه فى أهل السّماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة فى إباحة حمى حرّمه على العالمين (١) فاحذروا عباد اللّه [عدوّ اللّه] أن يعديكم بدائه (٢) ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمرى لقد فوّق لكم سهم الوعيد ، وأغرق لكم بالنّزع الشّديد (٣) ، ورماكم من مكان قريب (٤) وقال : «رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» قذفا بغيب بعيد ، ورجما بظنّ مصيب ، صدّقه به أبناء الحميّة (٥) وإخوان العصبيّة ، وفرسان الكبر والجاهليّة ، حتّى إذا انقادت له الجامحة منكم (٦) ،

__________________

(١) الهوادة ـ بالفتح ـ : اللين والرخصة

(٢) «أن يعديكم بدائه» أى : أن يصيبكم بشىء من دائه بالمخالطة كما يعدى الأجرب السليم ، والضمير لابليس ، ويستفزكم : يستنهضكم لما يريد ، فان تباطأتم عليه أجلب عليكم بخيله ـ أى : ركبانه ـ ورجله ـ أى : مشاته ـ والمراد أعوان السوء

(٣) النزع فى القوس : مدها ، وأغرق النازع : إذا استوفى مد قوسه

(٤) لأنه يجرى من ابن آدم مجرى الدم

(٥) صدق إبليس فى توعد بنى آدم بالاغواء ، أولئك الغشماء أبناء الحمية الجاهلية

(٦) أى : استعان ببعضكم على من لم يطعه منكم ، وهو المراد بالجامحة. والطماعية : الطمع. وقوله «فنجمت الخ» أى : بعد أن كانت وسوسة فى الصدور وهمسا فى القول ظهرت إلى المجاهرة بالنداء ورفع الأيدى بالسلاح. ودلفت الكتيبة فى الحرب : تقدمت ، وأقحموكم : أدخلوكم بغتة ، والولجات : جمع ولجة ـ بالتحريك ـ : وهى كهف يستتر فيه المارة من مطر ونحوه ، «أوطأه» : أركبه ، وإثخان الجراحة : المبالغة فيها ، أى : أركبوكم الجراحات البالغة ، كناية عن إشعال الفتنة بينهم حتى يتقاتلوا. والخزائم : جمع خزامة ـ ككتابة ـ وهى حلقة توضع فى وترة أنف البعير فيشد فيها الزمام

١٦٣

واستحكمت الطّماعية منه فيكم ، فنجمت الحال من السّرّ الخفىّ إلى الأمر الجلىّ ، استفحل سلطانه عليكم ، ودلف بجنوده نحوكم ، فأقحموكم ولجات الذّلّ ، وأحلّوكم ورطات القتل ، وأوطأوكم إثخان الجراحة : طعنا فى عيونكم وحزّا فى حلوقكم ، ودقّا لمناخركم ، وقصدا لمقاتلكم ، وسوقا بخزائم القهر إلى النّار المعدّة [لكم] فأصبح أعظم فى دينكم جرحا (١) وأورى فى دنياكم قدحا ، من الّذين أصبحتم لهم مناصبين ، وعليهم متألّبين ، فاجعلوا عليه حدّكم (٢) وله جدّكم! فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم ، ووقع فى حسبكم ، ودفع فى نسبكم ، وأجلب بخيله عليكم ، وقصد برجله سبيلكم : يقتنصونكم بكلّ مكان ، ويضربون منكم كلّ بنان (٣) لا تمتنعون بحيلة ، ولا تدفعون بعزيمة

__________________

(١) فأصبح : أى إبليس ، ويروى «فأصبحتم أعظم فى دينكم حرجا» وقوله «وأورى ـ الخ» أى : أشد قدحا للنار فى دنياكم لاتلافها. وعلى الجملة فهو أضر عليكم بوساوسه من إخوانكم فى الانسانية الذين أصبحتم لهن مناصبين ، أى : مجاهرين لهم بالعداوة ، ومتألبين : أى مجتمعين

