نهج البلاغة - ج ٢

محمد عبده

نهج البلاغة - ج ٢

المؤلف:

محمد عبده


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : الحديث وعلومه
المطبعة: مطبعة الإستقامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

القلال (١) ، وتفرّق هذه اللّغات ، والألسن المختلفات ، فالويل لمن جحد المقدّر ، وأنكر المدبّر. زعموا أنّهم كالنّبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع! ولم يلجأوا إلى حجّة فيما ادّعوا (٢) ، ولا تحقيق لما أوعوا ، وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان؟ وإن شئت قلت فى الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين (٣) ، وجعل لها السّمع الخفىّ ، وفتح لها الفم السّوىّ ، وجعل لها الحسّ القوىّ ، ونابين بهما تقرض ومنجلين بهما تقبض (٤) يرهبها الزّرّاع فى زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها (٥) ، ولو أجلبوا بجمعهم ، حتّى ترد الحرث فى نزواتها (٦) وتقضى منه شهواتها! وخلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة فتبارك اللّه الّذى يسجد له من فى السّموات والأرض طوعا وكرها ، ويعنو له خدّا ووجها ، ويلقى إليه بالطّاعة سلما وضعفا ، ويعطى له القياد

__________________

(١) القلال : جمع قلة ـ بالضم ـ وهى رأس الجبل.

(٢) «لم يلجأوا» : لم يستندوا ، و «أوعاه» كوعاه ، بمعنى حفظه

(٣) أى : مضيئتين كأن كلا منهما ليلة قمراء أضاءها القمر

(٤) المنجل ـ كمنبر ـ : آلة من حديد معروفة يقضب بها الزرع. قالوا : أراد بهما هنا رجليها لاعوجاجهما وخشونتهما

(٥) دفعها

(٦) «نزواتها» أى : وثباتها ، وتقول : نزا عليه ، أى : وثب ، وبابه عدا ، وجاء المصدر على نزوان ـ بحركات ـ أيضا

١٤١

رهبة وخوفا. فالطّير مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الرّيش منها والنّفس ، وأرسى قوائمها على النّدىّ واليبس (١) ، وقدّر أقواتها ، وأحصى أجناسها :

فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام. دعا كلّ طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السّحاب الثّقال فأهطل ديمها (٢) وعدّد قسمها ، فبل الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها.

١٨١ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

فى التوحيد ، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة [غيرها] ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهّمه (٣). كلّ معروف بنفسه مصنوع (٤) ، وكلّ

__________________

(١) المراد من الندى هنا : مقابل اليبس ـ بالتحريك ـ فيعم الماء ، كأنه يريد أن اللّه جعل من الطير ما تثبت أرجله فى الماء ، ومنه من لا يمشى إلا فى الأرض اليابسة

(٢) الهطل ـ بالفتح ـ : تتابع المطر والدمع ، والديم ـ كالهمم ـ جمع ديمة : وهى مطر يدوم فى سكون بلا رعد ولا برق ، و «تعديد القسم» إحصاء ما قدر منها لكل بقعة. و «جدوب الأرض» : يبسها لاحتجاب المطر عنها

(٣) صمده : قصده ، وبابه نصر

(٤) أى : كل معروف الذات بالكنه مصنوع ، لأن معرفة الكنه إنما تكون بمعرفة أجزاء الحقيقة. فمعروف الكنه مركب ، والمركب مفتقر فى الوجود لغيره ، فهو مصنوع.

١٤٢

قائم فى سواه معلول ، فاعل لا باضطراب آلة ، مقدّر لا بجول فكرة ، غنىّ لا باستفادة. لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات (١) ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله.

بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له (٢) ، وبمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضادّ النّور بالظّلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصّرد (٣). مؤلّف بين متعادياتها (٤) مقارن بين متبايناتها ، مقرّب بين متباعداتها ، مفرّق بين

__________________

(١) ترفده ـ كتضربه ـ أى : تعينه

(٢) مشعر ـ كمقعد ـ محل الشعور ، أى : الاحساس ، فهو الحاسة ، و «تشعيرها» إعدادها للانفعال المخصوص الذى يعرض لها من المواد ، وهو ما يسمى بالاحساس فالمشعر من حيث هو مشعر منفعل دائما ، ولو كان للّه مشعر لكان منفعلا ، والمنفعل لا يكون فاعلا ، وقد قلنا إنه هو الفاعل بتشعير المشاعر ، وهذا بمنزلة أن يقال : إن اللّه فاعل فى خلقه فلا يكون منفعلا عنهم ، كما يأتى التصريح به ، وإنما خص باب الشعور بالذكر ردا على من زعم أن للّه مشاعر ، وعقده التضاد بين الأشياء دليل على استواء نسبتها اليه ، فلا ضد له ، إذ لو كانت له طبيعة تضاد شيئا لاختص إيجاده بما يلائمها لا ما يضادها ، فلم تكن أضدادا. والمقارنة بين الأشياء فى نظام الخلقة دليل أن صانعها واحد ، إذ لو كان له شريك لخالفه فى النظام الايجادى فلم تكن مقارنة ، والمقارنة هنا : المشابهة