(٢) حدكم ـ بالحاء المهملة ـ أى : غضبكم وحدتكم ، تقول : حددت على الرجل أحد ـ مثل خففت أخف ـ إذا غضبت عليه ، والمصدر الحد ـ بفتح الحاء ـ والحدة ـ بكسرها ـ «وله جدكم» ـ بفتح الجيم ـ أى : قطعكم ، يريد قطع الوصلة بينكم وبينه ، وتقول : جد الشىء يجده جدا ـ على مثال رده يرده ردا ـ إذا قطعه

(٣) البنان : الأصابع

١٦٤

فى حومة ذلّ ، وحلقة ضيق ، وعرصة موت ، وجولة بلاء. فأطفئوا ما كمن فى قلوبكم من نيران العصبيّة ، وأحقاد الجاهليّة ، فإنّما تلك الحميّة تكون فى المسلم من خطرات الشّيطان ونخواته ، ونزغاته ونفثاته (١) واعتمدوا وضع التّذلّل على رءوسكم ، وإلقاء التّعزّز تحت أقدامكم ، وخلع التّكبّر من أعناقكم ، واتّخذوا التّواضع مسلحة (٢) بينكم وبين عدوّكم : إبليس وجنوده فإنّ له من كلّ أمّة جنودا وأعوانا ، ورجلا وفرسانا. ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحميّة فى قلبه من نار الغضب ، ونفخ الشّيطان فى أنفه من ريح الكبر الّذى أعقبه اللّه به النّدامة ، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة.

ألا وقد أمعنتم فى البغى (٣) ، وأفسدتم فى الأرض ، مصارحة للّه بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة! فاللّه اللّه فى كبر الحميّة ، وفخر الجاهليّة ، فانّه ملاقح الشّنآن (٤) ، ومنافخ الشّيطان ، الّتى خدع بها الأمم الماضية ، والقرون الخالية ،

__________________

(١) النخوة : التكبر والتعاظم. والنزغة : المرة من النزغ بمعنى الافساد. والنفثة : النفخة

(٢) المسلحة : الثغر يدافع العدو عنده ، والقوم ذوو السلاح

(٣) أمعنتم : بالغتم. والمصارحة : التظاهر

(٤) الملاقح : جمع ملقح كمكرم : الفحول التى تلقح الاناث وتستولد الأولاد ، والشنآن : البغض

١٦٥

حتّى أعنقوا فى حنادس جهالته (١)! ومهاوى ضلالته ، ذللا على سياقه سلسا فى قياده ، أمرا تشابهت القلوب فيه ، وتتابعت القرون عليه ، وكبرا تضايقت الصّدور به ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الّذين تكبّروا عن حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم ، وألقوا الهجينة على ربّهم (٢) ، وجاحدوا اللّه على ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، ومغالبة لآلائه (٣)!! فإنّهم قواعد أساس العصبيّة ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف اعتزاء الجاهليّة (٤) ، فاتّقوا اللّه ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا ، ولا لفضله عندكم حسّادا! ولا تطيعوا

__________________

(١) أعنقوا : من «أعنقت الثريا» غابت ، أى غابوا واختفوا ، والحنادس : جمع حندس ـ بكسر الحاء ـ وهو الظلام الشديد ، والمهاوى : جمع مهواة ، وهى الهوة التى يتردى فيها الصيد. والذلل : جمع ذلول ، من الذل ـ بالضم ـ ضد الصعوبة ، والسياق هنا : السوق ، والسلس ـ بضمتين ـ جمع سلس ـ ككتف ـ : وهو السهل ، والقياد من أمام كالسوق من خلف

(٢) الهجينة : الفعلة القبيحة ، والتهجين : التقبيح ، وأصل هذه المادة الهجنة ـ بضم الهاء وسكون الجيم ـ وهى فى الناس والخيل أن يكون الأب كريما والأم ليست كذلك ، وعكس هذا يسمى الاقراف ، وهو أن تكون الأم كريمة والأب ليس كذلك ، أى : إنهم باحتقار غيرهم من الناس قبحوا خلق اللّه لهم