(٣) الصرد ـ محركا ـ : البرد ، أصلها فارسية

(٤) متعادياتها كالعناصر

١٤٣

متدانياتها (١). لا يشمل بحدّ ولا يحسب بعدّ ، وإنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير [الآلات] إلى نظائرها ، منعتها منذ القدميّة ، وحمتها قد الأزليّة ، وجنّبتها لو لا (٢) التّكملة ، بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون ، لا يجرى عليه السّكون والحركة وكيف يجرى عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟! إذا لتفاوتت ذاته (٣) ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ولكان له وراء إذ وجد له أمام! ولالتمس التّمام إذ لزمه النّقصان! وإذا

__________________

(١) كالجزئين من عنصر واحد فى جسمين مختلفى المزاج

(٢) «منذ ، وقد ، ولو لا» : فواعل للأفعال قبلها ، ومنذ : لابتداء الزمان ، وقد لتقريبه ، ولا يكون الابتداء والتقريب إلا فى الزمان المتناهى ، وكل مخلوق يقال فيه : قد وجد ، ووجد منذ كذا ، وهذا مانع للقدم والأزلية ، وكل مخلوق يقال فيه : لو لا خالقه لما وجد ، فهو ناقص لذاته محتاج للتكملة بغيره ، و «الأدوات» أى : آلات الادراك التى هى حادثة ناقصة ، فكيف يمكن لها أن تحد الأزلى المتعالى عن النهاية فى الكمال. وقوله «بها» أى : بتلك الأدوات ، أى : بواسطة ما أدركته من شؤون الحوادث عرف الصانع فتجلى للعقول ، وبها ـ أى : بمقتضى طبيعة تلك الأدوات : من أنها لا تدرك إلا ماديا محدودا ـ امتنع سبحانه عن إدراك العيون ، التى هى نوع من تلك الأدوات

(٣) أى : لاختلفت ذاته باختلاف الأعراض عليها ، ولتجزأت حقيقته ، فان الحركة والسكون من خواص الجسم ، وهو منقسم ، ولصار حادثا ، فان الجسم بتركبه مفتقر لغيره.

١٤٤

لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر فى غيره (١).

الّذى لا يحول ، ولا يزول ، ولا يجوز عليه الأفول (٢) ، ولم يلد فيكون مولودا (٣) ولم يولد فيصير محدودا (٤). جلّ عن اتّخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النّساء ، لا تناله الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدى فتمسّه. لا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل بالأحوال ، ولا تبليه اللّيالى والأيّام ، ولا يغيّره الضّياء والظّلام ، ولا يوصف بشىء من الأجزاء (٥) ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيريّة والأبعاض. ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية.

ولا أنّ الأشياء تحويه ، فتقلّه أو تهويه (٦) أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله.

__________________

(١) «وحرج» ، عطف على قوله «لا يجرى عليه السكون» ، وسلطان الامتناع : هو سلطان العزة الأزلية

(٢) من «أفل النجم» ـ من بابى دخل وجلس ـ إذا غاب

(٣) المراد بالمولود المتولد عن غيره ، سواء أكان بطريق التناسل المعروف ، أم كان بطريق النشوء كتولد النبات عن العناصر. ومن ولد له كان متولدا باحدى الطريقتين

(٤) تكون بداية وجوده يوم ولادته.

(٥) أى : لا يقال ذو جزء كذا ، ولا ذو عضو كذا

(٦) «تقله» أى : ترفعه ، و «تهويه» أى : تحطه وتسقطه «١٠ ـ ن ـ ج ـ ٢»

١٤٥

وليس فى الأشياء بوالج (١) ولا عنها بخارج. يخبر لا بلسان ولهوات (٢) ويسمع لا بخروق وأدوات. يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ (٣) ويريد ولا يضمر ، يحبّ ويرضى من غير رقّة ، ويبغض ويغضب من غير مشقّة يقول لمن أراد كونه «كن» فيكون! لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه ـ سبحانه ـ فعل منه (٤) أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.

لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجرى عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل (٥) ولا له عليها فضل ، فيستوى الصّانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدع والبديع. خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه ، وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها

__________________

(١) «والج» أى : داخل. وتقول : ولج يلج ـ مثل وعد يعد ـ ولوجا ـ كجلوس ـ وأولجه غيره ، وفى التنزيل : «يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ»

(٢) اللهوات ، ومثله اللهيات : جمع لهاة ، وهى : اللحمة فى سقف أقصى الفم وتجمع على «لها» أيضا

(٣) أى : لا يتكلف الحفظ «وَلاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَهُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ»

(٤) «كلامه» أى : الألفاظ والحروف التى يطلق عليها كلام اللّه باعتبار ما دلت عليه وهى حادثة عند عموم الفرق ، ما خلا جماعة من الحنابلة ، أو المراد بالكلام هنا : ما أريد فى قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كٰانَ اَلْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ـ الآية) وهو على ما قال بعض المفسرين أعيان الموجودات

(٥) «ولا يكون» عطف على «تجرى»

١٤٦

على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصّنها من الأود والاعوجاج (١) ومنعها من التّهافت والانفراج (٢) ، أرسى أوتادها (٣) ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخدّ أوديتها ، فلم يهن ما بناه (٤) ، ولا ضعف ما قوّاه.

هو الظّاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالى على كلّ شىء منها بجلاله وعزّته ، [و] لا يعجزه شىء منها طلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السّريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذى مال فيرزقه.

خضعت الأشياء له ، وذلّت مستكينة لعظمته ، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضرّه ، ولا كفء له فيكافيه ، ولا نظير له فيساويه ، هو المفنى لها بعد وجودها ، حتّى يصير موجودها كمفقودها.

وليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها ، بأعجب من إنشائها واختراعها! وكيف [و] لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها (٥)

__________________

(١) الاعوجاج : عطف تفسير على الأود

(٢) التهافت : التساقط قطعة قطعة ، والانفراج : الانشقاق

(٣) الأوتاد : جمع وتد ـ بزنة كتف ـ والأسداد : جمع سد ـ بفتح السين وضمها ـ والمراد بها الجبال. وقال الرازى «وفى الديوان : وقال بعضهم : السد ـ بالضم ما كان من خلق اللّه ، وبالفتح : ما كان من عمل بنى آدم» اه‍ و «خد» أى : شق

(٤) يهن : من الوهن ، بمعنى الضعف

(٥) مراحها ـ بضم الميم ـ اسم مفعول من «أراح الابل» إذا ردها إلى المراح ـ بالضم ـ أى : المأوى ، والسائم : الراعى : يريد ما كان فى مأواه وما كان فى مرعاه

١٤٧

وأصناف أسناخها وأجناسها (١) ومتبلّدة أممها وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها فى علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة (٢) عارفة بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضّعف عن إفنائها.

وإنّ اللّه ـ سبحانه ـ يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شىء معه : كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات [وزالت] والسّنون والسّاعات ، فلا شىء إلاّ الواحد القهّار الّذى إليه مصير جميع الأمور. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع دام بقاؤها.

لم يتكاءده صنع شىء منها إذ صنعه (٣) ، ولم يؤده منها خلق ما خلقه وبرأه ، ولم يكوّنها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة

__________________

(١) الأسناخ : الأصول ، واحدها سنخ ـ بكسر السين وسكون النون ـ والمراد منها الأنواع ، أى : الأصناف الداخلة فى أنواعها. «والمتبلدة» أى : الغبية ، والأكياس : جمع كيس ـ بالتشديد ـ وهو العاقل الحاذق

(٢) الخاسىء : الذليل ، والحسير : الكال المعيى

(٣) لم يتكاءده : لم يشق عليه ، ولم يؤده : لم يثقله. وبرأه : مرادف لخلقه

١٤٨

بها على ندّ مكاثر (١) ، ولا للاحتراز بها من ضدّ مثاور ، ولا للازدياد بها فى ملكه ، ولا لمكاثرة شريك فى شركه ، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها. ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأم دخل عليه فى تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شىء منها عليه. لم يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها ، لكنّه ـ سبحانه ـ دبّرها بلطفه ، وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ، ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، ولا استعانة بشىء منها عليها ، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة ، ولا من ذلّ وضعة إلى عزّ وقدرة.

١٨٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

[يختص بذكر الملاحم]

ألا بأبى وأمّى هم من عدّة ، أسماؤهم فى السّماء معروفة ، وفى الأرض مجهولة (٢) ألا فتوقّعوا ما يكون من إدبار أموركم ، وانقطاع وصلكم ، واستعمال صغاركم.