(٣) الآلاء : النعم

(٤) اعتزاء الجاهلية : تفاخرهم بأنسابهم : كل منهم يعتزى ـ أى : ينتسب ـ إلى أبيه وما فوقه من أجداده ، وكثيرا ما يجر التفاخر إلى الحرب ، وهى إنما تكون بدعوة الرؤساء ، فهم سيوفها

١٦٦

الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحّتكم مرضهم (١) وأدخلتم فى حقّكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، وأحلاس العقوق ، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال ، وجندا بهم يصول على النّاس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم ، ودخولا فى عيونكم ، ونفثا فى أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله (٢) ، وموطىء قدمه ، ومأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته ، ووقائعه ومثلاته (٣) ، واتّعظوا بمثاوى خدودهم (٤) ، ومصارع جنوبهم. واستعيذوا باللّه من لواقح الكبر (٥) كما تستعيذون [به] من طوارق الدّهر ، فلو رخّص اللّه فى الكبر لأحد من

__________________

(١) الأدعياء : جمع دعى ، وهو من ينتسب إلى غير أبيه. والمراد منهم الأخساء المنتسبون إلى الأشراف ، والأشرار المنتسبون إلى الأخيار. و «شربتم بصفوكم كدرهم» أى : خلطوا صافى إخلاصكم بكدر نفاقهم ، وبسلامة أخلاقكم مرض أخلاقهم. والأحلاس : جمع حلس ـ بالكسر ـ : وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له ، أو هو كساء تبسط تحت حر الثياب ، فقيل لكل ملازم لشىء هو حلسه ، وفى الحديث «كن حلس بيتك» أى : لا تبرحه ، والعقوق : العصيان

(٢) النبل ـ بالفتح ـ : السهام العربية ، وهى مؤنثة ولا واحد لها من لفظها ، وقد جمعوها على نبال ـ كرجال ـ وأنبال

(٣) المثلات ـ بفتح فضم ـ العقوبات

(٤) مثاوى : جمع مثوى بمعنى المنزل ، ومنازل الخدود : مواضعها من الأرض بعد الموت ، ويروى «بمثاوى خلودهم» ، ومصارع الجنوب : مطارحها على التراب

(٥) لواقح الكبر : محدثاته فى النفوس

١٦٧

عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه [وأوليائه] ، ولكنّه ـ سبحانه ـ كرّه إليهم التّكابر ، ورضى لهم التّواضع ، فألصقوا بالأرض خدودهم ، وعفّروا فى التّراب وجوههم ، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين ، وكانوا أقواما مستضعفين وقد اختبرهم اللّه بالمخمصة (١) ، وابتلاهم بالمجهدة ، وامتحنهم بالمخاوف ، ومخضهم بالمكاره ، فلا تعتبروا الرّضا والسّخط بالمال والولد (٢) جهلا بمواقع الفتنة ، والاختبار فى مواضع الغنى والاقتدار ، وقد قال سبحانه وتعالى «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَبَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ» فإنّ اللّه ـ سبحانه ـ يختبر عباده المستكبرين فى أنفسهم ، بأوليائه المستضعفين فى أعينهم ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون ، عليهما السّلام ، على فرعون وعليهما مدارع الصّوف وبأيديهما العصىّ فشرطا له إن أسلم بقاء

__________________

(١) المخمصة : الجوع ، والمجهدة : المشقة. ومخض اللبن : تحريكه ليخرج زبده وبابه قطع ونصر وضرب. والمكاره تستخلص إيمان الصادقين وتظهر مزاياهم العقلية والنفسية. وروى «محصهم» ـ بالحاء والصاد المهملتين ـ أى : طهرهم وزكاهم. وأصل المحص والتمحيص تخليص الشىء مما فيه من عيب ، تقول : محصت الذهب ـ مخففا ومشددا ـ إذا أزلته عنه ما يشوبه. وفى التنزيل : «وَلِيُمَحِّصَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا»