__________________

(١) الند ـ بالكسر ـ المثل ، والمكاثرة : المغالبة بالكثرة. يقال : كاثره فكثره أى : غلبه ، والمثاور : المواثب المهاجم

(٢) يريد أهل الحق الذين سترتهم ظلمة الباطل فى الأرض فجهلهم أهلها ، وأشرقت بواطنهم فأضاءت بها السموات العلى فعرفهم سكانها

١٤٩

ذاك حيث تكون ضربة السّيف على المؤمن أهون من الدّرهم من حله (١) ، ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطى (٢) ، ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النّعمة والنّعيم ، وتحلفون من غير اضطرار ، وتكذبون من غير إحراج (٣) ، [و] ذلك اذا عضّكم البلاء كما يعضّ القتب غارب البعير (٤) ما أطول هذا العناء ، وأبعد هذا الرّجاء.

أيّها النّاس ، ألقوا هذه الأزمّة الّتى تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم (٥) ولا تصدّعوا على سلطانكم فتذمّوا غبّ فعالكم ، ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة (٦) ، وأميطوا عن سننها (٧) وخلّوا قصد السّبيل لها ، فقد ـ لعمرى ـ يهلك فى لهبها المؤمن ، ويسلم فيها غير المسلم.

__________________

(١) لفساد المكاسب واختلاط الحرام بالحلال

(٢) أى : حيث يكون الخير فى الفقراء ، ويعم جميع الأغنياء : فيعطى الغنى سرفا وتبذيرا ، وينفق الفقير ما يأخذ من مال الغنى فى وجهه الشرعى

(٣) الاحراج : التضييق

(٤) القتب ـ محركا ـ الاكاف ، والغارب : ما بين العنق والسنام

(٥) الأزمة ـ كائمة ـ جمع زمام ، والمراد بظهورها ظهور المذمومات بها والكلام عن ترك الآراء الفاسدة التى يقاد بها قوم ويحملون أثقالا من الأوزار أى : لا تفرقوا ولا تختلفوا على إمامكم فتقبح عاقبتكم فتذموها

(٦) فور النار : ارتفاع لهبها ، أى : لا ترموا بأنفسكم فى الفتنة التى تقبلون عليها

(٧) «أميطوا» أى : تنحوا عن طريقها ، وسيلوا عن وجهة سيرها ، وخلوا لها سبيلها التى استقامت عليها

١٥٠

إنّما مثلى بينكم مثل السّراج فى الظّلمة ليستضىء به من ولجها ، فاسمعوا أيّها النّاس وعوا ، وأحضروا آذان قلوبكم تفهموا.

١٨٣ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أوصيكم ـ أيّها النّاس ـ بتقوى اللّه ، وكثرة حمده على آلائه إليكم ، ونعمائه عليكم ، وبلائه لديكم (١). فكم خصّكم بنعمة ، وتدارككم برحمة! أعورتم له فستركم (٢) ، وتعرّضتم لأخذه فأمهلكم ، وأوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه ، وكيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم (٣) وطمعكم فيمن ليس يمهلكم؟! فكفى واعظا بموتى عاينتموهم ، حملوا إلى قبورهم غير راكبين (٤) ، وأنزلوا فيها غير نازلين! فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا ، وكأنّ الآخرة لم تزل لهم دارا ، أوحشوا ما كانوا يوطنون (٥) ، وأوطنوا ما كانوا يوحشون ، واشتغلوا بما فارقوا وأضاعوا ما إليه انتقلوا ، لا عن قبيح

__________________

(١) البلاء : الاحسان

(٢) «أعورتم له» أى : ظهرت له عوراتكم وعيوبكم ، و «لأخذه» أى : أن يأخذكم بالعقاب

(٣) أغفله : سهى عنه وتركه

(٤) إنما يقال ركب ونزل ـ حقيقة ـ لمن فعل بارادته

(٥) أوطن المكان : اتخذه وطنا ، وأوحشه : هجره حتى لا أنيس منه به. وقوله «واشتغلوا» أى : وكانوا اشتغلوا بالدنيا التى فارقوها ، وأضاعوا العاقبة التى انتقلوا إليها

١٥١

يستطيعون انتقالا ، ولا فى حسنة يستطيعون ازديادا! أنسوا بالدّنيا فغرّتهم ووثقوا بها فصرعتهم. فسابقوا ـ رحمكم اللّه ـ إلى منازلكم الّتى أمرتم أن تعمروها ، والّتى رغّبتم فيها ، ودعيتم إليها ، واستتمّوا نعم اللّه عليكم بالصّبر على طاعته ، والمجانبة لمعصيته ، فإنّ غدا من اليوم قريب ، ما أسرع السّاعات فى اليوم ، وأسرع الأيّام فى الشّهور ، وأسرع الشّهور فى السّنة ، وأسرع السّنين فى العمر!