(٢) لا تجعلوا كثرة الأولاد ووفرة الأموال دليلا على رضا اللّه ، والنقص فيهما دليلا على سخطه ، فقد يكون الأول فتنة واستدراجا ، والثانى محنة وابتلاء

١٦٨

ملكه ودوام عزّه فقال : «ألا تعجبون من هذين يشرطان لى دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذّلّ ، فهلاّ ألقى عليهما أساور من ذهب؟!» إعظاما للذّهب وجمعه ، واحتقارا للصّوف ولبسه. ولو أراد اللّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذّهبان (١) ومعادن العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طير السّماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء (٢) وبطل الجزاء ، واضمحلّت الأنباء ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها (٣) ولكنّ اللّه سبحانه جعل رسله أولى قوّة فى عزائمهم وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى (٤)

__________________

(١) الذهبان ـ بضم الذال ـ : جمع ذهب ، والعقيان نوع من الذهب ينمو فى معدنه

(٢) لو كان الأنبياء بهذه السلطة لخضع لهم الناس كافة بحكم الاضطرار ، فسقط البلاء ـ أى : ما به يتميز الخبيث من الطيب ـ ولم يبق محل للجزاء على خير أو شر ، فان الفعل اضطرارى. وبذلك تضمحل أخبار السماء بالوعد والوعيد ، لعدم الحاجة ، ثم لا يكون للقابلين دعوة الأنبياء أجور المبتلين ـ أى : الممتحنين بالشدائد ـ الصابرين على المكاره ، لاستوائهم مع من قبل بالسطوة

(٣) فان الخضوع بالرهبة يسمى إذ ذاك إيمانا ، مع أن الايمان فى الحقيقة هو الاذعان والتصديق ، فلا يكون معنى الاسم لازما له

(٤) خصاصة : فقر وحاجة ، والخصاص ـ كسحاب ـ مثله

١٦٩

ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام ، وعزّة لا تضام ، وملك تمتدّ نحوه أعناق الرّجال ، وتشدّ إليه عقد الرّحال ، لكان ذلك أهون على الخلق فى الاعتبار (١) ، وأبعد لهم فى الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النّيّات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكنّ اللّه ـ سبحانه ـ أراد أن يكون الاتّباع لرسله ، والتّصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أمورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل.

أ لا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ، صلوات اللّه عليه ، إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، (٢) ولا تسمع ولا تبصر.

فجعلها بيته الحرام الّذى جعله للنّاس قياما ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض

__________________

(١) أى : أضعف تأثيرا فى القلوب من جهة اعتبارها واتعاظها ، وأبعد للناس ـ أى : أشد : توغلا بهم فى الاستكبار ـ لأن الأنبياء يكونون قدوة فى العظمة والكبرياء حينئذ. وقوله «فكانت النيات مشتركة» أى : لأن الايمان لم يكن خالصا للّه ، بل أعظم الباعث عليه الرغبة والرهبة

(٢) الأحجار : هى الكعبة ، والنتائق : جمع نتيقة ، وهى البقاع المرتفعة. ومكة مرتفعة بالنسبة لما انحط منها من البلدان ، والمدر : قطع الطين اليابس ، أو العلك الذى لا رمل فيه ، وأقل الأرض مدرا لا ينبت إلا قليلا

١٧٠

حجرا ، وأقلّ نتائق الأرض مدرا. وأضيق بطون الأودية قطرا : بين جبال خشنة ، ورمال دمثة (١) ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خفّ ، ولا حافر ولا ظلف (٢). ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه (٣) ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم. تهوى إليه ثمار الأفئدة (٤) من مفاوز قفار سحيقة. ومهاوى فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا يهلّلون للّه حوله (٥) ، ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له ، قد

__________________

(١) دمثة : لينة يصعب السير فيها والاستنبات منها ، وتقول : دمث المكان دمثا فهو دمث ـ من باب تعب تعبا فهو تعب ـ إذا لان وسهل ، وقد يخفف المصدر بسكون ميمه. وتقول : دمث الرجل دماثة ، أى : سهل خلقه. والوشلة ـ كفرحة ـ : قليلة الماء