١٨٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام

فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرّا فى القلوب ، ومنه ما يكون عوارى بين القلوب والصّدور إلى أجل معلوم (١) فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتّى يحضره الموت (٢) ، فعند ذلك يقع حدّ البراءة. والهجرة قائمة على حدّها الأوّل (٣). ما كان للّه فى أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمّة

__________________

(١) «عوارى ـ الخ» كناية عن كونه زعما بغير فهم

(٢) إذا ارتبتم فى أحد وأردتم البراءة منه فلا تسارعوا لذلك ، وانتظروا به الموت عسى أن تدركه التوبة

(٣) أى : لم يزل حكمها الوجوب على من بلغته دعوة الاسلام ورضى الاسلام دينا ، وهو المراد بمعرفة الحجة الآتى فى الكلام. فلا يجوز لمسلم أن يقيم فى بلاد حرب على المسلمين ، ولا أن يقبل سلطان غير المسلم ، بل تجب عليه الهجرة إلا إذا تعذر عليه ذلك لمرض أو عدم نفقة ، فيكون من المستضعفين المعفو عنهم. وقول النبى ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، «لا هجرة بعد الفتح» محمول على الهجرة من مكة

١٥٢

ومعلنها (١) لا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة الحجّة فى الأرض ، فمن عرفها وأفرّ بها فهو مهاجر ، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه.

إنّ أمرنا صعب مستصعب ، لا يحمله إلاّ عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان ، ولا يعى حديثنا إلاّ صدور أمينة ، وأحلام رزينة (٢).

أيّها النّاس ، سلونى قبل أن تفقدونى! فلأنا بطرق السّماء أعلم منّى بطرق الأرض ، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ فى خطامها (٣) وتذهب بأحلام قومها.

١٨٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

أحمده شكرا لإنعامه ، وأستعينه على وظائف حقوقه. عزيز الجند ، عظيم المجد. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله دعا إلى طاعته ، وقاهر أعداءه جهادا على

__________________

(١) استسر الامر : كتمه ، والامة ـ بكسر الهمزة ـ : الحالة ، وبضمها الطاعة أى : إن الهجرة فرضت على المكلفين لمصلحتهم ، وإلا فاللّه لا حاجة به إلى مضمر إيمانه فى بلاد الكفر ، ولا إلى معلنه فى ديار الاسلام

(٢) أحلام : عقول

(٣) شعر برجله : رفعها ، ثم الجملة كناية عن كثرة مداخل الفساد فيها ، من قولهم «بلدة شاغرة برجلها» أى : معرضة للغارة لا تمتنع عنها. و «تطأ فى خطامها» أى : تتعثر فيه ، كناية عن إرسالها وطيشها ، وعدم قائد لها. أما قوله عليه السلام «فلأنا بطريق السماء أعلم الخ» فالقصد به أنه فى العلوم الملكوتية والمعارف الألهية أوسع إحاطة منه بالعلوم الصناعية. وفى تلك تظهر مزية العقول العالية والنفوس الرفيعة ، وبها ينال الرشد ، ويستضىء الفكر

١٥٣

دينه. لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه ، والتماس لإطفاء نوره. فاعتصموا بتقوى اللّه فإنّ لها حبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، (١) وبادروا الموت فى غمراته ، وامهدوا له قبل حلوله ، وأعدّوا له قبل نزوله ، فإنّ الغاية القيامة وكفى بذلك واعظا لمن عقل ، ومعتبرا لمن جهل. وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس (٢) ، وشدّة الإبلاس ، وهول المطّلع ، وروعات الفزع ، واختلاف الأضلاع ، واستكاك الأسماع ، وظلمة اللّحد ، وخيفة الوعد ، وعمّ الضّريح ، وردم الصّفيح.