(٢) لا يزكو : لا ينمو ، والخف : عبارة عن الجمال ، والحافر : عبارة عن الخيل وما شاكلها. والظلف : عبارة عن البقر والغنم ، تعبير عن الحيوان بما ركبت عليه قوائمه

(٣) ثنى عطفه اليه : مال وتوجه اليه ، ومنتجع الأسفار : محل الفائدة منها ، ومكة صارت بفريضة الحج دارا للمنافع التجارية كما هى دار لكسب المنفعة الأخروية و «ملقى» : مصدر ميمى من «ألقى» أى : نهاية حط رحالهم عن ظهور إبلهم

(٤) تهوى : تسرع اليه ، والثمار : جمع ثمرة. والمراد هنا الأرواح ، والمفاوز : جمع مفازة ، وهى الفلاة لا ماء بها ، والسحيقة : البعيدة ، والمهاوى كالهوات : منخفضات الأراضى ، والفجاج : الطرق الواسعة بين الجبال ، واجد هافج

(٥) «يهزوا» أى : يحركوا مناكبهم ـ أى : روءوس أكتافهم ـ للّه ، يرفعون أصواتهم بالتلبية ، وذلك فى السعى والطواف. والرمل : ضرب من السير فوق المشى ودون الجرى. والأشعث : المنتشر الشعر مع تلبد فيه ، والأغبر : من علا بدنه الغبار

١٧١

نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم (١) ، وشوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم ، ابتلاء عظيما ، وامتحانا شديدا ، واختبارا مبينا ، وتمحيصا بليغا ، جعله اللّه سببا لرحمته ، ووصلة إلى جنّته. ولو أراد ـ سبحانه ـ أن يضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام ، بين جنّات وأنهار ، وسهل وقرار (٢) ، جمّ الأشجار ، دانى الثّمار ، ملتفّ البنى ، متّصل القوى ، بين برّة سمراء (٣) ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، ورياض ناضرة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ، ولو كان الإساس المحمول عليها (٤) ، والأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مسارعة الشّكّ فى الصّدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الرّيب من النّاس (٥) ، ولكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع

__________________

(١) السرابيل : الثياب ، واحدها سربال ـ بكسر فسكون ـ وسربله فتسربل ، أى : ألبسه السربال فلبسه ، وإعفاء الشعور : تركها بلا حلق ولا قص

(٢) القرار : المطمئن من الأرض ، وجم الأشجار : كثيرها. والبنى : جمع بنية ـ بضم الباء ، وكسرها ـ : ما ابتنيته ، وملتف البنى : كثير العمران

(٣) البرة : الحنطة ، والسمراء أجودها. والأرياف : الأراضى الخصبة ، والعراص : جمع عرصة ، وهى الساحة ليس بها بناء ، والمحدقة : من «أحدقت الروضة» إذا صارت ذات شجر ، والمغدقة : من «أغدق المطر» إذا كثر ماؤه

(٤) الاساس ـ بكسر الهمزة ـ : جمع أس ـ مثلثها ـ أو أساس

(٥) الاعتلاج : الالتطام ، تقول «اعتلجت الأمواج» إذا التطمت ، أى : زال تلاطم الريب والشك من صدور الناس

١٧٢

الشّدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتّكبّر من قلوبهم ، وإسكانا للتّذلّل فى نفوسهم ، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله (١) ، وأسبابا ذللا لعفوه.