فاللّه اللّه عباد اللّه! ، فإنّ الدّنيا ماضية بكم على سنن ، وأنتم والسّاعة فى قرن (٣) وكأنّها قد جاءت بأشراطها ، وأزفت بأفراطها ، ووقفت بكم على

__________________

(١) المعقل ـ كمسجد ـ : الملجأ ، وذروة كل شىء : أعلاه ، ومبادرة الموت : سبقه بالاعمال الصالحة ، و «فى غمراته» : حال من الموت. والغمرات : الشدائد ، ومهد ـ كمنع ـ معناه هنا : عمل

(٢) الأرماس : القبور ، جمع رمس ، وأصله اسم للتراب. والابلاس : حزن فى خذلان ويأس. والمطلع ـ بضم فتشديد مع فتح ـ : المنزلة التى منها يشرف الانسان على أمور الآخرة ، وهى منزلة البرزخ. وأصل المطلع : موضع الاطلاع من ارتفاع إلى انحدار. و «اختلاف الاضلاع» : دخول بعضها فى موضع الآخر من شدة الضغط ، و «استكاك الاسماع» : صممها من التراب أو الأصوات الهائلة. والضريح : اللحد ، والردم : السد ، والصفيح : الحجر العريض. والمراد ما يسد به القبر.

(٣) «سنن» أى : على طريق معروف تفعل بكم فعلها بمن سبقكم. والقرن ـ محركا ـ : الحبل يقرن به البعيران ، كناية عن القرب وأن لا بد منها. والأشراط ، العلامات. وأزفت : قربت ، والافراط : جمع فرط ـ بسكون الراء ـ : وهو العلم المستقيم يهتدى به ، أى : بدلائلها

١٥٤

صراطها. وكأنّها قد أشرفت بزلازلها ، وأناخت بكلاكلها (١) وانصرمت الدّنيا بأهلها ، وأخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضى ، أو شهر انقضى ، وصار جديدها رثّا (٢) وسمينها غثّا ، فى موقف ضنك المقام ، وأمور مشتبهة عظام ، ونار شديد كلبها (٣) ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيّظ زفيرها ، متأجّج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذاك وقودها ، مخيف وعيدها ، غمّ قرارها (٤) ، مظلمة أقطارها ، حامية قدورها ، فظيعة أمورها «وَسِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً» قد أمن العذاب ، وانقطع العتاب ، وزحزحوا عن النّار ، واطمأنّت بهم الدّار ، ورضوا المثوى والقرار ، الّذين كانت أعمالهم فى الدّنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم فى دنياهم نهارا تخشّعا واستغفارا ، وكان نهارهم ليلا توحّشا وانقطاعا (٥) فجعل اللّه لهم الجنّة مآبا ، والجزاء ثوابا ، وكانوا

__________________

(١) الكلاكل : الصدور ، كناية عن الأثقال

(٢) الرث : البالى ، والغث : المهزول

(٣) الكلب ـ محركا ـ : أكل بلا شبع ، واللجب : الصياح ، أو الاضطراب ، والتغيظ : الهيجان ، والزفير : صوت توقد النار ، وذكت النار : اشتد لهيبها

(٤) «غم» صفة من «غمه» إذا غطاه ، أى : مستور قرارها المستقر فيه أهلها ويروى «عم» بالعين المهملة ، من «عمى»

(٥) لا يريد من التوحش النفرة من الناس والجفوة فى معاملتهم ، بل يريد عدم الاستئناس بشؤون الدنيا والركون إليها.

١٥٥

أحقّ بها وأهلها ، فى ملك دائم ، ونعيم قائم.

فارعوا ـ عباد اللّه ـ ما برعايته يفوز فائزكم ، وبإضاعته يخسر مبطلكم.

وبادروا آجالكم بأعمالكم فإنّكم مرتهنون بما أسلفتم ، ومدينون بما قدّمتم ، وكأن قد نزل بكم المخوف فلا رجعة تنالون ، ولا عثرة تقالون.

استعملنا اللّه وإيّاكم بطاعته وطاعة رسوله ، وعفا عنّا وعنكم بفضل رحمته ، الزموا الأرض (١) واصبروا على البلاء ، ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم فى هوى ألسنتكم ، ولا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم ، فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيدا ووقع أجره على اللّه ، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله ، وقامت النّيّة مقام إصلاته لسيفه ، وإنّ لكلّ شىء مدّة وأجلا.

١٨٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام

الحمد للّه الفاشى [فى الخلق] حمده ، والغالب جنده ، والمتعالى جدّه (٢) ،

__________________

(١) «لزوم الأرض» : كناية عن السكون ، ينصحهم به عند عدم توافر أسباب الجهاد ، وينهاهم عن التعجل بحمل السلاح تلبية لقول يقوله أحدهم فى غير وقته ، ويأمرهم بالحكمة فى العمل لا يأتونه إلا عند رجحان نجحه. وإصلات السيف : سله.

(٢) الفاشى : المنتشر. والجد ـ بالفتح ـ : العظمة ، وفى التنزيل : «وَأَنَّهُ تَعٰالىٰ جَدُّ رَبِّنٰا مَا اِتَّخَذَ صٰاحِبَةً وَلاٰ وَلَداً» وفى الدعاء «وتبارك اسمك ، وتعالى جدك»

١٥٦

أحمده على نعمه التّؤام (١) ، وآلائه العظام ، الّذى عظم حلمه فعفا ، وعدل فى كلّ ما قضى ، وعلم ما يمضى وما مضى ، مبتدع الخلائق بعلمه ، ومنشئهم بحكمه بلا اقتداء ولا تعليم ، ولا احتذاء لمثال صانع حكيم ، ولا إصابة خطإ ، ولا حضرة ملأ. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ابتعثه والنّاس يضربون فى غمرة (٢) ويموجون فى حيرة. قد قادتهم أزمّة الحين ، واستغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين.

أوصيكم ـ عباد اللّه ـ بتقوى اللّه فإنّها حقّ اللّه عليكم ، والموجبة على اللّه حقّكم (٣) ، وأن تستعينوا عليها باللّه وتستعينوا بها على اللّه ، فإنّ التّقوى فى اليوم الحرز والجنّة ، وفى غد الطّريق إلى الجنّة : مسلكها واضح ، وسالكها رابح ، ومستودعها حافظ (٤) ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين

__________________

(١) جمع توءم ـ كجعفر ـ وهو المولود مع غيره فى بطن ، وهو مجاز عن الكثير ، أو المتواصل.

(٢) ضرب فى الماء : سبح ، وضرب فى الأرض بسرعة : أبعد ، والغمرة : الماء الكثير ، والشدة ، والمراد هنا إما شدة الفتن وبلاياها ، أو شدة الجهل ورزاياه. والأزمة : جمع زمام ، وهو ما تقاد به الدابة ، والحين ـ بفتح الحاء ـ : الهلاك ، والرين ـ بفتح الراء ـ : التغطية والحجاب ، وهو هنا حجاب الضلال

(٣) جرى فى الكلام على نحو قوله تعالى : «وَكٰانَ حَقًّا عَلَيْنٰا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ» يريد أن التقوى جعلها اللّه سببا لاستحقاق ثوابه ، ومعينة على رضائه. والجنة ـ بضم الجيم ـ : الوقاية ، وبفتحها دار الثواب.

(٤) مستودع التقوى : هو الذى تكون التقوى وديعة عنده ، وهو اللّه.

١٥٧

والغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد اللّه ما أبدى. وأخذ ما أعطى. وسأل عمّا أسدى (١). فما أقلّ من قبلها وحملها حقّ حملها ، أولئك الأقلّون عددا. وهم أهل صفة اللّه ـ سبحانه ـ إذ يقول : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ». فأهطعوا بأسماعكم إليها (٢) ، وكظّوا بجدّكم عليها ، واعتاضوها من كلّ سلف خلفا ، ومن كلّ مخالف موافقا ، أيقظوا بها نومكم ، واقطعوا بها يومكم ، وأشعروا بها قلوبكم ، وارحضوا بها ذنوبكم (٣). وداووا بها الأسقام ، وبادروا بها الحمام ، واعتبروا بمن أضاعها ، ولا يعتبرنّ بكم من أطاعها (٤). ألا وصونوها وتصوّنوا بها (٥). وكونوا عن الدّنيا نزّاها ، وإلى الآخرة ولاّها ، ولا تضعوا من رفعته التّقوى ، ولا ترفعوا من رفعته الدّنيا ، ولا تشيموا بارقها (٦) ولا تستمعوا ناطقها ، ولا [تجيبوا] ناعقها ، ولا تستضيئوا بإشراقها ، ولا تفتنوا

__________________

(١) أسدى : منح وأعطى.

(٢) الاهطاع : الاسراع ، أهطع البعير. مد عنقه وصوب رأسه ، والكظاظ ـ ككتاب ـ : الممارسة وطول الملازمة. وفعله ككتب

(٣) رحض ـ كمنع ـ : غسل ، والحمام ـ ككتاب ـ : الموت

(٤) أى : لا تكونوا عبرة يتعظ بسوء مصيركم من أطاع التقوى وأدى حقوقها

(٥) تصونوا : تحفظوا ، والنزاه : جمع نازه ، وهو العفيف النفس ، والولاه : جمع واله ، وهو الحزين على الشىء حتى يناله ، أى : المشتاق

(٦) شام البرق : نظر اليه أين يمطر ، والبارق : السحاب ، أى : لا تنظروا لما يغركم من مطامعها. والأعلاق : جمع علق ـ بالكسر ـ : بمعنى النفيس.