فاللّه اللّه فى عاجل البغى ، وآجل وخامة الظّلم ، وسوء عاقبة الكبر ، فإنّها مصيدة إبليس العظمى ، ومكيدته الكبرى ، الّتى تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة (٢) ، فما تكدى أبدا (٣) ، ولا تشوى أحدا : لا عالما لعلمه ، ولا مقلاّ فى طمره (٤) ، وعن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين (٥) بالصّلوات والزّكوات ، ومجاهدة الصّيام فى الأيّام المفروضات ، تسكينا لأطرافهم (٦) ،

__________________

(١) فتحا ـ بضمتين ـ أى : مفتوحة واسعة

(٢) «تساور القلوب» أى : تواثبها وتقاتلها

(٣) أكدى الحافر : إذا عجز عن التأثير فى الأرض ، وأشوت الضربة : أخطأت المقتل ، وأصله الشوى ـ بوزان النوى ـ وهو الأطراف وكل ما ليس مقتلا كالقوائم ، فقالوا «اشواه» أى : أصاب شواه ولم يقتله

(٤) الطمر ـ بالكسر ـ : الثوب الخلق ، أو الكساء البالى من غير الصوف ، أى : إن البغى والظلم والكبر هى آلات إبليس وأسلحته المهلكة : لا ينجو منها العالم فضلا عن الجاهل ، ولا الفقير فضلا عن الغنى

(٥) «ما حرس» أى : حراسة اللّه للمؤمنين بالصلوات الخ ناشئة عن ذلك ، فهذه الفرائض لتخليص النفوس من تلك الوسائل

(٦) الأطراف : الأيدى والأرجل

١٧٣

وتخشيعا لأبصارهم ، وتذليلا لنفوسهم ، وتخفيضا لقلوبهم ، وإذهابا للخيلاء عنهم ، لما فى ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا (١) ، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا ، ولحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا ، مع ما فى الزّكاة من صرف ثمرات الأرض ، وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر (٢). انظروا إلى ما فى هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر (٣) وقدع طوالع الكبر ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشىء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجّة تليط بعقول السّفهاء ، غيركم (٤) ، فإنّكم تتعصّبون لأمر لا يعرف له سبب ولا علّة : أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله ، وطعن عليه فى خلقته. فقال : (أنا نارىّ وأنت طينىّ) وأمّا

__________________

(١) عتاق الوجوه : كرامها ، وهو جمع عتيق من «عتق» إذا رقت بشرته. والمتون : الظهور

(٢) هذا نوع من تحكيم الفقراء فى أموال الأغنياء ، وتسليط لهم عليهم ، وفيه إضعاف لكبر الأغنياء

(٣) القمع : القهر ، وتقول : قمعته ـ مثل منعته ـ وأقمعته ، أى : قهرته وأذللته والنواجم : جمع ناجمة من «نجم» إذا طلع وظهر ، والقدع : الكف والمنع ، وتقول : قدعه ـ مثل منعه ـ وأقدعه أيضا ، إذا كفه وكبح جماحه

(٤) «تليط ، وتلوط» أى : تلصق ، وقوله «غيركم» أى : أنتم ، فانكم تتعصبون لا عن حجة يقبلها السفيه ، ولا عن علة تحتمل التمويه

١٧٤

الأغنياء من مترفة الأمم (١) فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم ، فقالوا : «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوٰالاً وَأَوْلاٰداً وَمٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الأفعال ، ومحاسن الأمور الّتى تفاضلت فيها المجداء والنّجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل (٢) بالأخلاق الرّغيبة ، والأحلام العظيمة ، والأخطار الجليلة ، والآثار المحمودة. فتعصّبوا لخلال الحمد : من الحفظ للجوار (٣) ، والوفاء بالذّمام ، والطّاعة للبرّ ، والمعصية للكبر ، والأخذ بالفضل ، والكفّ عن البغى ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد فى الأرض واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات (٤) بسوء الأفعال ، وذميم الأعمال ، فتذكّروا فى الخير والشّرّ أحوالهم ، واحذروا أن تكونوا أمثالهم

__________________

(١) المترف ـ على صيغة اسم المفعول ـ الموسع له فى النعم يتمتع بما شاء من الملذات. و «آثار مواقع النعم» ما ينشأ عنها من التعالى والتكبر. وعلة إبليس والأمم المترفة وإن كانت فاسدة إلا أنها شىء فى جانب ما تتعلل به القبائل فى مقاتلة بعضها بعضا

(٢) اليعاسيب : جمع يعسوب ، وهو أمير النحل ، ويستعمل مجازا فى رئيس القوم كما هنا. و «الأخلاق الرغيبة» : المرضية المرغوبة. والأحلام : العقول

(٣) الجوار ـ بالكسر ـ : المجاورة ، بمعنى الاحتماء بالغير من الظلم ، والذمام ـ ككتاب ـ : العهد

(٤) العقوبات

١٧٥

فإذا تفكّرتم فى تفاوت حاليهم (١) ، فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم (٢) وزاحت الأعداء له عنهم ، ومدّت العافية فيه عليهم ، وانقادت النّعمة له معهم ، ووصلت الكرامة عليه حبلهم : من الاجتناب للفرقة (٣) واللّزوم للألفة ، والتّحاضّ عليها ، والتّواصى بها ، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم (٤) وأوهن منّتهم : من تضاغن القلوب ، وتشاحن الصّدور ، وتدابر النّفوس ، وتخاذل الأيدى ، وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم : كيف كانوا فى حال التّمحيص والبلاء (٥)؟ ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء ، وأجهد العباد بلاء ، وأضيق أهل الدّنيا حالا؟ اتّخذتهم الفراعنة عبيدا ، فساموهم سوء العذاب ، وجرّعوهم المرار (٦) فلم تبرح الحال بهم فى ذلّ الهلكة ، وقهر

__________________

(١) من سعادة وشقاء

(٢) «لزمت العزة به شأنهم» أى : كان سببا فى عزتهم وما يتبعها من الأحوال الآتية ، و «مدت» أى : انبسطت

(٣) «من الاجتناب» بيان لأسباب العزة وبعد الأعداء وانبساط العافية وانقياد النعمة والصلة بحبل الكرامة

(٤) الفقرة ـ بالكسر والفتح ـ كالفقارة ـ بالفتح ـ ما انتظم من عظم الصلب من الكاهل إلى عجز الذنب. و «أوهن» أى : أضعف ، والمنة ـ بضم الميم ـ القوة

(٥) التمحيص : الابتلاء والاختبار

(٦) المرار ـ بضم ففتح ـ : شجر شديد المرارة تتقلص منه شفاه الابل إذا أكلته ، أى : جرعوهم عصارته

١٧٦

الغلبة : لا يجدون حيلة فى امتناع ، ولا سبيلا إلى دفاع ، حتّى إذا رأى اللّه جدّ الصّبر منهم على الأذى فى محبّته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضايق البلاء فرجا : فأبدلهم العزّ مكان الذّلّ ، والأمن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكّاما ، وأئمّة أعلاما ، و [قد] بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة (١) ، والأهواء متّفقة ، والقلوب معتدلة ، والأيدى مترادفة ، والسّيوف متناصرة ، والبصائر نافذة والعزائم واجدة؟! ألم يكونوا أربابا فى أقطار الأرضين (٢) وملوكا على رقاب العالمين؟؟ فانظروا إلى ما صاروا إليه فى آخر أمورهم ، حين وقعت الفرقة ، وتشتّتت الألفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعّبوا مختلفين ، وتفرّقوا متحاربين ، قد خلع اللّه عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته (٣) وبقى قصص أخبارهم فيكم عبرة للمعتبرين [منكم] واعتبروا بحال ولد إسماعيل وبنى إسحاق وبنى إسرائيل ـ عليهم السّلام ـ

__________________

(١) الأملاء : جمع ملأ ، بمعنى الجماعة والقوم. والأيدى المترادفة : المتعاونة

(٢) أربابا : سادات.

(٣) غضارة النعمة ـ كسحابة ـ سعتها ، وقصص الأخبار : حكايتها وروايتها «١٢ ـ ن ـ ج ـ ٢»

١٧٧

فما أشدّ اعتدال الأحوال (١) ، وأقرب اشتباه الأمثال!!!