١٥٨

بأعلاقها ، فإنّ برقها خالب (١) ونطقها كاذب ، وأموالها محروبة ، وأعلاقها مسلوبة ، ألا وهى المتصدّية العنون (٢) والجامحة الحرون ، والمائنة الخؤون والجحود الكنود ، والعنود الصّدود ، والحيود الميود : حالها انتقال ، ووطأتها زلزال ، وعزّها ذلّ ، وجدّها هزل ، وعلوها سفل ، دار حرب وسلب (٣) ونهب وعطب ، أهلها على ساق وسياق ، ولحاق وفراق (٤)

__________________

(١) خالب : خادع ، والمحروبة : المنهوبة

(٢) المتصدية : المرأة تتعرض للرجال تميلهم إليها ، ومن الدواب : ما تمشى معترضة خابطة. والعنون ـ بفتح فضم ـ : مبالغة من «عن» إذا ظهر ، ومن الدواب : المتقدمة فى السير. شبه الدنيا بالمرأة المتبرجة المستميلة ، أو بالدابة تسبق الدواب ، وإن لم يدم تقدمها ، أو الخابطة على غير طريق. والجامحة : الصعبة على راكبها ، والحرون : التى إذا طلب بها السير وقفت ، والمائنة : الكاذبة ، والخؤون : مبالغة فى الخائنة. والكنود : من «كند» كنصر ـ : كفر النعمة ، وجحد الحق : أنكره وهو به عالم. والعنود : شديد العناد ، والصدود : كثيرة الصد والهجر. والحيود : مبالغة فى الحيد بمعنى الميل. والميود : من «ماد» إذا اضطرب. يريد بهذه الأوصاف أن الدنيا فى طبيعتها لؤم : فمن سالمها حاربته ، ومن حاربها سالمته

(٣) الحرب ـ بالتحريك ـ : سلب المال ، والعطب : الهلاك.

(٤) أى : قائمون على ساق استعدادا لما ينتظرون من آجالهم ، والساق : مصدر «ساق فلانا» إذا أصاب ساقه ، مثل «رأسه» إذا أصاب رأسه ، و «جلده» أى : أصاب جلده ، و «رآه» أى : أصاب رئته ، و «وجهه» أى : أصاب وجهه ، وهذه الأفعال كلها مفتوحة العين ، أى : ولا يلبثون أن يضربوا على سوقهم فينكبوا للموت على وجوههم ، أو هو السياق بمعنى الشروع فى نزع الروح ، من «ساق المريض سياقا» واللحاق : للماضين ، والفراق : للباقين

١٥٩

قد تحيّرت مذاهبها ، وأعجزت مهاربها (١). وخابت مطالبها ، فأسلمتهم المعاقل ، ولفظتهم المنازل ، وأعيتهم المحاول (٢) فمن ناج معقور (٣) ، ولحم مجزور ، وشلو مذبوح ، ودم مسفوح ، وعاضّ على يديه ، وصافق بكفّيه ، ومرتفق بخدّيه (٤) ، وزار على رأيه ، وراجع عن عزمه ، وقد أدبرت الحيلة ، وأقبلت الغيلة (٥) ولات حين مناص ، هيهات [هيهات]!! قد فات ما فات ، وذهب ما ذهب ، ومضت الدّنيا لحال بالها (٦) «فَمٰا بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّمٰاءُ وَاَلْأَرْضُ وَمٰا كٰانُوا مُنْظَرِينَ»

__________________

(١) تحير المذاهب : حيرة الناس فيها ، والمهارب : جمع مهرب ، وهو مكان الهرب ، وإنّما أعجزت الناس عن الهروب لأنها ليست كما يرونها مهارب بل هى مهالك

(٢) المحاول : جمع محال ـ بفتح الميم ـ أو محالة : بمعنى الحذق وجودة النظر ، أى : لم يفدهم ذلك خلاصا

(٣) أى : فمنهم ناج من الموت ، معقور : أى مجروح ، وهو من «عقر الشاة والبعير» إذا ضرب ساقه بالسيف وهو قائم. والمجزور : المسلوخ الذى أخذ عنه جلده ، والشلو ـ بالكسر ـ هنا البدن كله ، والمسفوح : المسفوك

(٤) المرتفق بخديه : واضع خديه على مرفقيه ، ومرفقيه على ركبتيه منصوبتين وهو جالس على إليته ، وهذه الأوصاف كناية عن الندم على التفريط والافراط. والزارى على رأيه : المقبح له اللائم لنفسه عليه

(٥) الغيلة : الشر الذى أضمرته الدنيا فى خداعها ، «ولات حين مناص» أى : ليس الوقت وقت التملص والفرار

(٦) البال : القلب والخاطر ، والمراد ذهبت على ما تهواه لا على ما يريد أهلها

١٦٠