تأمّلوا أمرهم فى حال تشتّتهم ونفرّقهم ، ليالى كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق (٢) وبحر العراق ، وخضرة الدّنيا ، إلى منابت الشّيح ، ومهافى الرّيح (٣) ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر (٤) أذلّ الأمم دارا ، وأجدبهم قرارا ، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها (٥) ولا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها ، فالأحوال مضطربة ، والأيدى مختلفة ، والكثرة متفرّقة. فى بلاء أزل (٦) وأطباق جهل من بنات موءودة (٧) وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة

__________________

(١) الاعتدال هنا : التناسب ، والاشتباه : التشابه

(٢) يحتازونهم : يقبضونهم عن الأراضى الخصبة

(٣) المهافى : المواضع التى تهفو فيها الرياح ـ أى : تهب ـ والنكد ـ بالتحريك ـ أى : الشدة والعسر

(٤) الدبر ـ بالتحريك ـ القرحة فى ظهر الدابة. والوبر : شعر الجمال. والمراد أنهم رعاة

(٥) لا يأوون : لم يكن فيهم داع إلى الحق فيأوون إليه ويعتصمون بمناصرة دعوته.

(٦) «بلاء أزل» على الاضافة ، والأزل ـ بالفتح ـ : الشدة

(٧) من «وأد بنته» كوعد ـ أى : دفنها وهى حية ، وكان بنو إسماعيل من العرب يفعلون ذلك ببناتهم. وشن الغارة عليهم : صبها من كل وجه

١٧٨

فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم ، حين بعث إليهم رسولا (١) فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفنهم ، كيف نشرت النّعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، والتفّت الملّة بهم فى عوائد بركتها (٢) ، فأصبحوا فى نعمتها غرقين ، وفى خضرة عيشها فكهين (٣)؟! قد تربّعت الأمور بهم (٤) فى ظلّ سلطان قاهر ، وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب ، وتعطّفت الأمور عليهم فى ذرى ملك ثابت ، فهم حكّام على العالمين ، وملوك فى أطراف الأرضين : يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تغمز لهم قناة (٥) ، ولا تقرع لهم صفاة!! ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة ، وثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة (٦) ، وإنّ اللّه ـ سبحانه ـ قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة

__________________

(١) هو نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم

(٢) يقال «التف الحبل بالحطب» إذا جمعه ، فملة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم جمعتهم بعد تفرقهم وجعلتهم جميعا فى بركاتها العائدة إليهم

(٣) راضين طيبة نفوسهم

(٤) تربعت : أقامت

(٥) هذا وما بعده كناية عن القوة والامتناع من الضيم ، والقناة : الرمح ، وغمزها : جسها باليد لينظر هل هى محتاجة للتقويم والتعديل فيفعل بها ذلك. والصفاة : الحجر الصلد ، وقرعها : صدمها لتكسر

(٦) ثلمتم : خرقتم. وقوله «بأحكام الجاهلية» متعلق بثلمتم

١٧٩

فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة : الّتى ينتقلون فى ظلّها ، ويأوون إلى كنفها ـ بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ خطر.

واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا (١) ، وبعد الموالاة أحزابا ، ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه!! تقولون «النّار ولا العار» ، كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه ، ونقضا لميثاقه (٢) الّذى وضعه اللّه لكم حرما فى أرضه ، وأمنا بين خلقه ، وإنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثمّ لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم ، إلاّ المقارعة بالسّيف حتّى يحكم اللّه بينكم.

وانّ عندكم الأمثال من بأس اللّه وقوارعه ، وأيّامه ووقائعه ، فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه ، وتهاونا ببطشه ، ويأسا من بأسه ، فانّ اللّه ـ سبحانه ـ لم يلعن القرن الماضى بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنّهى عن

__________________

(١) أى : صرتم من أعراب البادية الذين يكتفى فى إسلامهم بذكر الشهادتين ، وإن لم يخالط الأيمان قلوبهم ، بعد أن كنتم من المهاجرين الصادقين ، والموالاة : المحبة ، والأحزاب المتفرقون : المتقاطعون.

(٢) هو ميثاق الأخوة الدينية

١٨٠